وطنٌ تُعدم أحلامنا فيه..
وطنٌ تُعدم أحلامنا فيه..
● مقالات رأي ٦ أغسطس ٢٠١٨

وطنٌ تُعدم أحلامنا فيه..

يكبرني أخي إسلام بسبع سنين ويكبرني أبي بسبعٍ وثلاثين سنة، اعتقل أبي يوم 2-7-2011 واعتقل إسلام يوم 22-7-2011. كان عمري وقتها خمسة عشر عاماً، التقينا آخر مرة يوم 13-11-2012 في زيارة في سجن صيدنايا العسكري، حصلنا على موافقة زيارة لأبي لمدة ثلاث دقائق ثم بعده إسلام لمدة ثلاث دقائق أيضاً. اجتمعا في الطريق المؤدي إلى مكان الزيارة، ذهب أبي الحنون وأتى بعده إسلام الحبيب، بيننا وبينهم شبكين، يفصل بين الشبكين متر يتمشى فيه عسكري مهمته بث الرعب بالقلوب وكتم الأفواه وخلف المُزار عسكريين، مهمتهما ضربه كلما تكلم كلاماً يمنعونه مثل حالته الحقيقية أو أسماء معتقلين معه أو جرمه، لا يسمحون له إلا أن يقول لنا كل شيء جميل هنا أجمل مما تعيشون أنتم!

بعدها حُكم على إسلام بالإعدام بتهمة التظاهر بشكل سلمي حضاري وتوزيع الورود والماء على المتظاهرين وترك ماءٍ بارد لعناصر الجيش القادمين لقمع المظاهرة واعتقال الأحرار كمحاولة منه ومن رفاقه لكسب القلوب بالود وكسب العقول بترك منشوراتٍ تروس غالباً ب (أخي العسكري لماذا تقتلنا) شارحين بعدها أهدافهم وأحلامهم، ساعين لرسم الوطن المنشود في مخيلة العساكر، تُهمة لُخصت بالمحكمة الميدانية بـ(التآمر على الدولة ومحاولة قلب النظام الحاكم) وحُكمها الإعدام. بنفس الوقت حُكم على والدي (خيرو الدباس) بتهمة المشي في مقدمة المظاهرة وحماية المرفقات العامة من طيش بعض الشباب أو أذى عناصر المخابرات المنضمين للمظاهرة لتخريبها وإخراجها عن سلميتها وعن شكلها الحضاري، وبتهمة أُخرى وهي التحاور مع الناس وشرح رأيه بالنظام الحالي وأهمية استبداله، وتوضيح فكرة الدولة المدنية للكبير والصغير، والأخيرة كانت تهمة قتلتهم في وسط سجونهم ومعتقلاتهم لمّا تحاورَ مع المحققين ووضح وجهة نظره، تُهمة لُخصت بالمحكمة الميدانية بـ(التآمر على الدولة ومحاولة قلب النظام الحاكم) وحُكمها خمسة عشر عاماً في سجونهم.

صدمة اعتقالهم كانت صدمة العمر كُلها، ما قبلها ليس كما بعدها، شيءٌ يُشبه رمزية الثورة في حياة البعض، غيرتنا الثورة وصقلتنا أيامها، صقلني وشدني وهزمني، قواني وأضعفني اعتقالهم. يوم تكون الفخر وراء ابتسامتي ويوم يكون الحزن والانكسار وراء انطوائي، كنت صغيراً لا أعرفهم إلا بما تيسر من الذاكرة، لمسات أبي الدافئة، ونظرات إسلام المعاتبة أيام والفخورة في آخر مرة رأيته بها، يوم أخبرته أني تجاوزت المرحلة الإعدادية. تعرفت على يحيى الشربجي بعد اعتقال إسلام بيوم واحد صبّرنا يحيى وحكى لي عن إسلام، أحبني يحيى لأني شقيق إسلام وأحببت يحيى لأنه عاملني كشاب علمني يحيى كثيراً علمني أن أمشي في الحياة كشاب له هدف شاب يعرف كيف يجب أن يكون ويعرف كيف يمشي ليصل، اعتقل يحيى يوم 6-9-2011 وعادت الدُنيا سوداء كما تموز 2011، حُكم على يحيى بكل أحكام الحرية وحُب الحياة وبناء الوطن والتهمة الأكبر (بناء الشباب) لُخصت تهمه بالمحكمة الميدانية كما باقي التهم (التآمر على الدولة ومحاولة قلب النظام الحاكم) وحكمها الإعدام.

بعدها كان لا بد من البحث عن أبي وأخي في ما تركاه في الحياة، لا يغيب انسان دون أن يترك أثراً، إذا كان أثر الفراشة في رأي محمود درويش هو الأثر الذي لا يُرى هو ذاته الذي لا يزول فكيف سيكون أثرهم، فتشت عنهم في قصص الناس وحكاياتهم، وجدتهم في ذاكرة الناس خير أصحاب. خلال أيام الثورة الطويلة رافقت أغلب أصدقاء إسلام، أصدقاء المسجد وأصدقاء الثورة وأصدقاء الجامعة وصرت مثلهم أنتظر إسلام الصديق لا إسلام الشقيق! بعد أن تحول أبي إلى سجن عدرا وصارت الزيارة سهلة وميسرة وبمدة طويلة تمتد لساعات واقفين على شبك واحد يفصلنا ولا أحد يسمعنا، صار يربيني، يكتب لي ويحكي لي ويشرح لي رأيه، توصياته بأن لا أزعج والدتي كتوصياته بأن أبقى حراً، يوصيني بالصلاة كما يوصيني بالقراءة، صارت علاقتي مع أبي علاقة شابٍ مع مُربي لا علاقة أبٍ بابنه، بين الحياة التي أعيشها مع أبي وكلام إسلام الذي يرويه لي أصدقائي نقلاً عن إسلام، وبين مقاطع مصورة يشرح فيها يحيى رؤيته للحرية ومفهوم الوطن عنده وغايته من الديمقراطية، كان واجباً علي أن أنتظرهم انتظار الوطن لأبطاله ليحرروه.

تجاوز غيابهم في قلبي البعد العاطفي، صار غيابهم غياب فكر وثورة، انتظرتهم أعواماً كثيرة حتى نمشي الدرب معاً، انتظرتهم انتظار صديق الثورة لا انتظار الأخ الصغير المدلل. نُفذ حكم الإعدام يوم 15-1-2013 بحق إسلام ويحيى، إسلام الذي كان آخر ما يردده ويسمعه (غرباء هكذا الأحرار في دُنيا العبيد) ويحيى الذي كان أكثر ما يردده (الحرُ يعرف ما تريد المحكمة وقُضاتها سلفاً قد ارتشقوا دمه) أُعدما في سجن صيدنايا العسكري مع الكثير من أهل الثورة الأوائل، توالت علينا أخبار استشهادهم بين 16 و27 تموز 2018، عشنا كل هذه السنين ننتظر عودتهم، أما أبي ما زال في المعتقل يحاور الناس ويشرح لهم أفكاره ويقرأ في مكتبة سجن عدرا المركزي ويكتب.

المصدر: مدونات الجزيرة الكاتب: عبد الرحمن الدباس
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ