الأمم المتحدة.. المنظومة الفاشلة
الأمم المتحدة.. المنظومة الفاشلة
● مقالات رأي ١٧ نوفمبر ٢٠١٦

الأمم المتحدة.. المنظومة الفاشلة

يحتفل العالم في الرابع عشر من أكتوبر من كل عام بما يسمى بيوم الأمم المتحدة. بهذه المناسبة يتبارى القادة وممثلو الدول من مختلف الاتجاهات، حتى الذين يصرحون من حين لآخر بأن المنظمة الأممية ليست سوى أداة بيد الدول الكبرى، في كيل المدح والثناء على جهودها مجددين التزامهم بالمواثيق والمعاهدات والواجبات الدولية التي تهدف لتحقيق التنمية وتعزيز الاستقرار والأمن العالمي.

المفارقة هي أن معظم أولئك يعلمون أن هذه المنظمة، التي جاءت على أنقاض فكرة «عصبة الأمم» التي أنتجتها كذلك التوافقات الدولية السابقة للحرب العالمية الثانية، يعلمون أنها لم تقدم الكثير في مجالها الرئيس وهو الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين، حيث تبدو تجاربها بهذا الصدد في معظمها فاشلة. الكثيرون، من جانب آخر، وصلوا إلى قناعة مفادها أن ما تسميه المنظمة بالقيم الدولية أو المعايير الإنسانية هو ليس دائماً كذلك، وإنما هي قيم غربية يراد تعميمها و»عولمتها»، وخير مثال لذلك النقاشات الحالية الخاصة بالدعوة لاحترام «التنوع في الميول الجنسية» الذي يهدف إلى إلغاء مفردة الشذوذ الجنسي، بل التصالح مع ذلك الشذوذ، على أساس أنه مجرد تنوع مقبول في الخيارات العاطفية.

رغم الاختلافات يتعامل الجميع مع هذه المؤسسة الدولية كقدر لا مفر منه ولا بديل سواه، باعتبار أن غيابها أو تقويضها قد يؤدي لانفراد الغرب، خاصة الولايات المتحدة، بالقرار العالمي بشكل مباشر، وهو ما ستكون له تداعيات أكبر وأخطر من تداعيات الوضع الحالي. الكثير من الدراسات والرسائل الجامعية والاجتماعات ظلت تناقش، منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ما بات يعرف بـ»إصلاح الأمم المتحدة» وهو مفهوم يبدو أكثر اعتدالاً من الفكرة التي وجدت رواجاً كبيراً في وقت من الأوقات عند بعض المنظرين الثوريين، تلك التي كانت تدعو لتقويض هذا البناء والاتيان بفكرة لهيئة جديدة أكثر قدرة وفعالية وحياداً في معالجة الأزمات. لكن هذه الأفكار الإصلاحية جميعها ظلت مجرد وسيلة للتسلية والنقاش الفلسفي. لم يحدث أي تقدم يذكر في هذا المجال، رغم أنه تم تبنيه من شخصيات وهيئات ومنظمات اقليمية ودولية كبرى. الدعوة إلى ضرورة الإصلاح استندت إلى تبريرات واقعية أهمها انعدام روح العدالة المتمثل في احتكار خمس دول لحق الفيتو ولمصير العالم، لمجرد أنها كانت دولاً منتصرة في معارك جرت قبل أكثر من ستين عاماً.

لقد جرت مياه كثيرة تحت جسر العلاقات الدولية، لم تعد الدول المهمة هي فقط تلك التي خاضت ضد بعضها صراعات وحروباً دامية، ولم تعد معادلة ألمانيا المهزومة أمام الروس، واليابان المهزومة أمام الولايات المتحدة فاعلة، ناهيك عن الدول والتكتلات القوية اقتصادياً وسياسياً اليوم والتي لم تكن شيئاً مذكوراً قبل بضعة عقود. معضلة المنظمة الدولية لا تتعلق فقط بالظلم الذي يفرضه الانصياع لحكم الفيتو، وإن كان فيه أكبر دليل على العبثية وافتقاد المنطق، بل بفعالية المنظمة ومنهجها في إدارة وتسوية النزاعات. ولقد كان اكتفاء أمينها العام الحالي بالتعبير عن «قلقه» إزاء كوارث وأزمات كبيرة حاقت بالعالم، مثار استياء وسخرية واتهامات مبطنة للمنظمة بالتواطؤ وعدم الرغبة في التدخل في معظم النزاعات ما لم تكن هناك فائدة ومصلحة مباشرة لدول المركز.

الانتقادات التي تواجهها المنظمة لا تأتي من دول العالم الثالث المستضعفة فقط، بل من أصحاب الضمائر الحية من الذين خبروا عمل لجان وهيئات الأمم المتحدة من قرب، وقد كتب الكثير في هذا الباب وعرضت الكثير من الوثائق الخطيرة التي حاولت أن تجيب بوضوح على السؤال الذي يحير الملايين وهو: لماذا تبدو الأمم المتحدة عاجزة عن تقديم أي حل لمآسي العالم الكبرى؟ وإذا كانت فعلاً عاجزة أو غير راغبة فما هي فائدتها؟

في كتاب صدر قبل أيام في باريس قدمت سيليا دو لافارين المسؤولة السابقة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة شهادتها عن تجربتها الخاصة ومعاناتها بين ما هو صحيح إنسانياً وغير لائق إجرائياً. تتوقع الكاتبة أن شهادتها لن تعجب «قيادة» الأمم المتحدة، لأنها تتحدث عن المنظمة بشكل مختلف وتقدم صورة مغايرة غير تلك الصورة البراقة التي تصعد إلى ذهننا عادة عندما نتحدث عن الموظفين الأمميين. يسلط الكتاب الضوء على تجربة صاحبته التي عملت في عدة بقاع غير مستقرة حول العالم. ستحدثنا عن أنها كانت تأخذ أجراً كبيراً نظير عدم القيام بشيء وستحكي باستفاضة عن جنود حفظ السلام الذين ستتحول أعداد كبيرة منهم من مساهمين في منع الانتهاكات إلى جزء أصيل من تلك الانتهاكات والاعتداءات على النساء والأطفال.

قيمة هذه الشهادة كونها أتت من داخل البيت الأممي، وهي تقدم حقائق كان من الصعب على باحث من الخارج أن يتوصل إليها كتستر المنظمة على المتورطين من أبنائها في حالات اغتصاب أو سرقة أو حتى قتل ضمن قانون داخلي يسمى بقانون الصمت. أيضاً تؤكد الدبلوماسية الأممية التي كانت قريبة بشكل خاص من رأس المنظمة وبشكل خاص كوفي عنان وبان كي مون حقيقة أن الولايات المتحدة هي من اختار أمين المنظمة العام الحالي وأنها، أي أمريكا، راضية بشكل عام عن أدائه، حيث أنه حقق لها ما تريد بالتحديد، وإن كان معظم العالم يظن أن بان كي مون لم يحقق شيئاً.

بمطالعة مثل هذه الشهادات يتبين لنا أن المشكلة بنيوية وليست، كما يحاول البعض تصويرها، متعلقة بإصلاح هنا أو هناك. المشكلة تبدو متجذرة بشكل عظيم في نظام المنظمة الدولية نفسه. هذه رسالة مهمة لمن يشغلون أنفسهم بانتقاد المبعوث الدولي إلى سوريا دي ميستورا أو زميله الآخر ولد الشيخ المبعوث إلى اليمن. الرجلان لا يملكان واقعياً سوى خيار التحرك في داخل الإطار المرسوم لهما. على سبيل المثال فإن دي ميستورا حينما بدأ عمله كانت قناعة الأمم المتحدة هي أن بشار الأسد وأركان نظامه هم من يمثل، بشكل شرعي، الدولة السورية حتى إشعار آخر، ومع استمرار الصراع في سوريا على مدى كل هذه السنوات وظهور متغيرات جديدة كالتنظيمات الفوضوية ترسخت هذه القناعة أكثر ليظل مندوب النظام محتفظاً بمقعده كممثل شرعي وحيد لسوريا في منظور الأمم المتحدة، بل إن بان كي مون لم يكتف فقط بهذا، بل كرمه بشكل جماهيري لأدائه المتميز وخدمته الطويلة. في ظل هذا المعطى لا يصبح ذلك الاستياء من زيارة دي ميستورا ومقابلاته مع حاكم دمشق مبرراً، كما تصبح كل تلك المقترحات التي تصب في صالح النظام الأسدي متفهمة، كاقتراحات التهجير أو كمبادرة إفراغ حلب من مقاتليها وتسليمها للنظام، أو كذلك المقترح المضحك الذي تقدم به دي ميستورا قبل أشهر والذي يهدف لتطعيم التفاوض بشخصيات نسائية محايدة وهي الشخصيات التي سنعلم لاحقاً أنها ليست محايدة في معظمها، بل إن النظام قد رشّح بعضها. من جانب آخر فإن الوضع الأممي الرمادي وعلاقة المنظمة بدول الفيتو وبمصالح الدول الممولة، كل ذلك بإمكانه أن يمنحنا بعض التفاسير لحالة التخبط الذي تعيش فيه الوساطة الأممية التي يمثلها ولد الشيخ أحمد في اليمن. الوساطة التي أفضت إلى مبادرة بائسة تتلخص في تغيير معادلات الوضع وسحب الشرعية التدريجي عن الرئيس هادي ومعسكره مقابل انسحاب المسلحين الحوثيين من صنعاء.

المبادرة التي رفضها الجانبان رحب بها للمفارقة طرف ثالث وهو الولايات المتحدة، التي أعلنت دعمها لها وضرورة إلزام الطرفين بها. هذا يوضح لماذا بدت تصريحات ولد الشيخ حازمة بهذا الاتجاه حينما قال إنه يجب القبول بالخطة كما هي وإنها غير قابلة للتعديل أو النسخ. لا شك أن الذين استبشروا بوجود مبعوث دولي عربي لليمن أصابهم الاحباط. لكنني أقول مرة أخرى إن شخص الموظف وخلفيته ليست الشيء الأهم، وليست العامل الذي يحدث فرقاً أكبر. النظام الأممي معد بحيث يترك لموظفيه مساحات صغيرة جداً للمحاورة والمناورة ووضع لمساتهم الشخصية على خرائط طريق مرسومة سلفاً.

أكبر الأدلة على هذا هو أننا جربنا عدة مبعوثيين دوليين من المنطقة العربية والإسلامية، بل سبق وجربنا أن يكون عربي عروبي على رأس المنظمة الدولية، فماذا كانت النتيجة؟

المصدر: القدس العربي الكاتب: مدى الفاتح
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ