الاتفاق النووي: النقاش ما يزال مستمراً
الاتفاق النووي: النقاش ما يزال مستمراً
● مقالات رأي ٩ نوفمبر ٢٠١٧

الاتفاق النووي: النقاش ما يزال مستمراً

لا يزال الاتفاق النووي مع إيران يثير الكثير من المناقشات على الصعيدين السياسي والأكاديمي، حتى بات تناوله يشكل بنداً أساسياً ونقطة لا يمكن تجاوزها عند التعرض لما يسمى «بدبلوماسية نزع السلاح» التي تعتبر التفاوض مع الجانب الإيراني حول طموحاته النووية أحد أمثلتها.

كانت النقاشات محتدمة منذ البداية لاختلاف وجهات النظر بين الرافضين والداعمين، لكن الأمر ازداد تعقيداً بعد ظهور الآثار الجيوبوليتيكية للاتفاق من جهة، وبعد التغيرات التي ظهرت على الصعيدين الدولي والإقليمي من جهة أخرى. من ناحية، تغيرت السياسة الأمريكية من اتباع استراتيجية لدعم إيران وخلق شراكة معها على مستوى الاقتصاد والتجارة ومحاربة الإرهاب، في زمن الرئيس باراك أوباما، إلى منحى مغاير تماماً عبر استراتيجية تهدف لاحتواء إيران وعزلها بعد اتهامها برعاية ودعم الإرهاب.

أما إقليمياً، فقد تغير الوضع، ولم يعد الكثير من دول الجوار القريب أو البعيد لإيران يرى فيها تهديداً وشيكاً أو عدواً على المدى القريب، ما سمح للبعض ببدء صفحة تعاون جديدة جعلت النظام الإيراني يشعر بأنه لم يعد معزولاً، بل إنه لم يعد قابلاً للعزل.

لفهم هذه المناقشات المحتدمة منذ أعوام داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية الغربية، يجب أن نعلم أن الاتفاق النووي لم يكن يستهدف فقط تجميد المساعي النووية لطهران لمدى عشر سنوات، بل كان يبشّر كذلك بضمان تحسن السلوك الإيراني، مقابل التطبيع الكامل وإعادة فتح الأسواق، ما يؤدي إلى قبول البلد الذي عانى لعقود من الحصار والمقاطعة، ضمن المنظومة الاقتصادية الدولية.

كانت النظرية التي تبناها الرئيس السابق وفريق عمله، تقول إنه ما لم ينجح المجتمع الدولي في الوصول إليه بطريق الاستهداف والعداء، قد ينجح في التحصل عليه عن طريق الضغوط الناعمة والاحتواء.

هذه النظرية، ورغم أنه عكف عليها لفيف من الخبراء الاستراتيجيين، كانت تبدو لكثيرين غيرهم ساذجة، على اعتبار أنه من الصعب جداً على نظام الولي الفقيه أن يتخلى عن مشروعه المبني على التمدد وتوسيع النفوذ والتغلغل أكثر في الجوار.

رغم ذلك فإن الدعاية لهذا الاتفاق ولنظريته المؤسسة لم تتوقف، حتى بعد تزايد الخروقات من قبل الجانب الإيراني، الذي لم يمنعه الاتفاق من التوسع في تصدير المقاتلين إلى الحلبة السورية، كما لم يمنعه من الاستمرار في تجريب الأسلحة الصاروخية الرادعة والممنوعة. رغم كل ذلك، إلا أن الإدارة الأمريكية السابقة كانت تتبنى إنجاح هذا الاتفاق كأولوية لها، محاولة إقناع الآخرين بخدمته للأمن والسلم. ومع أنه لا توجد حتى الآن أي إشارة على تحسن سلوك الطرف الإيراني، وهو الأمر الذي كان يمثل الغاية الأهم من الاتفاق، إلا أن الكثير من الداعمين ما زالوا عند رأيهم بأنه يمثل نجاحاً دبلوماسياً يجب عدم التفريط فيه.

هذا الإصرار فرض تساؤلاً حول ما يعنيه تحسن السلوك الإيراني. بالتأكيد فإن المقصود ليس الانسحاب من سوريا ولا تجفيف المنابع الاقتصادية والدعم الممنوح لحزب الله اللبناني، أو لمجموعة الحوثي اليمنية، كما أنه ليس مقصوداً بأي حال التيقن من توقف أو تأجيل المشروع النووي، لأن كل ذلك ببساطة لم يحدث. إذن، ما الذي يعنيه الداعمون لإيران بحديثهم عن «تحسن السلوك»؟

من أجل إجابة هذا السؤال ربما تجدر بنا قراءة المقالات الغربية التي كتبها متحمسون نافذون لهذا الاتفاق، وهي مهمة من أجل الاطلاع على وجهة النظر الأخرى المساندة. على رأس أولئك مثلاً وزير الخارجية السابق جون كيري الذي نشر مقالاً في «الواشنطن بوست» بتاريخ 29 سبتمبر الماضي، يدافع فيه عن الاتفاق ويحذّر من عواقب الانسحاب منه، وهو مقال شبيه بالمقال الذي تشارك في كتابته فيليب غوردون وريتشارد نيفيو، والذي نشر في وقت سابق في مجلة «ذا أتلانتك» تحت عنوان: «الصفقة الأسوأ التي لم تكن كذلك أبداً!».

في بحثتنا عن المقصود بتحسن السلوك يتوجب علينا تذكر حقيقة أن الدول إنما تتحرك وفق ما يحقق مصلحتها الذاتية المتمثلة بشكل خاص في نطاقي الأمن والاقتصاد. بهذا التبسيط يصبح من الواضح تحقق تحسن السلوك الإيراني بحسب منظور الغرب البراغماتي. فمن الناحية الأمنية تحرص إيران على التوقف عن تهديد أي مصلحة غربية، بما في ذلك ضمان ألا يشكّل ذراعها حزب الله المتمدد سورياً أي تهديد على الكيان الصهيوني.

أما اقتصادياً، فإن انفتاح السوق الإيراني على الشركاء الغربيين بعد عقود من العزلة، يوفر بلا شك مصلحة مهمة لأوروبا، القارة التي باتت تعاني من الشيخوخة، والتي بدأ الركود الاقتصادي يتسرب إلى الكثير من مفاصلها حتى وصل الأمر حد التشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي نفسه كمؤسسة.

استخدام مفردة «الصفقة» شائع في الأدبيات الغربية. الحقيقة أن كلا الطرفين كان ينتظر الفوائد الاقتصادية والتجارية. الطرف الإيراني الذي كانت خياراته الاقتصادية في السابق محدودة، والذي استنزف نفسه من خلال تدخلاته العسكرية الخارجية ودعمه غير المحدود للمجموعات الفوضوية في أكثر من مكان، والطرف الغربي الذي كان يتلهف لدخول السوق الفارسي.

كان الاتفاق بالنسبة لإيران مصلحة وطنية تقدم طوق النجاة لاقتصاد أنهكه الانفاق العسكري وأضعفه تهاوي أسعار النفط. كانت صفقة مربحة تحصل بموجبها إيران بشكل فوري على 400 مليون دولار، بخلاف تحرير مبالغ مجمدة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. كل هذا بلا مقابل، سوى حديث إعلامي وتعهدات لفظية بتحسن السلوك واحترام الجوار، وهو ما تعلن طهران في كل مناسبة التزامها به.

«الصفقة» كانت تؤدي باختصار إلى إنعاش الاقتصادين الإيراني والأوروبي. حماس الأوروبيين وفرحهم بالاتفاق كان يظهر في السرعة التي بدأت فيها الوفود من مختلف البلدان بالتوافد على طهران، كما ظهر في الحفاوة التي استقبل بها الرئيس روحاني في العواصم الأوروبية.
لم يكن أحد يتحدث عن المعنى السياسي لتحسن السلوك في هذه اللقاءات. كان الحديث يدور في غالبه عن الإلغاء التام والوشيك للحظر التجاري على إيران، ما يمكنها من شراء الذهب والمعادن الثمينة وصيانة الطائرات المدنية في الخارج من جهة، ويجعلها تتابع أنشطة صناعة السيارات والمواد البتروكيميائية التي تملك فيها بعض الخبرة من جهة أخرى.

لم يكن من المطروح أن يشرع أي مسؤول غربي في الضغط على طهران وتهديدها بإلغاء الاتفاق، إذا ما واصلت مشاريعها الفوضوية في المنطقة، وذلك ببساطة لأنه في هذه الحالة فإن الخسارة لن تكون فقط من نصيب الجانب الإيراني ولكنها ستكون كذلك خسارة فادحة للجانب الأوروبي، الذي بدأ بعض رجال أعماله مشاريع فيها تتجاوز قيمتها ملايين الدولارات. هذا هو ما جعل الاتفاقية تبدو كصفقة مضمونها أن تسلّم طهران مفاتيح اقتصادها للغربيين، وتمنحهم وضعاً مريحاً للتبادل التجاري والاستثمار، مقابل غض النظر عن تجاوزاتها وعبثها في أركان المنطقة. هذا «الربط الاقتصادي» كان ناجحاً في تحييد مواقف الكثير من الدول الأوروبية التي ما تزال رافضة لعودة إيران لمربع الحظر والعقوبات، وهو ما ظهر في عجز الولايات المتحدة عن تنفيذ تهديداتها بمراجعة الاتفاق واكتفائها بفرض عقوبات أحادية محدودة.

أكثر من ذلك فإن طهران تتابع بجد محاولات تطبيق استراتيجية الربط الاقتصادي هذه على الحالة الأمريكية عبر إقناع الكثير من رجال الأعمال والمستثمرين الأمريكيين بجدوى الشراكة مع إيران وسوقها الخصب، وبالفعل فقد أصبحت لديها مجموعة ضغط لا يستهان بها، مكونة من شخصيات نافذة تدعمها بشكل كبير. ربما يكون هذا هو أحد الصعوبات التي تواجه استراتيجية ترامب لصد إيران.

المصدر: القدس العربي الكاتب: مدى الفاتح
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ