الاتفاق النووي وحقيقة «صراع الأجنحة» داخل إيران
الاتفاق النووي وحقيقة «صراع الأجنحة» داخل إيران
● مقالات رأي ٣ أغسطس ٢٠١٧

الاتفاق النووي وحقيقة «صراع الأجنحة» داخل إيران

يميل كثير من المحللين عند تقييمهم لتأثير الاتفاق النووي على الداخل الإيراني إلى الحديث عما يسمى «بصراع الأجنحة». المقصود هو اختلاف التوجهات الظاهر بين الاتجاه المنفتح الذي يمثله الرئيس حسن روحاني، والذي يدعم الاتفاق بقوة، والاتجاه الآخر المدعوم من المرشد، الذي أبدى منذ البداية تحفظاً عليه.

الحقيقة هي أن هذا الصراع بهذا المعنى لا وجود له. ببساطة، وبغض النظر عن خطاباته الحماسية، فإن المرشد لو كان يعارض هذا الاتفاق بشكل جاد لما كانت إيران قد سعت لتوقيعه وإنجاحه، كما أنه، لو كان لديه أي تحفظ على مشروع روحاني لما كان سمح له بالترشح ناهيك عن الفوز بالرئاسة.

لقد فصّلت ذلك في مواقع أخرى تعليقاً على الديمقراطية الإيرانية، وطريقة الانتخاب الفريدة التي تقود لمنح الحق في الترشح والانتخاب لتيار واحد يسانده المرشد، وتراقبه السلطة الدينية. قلت حينها إن ما يظهر من تنافس واشتباكات ليس في كثير من الأحيان إلا مجرد نسخ مختلفة من تيار واحد. يمكننا أن نقول إن الولي الفقيه، رأس النظام الحقيقي، يملك جناحان يتحكم بهما ويستخدمهما بحسب الظرف الزماني والمكاني. جناح الانفتاح والاعتدال الذي يخاطب به الغرب، معلناً عن مد جسور التعاون والتقارب معهم، وجناح التشدد الموجه إلى الجيران في المنطقة، وإلى كل عدو مفترض، والذي يقوم على لغة التهديد وتجهيز الميليشيات وأعمال الإرهاب.

المرشد هو الداعم الأهم لتنظيم الحرس الثوري الإيراني، النواة الأقوى للسياسة والدفاع والاقتصاد الإيراني، ولكنه في الوقت ذاته، المحدد الأهم لتوجهات الرئاسة الإيرانية وتحركاتها الخارجية. إذا اتفقنا على كون أن المرجعية التي يحتكم إليها الطرفان واحدة، فربما يكون من الأصح الحديث عن «تنافس» لا صراع الأجنحة، تنافس يأمل فيه كل فريق أن يكسب هذه المرجعية إلى صفه، إلا أن ذلك، أي انحياز المرشد التام لجهة دون أخرى، غير ممكن، حيث يدرك الرجل بخبرته الطويلة خلفيات أصحابه، فلا يستغني عن أحد منهم. على سبيل المثال فإنه حين كان الوقت وقت تشدد وتصعيد مع الغرب، قام بتصدير شخصيات مثل محمود أحمدي نجاد ووزير الخارجية علي أكبر صالحي. أما حين احتاج لإقناع العالم بإيران الجديدة التي تغيّرت، فقد استعان بشخصيات مثل الرئيس روحاني ومحمد جواد ظريف، الذي لم يكن فقط وزير خارجية، ولكنه أيضاً ممثل إيران والمفاوض الأهم في ما يتعلق بالاتفاق النووي، وهو الملف الذي كان يسيطر عليه سلفه الذي اشتهر بتشدده، سعيد جليلي رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي.

أكثر من ذلك فإن هذا التقسيم إلى معسكر اعتدال وتشدد، وهو ما يميل إليه أغلب المتناولين للشأن الإيراني، خاصة إبان الانتخابات، هذا التقسيم لا يرضي حتى مرشد الثورة، وهو ما عبر عنه بوضوح في كلمة ألقاها عقب فوز روحاني بالرئاسة، منتقداً نزعة «تقسيم الشعب».

كأن علي خامنئي أراد أن يقول إن مسألة المعسكرات هذه كانت مجرد لعبة انتخابية لإضفاء بعض التشويق على عملية الانتخاب والاقتراع، أما محاولة تحويل ذلك لاستقطاب جاد يهدد كيان الدولة، ويبني كياناً معارضاً موازياً، فهو أمر غير مقبول.

لم يكتف المرشد بالتلميح، ولكنه قال بشكل صريح أنه لن يسمح بتكرار ما حدث عام 2009 حيث تم «التساهل» مع تيار الإصلاح الذي نما وتقوى لدرجة كادت أن تضيّع الدولة. لقد قطعت كلمات خامنئي الواضحة الطريق على من كانوا يأملون في التستر خلف الرئيس المنفتح الجديد والمقبول من المؤسسة الدينية، من أجل تنفيذ مشروعات إصلاحية أو ليبرالية. كما حملت رسالة واضحة للرئيس روحاني نفسه مفادها تذكيره بضرورة الالتزام بالخط المرسوم الذي يجب ألا يحيد عنه.

في الواقع فقد كان روحاني شديد الانتقاد لتدخل مؤسسة الحرس الثوري في الحياة السياسية، حيث اعتبر أن دورها يجب أن يقتصر على تأمين الثورة وحماية البلاد، إلا أن الرسالة التي حرص المرشد وغيره من المقربين، كعلي لاريجاني، على تكرارها، هي أن هذه المؤسسة وغيرها من الأذرع الأمنية كقوات الباسيج هي خطوط حمر لا يجوز المساس بها. ما يمكن أن يوضح الحالة الفريدة التي نحن بصددها، أن الرئيس روحاني وفي انتقاده لمؤسسة الحرس الثوري لجأ للتذكير بإمام الثورة الأول، الخميني، الذي لم يكن يرضى بتحول هذه المؤسسة لذراع سياسية واقتصادية. أما الحرس الثوري فهم أيضاً، وحين يرغبون بكسب نقاط لصالحهم ضد مؤسسة الرئاسة، فإنهم يتهمونها بالتمييع والانحناء والتذلل للغرب، مما يخالف بشكل صريح مبادئ الثورة وخط مرشدها.

انتهز خط التشدد الحظ السيئ للرئيس روحاني، فقد كان واضحاً أن الأمور بدأت تخرج عن سيطرته، وأن مخططه الطموح لم يمض بالشكل الذي توقعه على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وهو ما جعل منافسيه يطرقون على وتر أن بلادهم قدمت الكثير دون أن تنال شيئاً بحجم تنازلاتها.

كان الرئيس روحاني قد قدم إبان ترشحه، مشروع الانفتاح على الغرب، كحل للأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد. بدا للقيادة ولعامة الشعب الإيراني حينها أن هذا الاتفاق يشكل أرضاً صلبة يمكن الاتكاء عليها، للخروج بالبلاد من الأزمة التي أفرزها الانغلاق السياسي، والعقوبات التي استمرت لما يقارب العقدين من الزمان.

بعد تلقي الضوء الأخضر من القيادة الدينية قام روحاني بعد أسابيع قليلة من توليه الرئاسة، بتوقيع اتفاق مبدئي في ما يتعلق بالاتفاق النووي. كان الرجل جاداً فعلاً وكان الانفتاح على الغرب والتطبيع مع مؤسساته يمثل بالنسبة له أولوية قصوى.

الأيام الأولى بعد توقيع الاتفاق كانت مثمرة، شعر فيها الجانب الإيراني ببعض الانتعاش، لكن الحال لم يلبث أن تغير مع تولي دونالد ترامب الرئاسة، فبعد أن تم منح النظام الإيراني الكثير من المليارات عبر الشركات، والشراكات مع الكثير من مؤسسات العالم، خاصة الأوروبية منها، في العام الماضي، إذ بالإدارة الجديدة ومنذ بداية هذا العام تقوم بفرض الكثير من العقوبات، وتجميد الكثير من الأموال استناداً إلى السلوك الإيراني غير البناء.

كل ذلك شكّل ضغطاً على الرئيس روحاني وفريقه، الذي كان يراهن على مخطط الانفتاح. في الداخل، وعلى صعيد الشارع والاقتصاد الإيراني، لم تخل الصورة من قتامة، فقد تزايدت الشائعات والإحباط، كما زادت نسبة البطالة والتضخم الذي تسبب بدوره في تزايد ارتفاع الأسعار. بالنسبة للأغلبية فإن الحال لم يتغير كثيراً بعد الاتفاق وهو أمر محبط بعد سيل من الوعود والآمال.

بالتأكيد فإن أسباب التعثر الاقتصادي لا تعود فقط إلى العقوبات الغربية أو الأمريكية، وإنما تسببت فيها عوامل أخرى، لعل أهمها التدخلات العسكرية الإيرانية الخارجية، وإصرار النظام على إغداق الملايين على أذرعٍ وخلايا مسلحة في أكثر من مكان.

ما يمكن أن نخلص إليه هنا هو أن الحديث عن صراع بين أجنحة مختلفة غير دقيق ويستند بشكل كبير إلى المقارنة بما يحدث في دول أخرى. بالمقابل فإن التنافس وتضارب المصالح موجود ولا يمكن إنكاره، على سبيل المثال فإن التطبيع والاستفادة الكاملة من الاتفاق النووي يمر عبر تحجيم دور الحرس الثوري، وهو ما تعرفه جميع الأطراف. رؤية روحاني هي تقليل دور هذه المؤسسة السياسي وتغلغلاتها الاقتصادية الواضحة، من أجل مساعدة البلاد على الانخراط أكثر في الحياة الاقتصادية الدولية. قيادات الحرس التي وقعت عليها عقوبات إضافية هذا العام تنظر بتشكك لهذا الرأي، الذي يبدو لها وكأنه مجرد وسيلة لتجريد إيران من قوتها العسكرية عبر استهداف الحرس وغيره من المؤسسات الأمنية والعسكرية.

سواء كان الرئيس روحاني صادقاً في انتقاداته للحرس الثوري، أو كانت آراؤه تلك مجرد مناورة سياسية، فإن خيار تحجيم القبضة السياسية والأمنية للحرس الثوري يبدو مستبعداً، وهو ما أكده بداية هذا الأسبوع أحمد جنتي رئيس «مجلس خبراء القيادة» الذي يمثل الأصولية السياسية الحاكمة. رأى جنتي في محاولات تفكيك هذه المؤسسة مخططاً أمريكياً لإضعاف الدولة، ووصف من يلمحون للتخلي عن الحرس الثوري بأنهم «تيار فتنة» وأنهم بفعلهم هذا إنما يساندون الأعداء.

بقي أن نقول إنه لا توجد خطوط واضحة هنا بين التشدد والاعتدال. على سبيل المثال بعد شروع الرئيس ترامب في تنفيذ سلسلة عقوبات قاسية جديدة ضد النظام الإيراني فإن روحاني، المعتدل، سرعان ما نزع رداء دبلوماسيته مهدداً برد إيران على ذلك. أما رموز التشدد فإنهم كذلك يغيّرون خطابهم بحسب واقع الحال، فلا تستغرب إن رأيتهم في بعض المناسبات وهم يتحدثون بدبلوماسية عن أهمية الحوار ومراعاة حقوق الجوار والتعاون الإقليمي. هي لعبة ذات احترافية عالية يصعب على الكثيرين فهمها أو ملاحقتها.

المصدر: القدس العربي الكاتب: مدى الفاتح
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ