التغير الديموغرافي في سورية
التغير الديموغرافي في سورية
● بحوث ودراسات ٢٩ نوفمبر ٢٠١٦

التغير الديموغرافي في سورية


نحاول في هذا التقرير دراسة ظاهرة خطيرة للتطورات في سورية على المستوى البشري. وهناك إدراك عام بأن التغيير الديمغرافي قد يكون من أخطر ما تتعرّض له المنطقة، وذلك لأن آثاره تدوم علاوة على الفظائع التي تترافق معه. وما يجعل الأمر أكثر خطورة أن هذا التغيير هو جزء من الجهد الخارجي الذي يعبث في أرض سورية ويمزّق أسس قيامها الاجتماعي الذي هو أكبر مرتكزات استقرارها.
وعلينا ابتداءً التنبيه إلى أن البيانات والأرقام المتوافرة حول الموضوع لا يمكن الوثوق بها وثوقاً مطلقاً. غير أنّ خطورة الموضوع دعتنا إلى الخوض فيه محاولين إجراء تقاطع بين أجزاء المعلومات بحيث يعضد بعضها بعضاً، وذلك بغية تشكيل صورة تعكس الواقع بقدر الإمكان بعيداً عن التخمين ومجرد التخوّف. وما يلي ثلاث نتائج أساسية أظهرتها الدراسة:
    1.    هناك تغيرات ديمغرافية خطيرة أفسدت نسيج الاجتماع البشري في بقاع متعددة من سورية.
    2.    هناك تغيرات حاصلة نتيجة التدمير والصراع وليست مرتبطة مباشرة بالبعد الطائفي.
    3.    هناك مبالغة في الأذهان حول الاستبدال السكاني، لم نجد دلائل على حصول استبدال سكاني واسع.
نضع بين يديكم هذا التقرير الذي درس التغير الديموغرافي في مختلف مناطق سيطرة القوى العسكرية حتى مطلع شهر تشرين الثاني 2016 مؤكدين على ضرورة اتمام هذه الدراسة بجهود ميدانية لرسم صورة أدق عن الواقع الديموغرافي للبلاد.
تعريفات أساسية
قبل الولوج في استعراض عمليات التغيير الديمغرافي القائمة في سورية، لا بد من شرح تعريفات أساسية:
    •    الديموغرافية: دراسة الخصائص السكانية لرقعة جغرافية معينة من حيث توزيع الأفراد على مجموعة معدلات نسبية، مثل: الولادة، والوفاة، والفئة العمرية، والمرحلة الدراسية، والقوم، والجنس، والدين.

    •    معدل وفيات الأطفال: عدد وفيات الأطفال لـ 1000 طفل في السنة.

    •    متوسط العمر المتوقع: متوسط عدد السنوات التي يعشيها الفرد في البلد.

    •    معدل وفيات: معدل وفيات الأفراد لـ 1000 مواطن في السنة.

    •    مؤشر الولادة: عدد الأطفال المولودين في السنة.

    •    اللجوء: عملية مغادرة البلاد بغرض الحماية بسبب الحرب، أو الاضطهاد السياسي أو القومي أو الديني أو بفعل الكوارث الطبيعية.

    •    النزوح: عملية مغادرة المسكن الأصلي لمكان آخر ضمن حدود البلاد بغرض الحماية لنفس أسباب اللجوء.

    •    الاستيطان: عملية إسكان واسعة في أرض دون رضى أصحابها، بغرض تغيير التركيبة الديموغرافية للرقعة الجغرافية المستهدفة.

    •    التهجير الجماعي: ترحيل مجموعة من الأفراد من موقع جغرافي إلى آخر. ويكون جريمةً في حال حصل قهراً دون رضى المهجّرين، أو في غياب السند القانوني، أو لم تتوفر شروط السلامة والحماية المطلوبة أثناء التنقل. ويشمل مفهوم الترحيل ما كان بإشراف قوة عسكرية أو شبه عسكرية من خلال تسيير عملية التنقل، أو من خلال فرض واقع أمني أو اقتصادي أو صحي لا يترك للمدنيين خياراً سوى الهجرة من محل إقامتهم.

    •    الإبادة الجماعية: هي الجرائم المرتكبة بسبق نيّة وترصد بغرض التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو قومية أو دينية إمّا من خلال قتل أفرادها، أو إلحاق ضرر جسدي أو نفسي جسيم بحقهم، أو إخضاعهم عمداً لظروف عيش قاهرة، أو فرض تدابير تحول دون تكاثرهم، أو من خلال نقل أطفال الجماعة عنوةً إلى جماعة أخرى.

    •    جريمة حرب: هي كل جريمة جنائية بحق الأفراد المحميين بموجب القانون الدولي، والناتجة عن سياسة أو أوامر من القيادة والتي وفرت الحرب ظروف ارتكابها.

    •    الأمن الاقتصادي: مدى قدرة الحفاظ على معدل دخل وطني بما يدعم سبل المعيشة في الحاضر والمستقبل المنظور.

    •    المجموعة الإثنية/الملّية: مجموعة سكانية تتميّز بنسق ثقافي أو انتماء قومي ويضمّ عادة اللغة والدين. وهو في الحالة السورية ليس له تقاطع لازم مع القوم (ملاحظة: نستعمل مصطلح الملّة وفق أصله اللغوي وليس ضمن المفهوم السياسي المذهبي الشائع في لبنان).
الإطار النظري
توضيح أبعاد التنوع داخل سورية أصبح أمراً مهماً لأنه أصبح حقيقة شاخصة تهمّ أي إدارة ناضجة، ولأن ثمة جهود كثيرة تحاول استغلاله في غير صالح السوريين. ومن المعروف أن كلاً من النظام السوري والقوى الخارجية (وعلى رأسها إيران) دفعوا نحو الاستقطاب الطائفي كوسيلة في محاربة الثورة.
والمشهد اليوم يشير إلى وجود هويتين متأزمتين في أرض سورية: الهوية الكردية والهوية العلوية، وإن كانتا تختلفان في طبيعتهما اختلافاً كبيراً. الهوية الكردية طبيعتها قومية، وبعد الثورة ازداد تشابكها مع التطورات في حال الكُرد في العراق وتركيا. الهوية العلوية طبيعتها طائفية (غير مذهبية)، ورغم أن لها سياقاً تاريخياً يرتبط بتركيا، إلا أن معظم فاعلياتها ترتبط بسورية الحديثة وبحكم عائلة الأسد خصوصاً.
وإلى جانب هاتين الهويتين هناك ما يظهر وكأنه هوية سنية خاصة بالسكان العرب من السوريين. ولكن هذه الأخيرة ليست هوية متماسكة من النوع الذي يُطلق على الفرق والأقليات. ففي حين يمكن أن توصف كل من الهوية الكردية والعلوية أنها على درجة من الانسجام برغم التنوع الداخلي، تصعب الإشارة إلى أي مضمونٍ صلدٍ للهوية السنية العربية المزعومة. وإذا كانت المظالم التاريخية وشعور الغبن هما المشترك في الهوية الكردية، وإذا كان الخوف من الانتقام هو المشترك في الهوية العلوية اليوم، فإن الهوية السنية العربية هي هوية رفض التشرذم والاجتماع على المشترك الحضاري.
وضمن هذا الإطار المذكور تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن التغيرات الديمغرافية بالضبط لأنها مما يزيد في الشرذمة وتأزم قواعد العيش المشترك. وسوف نضطر إلى سرد مجموعات إثنية/ملّية برغم أن هوياتها غير متأزمة، لأن إهمال ذكرها قد يبدو وكأنه تجاهل. فمثلاً هوية المسيحيين والتركمان لم تتبلور يوماً على شكل نقيضٍ للهوية السورية وليس فيها رفض للهوية العربية، إلا أنه كان لا بدّ من إيراد هذه المجموعات والتفصيل في أعدادها من أجل اكتمال صورة التغيرات الديمغرافية الطارئة.
الواقع الديمغرافي لسورية ما قبل الحراك الثوري

قسّمت القوى الدولية بعد الحرب العالمية الأولى المشرق وفقاً لمصالحها إلى كيانات هشة لا يتطابق فيها البعد الجغرافي مع البعد الديمغرافي، وعملت جاهدة ضمن إطار مسعاها للتحكم بهذه الدول على إيجاد تناقضات بين المكونات المجتمعية من خلال استقطاب طوائف محددة ومنحها امتيازات على حساب بقية المكونات، الأمر الذي أحدث تناقضاً في المصالح والتوجهات والتعريف الهوياتي ما بين هذه المكونات. ويكفي أن ندلل على ما سبق بتجربة الدويلات المذهبية التي أسستها فرنسا أثناء انتدابها على سورية وتشكيلها لما يعرف بـ" فـرق القوات الخاصة للشرق" وتنسيب أبناء الأقليات فيها.

تمكنت القوى الوطنية في سورية من نيل الاستقلال والتأسيس لدولة مركزية تعاقب على حكمها أنظمة مدنية وعسكرية كما شهدت حالة وحدة عابرة مع مصر، وصولاً إلى الانفصال وما تبعه من انقلاب البعث 1963، وعوضاً عن هوية جمعية عابرة للطوائف، عملت قيادات البعث وخاصة "اللجنة العسكرية" على استثارة الهوّيات الطائفية من جهة وتبني أطروحات ثقافية معادية للأكثرية من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى صدامات دموية مع الأكثرية في عدة مناطق سوريَة في ستينيات القرن الماضي.
طرأ تغير على طريقة تعاطي البعث مع ديمغرافيا المجتمع السوري مع تولي الأسد الأب للسلطة، حيث مارس الأخير سياسة مزدوجة في إدارة هذا الملف داخلياً، كما وظفه خارجياً في علاقاته مع دول الإقليم، فمن جهة عمل حافظ الأسد على استمالة الأكثرية من خلال تخفيف حدة التوجهات اليسارية الراديكالية للبعث، كما اهتم بمحاولات إظهار تماهيه مع هوية الأكثرية نفياً لتهم الطائفية عن نظامه. ومن جهة أخرى، استمر الأسد بالعمل على إفقاد الأكثرية مقومات التأثير عبر استهداف مراكزها في المؤسستين الأمنية والعسكرية والعمل على تعزيز حضور الأقليات في مؤسسات الدولة سيما العلويين. أمّا على الصعيد الخارجي، فلقد وظّف الأسد الورقتين الكردية والشيعية لتحصيل مكاسب سياسية لنظامه سواءً بعلاقته مع تركيا أم مع إيران. بالمحصلة يمكن القول، لم يستهدف الأسد الأب إحداث تغيير ديمغرافي جدي لكونه يدرك صعوبة ذلك، وإنما لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة هدفها إضعاف الأكثرية السنية بالشكل الذي يضمن ترسيخ نظامه.
أدت سياسات نظام الأسد الابن إلى انهيار التوازنات المجتمعية التي أسس لها الأسد الأب، ولتتبلور تدريجياً معالم أزمة ديمغرافية ناجمة عن العوامل التالية:
    1.    الأنشطة الإيرانية الرامية لإحداث تحول في نسيج المجتمع السوري عبر نشر التشيّع وهو ما أدى إلى زيادة ملحوظة في أعداد المنتسبين للمذهب الشيعي.

    2.    موجات النزوح والهجرات التي استهدفت المنطقة الشرقية بالدرجة الأولى بحكم أزمة الجفاف التي تعرضت لها منذ 2009 والتي أدت إلى انخفاض الوجود المسيحي في تلك المنطقة نتيجة الهجرة إلى أوربا، إضافة إلى هجرات الكرد باتجاه مراكز مدن الداخل.

    3.    تزايد عدد السكان سيما في محافظات درعا وإدلب وريف دمشق مع غياب الخطط التنموية والاقتصادية المواكبة لهذا النمو.

    4.    تزايد أعدد المهاجرين إلى دول الخليج وأوربا لأسباب تتصل بالوضع الاقتصادي.

أدّت الأزمة الديمغرافية مع جملة الأزمات الاقتصادية والسياسية والتنموية والقيمية التي كانت تعاني منها سورية دولة ومجتمعاً إلى بروز حراك احتجاجي في أذار 2011 ليتطور الموقف تدريجياً إلى حرب مفتوحة مع انخراط إقليمي ودولي مباشر في الساحة السورية. ومن الطبيعي في حالات الحروب أن تحدث عمليات تغير ديمغرافية، بعضها طبيعي بفعل حالات النزوح والهجرة بحثاً عن الأمن وفرص أفضل للحياة، إضافة إلى التغيرات التي تطرأ على النمو السكاني في فترة الحرب، وبعضها الآخر تغير ممنهج يمارسه المنخرطون في الصراع بهدف إحداث أمر واقع يتم من خلال التهجير والإبادة والإحلال السكاني.
الواقع الديموغرافي لسورية ما بعد الحراك الثوري
تشير دراسات الأمم المتحدة في مطلع الألفية إلى وصول عدد سكّان سورية لـ 22.6 مليون نسمة مع نهاية عام 2015 وذلك بفضل معدل نمو سكّاني شبه ثابت يبلغ 2.5%، إلّا أننا نقف اليوم على مشهد مختلف تماماً حيث تشير الإحصائيات إلى انخفاض عدد سكّان سورية إلى ما دون 70% من الأرقام المتوقعة، وبمعدل نمو يقدّر بـ 0.3% فقط. وإذ لا يغدو سراً أن ارتفاع معدّلات الهجرة هو السبب الرئيس لتراجع عدد سكّان البلاد، إلّا أن انخفاض معدّلات الولادة، وارتفاع معدل الوفيات يشيران بدورهما إلى الأثر المباشر للحرب على معدّلات النمو السكانية في البلاد.

يظهر الرسم التوضيحي رقم 2 نسب توزّع سكّان سورية وفق الانتماء الديني والقومي ما قبل انطلاق الثورة، ويحتل العرب المركز الأول بنسبة 82% بين مختلف الأعراق، فيما يحتل المسلمون السنة المركز الأول بنسبة 79% بين الأديان يليهم العلويون بنسبة 11.5%. وفي المقابل يبيّن الرسم التوضيحي رقم 3 حجم التغيّر الديموغرافي الذي طرأ على البلاد بعد مضي خمس سنوات من الحرب، ويشير تقاطع بيانات الهجرة واللجوء مع إحصائيات الوفيات والقتلى إلى تراجع نسبة المكّون العربي السني من 62.2% إلى 60.2%، ويعتبر هذا التراجع منطقياً باعتبار العرب السنة أكثر فئة تضررت من أعمال العنف وأكثر فئة تشجعت على اللجوء إلى بلاد الجوار (انظر الرسم التوضيحي رقم 4)، فيما سجّل المكونان العلوي والشيعي ارتفاعاً، ويعود ذلك لـ :
    1.    انخفاض معدّلات الهجرة ضمن المكوّن العلوي، حيث لا يزيد عدد اللاجئين العلويين عن 1% من إجمالي اللاجئين السوريين.

    2.    نشاط حركة التشيّع ضمن الأوساط السنية والعلوية، وفي المدن على وجه الخصوص.

    3.    ارتفاع معدّلات الهجرة لدى المكوّنات الأكبر عدداً بأضعاف معدلات الوفيات لدى الأقليات رغم فداحتها لدى فئة الشباب الذكور ضمن المكوّن العلوي.


رسم توضيحي 4
لا تكشف الإحصاءات المتوفرة عن تغير كبير أصاب تركيبة البلاد القومية الطائفية، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي حدوث انزياحات سكّانية واسعة النطاق. فعلى الرغم من صعوبة الحصول على أعداد دقيقة للنازحين داخلياً، تشير البيانات المتاحة إلى نزوح 6.5 مليون سوري. ويشمل هذا العدد حوالي مليوني شخص نزحوا من مناطق سيطرة القوى الوطنية إلى مناطق سيطرة النظام، وملايين آخرون فروا من مناطق يسيطر عليها النظام إلى أخرى بسبب القتال العنيف (انظر الرسم التوضيحي رقم 5).
ولقد شهدت مناطق سيطرة القوى الوطنية معدّلات النزوح الأكبر وذلك للأسباب التالية:
    1.    أعمال العنف والقصف الجوي التي تقوم بها قوات النظام والجيش الروسي.

    2.    الحصار والاعتقال العشوائي الذي تقوم به قوات النظام.

    3.    تراجع سبل المعيشة وانعدامها في معظم الأحيان.

    4.    تراجع الخدمات الأساسية كالطب، والتعليم، والطاقة.

    5.    تعذر وصول المساعدات الأممية للمحتاجين في المناطق المحاصرة.

    6.    انعدام الأمن وتفشي الفصائلية لدى القوى المحلية.



تشير التقارير الأممية إلى ميل المدنيين للنزوح إلى مناطق سكن أقاربهم الآمنة ولا تشكّل هوية الفصيل الذي يسيطر عليها عاملاً هاماً في خيار منطقة النزوح، فمناطق الإدارة الذاتية تستقطب النازحين الكرد وبعض العرب من سكّانها الأصليين بغض النظر عن تحكم الاتحاد الديموقراطي فيها أو ما يشاع عن أهدافه بجعل هذه المناطق متجانسة قومياً.
غالباً ما تسلّط تقارير وسائل الإعلام الرئيسة الضوء على تحكّم النظام بـ 17% من مساحة سورية فقط، فيما يتحكم تنظيم "داعش" بقرابة الـ 40% من البلاد، ويتقاسم كل من القوى الوطنية والاتحاد الديموقراطي السيطرة على بقية البلاد. إلا أن هذه الأرقام لا تراعي الكثافة والتوزع الجغرافي للسكّان حيث يسيطر النظام على ما يعادل 63% من إجمالي المقيمين في البلاد (أي ما يقارب العشرة ملايين مدني) مما يؤهله إلى استخدام ورقة التغيير الديموغرافي لصالحه دولياً وإقليمياً ولابتزاز القوى المحلية القابعة تحت سيطرته.
يدرك النظام جيّدًا أنّ قاعدته العلويّة لا تزال أقلية رغم ارتفاع معدّلات الهجرة لدى السنة ومن هنا يأتي اهتمامه في إحكام سيطرته على المناطق المسيحية والعلوية والدرزية والاسماعيلية (أو ما يسمى سورية المفيدة). ويمنحه التحكم في هذه المناطق فرصةً لإيجاد توازن سني – أقلوي لصالحه، حيث تشير بعض الدراسات إلى ارتفاع نسبة التوزع السكّاني للأقليات لـ 41% في مناطق سيطرته مقابل 24% من عددهم الكلّي على المستوى الوطني، ويساعده في تحقيق هذا "التوازن" نزوح الأقليات الدينية والقومية من مناطق سيطرة الثوار إلى مناطق نفوذه. لا تعني سيطرة النظام على مناطق متنوعة طائفياً أن الأسد أكثر انفتاحاً من الثوار أو الكرد أو داعش، فهو يعلم أنّ عليه طرد ملايين العرب السنّة ليصبح ميزان القوة لصالح الأقليّات التي تدعمه، وهذا ما تحققه استراتيجية تفريغ المناطق الحيوية بمحيط دمشق وعلى طول الطريق الواصلة بين العاصمة والساحل من الحواضن الثورية ذات الأغلبية السنية كما وضحناه سابقاً في ملف "العملية التفاوضية المحلية في الصراع السوري".
أمّا على صعيد ممارسات داعش فعلى خلاف ما بدر منه في العراق حيث خضع لسيطرته طيف أوسع من المكونات القومية والدينية المتنوعة، لم تشهد مناطق نفوذه في سورية نفس التنوع، فلقد سبق نزوح الأقليات المسيحية من دير الزور والرقة والحسكة سيطرته عليها، وكذلك الكرد الذي سريعاً ما اصطدم معهم في كوباني. وباستثناء قرار أصدره التنظيم عقب طرده من مدينة تل أبيض يقضي بخروج الكرد من الرقة تقع معظم الانتهاكات التي مارسها بحق أفراد المكوّن الكردي ضمن أعمال الحرب والقتال والتي شكّلت بدون أي أدنى شك ظروفاً قهرية دفعتهم للنزوح قسراً من مساكنهم الأصلية.
أمّا في مناطق الإدارة الذاتية فلقد فُرض على المكون العربي معادلة جديدة إما القبول بالعيش فيها كأقلية، أو الرفض والرحيل منها. ولقد دفع هذا الانقلاب في الأدوار إلى تنامي شعور المظلومية لدى العرب مما أشعر معظمهم بوجود مخطط مسبق لإفراغ المنطقة منهم. وإذ لا يبرأ الاتحاد الديموقراطي من ممارسة ضغوطات وانتهاكات بحق العرب والتركمان كما أشارت تقارير منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان، إلّا أن السماح بالعودة الجزئية لبعض من هجرّوا سابقاً إلى مناطق سكنهم الأصلية بالإضافة إلى إيواء أعدادٍ متعاظمة من النازحين العرب في منطقة عفرين ومدينة القامشلي ينفي عن الحزب تبنيه سياسةً ثابتة في هذا الصدد. بيد أن استمرار غياب آليات محاسبة الاتحاد الديموقراطي على انتهاكاته السابقة وآليات مراقبة إدارته ومؤسساته الأمنية والعسكرية يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعاً، خصوصاً وقد صرّح صالح مسلم فيما مضى "أن على العرب الذين استوطنوا أراضينا الرحيل".
على الرغم من رغبة الكثير من اللاجئين والنازحين السوريين بالعودة إلى ديارهم عند انتهاء الحرب، إلّا أن فريقاً كبيراً منهم قد يصطدم بواقع سيمنعه من الرجوع إمّا بسبب قومهم أو انتمائهم السياسي أو الديني، ناهيك عن الصعوبات اللوجستية والجهود الاقتصادية الجبارة اللازمة لإعادة البناء والتي ستتأخر لا ريب، وفي هذه الأثناء لن تتورع القوى المحلية المتنفذة عن إكمال التغيير الديموغرافي لصالحها ما لم تواجهها القوى المجتمعية بسياسات مناوئة تستدعي الحفاظ على ما تبقى من التنوع الطائفي في سورية، وهذا ما سنحاول تلمّس بعض أطرافه في آخر الملف.
يهدف هذا الملف إلى استعراض عمليات التغيير الديمغرافية القائمة في سورية خاصة القسرية منها من خلال التوطئة للمفاهيم ذات الصلة بالديمغرافيا والتغيير السكاني بشقيه الطبيعي والقسري، ثم الانتقال إلى استعراض عمليات التغيير الديمغرافي وتحديد الفاعلين في هذه العملية ومصالحهم والأدوات المستخدمة في هذا المجال، وصولاً إلى اقتراح مجموعة من التوصيات للقوى الوطنية بهدف إجهاض محاولات التغيير الديمغرافي الجارية، وبما يسهم في الحفاظ على الأمن المجتمعي.
التغيير الديمغرافي من قبل النظام السوري: تهجير وصمت أممي مطبق

بدأ الحراك الثوري في مناطق ذات أغلبية سنية دون أن يضفي ذلك عليه سمة مذهبية، فالشعارات المدنية والمطالب المطروحة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية محط إجماع، والأسلوب المتبع لتحقيقها سلمي، وقد ساهم ما سبق في استقطاب المزيد من المؤيدين للحراك خاصة من الأقليات وهو ما أدى إلى توسعه وحصوله على تعاطف إقليمي ودولي. أدرك النظام الخطورة التي يمثلها الحراك عليه وهو ما دفعه إلى تبني مقاربة قمع عسكري أدّت إلى عمليات تغيير ديمغرافي قسري يمكن تأطيرها ضمن المراحل التالية:
    1.    المرحلة الأولى "العقاب الجماعي": تمحورت جهود النظام في هذه الفترة على شن حملات أمنية وعسكرية للسيطرة على الموقف الميداني في مناطق الحراك، وعلى الرغم من ارتكاب قوت النظام السوري مجازر، وحدوث حالات نزوح قسري "أحداث جسر الشغور" في الفترة الممتدة من آذار إلى كانون الأول 2011، إلا أن تلك الوقائع لا تدخل ضمن استراتيجية متكاملة ومقصودة للتغيير الديموغرافي القسري، ويعود السبب في ذلك إلى اعتقاد النظام بقدرة مؤسستيه الأمنية والعسكرية على ضبط الموقف دون اللجوء إلى خيارات تصعيدية كالتهجير.
    2.    المرحلة الثانية "التطهير المكاني": انتقلت المقاومة الوطنية من العمل السلمي إلى العسكري نهاية 2011، وقد تمكنت بفعل قوتها الذاتية وشرعيتها الشعبية من إخراج القوات الأمنية للنظام من مناطقها، الأمر الذي دفع النظام مع فشل التكتيكات الأمنية المتبعة سابقاً إلى تصعيد الموقف الميداني من خلال الزج بمزيد من القوات العسكرية لقمع الحراك وفق استراتيجية التطهير المكاني وهو ما بدأ في محافظة حمص عبر تهجير أحياء بابا عمرو والسباع والخالدية وعشيرة وكرم الزيتون والرفاعي والبياضة والسبيل ووادي العرب ومنطقة جوبر والسلطانية، أحياء كرم الزيتون والرفاعي، البياضة، وادي العرب وحي السبيل.
    3.    المرحلة الثالثة "سورية المفيدة": تطورت عمليات التغيير الديمغرافي بداية 2013، حيث تم تأطيرها كأداة من جملة أدوات تحقيق الاستراتيجية الإيرانية في سورية المعروفة بــالحفاظ على "سورية المفيدة" بما يضمن تحقيق هدفين رئيسين هما:
    1.    تمكين تواجد النظام في الشريط الواصل بين دمشق والساحل باعتباره مراكز الثقل السياسي.
    2.    تمكين حزب الله في لبنان من خلال تشكيل منطقة عازلة على الحدود اللبنانية السورية تحميه من الارتدادات السلبية للصراع الدائر في سورية.
ويمكن تسجيل بدء هذه المرحلة مع حملة حزب الله وقوات النظام على مدينة القصير في أيار 2013، لتنتقل بعدها سياسة التهجير إلى العقد الاستراتيجية الواقعة ضمن سورية المفيدة. ووفقاً للإحصائيات المستمدة من عدة مصادر متوافرة على شبكة الإنترنت، فقد هجر النظام السوري والقوات الموالية له بشكل قسري تقريباً 125 منطقة توزعت بين 99 منطقة يغلب عليها المكون السني و26 منطقة ذات غالبية تركمانية، وفيما يلي تقسيم مناطق التهجير بحسب المحافظة.


ويجدر بالذكر أن العديد من المناطق شهدت نزوح سكانها قسراً بفعل العمليات العسكرية القائمة بين قوات النظام والميليشيات الموالية له من جهة وفصائل المقاومة الوطنية من جهة أخرى، إضافة إلى القصف الروسي، وهذه تندرج ضمن عمليات النزوح الداخلي.
استخدم النظام السوري والقوات الموالية له في عملية التهجير القسري أدوات سياسية وعسكرية واستخباراتية واقتصادية وإدارية من أهمها:
    1.    المجازر: ارتكبت قوات النظام والقوات الموالية مجموعة من المجازر على أساس طائفي بهدف ترهيب السكان ودفعهم لترك مناطقهم، ومن أمثلة تلك المجازر: مجزرة الحولة (25-5-2012)، مجزرة القبير (6-5-2012)، مجزرة البيضا ورأس النبع (2-5-2013)، مجزرة التريسمة (12-7-2012)، مجزرة الزارة (6-3-2014) .... إلخ
    2.     القصف الجوي: يلجأ النظام والقوات الموالية له إلى تكثيف القصف الجوي على المناطق المشمولة بمخطط التغيير الديمغرافي بهدف تدمير مقومات الحياة مما يدفع السكان للنزوح القسري عنها بحثاً عن الأمن والخدمات، وفي دراسة صادرة عن المجلس المحلي لمحافظة حمص-مكتب التوثيق بعنوان "مؤشر التهجير في حي الوعر-حمص" تبين وجود علاقة ارتباط طردي قوية بين القصف الجوي وتهجير السكان من الحي.
    3.    التضييق الاستخباراتي: يلجأ النظام عبر قواته الأمنية وكذلك الميليشيات الشيعية إلى التضييق الأمني على سكان المناطق المستهدفة بالتهجير القسري وذلك إما بالتضييق على حركة تنقلهم من وإلى داخل هذه المناطق، أو عبر اعتقال الشباب بذرائع أمنية أو بحجة السوق للخدمة الإلزامية الأمر الذي يدفع السكان لترك هذه المناطق.
    4.     الحصار: اتبع النظام الحصار كسياسة للتضييق على سكان المناطق المشمولة بعملية التهجير، ويظهر تحليل المناطق التي تعرضت للتهجير أنها تعرضت لفترات حصار طويلة كما حصل في داريا والمعضمية وأحياء حمص القديمة والزبداني ومضايا وغيرها من المناطق المهجرة، وتظهر دراسة "مؤشر التهجير في حي الوعر-حمص" تأثر عدد السكان بهذا المتغير بشكل طردي، بمعنى أي أن كل حالة حصار لحي الوعر تبعها انخفاض في عدد السكان في وقت الانفراج، أي لم يخرج السكان بشكل مباشر في وقت الحصار بل في الأوقات التي تلت حالة الحصار.
    5.    تغيير الملكية وإعادة الإعمار: استغل النظام الحراك الثوري ليدفع باتجاه تسريع عملية التهجير القسري من خلال طرح مخططات تنظيم عمراني جديدة تهدف إلى طرد السكان الأصليين من مناطقهم ونقل ملكية هذه المناطق إلى وافدين جدد، ومن أشهر المناطق التي شملها النظام بعملية إعادة التخطيط العمراني منطقة المزة بساتين الرازي (المرسوم التشريعي رقم /66/ تاريخ 18/9/2012) ومنطقة باب عمرو والسلطانية وجوبر بحمص (المرسوم رقم 5 لعام 1982 وتعديلاته) فيما يعرف باسم مشروع حلم حمص.
    6.    اتفاقيات الإخلاء: يمكن تعريف اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها في سورية بأنها: عملية تفاوضية ذات بعد ديمغرافي تجري بين ممثلي النظام والمقاومة المحلية بوساطة أممية، يتمخض عنها استعادة النظام المناطق التي تسيطر عليها فصائل المقاومة علاوة على تهجير من فيها من مدنيين ومقاتلين. بدأت أولى اتفاقيات الإخلاء في عام 2012، ليشهد عاما 2015-2016 العدد الأكبر من اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها والتي يقدر عددها بين (حزيران 2012-آب 2016) بـــ 7 اتفاقيات، 4 منها تمت في حين ما تزال 3 معلقة بانتظار التنفيذ، ويمكن تزمين اتفاقيات الإخلاء وفق الشكل التالي: تلكلخ (حزيران 2012)، حمص القديمة (7-5-2014)، الحجر الأسود (6-7-2015)، الزبداني (19-9-2015)، حي القدم (23-12-2015)، قريتي قزحل وأم القصب (21-7-2016)، داريا (25-8-2016). ومما يلحظ أن محافظتي حمص وريف دمشق كانتا الأكثر استهدافاً باتفاقيات الإخلاء بــ 6 من أصل 7، وهو ما يعتبر مؤشراً على توجه مقصود من قبل النظام وحلفائه_ خاصة إيران_ لتعزيز سيطرتهم على العقد الاستراتيجية فيما يعرف بسورية المفيدة من خلال تصفية مناطق سيطرة المقاومة، وإجراء تغيير ديمغرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه في أي ترتيبات مستقبلية لسورية. بالنظر إلى السياق الزمني الذي عقدت فيه اتفاقيات الإخلاء، يلاحظ أنها جرت بالتزامن مع اتفاقيات المصالحات حينما كان للنظام اليد الطولى سياسياً وعسكرياً على حساب المقاومة الوطنية.
تزامنت عملية التهجير القسري مع حدوث حالات إحلال سكاني جزئي في عدد من المناطق التي شملها التهجير ومن أبرزها: القصير وبابا عمرو والدريب والسباع والحميدية في حمص، أحياء العمارة والأمين والجورة والشاغور في دمشق، منطقة جنوب دمشق كالسيدة زينب وحجيرة والحسينية وسبينة والذيابية ويبرود وعقربا في ريف دمشق، قبر فضة والرملة في حماة. أما الأدوات المستخدمة في الإحلال السكاني فمن أبرزها: نقل الملكية للوافدين الجدد إما من خلال التنظيم العمراني أو شغل منازل المهجرين بالقوة، أو من خلال شراء العقارات السكنية والأراضي الزراعية إضافة إلى توفير الخدمات وإعادة إعمار المناطق المهجرة. أما الوافدين الجدد فيتوزعون بين الفئات التالية: علويون، ميليشيات شيعية، شيعة سوريون ومتشيعون جدد، وليس هناك أرقام موثوقة نستطيع فيها تقدير هذا الإحلال السكاني.
عمليات التغيير الديمغرافي من قبل داعش: انتهاكات وتهجير


تعدّدت الانتهاكات المُمارسة من قبل تنظيم داعش بحق المدنيين من إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية، مروراً بحلقات الاستتابة والدورات الشرعية التي يقيمها التنظيم للسكّان المحليين، ومعسكرات تجنيد الأطفال، وسرقة المنازل والممتلكات الخاصة. وفي حين نال المسيحيون واليزيديون قسطاً وفيراً من انتهاكات التنظيم في العراق، لم تواجه الأقليات الدينية نفس المصير في سورية، ويعود ذلك لنزوح سوادها الأعظم لمناطق النظام أو خارج سورية قبل خضوع مناطقهم لسيطرة داعش.
ارتكب داعش معظم انتهاكاته ضد أفراد ومجموعات اتّهموا بالعمالة لجهات خارجية وثورية فقام التنظيم بتهجير عشرات الآلاف من عقد المقاومة التي اعترضت تقدمه كما حصل في الشحيل وريف دير الزور الشرقي، وفي أبو حمام، والشعيطات، وغيرها من القرى والبلدات العربية في محافظة دير الزور والحسكة. وبعد القضاء على جيوب المقاومة و "المرتدين" على صعيد الجبهات الداخلية، تركّزت انتهاكات التنظيم ضد المكوّنات المحلية على أطراف مناطق سيطرته، ويأتي ضمنها كرد جنوب محافظة الحسكة وشمال محافظة الرقة وشمال شرق محافظة حلب. وإذ ترجع أول أحداث التوتر المتعاظم بين العرب والكرد لاشتباكات رأس العين بين جبهة النصرة وحلفائها المحليين مع وحدات الحماية الشعبية مطلع العام 2013، إلّا أن معارك التنظيم للاستيلاء على مدينة كوباني تشكّل علامة فارقة في تاريخ العلاقات العربية الكردية وما نتج عنها من إشكالات عميقة لاحقاً. ويمكن ورد جرائم التهجير التي قام بها التنظيم بحق الكرد كالتالي:
    1.    الحسكة: تل براك: تعد منطقة تل براك عقدة وصل بين الحسكة والقامشلي، ولقد شهدت قراها عام 2015 قتالاً شديداً بين التنظيم ووحدات الحماية الشعبية، اتُهم خلالها داعش بتهجير الكرد من قراهم التي خضعت لسيطرته، بالإضافة إلى ممارسات تضييق وإذعان بحقهم.
    2.    الرقة:
    ◦    تل أبيض – تموز / آب 2013: اتّهم ناشطون مدنيون تنظيم داعش وغرباء الشام ومقاتلين محليين من حركة أحرار الشام بتهجير سكّان القرى الكردية: سوسك، ويارقوي، وكري سور، وعفده كوي، وقزعلي، وملوح القمر، وتل فندر، فيما لجأ جزء منهم إلى تركيا ونزح القسم الآخر نحو كوباني وريفها.
    ◦    الرقة – حزيران 2015: أصدر تنظيم داعش قراراً يقضي بخروج الكرد من مدينة الرقة بتهمة مساندة التحالف الدولي ووحدات الحماية الشعبية، وأمهلهم يوماً واحداً للمغادرة.
    3.    حلب:
    ◦    ريف جرابلس – تموز 2014: نقلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قيام تنظيم داعش بحرق ونهب والاستيلاء على منازل مدنيين في قرى عفدكه، وملوح القمر، وأبي صرة، وكورك، وجل أوغلي، والجبنة مما دفع 2100 عائلة للنزوح باتجاه مدينة كوباني والحدود التركية القريبة.
    ◦    ريف الباب – آب 2015: نقل عن شهود عيان اعتقال مئات الكرد المدنيين ومصادرة ممتلكاتهم في قرى شدود وقبّة شيح والشيخ جراح وتل بطال وقعركلبين وبليخة وتل جرجي وشاوى والكعيبة. وتسبّبت الانتهاكات بموجات نزوح جديدة نحو القرى ذات الغالبية الكردية في مناطق سيطرة المقاومة الوطنية ومنطقتي عفرين وكوباني.
تخلو أدبيات داعش والقاعدة عموماً من تمييز الناس على أسس قومية، ويضم التنظيمان قوميات مختلفة من ضمنهم الكرد، إلّا أن القتال الدائر بينها وبين وحدات الحماية الشعبية في سورية، والبشمركة في العراق أدّى إلى تبنيهما سياسة خاصة في التعامل مع الكرد، خصوصاً بعد تدخل التحالف الدولي في المنطقة. وعلى رغم من خضوع المكونات العربية المحلية لنفس الممارسات من حيث الحجم والنوع استطاعت الحركات الكردية الراديكالية استثمار ضعف رصيد الثقة بين العرب والكرد في تعزيز سردية العداء التاريخي بين المكونين، كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إذكاء النعرات القومية وفي توفير منّصة مجانية للمتطرفين من الطرفين. 

عملياتالتغيير الديمغرافي من قبل الاتحاد الديموقراطي: سيطرة وتوسع

قدّرت بعض الجهات الإعلامية أن عدد سكّان المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية 2.5 مليون نسمة وهو نفس عدد سكّانها ما قبل 2011، ويعود عدم انخفاض حجم الكتلة البشرية فيها مقارنة ببقية مناطق سورية إلى توازن معدّلات الهجرة منها وإليها. ولقد شهدت الإدارة الذاتية موجات نزوح داخلي لأمانها النسبي مقارنة ببقية المناطق في شمال سورية، فيما هاجر بعض أبنائها إلى تركيا والعراق وأروبا لأسباب اقتصادية بشكل رئيس.
تنقسم مناطق الإدارة الذاتية لثلاثة كانتونات هي الجزيرة، وكوباني (عين عرب)، وعفرين، فيما استحدث كانتون تل أبيض في الـ 21 من تشرين الأول 2015 بعد طرد تنظيم داعش من المدينة وريفها. وتشهد مناطق عفرين وكوباني أكبر كثافة للكرد في سورية، في حين يعرف كانتون الجزيرة تنوعاً أكبر حيث ينضم للكرد قوميات أخرى كالعرب، والتركمان، والآشوريين، والأرمن.
يتولى الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، وحدات الحماية الشعبية (أو الأبوجية) مهام الأمن الخارجي وينشط في محاربة داعش، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وتشكيلات من الجيش الحر. وأمّا المهام الأمنية الداخلية فهي من مسؤولية قوات الأسايش التي تقوم بعمل الشرطة ومكافحة الإرهاب. ولقد اشترك حزب الاتحاد الديموقراطي مع عدد الفاعليات المحلية بإعلان مناطق الإدارة الذاتية بفيدرالية الشمال أو روجافا في الـ 17 من آذار 2016، وعلى الرغم من عدم اعتراف المعارضة أو النظام أو أي جهة دولية رسمية بإعلان الفيدرالية، يعتبر الاتحاد الديموقراطي السلطة الفعلية في هذه المناطق، مما يلزمه بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان بمنح الحقوق الأساسية لجميع سكّان المناطق التي يسيطر عليها.
تلقى تصرفات وحدات الحماية الشعبية الموالية لحزب الاتحاد الديموقراطي الكثير من الاهتمام من قبل المكونات السورية الأخرى ومن العرب على وجه الخصوص، ولقد انعكس هذا الاهتمام بحجم الصدى الذي أحدثته التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية ومرصد حقوق الإنسان والشبكة السورية لحقوق الإنسان حول انتهاكات الوحدات في مناطق سيطرتهم. ويعد ملف التهجير القسري أحد أكثر الملفات الشائكة بين الكرد والعرب في سورية، ولقد شهد طيلة الأعوام الماضية تبادل الاتهامات من قبل الطرفين.

وتشير التقارير الآنف ذكرها قيام وحدات الحماية الشعبية بحملات تهجير في ريفي تل أبيض، وتل حميس طالت كل من قرى وبلدات عبدي كوي، وتل أبيض، والمغات، وسلوك، ورنين، والحصوية الكبرى، والحصوية الصغرى، وأم كبير، وأم كهيف، والناعم، والحنوة الكبرى، والحنوة الصغرى، والفسطاط، والخولة، وتل الشوك، والحسينية، وعكاظ، والجزعة، والبكارية والهلالية، والعشرة، وتل مجدل، والأغبيش. كما ساقت صور من مواقع البلدات وأخرى صناعية تدل على هدم وجرف منازل المدنيين فيها.
تعامل حزب الاتحاد الديموقراطي مع هذه التهم بتحفظه على الأدلة التي سيقت في التقارير، وبطعنه في أهلية شهود العيان، وبشكل رئيس من خلال تبريره هذه العمليات تحت بند الأعمال العسكرية ضد تنظيم داعش. وفي الوقت الذي تصر فيه الإدارة الذاتية على رفض هذه التهم جملة وتفصيلاً ثمّة ما يشير إلى أن تنفيذها جاء انتقاماً ممن افترضتهم حاضنة اجتماعية لداعش، بما يضفي على هذه الممارسات طابع العقاب الجماعي بما يخالف أحكام القانون الإنساني الدولي. كما أن غياب آليات المحاسبة والرقابة يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعاً، خصوصاً وقد صرّح صالح مسلم في بداية أحداث الثورة "أن على العرب الذين استوطنوا أرضنا الرحيل".
يلاحظ أن معظم هذه الممارسات حصلت في محيط الحسكة وتل أبيض حيث يشكّل ضعف الوجود الكردي فيها خطراً على مشروع الإدارة الذاتية، الأمر الذي يفسر اندفاع وحدات الحماية الشعبية في تعزيز وجودها العسكري فيها إبعاداً لأي تهديد ديموغرافي سكّاني مستقبلي. ولقد شهدت منطقة الخابور سياسة مشابهة في نزع سلاح ميليشيا Sootoro الآشورية، وكذلك مدينة الحسكة في طرد مليشيا الدفاع الوطني الموالية للنظام رغم تعايشها مع الإدارة الذاتية. تفيد القراءة السابقة لتحركات وحدات الحماية الشعبية بتبنيها سياسة تغليب قوتها في حيزها الحيوي وأن التهجير القسري لبعض القرى والبلدات العربية والتركمانية جاء نتيجة لهذه السياسات وليست بالضرورة سياسة قائمة بحد ذاتها، فالهاجس الأول للاتحاد الديموقراطي هو بسط نفوذه في مناطق الإدارة الذاتية واحتكار القوة ريثما ينتهي من التحكم في مفاصل النظام المحلي الذي يعمل على إنشائه.
ويجدر بالذكر أن الإدارة الذاتية قد سمحت بعودة جزئية لعدد من العرب الذي هجروا من قراهم في ريف الحسكة، كما حصل في منطقة الهول وتل براك في ريف الحسكة، وبلدة سلوك في ريف تل أبيض، كما أن مناطق سيطرتها تأوي ما يقارب الـ250 ألف نازح عربي مما ينفي عنها تبنيها سياسة تهجير العرب من كامل مناطقها.
عمليات التغيير الديمغرافي من قبل فصائل المقاومةالوطنية: نزوح وعودة

اتهم النظام وعدد من المنظمات الحقوقية فصائل المقاومة الوطنية بممارسة التغيير الديمغرافي من خلال ارتكابها لأعمال عدائية بحق الأقليات كشن العمليات العسكرية في مناطق تواجدهم (معان والكبارية في أيلول 2016، قرى ريف اللاذقية أب 2013، معلولا أيلول 2013، الطليسية أيلول 2016، صدد تشرين الأول 2013)، أو من خلال الترهيب الأمني الموجه ضد الأقليات المتواجدة في مناطق سيطرتها كما حصل في معرة مصرين وفي الغوطة الشرقية وفي إدلب المدينة على سبيل المثال لا للحصر.
ووفقاً لمصادر النظام فإن المناطق التي تتهم فصائل المقاومة الوطنية بتهجير سكّانها هي: معلولا وعدرا العمالية وقرية مغر المير في ريف دمشق، كفريا والفوعة وحلوز والقنية واشتبرق والجديدة واليعقوبية والغسانية "أنزيك" وقرية زرزور في إدلب، نبل والزهراء في حلب، محردة وجدرين وكفربو وقسطل البرج وتل سكين والصفصافية وحي الميدان وجورين وشطحة وقرية الزيارة في حماة، قرية أبو مكة والبادروة والحمبوشية وعرامو والبلوطة وجب الأحمر والخوارات والخميلة وكسب وبج القصب والغسانية "كشيش" وصلنفة في اللاذقية، ربلة والغسانية وصدد في حمص، نامر وخربة وطيسيا ومعربة وشقرا في درعا. عند التدقيق في توزع المناطق السابقة يتضح أنها تتركز في منطقة الغاب وجسر الشغور وناحية القصير وفي المنطقة الواقعة بين الحدود الإدارية لدرعا والسويداء، بمعنى أنها تتركز في نقاط التداخل بين النطاقات الجغرافية ذات الانتماءات المتباينة مذهبياً. إن اتهام فصائل المقاومة الوطنية بممارسة عملية تغيير ديمغرافية قسرية بشكل ممنهج ليس عليه دلائل كافية وذلك للأسباب التالية:
    1.    الجهات التي تصدرت تنفيذ الأعمال الانتقامية التي أدت إلى حدوث عملية نزوح قسري في أغلب المناطق المذكورة سابقاً، هي جبهة النصرة وتنظيم داعش.
    2.    غالباً ما كان يلجأ سكان المناطق السابقة للنزوح عنها مع اقتراب فصائل المقاومة الوطنية، وذلك خوفاً على أنفسهم من ممارسات انتقامية قد تطالهم لموقفهم المؤيد للنظام وهرباً من الاشتباكات العسكرية وبحثاً

الكاتب: مركز "نُصح"
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ