ماذا بقي من الربيع العربي؟
ماذا بقي من الربيع العربي؟
● مقالات رأي ٨ فبراير ٢٠١٧

ماذا بقي من الربيع العربي؟

مرت ست سنوات على الانتفاضات التي اجتاحت خمس دول عربية، وفشلت كلها – بدرجات مختلفة – في تحقيق الشعارات والأهداف التي رفعتها الجماهير، وبدلاً من السعي الى تحقيق العدالة الاجتماعية والديموقراطية ودولة المواطنة انتهى ما اشتهر إعلامياً بالربيع العربي إلى العمل من أجل إنقاذ كيان الدولة ومحاربة الإرهاب وإنقاذ الاقتصاد. وكشفت كل انتفاضة عن مسارات متناقضة جاءت نتيجة طبيعية لتفاعلات معقدة داخل كل بلد عربي، وتدخلات إقليمية ودولية وضعت ما يشبه النهاية للنظام الإقليمي العربي بصورته المعروفة منذ ستينات القرن الماضي. وأكدت مسارات الربيع العربي المتعثرة أن لكل بلد طبعته الخاصة من الانتفاضة على الأنظمة القديمة، وأن من الصعب بحث ودراسة ما جرى كظاهرة واحدة، كذلك لا بد من الانتظار سنوات عدة حتى تتكشف النتائج النهائية لما جرى وأطاح الاستقرار السكوني الزائف الذي ميَّز النظام الإقليمي العربي لسنوات طويلة. لكن يظل للسؤال عن ماذا بقي من الربيع العربي أهميته ودلالاته، لا سيما أن هناك من يرى أن تلك الانتفاضات أو الهبات الشعبية لم تحقق أشياء ملموسة على أرض الواقع، فقد كانت حركات مطلبية نجحت في إطاحة بعض روؤس الأنظمة القديمة لكنها لم تؤسس نظاماً سياسياً جديداً أو تحقق العدالة الاجتماعية، كما أن نتائج الانتفاضات في ليبيا وسورية واليمن جاءت كارثية ولا تزال، وتهدد باستمرار الحروب الأهلية في البلاد الثلاثة، أو تقسيم كل دولة على أسس طائفية أو جهوية أو قبلية وفق واقع كل دولة ومعطياتها السياسية والاجتماعية.

سردية الفشل الكامل لانتفاضات العرب، تعني أن الربيع العربي وصل إلى محطته الأخيرة ولا مجال لاستكمال الحراك الثوري، وهي بذلك تتصارع مع سرديتين، الأولى: المؤامرة الخارجية في تفسير الربيع العربي ونتائجه الفوضوية، والثانية: الثورة المستمرة المطلوبة لتصحيح المسار المتعثر لانتفاضات العرب. وأعتقد أن سردية الفشل الكامل لا تتطابق مع سردية المؤامرة أو الفوضى وإن كانت الأخيرة تقول بها، كما أن سردية استكمال مسار ثورات العرب المتعثر لا تتفق وسردية الفشل النهائي لانتفاضات العرب، حيث يؤمن أصحاب المسار الثوري أن هناك موجات ثورية قادمة في دول الربيع العربي الخمس أو في غيرها من الدول العربية. وقناعتي أن كلاً من السرديات الثلاث تخفي مصالح وتحيزات خاصة، لذلك أتصور أننا في حاجة الى صياغة رؤية أكثر عقلانية وتوازن في الإجابة عن سؤال: ماذا تبقى من الربيع العربي؟ ولعل المدخل المناسب هو التمييز بين مسارات ونتائج انتفاضات كل من تونس ومصر، وما جرى في ليبيا واليمن وسورية، حيث دخلت الدول الثلاث في حروب أهلية مدمرة وانقسامات دموية وطائفية وقبلية، نجت منها مصر وتونس رغم المسار الخاص لكل منهما. لذلك من الأفضل أن تقتصر الإجابة عن كل من مصر وتونس، والانتظار حتى تستقر الأمور في سورية وليبيا واليمن، وتتبلور ملامح النظام السياسي في كل منها بعد أن تسكت البنادق والمدافع وتهدأ التدخلات الخارجية. وفي الإجابة لا يمكن التسليم بسردية الفشل الكامل لانتفاضات العرب أو موت الربيع العربي لأنها تتجاهل دروس التاريخ في شأن تراكم وانتقال الخبرات عبر الأجيال، والنتائج غير المنظورة للهبات والانتفاضات الجماهيرية، ولعل أهم ما تبقى يتمثل في أربع ظواهر:

الأولى، تأكيد قدرة الشعوب على إسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة التي تعتمد على نخب أو قاعدة اجتماعية ضيقة من المستفيدين، وقد تبدو فكرة الخروج على السلطة وإسقاطها من قبيل البديهيات في العالم المعاصر، إلا أنها كانت في تاريخ العرب الحديث بمثابة فرضية غير قابلة للتحقق، لأنه باستثناء الثورة الشعبية في السودان عام 1964 لم تنجح الشعوب العربية في تغيير حكامها، وكان التغيير يتم من خلال موت الحاكم أو بانقلاب عسكري يأتي بنخب جديدة ربما كانت أسوأ من النخب القديمة التي أطيح بها. ولا شك في أن ربيع العرب أكد إمكانية تحرك الشعوب ضد النظم الاستبدادية وقدرتها على التحرر من الهيمنة الناعمة والخشنة لهذه الأنظمة وفرض إرادتها في التغيير حتى وإن لم يكن تغييراً شاملاً، وأظن أن الربيع العربي أرسى أفكاراً وقيماً وممارسات عملية لقدرة الشعوب على الخروج على السلطة أصبحت في ذاكرة ووعي الشعوب والنخب الحاكمة علامة فارقة ودرساً على كل الأطراف أخذه في الحسبان، بخاصة النخب العربية التي كانت تستبعد تماماً ثورة الشعوب من حساباتها.

ثانياً: بقاء عديد من المكاسب الخاصة بالحريات بخاصة حرية الصحافة والإعلام واحترام حقوق الإنسان ونزاهة الانتخابات، فقد انطلقت انتفاضات العرب الثورية داعية لإسقاط النظم «الشعب يريد إسقاط النظام». إلا أن مطلب الحريات لم يكن غائباً فقد رفع المتظاهرون شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» وهو ارتباط مهم بين الحريات والعدالة الاجتماعية أظن أنه لن يمّحي من الذاكرة الجماعية لملايين المتظاهرين في الميادين والشوارع، وأظن أنه حفر قي الثقافة السياسية العربية، كما أنه لم يكن وليد اللحظة الثورية، وإنما كان حاضراً في الخطاب السياسي العربي منذ الثمانينات بعد فشل التجارب السياسية العربية التي ادعت تحقيق العدالة الاجتماعية كشرط للحريات وحقوق الإنسان (تجارب عبدالناصر وبومدين وصدام حسين). هكذا أكدت الانتفاضات العربية الارتباط بين الحريات والعدالة الاجتماعية وحولته إلى ممارسة اجتماعية بعد أن كان مجرد خطاب نخبوي، وأعتقد أن هذا الارتهان والمطالبة الجماهيرية بتحقيقه لا يزال حاضراً في تونس ومصر، رغم الصعوبات الاقتصادية وتحديات الإرهاب، وعلى رغم أن المجال العام أكثر رحابةً وتنوعاً في تونس مقارنة بمصر. القصد أن هناك مكاسب تحققت ولا تزال حاضرة ومؤثرة تتعلق بالحريات والوعي العام والحفاظ على نزاهة الانتخابات وحرية الرأي والتعبير من خلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، وقد أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي في مصر وتونس خلال الأعوام الأخيرة قدرتها على الحفاظ على فضاء عام حر ومن ثم التأثير في الأحداث وفضح بعض عمليات التضليل الإعلامي والتلاعب بالرأي العام.

ثالثاً: جسَّدت مواد الدستور في تونس ومصر وبعض التشريعات والقوانين قيم وروح الربيع العربي، ووفق تقرير مهم للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) فقد كانت عملية صياغة الدستور في البلدين – إضافة إلى المغرب - أكثر تشاركية من التجارب السابقة، لكنها لم تخل من الشوائب، كما اختلفت مستويات التشاركية من بلد إلى آخر. والثابت أن هناك مكاسب وحقوقاً مهمة (اجتماعية وسياسية واقتصادية وتنموية) وغير مسبوقة وردت في الدستورين التونسي والمصري الصادرين عام 2014، واللذين اقترحا آليات وضمانات جيدة للحفاظ على الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية، بل وتطبيق الدستور ذاته، ما يعني أن كثيراً من أهداف وشعارات وربما أحلام ثورات العرب قد كتبت في الدستورين خصوصاً شكل نظام الحكم وسلطات الرئيس والتوزان بين السلطات، لكن يظل السؤال عن مدى الالتزام بتطبيق هذه النصوص، وهل ستظل حبراً على ورق؟ وهنا قد يقال إن بعض مواد الدستور في البلدين لا تطبق ويجري تجاهلها، لكن على أي حال، ستظل لدى الشعوب نصوص دستورية ملزمة للحكومات وعلى الأحزاب والمجتمع المدني المطالبة بتطبيق وتفعيل مواد الدستور التي يفترض أنها كتبت العقد الاجتماعي الجديد بعد انتفاضات الشعوب العربية.

رابعاً: يبقى أخيراً كسر كثير من المحرمات المسكوت عنها في الفكر العربي المعاصر، فللمرة الأولى تطرح على نطاق جماهيري واسع إشكاليات العلاقة بين الدين والسياسة، وحقوق الأقليات في الدولة الوطنية، وحقوق المرأة والشباب والمعوقين وغيرها من القضايا التي لم يكن مسموحاً بها، وأتصور أن طرح هذه الإشكاليات دفعة واحدة وفي مناخ من الاستقطاب السياسي شكل حالة من الارتباك وعدم اليقين لدى قطاعات واسعة، ربما لأنها تعرفت وللمرة الأولى الى الليبرالية والجماعات السلفية، والجهادية، كما أعيد تعريف الإرهاب والجهاد. ومهما كانت نتائج النقاش العام حول هذه الإشكاليات إلا أن المحصلة جاءت إيجابية، وبخاصة أنها حسمت تقريباً في مصر، وبالتجربة العملية، حقيقة السلوك الانتهازي لجماعة «الإخوان المسلمين» وبعض الجماعات الإسلاموية التي تتعمد الخلط بين الديني المقدس، والسياسي الدنيوي، لخداع الناخبين والوصول إلى السلطة لتحقيق مكاسب ضيقة لأعضاء الجماعة.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: محمد شومان
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ