هل يُستأنف «الأبد» السوري؟
هل يُستأنف «الأبد» السوري؟
● مقالات رأي ٢٤ أغسطس ٢٠١٨

هل يُستأنف «الأبد» السوري؟

يعيد النظام السوري إحياء أدوات هيمنته المادية والرمزية كعلامة على انتصاره على «المؤامرة الكونية» التي هدفت إلى إسقاطه، فيرفع تمثال مؤسس النظام، حافظ الأسد في حمص التي اعتبرت لفترة عاصمة الثورة على حكم آل الأسد، في إشارة إلى استئناف «الأبد» السوري وعودته إلى الحياة.

يصر النظام على الإبقاء على صورته الأصلية السابقة على اندلاع مظاهرات مارس (آذار) 2011. فلا شيء تغير في ممارسات الأجهزة الأمنية ولا في الفساد الشامل ولا المضمون الطائفي للدولة، ناهيك عن مسائل لم يطرحها النظام أصلا للنقاش على نفسه، ولم يقبل من المواطنين السوريين إخراجها إلى الحيز العام، من نوع الديمقراطية والعدالة والشرعية.

الحفاظ على أداء السلطة وعلى عسفها وبطشها السابقين للثورة وعلى اعتماد سياسة الإنكار واللامبالاة حيال مآسي ملايين السوريين على غرار إرسال شهادات وفاة الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين قتلوا تحت التعذيب في زنازين النظام وأقبية أجهزته، يشكل تحديا صريحا لمشاعر أهالي الضحايا الذين كان بعضهم يعلق الآمال على عودة أبنائه، من جهة، وللمجتمع الدولي العاجز والمتواطئ من جهة ثانية. وهو تحدّ ضمن النظام سلفا الفوز فيه بعد أعوام من الإمعان في قتل المدنيين بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة وإطلاق العنان للرعاع يعملون ذبحاً بالسكاكين في رقاب أهالي القرى والمناطق المنتفضة، من دون ظهور رد فعل دولي جدي على هذه الإبادة المدروسة والمنظمة للسكان المعارضين.

منذ صوغ «فلسفة» السلطة في سوريا أواخر سبعينات القرن الماضي، زرع النظام قناعة في نفسه وفي نفوس مواطنيه أنه غير قابل لا للتغيير ولا للتعديل ناهيك عن السقوط بفعل ثورة أو تمرد. كانت كل محنة أو أزمة يتعرض لها النظام، من الصراع مع «الإخوان المسلمين» إلى فرض انسحاب قواته من لبنان في 2005، بمثابة الفرصة التي يؤكد فيها البقاء «إلى الأبد» في ظل مؤسسه حافظ ووريثه بشار الأسد. لا شيء يتغير إلا بإذن النظام ولا شيء يهدد النظام، بل إن كل التهديدات هي فرص لتشديد القبضة على سوريا (وعلى لبنان). عليه، يسعى الحكم إلى نفي قابليته وبالتالي قابلية «أبده» للموت (على عكس عنوان كتاب الروائي والصحافي محمد أبي سمرا «موت الأبد السوري»).

بديهي أن النظام يبذل جهودا هائلة لتجاوز آثار الثورة واستئناف سيرته الأولى. وعلى الرغم من خروج الكثير من روافع السياسة والأمن والاقتصاد من يده واستقرارها في أيدي الراعيين الروسي والإيراني وما يرافق ذلك من تخليه عن مناطق واسعة من البلاد التي باتت عمليا تحت إمرة الضباط الروس والإيرانيين، فإن المجال ما زال مفتوحا أمامه على ساحات أخرى حيث يفرض قواعده على قضايا حيوية مثل عودة اللاجئين.

هذه المسألة التي تثير ضجة كبيرة في لبنان المجاور وتعتبر مع التطبيع مع النظام السوري من العقبات أمام تشكيل حكومة سعد الحريري، لم يناقش المسؤولون اللبنانيون جديا موقف النظام السوري منها. بل تحولت إلى موضوع للتراشق الإعلامي وتبادل الاتهامات السياسية، على جاري العادة اللبنانية. غني عن البيان أن دمشق لا ترحب بعودة اللاجئين الذين بذلت، بالتكافل والتضامن مع الميليشيات الإيرانية، جهودا كبيرة لطردهم من بيوتهم وقراهم. ومحاولات العودة المحدودة من لبنان اصطدمت بجملة من الشروط الأمنية التي تقسم طالبي العودة بين مجندين في قوات الأسد ونزلاء في المعتقلات وغذاء لآلة القمع الحاكمة. وباستثناء بعض الكلمات الفاترة لممثلي النظام السوري في لبنان عن المسؤولية عن المواطنين السوريين، لم تجر أي محاولة تذكر لإعادة اللاجئين إلى بلدهم، وهم الذين أخرجوا ضمن عملية هندسة ديموغرافية أشاد بها بشار الأسد في تأكيده على أهمية «تجانس» الشعب السوري بعد الحرب.

كل نقاش حول عودة اللاجئين يجب أن يجري مع من يستطيع إقناع النظام بتغيير قراره بإنزال العقاب بالراغبين في العودة «إلى حضن الوطن»، لذلك ثمة من استوعب هذه الحقيقة وتوجه إلى موسكو بحثا عن صيغة لحل أزمة اللاجئين وفتح الطريق أمامهم من لبنان إلى سوريا. ولا تزيد قيمة الكلام عن إمكان العودة الآمنة للاجئين التي تصرّ عليها الهيئات الدولية، إلى مناطق سيطرة النظام السوري عن قيمة أي كلام دعائي مجاني، حيث يعرف أصحاب هذه الأقوال قبل غيرهم أن العودة غير آمنة وأن اللاجئين معرضون للملاحقة والاعتقال والإعدام فور وصولهم إلى أماكن سكنهم الأصلية.
قضية اللاجئين هذه محورية في عملية إحياء «الأبد» السوري التي يقوم جانب منها على تمرير كل مواطن في مصفاة الأجهزة الأمنية كمعبر ضروري لإخضاعه وكسر ما تراكم أثناء أعوام الثورة من اعتراض أو رغبة في الخروج على ضوابط الهيمنة الأبدية.

وليست التجربة السورية هي الأولى التي يستأنف فيها نظام استبدادي طرقه القديمة، بعد محنة كادت تطيح به. فبعد الحرب العالمية الثانية التي وصلت فيها القوات الألمانية إلى بوابات موسكو، عاد ستالين إلى أعمال القمع والقتل والنفي التي كانت تستهدف أفرادا قبل الهجوم الألماني لتتحول إلى عقاب جماعي يشمل شعوبا بأسرها. ولم تتوقف المذبحة الستالينية إلا بموته وبصعود قيادة جديدة في الكرملين. لا يملك دعاة استئناف «الأبد» السوري قدرات الدولة السوفياتية بطبيعة الحال، لكنهم يصرون على السير في هذه الطريق مهما كلفهم الأمر، ومهما كان الثمن الذي يدفعه السوريون.

المصدر: الشرق الأوسط الكاتب: حسام عيتاني
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ