ديناميكية المواجهة والتعاون في منطقة الخليج: سقوط الشاه وحرب الخليج الأولى
ديناميكية المواجهة والتعاون في منطقة الخليج: سقوط الشاه وحرب الخليج الأولى
● بحوث ودراسات ٢ مارس ٢٠١٧

ديناميكية المواجهة والتعاون في منطقة الخليج: سقوط الشاه وحرب الخليج الأولى

تتصف الديناميكيات الأمنية والسياسية لمنطقة الخليج العربي بالمعقدة، ويستوجب فهم دوافع التعاون والمواجهة وضعها ضمن إطار نظري شامل قادر على الإلمام بجميع خصائصها المحلية والإقليمية ومدى تفاعلها مع العوامل الخارجية وتكاملها مع بعض البعض. يتبنى هذا الملف نظرية "بوزان" في تحليل تفاعلات منطقة الخليج للفترة الممتدة من تاريخ انسحاب الأسطول البريطاني عام 1971 حتى الغزو العراقي للكويت، وتزودنا نظريته المسماة بالمجمَّع الأمني الإقليمي The Regional Security Complex Theory (RSCT) بإطار نظري رصين من أهم ميزاته اعتبار المستوى الإقليمي كوحدة أساسية في التحليل دون إغفال نفاعلها مع المستويين المحلي والدولي. ونتناول في المقدمة أبرز المقاربات التي اعتمدها "بوزان" في نظريته، وأولها تعريف الشرق الأوسط، حيث اعتبره مجمعاً أمنياً إقليمياً مقسّماً إلى ثلاثة مناطق أمنية داخلية هي: منطقة الخليج، ومنطقة بلاد الشام، ومنطقة المغرب العربي. ويخلص "بوزان" في نظريته إلى تشابه الديناميكيات الأمنية للمناطق الفرعية مع الإقليم ككل من حيث الخصائص والميّزات. أمّا المقاربة الثانية فتكمن في تميز النظرية بين التفاعلات الدولية الناتجة عن قدرة الدول الكبرى على ممارسة القوة من مسافات بعيدة والتفاعلات الإقليمية الفرعية الناتجة عن ممارسات الدول الأقل تأثيراً ضمن بيئتها الأمنية الرئيسية في حيز نفوذها المباشر. وتكمن أهمية نظرية المجمع الأمني الإقليمي في فهمها الأعمق للهيكل الإقليمي، وفي قدرتها على تقييم التوازن النسبي للقوة والعلاقات المتبادلة والمتداخلة على المستويين الإقليمي والدولي.


مبدأ نيكسون
​ وبناء على ذلك، فإن التفاعلات السياسية والأمنية في منطقة الخليج كـ (مجمع أمني فرعي sub-complex) كانت وما زالت تتشكل من خلال التفاعل والتداخل بن ثلاثة قوى إقليمية رئيسية هي: المملكة العربية السعودية، والعراق، وإيران. كما أن المصالح المتداخلة بين هذه الدول من جهة، والدول العظمى (بريطانيا، والولايات المتحدة، وروسيا) من جهة أخرى، قد لعبت دوراً بارزاً في عملية تشكيل وإعادة تشكيل الهيكل الإقليمي لمنطقة الخليج العربي. وربما يكون المثال الأوضح على ذلك محاولة الولايات المتحدة ملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه انسحاب الاسطول البريطاني من منطقة الخليج عام 1971، بعد ما يقرب من قرنين من الزمان على الهيمنة الأحادية لبريطانيا على المنطقة. حيث تبنّت الولايات المتحدة بدايةً استراتيجية (توازن القوى عن بعد offshore balance of power)، وذلك من خلال الاتكّاء بشكل أساسي على كل من السعودية وإيران، ضمن ما عرف حينها بسياسية (الدعامة المزدوجة (Twin Pillar. وكان إدارة الرئيس نيكسون تخشى أن يثير الانسحاب البريطاني من المنطقة شهية الاتحاد السوفيتي للتمدد جنوباً والوصول إلى المياه الدافئة في الخليج الأمر الذي من شأنه أن يهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة في مصادر الطاقة، وحرية الملاحة عبر المضائق الحيوية في منطقة الخليج. لاحقاً وبعد سقوط الشاه وانتصار الثورة الاسلامية قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتبني سياسة الحضور المباشر، وهي عملية بطبيعتها متدرجة؛ بدأت أبّان حرب الخليج الأولى من خلال ما عرف باسم قوات التدخل السريع وحرب "الأعلام" وصولاً إلى احتلال العراق وإسقاط صدام حسين عام 2003.


تكامل التحليل
تتميز نظرية "بوزان" بتكامل مستويات التحليل الثلاثة، الداخلي والاقليمي والدولي في تفسير التفاعلات السياسية والأمنية لمنطقة إقليمية ما بعينها. فعلى الصعيد الداخلي على سبيل المثال، تتأثر الديناميكيات الأمنية بشكل كبير بطبيعة النظام السياسي للدولة، وبالنظر إلى منطقة الخليج في السبعينيات من القرن العشرين نرى أن طبيعة الأنظمة السياسية قد ساهمت بشكل كبير في بلورة التفاعلات الأمنية بين الدول المكونة له. فقد كانت غالبية دول منطقة الخليج تتكون من أنظمة مَلَكية تقع معظمها ضمن منظومة التحالفات الغربية، ولذلك كان من السهل الوصول إلى تفاهمات مشتركة تخدم المصالح المتبادلة، وتحافظ على الأمن والاستقرار الإقليميين. فسياسة "الخيار العربي" الذي اعتمدها شاه إيران في العام 1973، على سبيل المثال لا الحصر، تُجلي بشكلٍ واضح مدى تأثير الطبيعة المتشابهة للأنظمة السياسية في التقراب ما بينها. وبالفعل ساهمت سياسية "الخيار العربي" في إشاعة جوٍ من الانفراج في جميع انحاء المنقطة، لكنه تحولّ مع سقوط الشاه وانتصار الثورة الإسلامية إلى حالةٍ من التوتر والتصعيد نتيجةً لتبني إيران سياسة تصدير الثورة وما ترتّب عليها من إثارة الأقليات الشيعية في دول المنطقة للقيام بثورات هدفها تغير الأنظمة القائمة بالقوة، فانبثق عنها حرباً باردة بين إيران والسعودية، وحرباً تقليدية بين إيران والعراق، وأصبحت المنطقة بالتالي مكشوفة للتدخلات الخارجية من قبل الدول الكبرى.

يستق حجم التداخل والترابط الكبيرين بين الديناميكيات السياسية والأمنية في منطقة الخليج مع رؤية "بوزان" التقليدي للمجمع الأمني والذي عرّفه بمجموعة الدول التي تترابط مخاوفهم الأمنية بشكل وثيق بحيث يصبح من الصعب الحديث عن الأمن القومي لدولة بمعزل عن مخاوف باقي الدول الأخرى[i]. والانتقاد الأهم الذي يمكن توجيهه لهذا التعريف أنه ركّز بشكل كبير على الدول كلاعبٍ مركزي ووحيد في تشكيل البيئة السياسية والأمنية للإقليم، في حين تجاهل الفاعلين الآخرين الذين أصبحوا يلعبون أدواراً محورية جنباً إلى جنب مع الدول في تشكيل هذه البيئة الأمنية والتفاعلات التي تقع بداخليها.


اللاعبون خارج إطار الدولة
​تدارك "بوزان" هذا القصور في تعريفه الجديد حيث اعتبر المجمع الأمني عبارة عن مجموعة من الوحدات تتداخل عملياتهم الأمنية بحيث يصبح من العسير تحليل أو حلّ المشكلات الأمنية بمعزلٍ عن بعضهم البعض[i]. وقد أضفى هذا التعميم في التعريف مزيداً من السعة ليتضمن طيفاً أوسعاً من اللاعبين المساهمين في تشكيل الديناميكيات الأمنية والسياسية كمنظمة التعاون الخليجي مثالاً عن المنظمات العابرة للدول، والمليشيات الأجنبية والمذهبية مثالاً عن (اللاعبين خارج إطار الدولة non-state actors). على أي حال، لم تفقد المقاربة التي اقتصرت على مركزية الدول في فهم الواقع الأمني أهميتها، فالدول تبقي هي اللاعب المركزي والأهم في رسم وتنفيذ السياسات، وإذا كان هناك من دور للفاعلين غير الحكوميين فغالباً ما يكون بدعم وتسهيل وتوجيه من الدول ذاتها.

تخطّى مفهومي الأمن والتهديد المقاربة المركزية للدولة بشكل ملفت بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث فسح دخول العامل الأيديولوجي المجال أمام اللاعبين خارج الدولة للمساهمة في تشكيل الواقع السياسي والأمني لمنطقة الخليج. في هذا السياق أصبحت بعض الدول تسعى لاستخدام مثل هؤلاء اللاعبين في تحقيق أهداف سياساتها الخارجية. فقد سعت إيران – على سبيل المثال – إلى تحقيق هدفها في تصدير الثورة من خلال العمل على استنهاض الأقليات الشيعية للتمرّد على حكوماتهم من أجل زعزعة استقرار الأنظمة "الفاسدة وغير الاسلامية" على حد تعبير الامام الخميني، واستبدالها بأنظمة مشابهة لنظام الجمهورية الإسلامية.

وكمثال حيّ على ذلك يمكن النظر إلى (حزب الدعوة العراقي) والذي تمّ تأسيسه على يد آية الله محمد باقر الصدر القريب من الخميني والذي رأى فيه قائداً لنظام إسلامي في العراق. شرع حزب الدعوة بعد تأسيسه مباشرة في تكوين جناحه العسكري ليبدأ في شن هجمات على أهداف حكومية في كل من العراق والكويت بشكل أساس. وقد كان لمثل هذه الهجمات تأثير سلبي كبير على النسيج الاجتماعي لهذه الدول حيث بدأ يُنظر إلى الشيعة كعملاء لقوة خارجية عوضاً عن اعتبارهم مواطنين، وأصبح ولاؤهم لأوطانهم محلّ شك من قبل الحكومات. وقد ساهم هذا التحوّل في إضافة بُعد جديد على مصدر التهديد، حيث لم يعد ينظر إلى التهديد ببعده الخارجي، بل أصبح التهديد الذي ينبع من الداخل محل اعتبار لخطورته الفعلية على أمن الأنظمة السياسية القائمة.


التفاهم والمناوأة
وبالعودة إلى نظرية "بوزان"، ينبع تشكّل المجمع الأمني بالأساس من الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي والإقليمي على حد سواء، والفوضى بمعناها الاصطلاحي تعني عدم وجود حكومة مركزية تتحكم بالنظام العالمي، وقادرة على فرض القانون والمحافظة على السلم والأمن العالميين. وتفرض طبيعة النظام الفوضوية على الدول أن نتخرط في ديناميكية توازن القوى بحيث تحدد حالات (التفاهم والمناوأة amity and enmity) شكل التحالفات والعداوات التي تنشأ بين الدول المتجاورة، فالهدف الأخير للدول هو المحافظة على بقائها وفي ظل نظام عالمي يتسم بالفوضوية فإن هذا الهدف لا يتأتى إلا من خلال الاعتماد على الذات والسعي إلى تعظيم القوة.

كما ويلعب القرب الجغرافي بدوره أهمية كبيرة في تحديد طبيعة العلاقة بين الدول، فالتهديدات تنتقل بشكل أسهل وأسرع بين الدول المتجاورة جغرافياً، وبناءً عليه يعتبر "بوزان" كلاً من الفوضى وتأثير المسافة بالإضافة للتنوع الجغرافي عوامل أساسية في انتاج أنماط التجمعات الإقليمية حيث ترتفع درجة الترابط الأمني بين دول المجمع الأمني الواحد مقارنةً بالترابط الأمني بينها وبين تلك الدول التي تقع خارجه[i]. ويؤكد "بوزان" أن التجاور الجغرافي يظهر بشكل أبرز في القطّاعات العسكرية والسياسية والاجتماعية والبيئية من القطّاع الاقتصادي. ويظهر هذا التفاوت بشكل واضح في منطقة الخليج، فبالرغم من الفرص الاقتصادية الهائلة لتشكيل مجمع اقتصادي على شاكلة الاتحاد الأوروبي ينعم بالاستقرار والازدهار، إلا أن الهواجس الأمنية المترتبة عن التهديد العسكري والخلافات الأيديولوجية والطائفية ما زالت تضغط بثقلها لتثبيط مثل هذه التوجهات والتي من شأنها حلّ الكثير من النزاعات والتهديدات الأمنية التي تجتاح منطقة الخليج خصوصاً والشرق الأوسط بشكل عام فيما لو تحققت.

تجيب مقاربة (التفاهم والمناوأة) من جهة، و(التقارب الجغرافي) من جهة أخرى عن بعض التساؤلات المهمة المتعلقة بمنطقة الخليج من قبيل: لماذا شنّت العراق وليس السعودية الحرب على إيران عام 1980؟ وكيف استطاعت السعودية تشكيل مجلس التعاون الخليجي بالرغم من المخاوف التاريخية لدى مشايخ الخليج من الهيمنة السعودية؟ فبالنظر إلى مقاربة "بوزان" تصبح الاجابة عن مثل هذه التساؤلات أكثر وضوحاً. وهكذا نرى أن العراق بالاعتبارات الجغرافية أقرب إلى إيران من السعودية حيث يحتدم بينهما خلاف حدودي تاريخي يتعلّق بشطّ العرب، هذا بالإضافة إلى التداخل الاجتماعي العميق بينهما على المستوى الطائفي، ولذلك كان الخطر المتأتي من سياسة تصدير الثورة للنظام الإيراني أشدّ على العراق منه على السعودية وعليه فتبرير اتخاذ قرار الحرب من بغداد وليس من الرياض أكثر منطقية.

في ذات السياق تشترك السعودية وباقي دول الجزيرة العربية بالكثير من السمات التاريخية واللغوية والثقافية والدينية، ولقد تمتعت هذه الدول بالحماية الخارجية من قبل الامبراطورية البريطانية على مدى سنوات طويلة من تاريخها، حيث تعهّدت بريطانيا بحماية أمنها ومنع أي صراعات عابرة للحدود فيما بينها. وعليه لم يكن القادة المحليّون قلقون بخصوص استقلالهم بالرغم من استمرار الخلافات القبلية بينهم. غير أن الانسحاب البريطاني من المنطقة، والثورة الإيرانية وسقوط الشاه، وضعف الالتزام الخارجي بالحماية، والحرب العراقية–الإيرانية دفعت قادة الخليج في نهاية المطاف لتنحية مخاوفهم جانباً وتشكيل مظلة أمنية جامعة تمثلت بمجلس التعاون الخليجي.

على صعيد آخر، خضعت منطقة الخليج على مدى عقود لتنافس ثلاثي الأقطاب بين العراق والسعودية وإيران، وكانت هذه الدول تتنافس من أجل تعظيم نفوذها ومحاول إعادة تشكيل النظام الإقليمي بما يخدم مصالحها. وقد جرت التحالفات وإعادة التحالفات على قاعدة منع أي من هذه الدول من الهيمنة المنفردة. وقد أدّت المستويات المرتفعة من التنافس فيما بينها إلى حالة من عدم الاستقرار المزمن في المنطقة بدأت ارهاصاتها بالتشكّل منذ أربعة عقود وما زالت تزداد تجلّياتها حتى وقتنا الراهن رغم تحول التنافس الإقليمي من ثلاثي الأقطاب إلى ثنائي القطبية بعد سقوط العراق في دائرة النفوذ الإيراني على إثر الغزو الأمريكي في العام 2003.


أمريكا تملأ الفراغ
تنبع أهمية اعتبار حدث الانسحاب البريطاني من الخليج في العام 1971 نقطة انطلاقة في تحليلينا للديناميكيات الأمنية والسياسية للمنطقة كونه – أي الانسحاب – قد مهدَّ لظهور نظام إقليمي جديد في منطقة الخليج، التي بقيت تحت النفوذ البريطاني لمدة تزيد عن القرنين.وقد بدأت ارهاصات هذا الانسحاب تظهر عندما كشفت الحكومة البريطانية في العام 1969 عن نيتها الانسحاب من منطقة الخليج. وقد أحدث هذا الإعلان صدمة في أوساط القيادة الأمريكية وأمراء الخليج على حدّ سواء، فالانسحاب البريطاني بهذه الطريقة المفاجئة يعني أن المنطقة ستكون وبشكل غير مسبوق في تاريخها الحديث بلا حماية مباشرة من دولة عظمى.

وقد جاء الانسحاب في وقت حرج، فالولايات المتحدة كانت منشغلة في حربها المدمرة في فيتنام، وهذا يعني أنها كانت غير قادرة علىملء الفراغ الناتج عن انسحاب الأسطول البريطاني من مياه الخليج، وهو ما يجعل المنطقة مفتوحة أمام التمدد السوفيتي. كما أن دول الخليج لم تكن في وضع يسمح لها بصيانة أمنها بمفردها سواء على مستوى الجهوزية العسكرية أو على مستوى الإرادة السياسية، فقد كانت الخلافات بين أمراء الخليج بحد ذاتها خطرا مهدداً لاستقرار المنطقة ككل، حيث عملت بريطانيا على منع تطوره طوال وجودها، وكان من أهم التزامات لندن في ذلك الوقت هي منع نشوء أي صراعات عابرة للحدود بين دول الخليج. لذلك وعندما قررت الانسحاب سادت حالة من الخوف لدى القادة السياسيين المحليين للمآلات التي سوف يُخلفها هذا الفراغ الاستراتيجي.

وبالفعل ترجمت هذه المخاوف بشكل سريع إلى واقع عندما استغلت إيران هذا الفراغ وبادرت باتخاذ خطوات استفزازية أحادية الجانب تمثلت باحتلالها للجزر الاماراتية – طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى- في مياه الخليج.في المقابل سَعَتْ بعض الدويلات حديثة التكوين والنشأة كالكويت والبحرين والتي كانت تعيش نزاعات حدودية مع الدول الأخرى المجاورة لها، إلى دعم فكرة ترسيخ وتقوية حضور الأسطول البحري الأمريكي في مياه الخليج كضامن للأمن الإقليمي، كما دخلت هذه الدول في سباق تسليح من أجل تقوية قدراتها العسكرية، وفي غضون سنوات قليلة غدت منطقة الخليج من أكثر مناطق العالم طلباً للسلاح.

أدرك قادة الخليج أن ثمّة نظاماً إقليمياً جديداً آخذاً بالتشكّل والتطور، وأن دورهم في الحفاظ على الاستقرار والسلام في المنطقة سيتوسع لا محالة مستقبلاً. وبالفعل فإن القيمة الاستراتيجية لدول المنطقة قد تعززت في ظل غياب السيطرة الفعلية لواحدة من القوى العظمة على المنطقة منذ عصر القوى الامبراطورية. وقد ساهم صراع النفوذ بين المعسكرين الغربي والشرقي في ظل أجواء الحرب الباردة في تغذية هذه القيمة التي تمت ترجمتها فعلياً على الأرض على شكل تحالفات عسكرية وأمنية بين الولايات المتحدة والكثير من الملكيات في الخليج.


إيران و"الخيار العربي"
وبناءً على ذلك، صاغت الولايات المتحدة تحركاتها في المنطقة ضمن سياسة الدعامة المزدوجة التي تألفت من السعودية وإيران بغرض إبقاء الاتحاد السوفيتي بعيداً عن المياه الدافئة التي شكلّت للروس على مدى قرون حلماً عصياً على التحقيق. وفي زيارة الرئيس نيكسون الشهيرة مع مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر إلى الصين، توقف لبعض الوقت في طهران والتقى خلالها الشاه محمد رضا، وأثناء المحادثات نظر نيكسون إلى الشاه وقال بصريح العبارة: "احمني". وقد عكس ذلك الثقل الذي تمتعت به إيران في الحسابات الأمريكية، وقد أصدر الرئيس نيكسون بعيد ذلك أمراً تنفيذياً – أثار جدلاً كبيراً حينها - يسمح لإيران بشراء جميع أنواع الأسلحة الأمريكية ما عدا النووية[i]. ويجدر بالذكر أنه لم يحظَ بهذه الميزة في ذلك الوقت إلا عدد محدود من حلفاء الولايات المتحدة المقربين. وقد غدت إيران بغضون سنوات قليلة بفضل تقاربها مع الولايات المتحدة، والطفرة التي أحدثتها أسعار النفط بعد حرب 1973 من أقوى الدول الإقليمية على المستوى العسكري، وأصبحت البحرية الإيرانية ترسل دوريات لها في مهمات أمنية خارج مياه الخليج وصلت حتى أعالي المحيط الهندي. لتضطلع طهران بلعب دور شرطي منطقة الخليج، والضامن لأمنها واستقرارها ضد أي تمدد للاتحاد السوفيتي أو حلفائه الاقليميين.

سارت الدول العربية على ذات الطريق، فقامت باعتماد سياسة مشابهة لتعزيز قيمتها الاستراتيجية. وما إن خبا صراع التقدميين العرب والمحافظين باستلام السادات مقاليد السلطة في مصر وحزب البعث في العراق حتى تبلورت مرحلة جديدة من التضامن العربي. فكان وقوف الملكيات العربية في الخليج إلى جانب كلٍ من مصر وسوريا في حربهما ضد إسرائيل واستخدام النفط لأول مرة كسلاح استراتيجي في المعركة إحدى تجلّيات هذا التعاون. أثبتت الدول العربية أن لديها من القوة ما يخوّلها للامساك بزمام المبادرة من أجل ترجيح كفة الحرب لصالحها، وبذلك أجبروا القوى الدولية والإقليمية على إعادة تقييم علاقتهم معها، وأسست بالتالي قاعدةً جديدةً في إدارة المنطقة أمنياً من خلال التفاهم مع العرب ودون الالتفاف حولهم. فتبنى شاه إيران مبدأ (الخيار العربي Arab Option) وأحدث ذلك تحوّلاً في منظومة علاقته مع العرب، وقد تمحور الخيار العربي على فكرة مؤداها أن النفوذ الإيراني لا يمكن أن يتحقق في المنطقة من غير التفاهم مع العرب والتقارب منهم، وبخطوة فجأت الجميع قام الشاه بالتوقيع على اتفاقية الجزائر مع العراق في العام 1975 لحل خلافاتهما الحدودية وإعادة ترسيم "شط العرب"، بالإضافة إلى دعمه للقرار العربي في الأمم المتحدة الذي يدين الصهيونية بوصفها شكلاً من أشكال التمييز العنصري. فقد أصبح العرب في نظر الشاه قوة قادرة على الانتصار، وأن إسرائيل قابلة للهزيمة، وفي ظل تغير موازين القوى الإقليمية لصالح العرب بشكل نسبي، كانت سياسة "الخيار العربي" التعبير العقلاني للبراغماتية الإيرانية في ذلك الوقت.

بدا الأمر وكأن دول الخليج قد نجحت في الوصول إلى تفاهمات فيما بينها، فسادت في الإقليم حالةٌ من الأمن والاستقرار في النصف الثاني من عقد السبعينيات من القرن العشرين (قبيل الثورة الإسلامية في إيران)، فكان التدخل الخارجي من قبل الدول الكبرى بالتالي في أقل مستوياته. وكما يرى "بوزان"، كلّما تعاظمت قدرة اللاعبين الأساسيين في المنطقة على التسوية، كلّما ضاق هامش تدخل القوى الكبرى شيئاً فشيئاً، وبالعكس يحدث تدخل القوى العظمى عندما تقوم إحدى القوى الخارجية بعقد تحالف أمني مع إحدى القوى المحلية داخل المجمع الأمني[i] بهدف إخلال ميزان القوى على حساب لاعب آخر أو عدة لاعبين داخل الإقليم الواحد. ولقد شجع تراجع حدّة الصراع الأمريكي السوفيتي في السبعينيات أيضاً على تخفيض مستوى التوتر في منطقة الخليج غيرها من مناطق العالم التي كانت تشهد تنافساً محموماً بين القطبين.

ولكن في ظل نظام دولي فوضوي لا تكفّ فيه الدول العظمى عن السعي لتعظيم قوتها ونفوذها – كما يرى جون ميرشايمر – فإن التنبؤ بطول فترة حالات الوئام يصبح أمراً مثيراً للسخرية. ففي نهاية عقد السبعينيات غزت القوات السوفيتية أفغانستان، وأسقطت ثورةٌ إسلامية الشاه في إيران، وهو ما أدى في المحصلة إلى تسارع التوتر وارتفاعه إلى مستويات مخيفة على الصعيدين الإقليمي والدولي الأمر الذي انعكس دراماتيكياً على التفاعلات الأمنية والسياسية الإقليمية في منطقة الخليج خصوصاً والشرق الأوسط عموماً.


مبدأ كارتر ومنطقة الخليج
شكّلت أحداث عام 1979 على الصعيد الأمن الدولي والإقليمي علامة فارقة في تاريخ منطقة الخليج، فبعد فترة هدوء نسبي سادت العلاقات بين واشنطن وموسكو، عاد التوتر من جديد على الساحة الدولية عندما قام الجيش الأحمر بغزو أفغانستان، الأمر الذي وصفه جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة بـ "التهديد الواضح للسلام وللعلاقات الأمريكية السوفيتية على مستوى العالم".[i]

وبناءً عليه قام كارتر بترسيخ قاعدة جديدة في السياسية الخارجية الأمريكية، سميت بمبدأ كارتر، وأعلن عنه في تصريح اعتبر فيه أن: " أي مساعي خارجية للسيطرة والتحكم في منطقة الخليج العربي تشكل تهديداً مباشراً لمصالح الولايات المتحدة الحيوية، سيقابله ردٌ رادعٌ من قبل واشنطن بما فيه الخيار العسكري."[ii] عكس هذا المبدأ مخاوف الأمريكان من توسع حيز التدخل الروسي في أفغانستان ليشمل منطقة الخليج العربي، فقامت بتعزيز وجودها العسكري البسيط في الخليج من خلال نشر قوات التدخل السريع Rapid Deployment Joint Task Forces RDJTF استعداداً لمواجهة تحديّات أمنية جديدة فيه، وما فتأ الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ينمو تدريجياً وحسب ما تقضيه التطورات الدولية والإقليمية حتى وصل إلى ذروته عشية إعلان حرب الخليج الثالثة وغزو العراق عام 2003.

كما أدّى سقوط الشاه وانتصار الثورة الإيرانية إلى إعادة ترتيب الأولويات الأمنية في منطقة الخليج، فلقد استبدل النظام الإيراني الجديد سياسة "الخيار العربي" التي تبناها الشاه في مطلع العقد لتخفيف التوتر التاريخي بين القوميين العرب والإيرانيين بسياسية عدائية وتوسعية في المشرق، كما أضفت على هذه العلاقات بُعداً طائفياً أحيت من خلاله التنافس الشيعي السني في الإقليم. يصف ديفيد كومينز الثورة الإيرانية بـ "التهديد السياسي لدول الخليج، وأنه لا بد لكل من السعودية والبحرين والكويت من مواجهة الدعاية العدوانية للجمهورية الإسلامية الإيرانية ومحاولتها في توظيف مواطنيها الشيعة".[iii]

اعتبرت دول الخليج نظام الثورة الإسلامية الذي أقامه الخميني حديثاً تهديداً وجودياً لها على الصعيد السياسي والأيديولوجي والديني. فعلى الصعيد الديني قدّم النظام الإيراني مرجعيةً دينيةً للأقليات الشيعية في دول الخليج مكّنتها من المطالبة بلعب دور سياسي متقدم في بلادها، ولقد شكّلت الحركات الشيعية في البحرين والعراق ضغوطاتٍ حقيقية على أنظمة بلادها، مهددةً بإسقاط حكوماتها وبإقامة أنظمة سياسية ثورية إسلامية شبيهة بإيران. وسياسياً اعتبر الخميني الأنظمة الملكية والنظام البعثي في جوار إيران أنظمة غير إسلامية، ووصفها بالفاسدة والظالمة، وأنه "لا مهرب من تدمير هذه الحكومات الفاسدة المفسدة، ومن إسقاط جميع الأنظمة الظالمة، والخائنة، والمجرمة".[i] أمّا أيديولوجياً، فلقد لفظ الخميني المرجعية الثقافية الغربية التي قام عليها النظام الدولي الحديث، وتبنّى مرجعية ثقافية محلية تاريخية متأصلة، عوضاً عن استيراد الأفكار الرأسمالية من الغرب أو الأفكار الشيوعية من الشرق.[ii] يصف "فارهنغ رجائي" هذا الجانب لدى الخميني قائلاً : "رفض الخميني هيمنة القوى العظمى، معتبراً إيّاها مصدر الشرور والمشاكل في العالم"[iii]، فقال "تعتبر شعوبنا أمريكا عدوتها الأولى"[iv]. ويعد رجائي أحد أسباب عداوة الخميني للشاه في اعتبار الأخير: "ألعوبة بيد الأمريكان"[v]، فيما ينطبق ذات المنطق على الأنظمة العربية التقليدية، التي اتهمها بالعمالة وحضّ "المظلومين" (الشيعة على وجه الخصوص) على الانتفاضة في وجهها وباستبدالها بأنظمة حكم إسلامية.

عكس تحوّل السياسية الخارجية الإيرانية من سياسة "الخيار العربي" إلى سياسة "تصدير الثورة" انزياحاً دراماتيكياً في علاقة طهران بجيرانها الإقليميين، وفي الواقع لم يخبُ التنافس العربي الإيراني نهائياً أبان حكم الشاه، ولكن كان خاضعاً لمنطق التوازن الحيوي للقوة لاستتباب السلام في المنطقة، والذي ما لبث أن اختل بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران. ولقد قدّمت نظرية "بوزان" إطاراً نظرياً هاماً لتبيان مدى تأثير التغيرات السياسية المحلية في هيكلية المجمَّع الأمني الإقليمي، حيث يتعاظم تأثير التقارب الجغرافي في توازنات المجمع، وهذا ما شهدناه من الأثر المباشر للثورة الإسلامية في إيران ضمن المجمع الأمني في الخليج دون بقية الأقاليم المجاورة.


"الثلاثة الكبار" في الإقليم
خضعت ديناميكيات ميزان القوى في منطقة الخليج تقليدياً للعلاقات العراقية الإيرانية السعودية، المتشابكة والمتداخلة بطبيعتها، ولقد سعت دول الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية، الكويت، البحرين، قطر، سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة) لخلق عامل إضافي في معادلة التوزان العراق الإيراني، انطلاقاً من وعيها بتضارب مصالحها مع انفراد بغداد أو طهران في قيادة المنطقة، الأمر الذي يستدعي تدخلها في حال رجحت كفّة إحدى القوى الإقليمية على الأخرى. وفي خضم الصراع الأيديولوجي العربي بين القوميين والاشتراكيين من جهة والأنظمة التقليدية والرأسمالية من جهة أخرى،[i] استدعت ممالك الخليج تدخل شاه إيران في عدّة مناسبات لأجل إحداث توازن أمام الأنظمة القومية العربية في القاهرة وبغداد. ولقد نشطت الدول الأخيرة في تقويض حكم الأنظمة الملكية العربية، فتدخلت في "ثورة 26 سبتمبر" في اليمن مرة، ودعمت انقلاباً في إمارة الشارقة عام 1973 مرةً أخرى، واستضافت قيادات خلايا الجبهة الشعبية لتحرير عُمان حتى عام 1975[ii]. ولقد اتسمت هذه المرحلة في اتساق المصالح الإيرانية مع الأنظمة العربية التقليدية في الحفاظ على شرعية الأنظمة الملكية في المنطقة وفي صيانة وتعزيز التقارب الاستراتيجي مع دول المعسكر الغربي.

دفع نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية في تحقيق أهدافها المحلية في البلاد لتحول مصدر التنافس الإقليمي من صراع عربي أيديولوجي إلى صراع مذهبي طائفي، فاستدعت دول الجزيرة هذه المرة تدخل العراق لاحتواء إيران الشيعية الثورية، الفرصة التي لم توفرها بغداد بعد تطبيع العلاقات مع جيرانها عام 1975. وتباعاً عملت بغداد بشكل براغماتي ودؤوب على تعزيز قيادتها للمنطقة، فقامت باستغلال الفراغ الناتج عن مقاطعة مصر العربية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد لصالحها من خلال محاولتها تعزيز قيادتها للمحور العربي، وقامت بتوقيع ميثاق "العمل الوطني المشترك" مع نظيرها ومنافسها البعثي في دمشق عام 1978 مما عدّ كخطوة أولية نحو توحيد البلدين، وتوسطت بنجاح في إنهاء الحرب اليمنية في آذار 1979، ووقعت في ذات العام اتفاق تعاون أمني مع السعودية توّجت بأول زيارة رسمية لرئيس عراقي للرياض قام بها الرئيس أحمد حسن البكر.[i]

وبالفعل نجحت العراق من خلال موقعها الجغرافي المميز وممارساتها السياسية الموفقة في ربط المجمع الأمني الخليجي مع المجمع الأمني الشامي، إلا أن استقالة البكر أو عزله بانقلاب أبيض على الأصح، ووصول صدّام حسين إلى سدة الحكم في البلاد بتاريخ السادس عشر من تموز 1979، واتهامه للنظام السوري بالعمل على اسقاطه أدّى إلى وأد جهود الوحدة العراقية السورية. [ii]ولقد لعب الخلاف العراق السوري كما سنرى لاحقاً دوراً حيوياً في ميزان القوى أثناء الحرب العراقية الإيرانية.

وفي حين كانت طموحات عراق صدام حسين تنمو وتربو، كان حس المغامرة لدى إيران الخميني يتعاظم ويتجاسر، الأمر الذي دفع المنطقة ككل إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر، وبالفعل اندلعت حرب طاحنة بين البلدين في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر سنة 1980، محدثةً واقعاً مأسوياً جديداً في المنطقة. ولا يزال تحديد مسؤولية اندلاع الحرب مسألة شائكة حتى اليوم، وفي حين تتخطى الإجابة على هذا السؤال حدود هذا الملف، نكتفي بقول إن العراق كان أول من شرع في اقتحام أرض إيران، أما إيران فقد كانت أول من شنّت هجوماً نارياً على العراق.


التمكّن الشيعي
أعطت الثورة الإيرانية دفعة معنوية للشيعة العرب وأضفت لهم إحساساً بالتمكين بعد أن نصّب الخميني نفسه قائداً وحامياً للشيعة في العالم، وحفزهم انتصار الثورة في التمرد على الأنظمة السياسية في بلادهم، فلم يقتصر التهديد الذي شكلته إيران على أنظمة الخليج العربي على الجانب الأخلاقي والفكري فحسب، بل عمدت كذلك إلى تعبئة السياسية والعسكرية للشيعة ضد النخبة الحاكمة.

أدّى الأثر المزعزع للثورة الإيرانية وردّة فعل الأنظمة المتأثرة به إلى تصعيد درجات التوتر الطائفي بين السنة والشيعة على مستوى الداخلي[i] ، وإلى توتير العلاقات الإيرانية مع دول الخليج العربية، ولقد شوهدت أهم تجليّاتها في العراق والبحرين والكويت والسعودية، الأمر الذي تطور إلى حرب دامية مع طهران كما هو الحال في العراق الذي يضم أكبر تجمعاً للشيعة العرب، والأقرب جغرافياً من إيران. فلقد كان الإمام محمد باقر الصدر العراقي الجنسية أحد المقربين من الخميني، وأحد أهم داعميه الإقليمين، فضلاً عن مساهماته المباشرة في الثورة الإيرانية كالمشاركة على سبيل المثال في صياغة الدستور الإيراني الجديد.

رأى الخميني في باقر الصدر قائداً محتملاً لثورة إسلامية في العراق[ii]، وبإلهامٍ وتشجيع الخميني قام حزب الدعوة الذي أسس جناحاً عسكرياً له عام [iii]1979، بتنظيم والدعوة إلى مظاهرات شعبية في المدن الشيعية في العراق، ما لبث أن تطورت إلى أعمال عسكرية وصلت إلى محاولة اغتيال طارق عزيز في الأول من نيسان 1980. ولّد نشاط حزب الدعوة المتعاظم ردّة فعل عنيفة من قبل النظام العراقي الذي شنّ عملية أمنية واسعة النطاق ضد أعضاء الحزب، اعتقل خلالها آية الله باقر الصدر وأخته آمنة بنت الهدى وأعدمهما في الثامن من نيسان 1980، وأصدر قانوناً يجرم عضوية حزب الدعوة تحت طائلة عقوبة الإعدام.

اعتبرت بغداد التدخلات الإيرانية في شؤونها الداخلية تهديداً مباشراً لسيادة النظام ووحدة الأراضي العراقية، يقول "جيمس دفرينزو" أن نظام البعث في العراق: "كان قلقاً من انتقال عدوى المظاهرات والتمرد الشيعي إلى الكرد الانفصاليين، وأن يشجعهم على حمل السلاح مما قد يدفع البلاد إلى حرب أهلية طاحنة"[iv] وفي حين: " لم يقم صدام حسين سابقاً بمهاجمة طهران شخصياً، أو بالتهديد بشكل مباشر بالحرب"[v] إلا أنه بدأ بتغيير لهجته التصعيدية اتجاه إيران مع تصاعد وتيرة العنف الشيعي حتى نيسان 1980. هذا مع العلم أن العراق وعلى الصعيد الرسمي قد رحب بانتصار الثورة الإيرانية عام 1979، وقد أرسل الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر رسالة للخميني هنأه بها بإنشاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما دعم العراق انسحاب إيران من منظمة حلف الأوسط (حلف بغداد سابقاً) وعرضت تسهيل عضوية إيران في حركة دول عدم الانحياز، كما وجهت دعوة رسمية لرئيس الوزراء الإيراني مهدي بازركان لزيارة بغداد في تموز 1979".[vi]

تركت أحداث نيسان 1980 أثراً عميقاً على شخصية صدام حسين كما نوّه إليه غوزيه، حيث اقتبس في كتابه ما نوه إليه المدون الرسمي لسيرة صدام حسين من أن أحداث نيسان شكلت "نقطة تحول في سلوك صدام اتجاه إيران، حيث اتّخذ قرار الحرب بعدها بقليل". ومن المهم عدم إغفال حقيقة أن صدام قد اتخذ قرار الحرب بمفرده، فلقد لعبت شخصيته دوراً محورياً في الأحداث اللاحقة، وكان هدفه الرئيس تحقيق انتصار سريع لتعزيز قيادته للعراق وللعالم العربي. وقد بدت إيران الضحية المناسبة من حيث المبرر والضعف الذي خلفته الثورة في صفوف الجيش الإيران كما يلحظ دفريزو، حيث "انخفض تعداد جنود الجيش الإيراني من 400،000 جندي إلى 200،000، وأوقفت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، الموردين الأساسيين للسلاح في زمن نظام الشاه ، بيع العتاد وقطع الغيار للنظام الثوري الجديد في طهران".[vii]

باختصار اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وبات يعرف إليها بحرب الخليج الأولى لثلاثة أسباب رئيسية:
تهديد واستفزاز الثورة الإيرانية لدول الجوار.
ضعف إيران الخارجة بسبب الصراع الداخلي.
الطموحات التوسعية.

وفي حين صدر قرار الحرب في أروقة القرار العراقي، إلا إن بغداد استشارت دول الخليج العربية الأخرى قبيل إعلان الحرب، ولقد كان من المنطقي تضافر جهود الدول العربية في مواجهة التهديد الإيراني المشترك. يقول غوزيه: "كشفت مقابلات كوردسمان وواغنر مع الشخصيات المعنية، أن المسؤولين العراقيين بدأوا بتداول فكرة العمل العسكري ضد إيران عربياً في أيار 1980، وأبلغ صدام حسين قادة الخليج الحرب بعزمه إعلان الحرب في تموز وآب من العام نفسه".[viii]


الحرب والتوازن القلق
أُعلنت الحرب بين العراق وإيران في 22 ايلول 1980 عندما شنّت القوات العراقية هجوماً واسع النطاق على إيران واستولت على مدينة خرمشهر في محافظة خوزستان. وعلى الرغم من فشل القوات العراقية في التوغل أكثر والسيطرة على المناطق ذات الغالبية العربية في الأهواز، اعتقد صدام حسين أن ضعف إيران سيدفعها للمساومة وللتنازل عن شط العرب مقابل انسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، إلا أن إيران رفضت الرضوخ لهذا الخيار، وفاجأت الجميع بتعبئة مئات الآلاف من الشباب الإيرانيين لصد هجوم القوات العراقية. وبدلاً من إضعاف الحكومة الإيرانية، كما كان المتوقع، يلحظ دفرينزو أن الهجوم حفّز العديد من الإيرانيين لتجاوز خلافاتهم الداخلية وللاتحاد في مواجهة خطر خارجي أكبر.

تعرضت القوات العراقية لضربة موجعة في الهجمات المضادة التي قادتها القوات الإيرانية عليها، وعرضت بغداد وقف إطلاق النار بعد تكبّدها خسائر أولية فادحة، قابلها رفض الخميني الذي أصدر أمراً بمواصلة القتال حتى النهاية. وأوضح الأخير نيته بشكل جلي أن هدفه من استمرار الحرب اسقاط نظام صدام حسين، واستبداله بنظام إسلامي. وزعم الخميني أن "توحيد إيران والعراق وربطهما مع بعضهما البعض، ستدفع الشعوب الأصغر للانضمام إليهما"[i]. وفي الثالث عشر من تموز عام 1982، شنّت القوات الإيرانية هجوماً على مدينة البصرة العراقية لتدور رحى الحرب حتى انتهائها على الأراضي العراقية فقط.

وجدت دول الخليج العربية في بداية الحرب نفسها عالقة في معضلة معقدة، فدعم العراق يعزز من مخاطر هيمنته على المنطقة، في حين يشكّل دعم إيران تهديداً إيديولوجياً على أنظمتها الحاكمة[ii]. وعلى الرغم من اشتراك دول الخليج في الخشية من تعاظم قوة العراق وإيران في المنطقة، إلا أن تقييمها لهذه المخاطر تفاوت بشكل كبير. ففي حين أخذت المملكة العربية السعودية والكويت موقفاً حاداً في دعم العراق ضد إيران، اتخذت كل من عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة موقفاً محايداً. يصف كل من نايجل أشتون وبريان جيبسون هذه المرحلة: "بتعدد سياسات الدول الخليجية تجاه الحرب، وأنها عملت ضد بعضها البعض في بعض الأوقات".[iii]

قام جيرد نونمان في تحليل آخر، بتصنيف الدول العربية الست إلى مجموعتين:
الدول العليا: بما في ذلك المملكة العربية السعودية والكويت التي كانت ترضخ لتهديد أمني إيراني مباشر، ولذلك اتخذت موقفاً واضحاً وصريحاً في دعم العراق.
الدول الدنيا: بما في ذلك سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة التي لم تستشعر نفس درجة التهديد الإيراني لأمنها، ولذلك اتخذت موقفاً محايداً في الحرب.

وخلص نونمان أن "البحرين وإلى حد كبير قَطَر كانت عالقة بين الموقفين ولكن انتهى بها الأمر للاقتراب بشكل أكبر من الموقف السعودي - الكويتي".[iv]

وفي حين يمكننا أن نتفق إلى حد ما مع هذا التبسيط في قراءة الواقع الأمني لهذه المرحلة، إلا إننا نعتقد أن أمن واستقرار منطقة الخليج يعتمد أساساً على الديناميكيات المترابطة والمتداخلة للثلاثة الكبار في المجمع الأمني الإقليمي للخليج: المملكة العربية السعودية والعراق وإيران، ولقد وجدت السعودية نفسها في موقع متقدم لتعزيز نفوذها في المجمع بينما تورط اللاعبون الآخرون في حرب تقليدية. فكانت الأولوية السعودية منع تغلب أحد الطرفين على الآخر أو على الأقل منع إيران من الانتصار.


المملكة العربية السعودية: الأخ الكبير
قادت المملكة العربية السعودية والكويت حملة ضخمة لدعم العراق، لا سيما عندما اضطرت القوات العراقية للانسحاب من الأراضي الإيرانية. ولقد أوصل الهجوم المضاد الإيراني الناجح ‑ووعد الخميني بإطاحة بصدام حسين‑ رسالةً واضحة للسعوديين وبقية دول الخليج العربي مفادها أن إيران لن تقف عند حدود العراق إذا ما كتب لها الانتصار، الأمر الذي ولّد ردّة فعلٍ سريعة من قبلهم. ويصف أشتون وجيبسون المساعدات الخليجية للعراق على النحو التالي:

"تألفت المساعدات الخليجية من قروض سخية، ومعونات مالية ضخمة، ومنح نفطية للعراق. قدرت المساعدات السعودية بـ 25 مليار دولار أمريكي، كما تعهدت بتسهيل شحن الإمدادات المدنية والعسكرية إلى العراق. وكذلك ساهمت كل من أبو ظبي ودولة قطر في دعم العراق مادياً. أمّا الكويت فلقد قدّمت 13.2 مليار دولار على شكل إغاثة عاجلة كما منحت للعراق حق استخدام مرافقها المائية في الشويخ والشعيبة، مما سمح باستمرار تدفق الأسلحة والنفط داخل وخارج العراق، ومتجاوزين بذلك التفوق البحري الإيراني في شمال الخليج [...]. ومع بداية عام 1982، زوّدت الكويت والمملكة العربية السعودية العراق بـ 330،000 برميل نفط يومياً للتعويض عن إغلاق سورية لخطوط الأنابيب عبر أراضيها إلى العراق. في بداية العام التالي، نقل البلدين أرباح انتاج حقول الخفجي المشتركة للحكومة العراقية ".[i]

بيد أن الإنجاز الأكبر الذي حققته السعودية في سعيها نحو تعزيز مكانتها في الإقليم، كان إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981. حيث نجحت السعودية في احتواء مخاوف بعض إمارات الخليج العربي من نواياها التوسعية، لا سيما قطر ودبي، واستطاعت جمع مشايخ الخليج تحت مظلة واحدة وبقيادتها. شكّل غياب كل من إيران والعراق من المجموعة دلالة واضحة على إرادة المملكة العربية السعودية في التفرد بقيادة هذه المجموعة. ولقد ساعد على ذلك "تورط العراق في الحرب مع إيران، وازدياد اعتمادها على مساعدات الخليج، مما أضعف قدرتها على الاعتراض"[i]. وعلى الرغم من افتقار مجلس التعاون الخليجي إلى وجود "مؤسسة صنع القرار فوق وطنية متكاملة تشارك دول الأعضاء على سيادتها كالمفوضية الأوروبية على سبيل المثال"[ii]، إلا إنها لعبت دوراً هاماً في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وعلاوة على ذلك، وفر المجلس درجة حماية إضافية للدول المنضوية في عضويته.

لم يقتصر دور مجلس التعاون الخليجي على القضايا الأمنية فقط بل لعب أيضا دوراً سياسياً هاماً خلال الحرب. أولاً، حافظ المجلس على موقفه المحايد[iii] ، على الرغم من ميل معظم دوله لدعم العراق. ثانياً، أصّر المجلس على ضرورة إطلاق مفاوضات سلام ثنائية بين البلدين وفقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، وعرض مبادرة سلام في عام 1982 لإنهاء الحرب، ولكن رفضتها إيران. ثالثاً، أمّن المجلس غطاءً سياسياً دولياً للمملكة العربية السعودية، وأضطلع بمهمة الدفاع عنها كلما تلّقت هجوماً مباشراً من إيران. فعندما هاجمت إيران إحدى المنشآت النفطية السعودية في عام 1984، أصدر المجلس بياناً أدان به الاعتداء، ودعم تبنى مسودة قرار الأمم المتحدة الذي أدان الاعتداءات الإيرانية على الشحن الدولي. [iv]

أثبت مجلس التعاون الخليجي قدرته على الحفاظ على الاستقرار والأمن داخل الدول الأعضاء ونجح إلى حد كبير في منع امتداد الصراع الإيراني - العراقي إليه داخل حدوده. ولكن لم تكن

المصدر: مركز نصح الكاتب: نبيل عودة
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ