بين " سيد الوطن " و" الوطن سيد الجميع "
بين " سيد الوطن " و" الوطن سيد الجميع "
● مقالات رأي ٥ ديسمبر ٢٠١٦

بين " سيد الوطن " و" الوطن سيد الجميع "

قبل اندلاع الثورة السورية بشهر ونصف، وبالضبط في أول شهر شباط عام 2011 انعقد المؤتمر السنوي لاتحاد الكتاب العرب، في صالة المركز الثقافي في حي المزة بدمشق.

القاعة كانت تغص بالكتاب والمفكرين والشعراء والقصاصين وما أدراكم.. أي أن من كان في القاعة هم نخبة النخبة من المجتمع السوري، أو من المفترض أن يكونوا كذلك.

طبعاً.. المؤتمر شأنه شأن أي مؤتمر آخر في دولة سلطة الأسد، لم يُفضِ إلى شيء، ولكنه تميز بتفجير قنبلة كلامية داخل القاعة فجرها كاتب هذه السطور.

وتفصيل ذلك أن أحدهم، قدم مداخلة كلها، مديح وإطناب بمناقب الأسد، وأسبغ عليه الكثير من الصفات، فهو الرمز، والملهم.. وهو قائد التحديث والتطوير.. وهو باني سورية الحديثة.. وهو.. وهو.. وهو " سيد الوطن ".

والحقيقة أن هذه العبارة الأخيرة التي نطق بها: " سيد الوطن " استُخدمت كثيراً، ومن قِبل المتسلقين منذ عهد " سيد الوطن " الأب، واستمر تكرار هذه " المقولة " من قبل أصحاب النفوس الانتهازية في زمن الابن.. وكنت شخصياً لا أستسيغ هذه العبارة، ولا أطيقها، لأنها عبارة مغلوطة، ولا يصح أن يوصف شخص بها مهما علا شأنه وعظمت مكانته.

بعد أن انتهى صاحب مقولة " سيد الوطن " من مداخلته، طلبت الكلام، وقلت مما قلت: أنا أعترض على عبارة "سيد الوطن" لأن رئيس الجمهورية ليس بسيد الوطن، بل الوطن هو سيد الجميع.. ".

علا الهرْج والمرْج في القاعة، وتلوّنت الوجوه بالاصفرار خوفاً عليّ، أو بالاحمرار المخلوط باللون الأسود غضباً مني، وقد دعا ذلك رئيسَ الاتحاد ومدير الجلسة إلى أن يدعو "سكان " القاعة إلى التزام الهدوء.

طلب الكلام عضوُ القيادة القطرية الذي من " واجب الوجوب " أن يكون هو أو غيره من أعضاء القيادة حاضراً في هكذا مؤتمرات لكي يراقب ما يجري ويشرف ويعاين ويوجه، ومن ثم يقدم عرضاً مفصلاً عما جرى في المؤتمر، لأعضاء القيادة القطرية " للحزب القائد ".

والحق أقول إن عضو القيادة كان مهذباً في ردّه على احتجاجي، وقد حاول رغم اضطرابه والمفاجأة التي وقع فيها، أن يفسر عبارة " سيد الوطن " للتخفيف من " عنجهيتها ومغلوطيّتها "، لكن التعبير خانه ولم يسعفه تمام الإسعاف، فوقع في معنى قول الشاعر: وفسّر الماء بعد الجهد بالماء ".

وقد وقع في معنى قول الشاعر أيضاً أحد الأدباء الحقوقيين، حيث حاول جاهداً أن يُشرْعِنَ هذه العبارة، ويسبغ عليها الصفة القانونية والوطنية، فوقع هو الآخر في وهدة الفشل الذريع.

بعد ذلك طلب الكلام أحدُ الشبيحة الثقافيين، وقد بدأ خطابه الناري بلغة بعثية أصيلة صميمة..!!.. تخرُجُ من مرجل فمه الملتهب غضباً عليّ وعلى أمثالي من المتآمرين على دولة المقاومة والممانعة، ورئيسها القائد الرمز الذي هو ليس سيد الوطن السوري فحسب، وإنما هو سيد الوطن العربي كله من مشرقه إلى مغربه ".. هكذا قال.!!.

وأخيراً نأتي إلى مداخلة المفكر الإسلامي المتنور جودت سعيد.

قال جودت سعيد يومها مباشرة: في زمن الوحدة كنت مجنداً في خدمة العلم، وفي أحد الأيام سمعت بعض الضباط يتهامسون، وبما أنني كنت على علاقة اجتماعية لا بأس بها معهم خارج نطاق المفهوم العسكري الصارم، فقد سألتهم، ما الموضوع..!!؟. فقالوا لي: هناك نيّة للانقلاب على جمال عبد الناصر والانفصال عن مصر.. وعندما علمت أنهم موافقون على ذلك، قلت لهم ناصحاً: أيها السادة.. جمال عبد الناصر إنسان، وغداً سوف يرحل عن هذه الدنيا، ولكن الوطن سوف يبقى، والوطن للجميع.

والمغزى من كلام جودت سعيد واضح، فهو ضد هذا المصطلح القبيح " سيد الوطن "..

 

بقي عليّ أن أصف لكم مشاعري، وما حدث بعد ذلك.

طوال الوقت كنت منشغلاً بتخيلاتي وتساؤلاتي عن متى، وأين، وكيف، سيتم اعتقالي من قبل عناصر أمن النظام.

وأثناء الاستراحة، قرأت مشاعر زملاء المؤتمر من خلال ملامح وجوههم الراضية أو الغاضبة أو المحايدة.. وقد جعلني أحد الزملاء أبتسم دون رغبة مني حين رفع إصبع يده في غفلة من الحاضرين، وقال بهمس: أحييك يا صديقي.

ومنذ بداية الاستراحة وحتى نهايتها كنت أقول في نفسي ربما بين لحظة وأخرى يأتي عناصر الأمن ويعتقلونني، ولكنهم لم يفعلوا، فقد أظهروا أنهم مؤدبون، حضاريون.!!.. وكأنهم قالوا من غير اللائق أن نفعل ذلك أمام زملائه.!!.

بعد انتهاء المؤتمر خرجت متسللاً من المركز الثقافي، وأنا أتطلع بتوتر وخوف يمنة ويسرة، وأتوثب لقبول أية داهية يمكن أن تقع فوق رأسي.!!. ولكنني لم أر أحداً من عناصر الأمن، ولم أجد منهم مَن يهجم عليّ بشراسة ويقول لي: تفضّل معنا.!!.

وهكذا بقيت أضع الاحتمال بعد الآخر حتى وصلت إلى مسقط رأسي، وبقيت فيها حتى اندلعت الانتفاضة السورية، وعمت المظاهرات في منتصف آذار 2011.

وعندما أصبحت مدينتي القصير عصية على سلطة النظام، حاولوا أن يعيدوها إلى " بيت الطاعة ". فاجتاحها الجيش للمرة الأولى بتاريخ يوم الخميس 11 / 8 / 2011، واعتقلوا المئات، ومن بينهم " حضرتي ".. وبقيت في ضيافتهم العامرة.!!. لمدة مائة يوم ويومين في فرع الأمن العسكري ثم في السجن المركزي بحمص، مع التنويه إلى أن مقام السجن المركزي كان أشبه بفندق خمس نجوم قياساً إلى معتقلات فروع الأمن التي لا تُعدّ ولا تحصى.

هل تصدقون لو قلت إن للسجن جانباً مضيئاً وممتعاً أتحسر على فقده حتى الآن، دون أن أنسى العبارة الشعبية: يِنْذِكر ولا ينعاد ".!!. فالحياة في السجن لها طعم مختلف، فهي تجعل السجين يغوص في تجربة جديدة من العيش، فكم من شاعر وروائي ومفكر عاشوا هذه التجربة، وسجلوا مشاعرهم ومشاهداتهم ومعاناتهم اليومية هناك بأعمال أدبية رائعة.

ولكن المؤلم جداً أنني لم أعد أتمنى دخول المعتقلات.!!. بعد أن اشتدّ الصراع، وأصبح همّ النظام الأول والأخير أن يقضي على ثورة الشعب السوري عبر ممارسات شتى قل نظيرها في تاريخ العالم، ومنها القضاء على عشرات الآلاف من المعتقلين عبر التعذيب والتصفية الجسدية، وقد وثق الكثير منها المصور السوري المعروف باسمه المستعار " قيصر "، والذي نجح في تسريب خمسة وخمسين ألف صورة من سجون الأسد، وتهريبها إلى أوروبا، والتي أظهرت أشنع ما شهدته البشرية من تعذيب حتى الموت لأكثر من أحد عشر ألف معتقل سوري، ونتيجة للجهد الإنساني الذي أنجزه ذلك المصور، فقد منحته لجنة تحكيم جائزة نورنبرغ جائزتها لعام 2017.  

ولذلك.. أليس من حقي أن أخاف وأرتعب، وأن لا أتمنى العودة إلى معتقلات الأمن السوري، لمجرد أنني أريد أن أعيش تجربة " ممتعة " أخرى أدون فيها سيرتي الذاتية.!؟. فقد أصبح يخاف من معتقلات سلطة الأسد حتى عزرائيل نفسه شخصياً.

 

المصدر: شبكة شام الاخبارية الكاتب: عبد الرحمن عمار
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ