من "أم قصر" إلى "كوباني".. المعركة تجري في مكان آخر
من "أم قصر" إلى "كوباني".. المعركة تجري في مكان آخر
● مقالات رأي ٢٨ أكتوبر ٢٠١٤

من "أم قصر" إلى "كوباني".. المعركة تجري في مكان آخر

ضجيج وصخب إعلامي واسع حول معركة "كوباني" اجتاح وسائل الإعلام ودوائر السياسة والقرار في العالم؛ لكن في ظل تضارب واضح في فهم وتفسير مجريات الأحداث وتطوراتها في "كوباني"، ربما سيظهر بعد حين أن معركة "كوباني" مبالغ فيها بشكل يجافي الواقع وأنها ليست وسيلة سوى سلم لعبور الملف السوري باتجاهات جديدة مختلفة كليا.

بالعودة إلى حرب الخليج الثانية لا يمكن نسيان "أم قصر" تلك المدينة المهملة البعيدة عن بغداد وذات المرفأ الصغير، والتي تحولت إلى ما يشبه الأسطورة لما قيل عن صمودها في وجه قوات التحالف، وإعاقة تقدمهم صوب بغداد وكان لعاب المحللين العسكريين والسياسيين وعلى رأسهم وقتها محمد حسنين هيكل يسيل وهم يخترعون البطولات الوهمية ويحسبون الزمن الطويل الذي ستحتاجه قوات التحالف للوصول لبغداد بالقياس لنتائج معركة "أم قصر" العظيمة ويبشرون بالتالي بهزيمة منكرة ستصيب قواته التي ستنهك وتنقطع خطوط إمدادها ويموت جنودها عطشا قبل أن يصلوا لبغداد أو يستطيعوا محاصرتها وإسقاطها.

في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه معركة "أم قصر" الوهمية وتحظى بتغطية وتحليلات واسعة في وسائل الإعلام كانت قوات التحالف قد دخلت بغداد واحتلتها فعلا؛ منذ أن تم ذات صباح رصد تلك الدبابة الأمريكية المتوقفة فوق جسر على نهر دجلة دون أن تواجه أي مقاومة.

من المفهوم عسكريا خوض أو تاجيج معركة في مكان ما من أجل الحصول على نتائج استراتيجية بعيدة الأمد في مكان آخر أو لأهداف أخرى غير معلنة؛ ولا تهم كثيرا محدودية التأثير الناتج حتى في حال تحقيق انتصار حاسم فيها؛ وفي هذا الإطار كانت معركة "أم قصر" التي كان دورها إظهار مقاومة بطولية في مواجهة قوات التحالف وتبيان أن المعركة أمامها صعبة وطويلة، وهو الفخ الذي وقع فيه المحللون السياسيون والعسكريون وقتها.

بالعودة إلى "عين العرب" التي لم يعد الأكراد يقبلون تسميتها سوى "كوباني" في هذا الوقت الحرج ويقاتلون بشراسة من أجل ذلك رغم عدم ارتباط هذه التسمية بالثقافة الكردية أو بالتاريخ الكردي البعيد وفقط تعود لما قبل حقبة حكم البعث وآل الأسد؛ وتكاد "كوباني"، تلك المدينة الصغيرة في الشمال السوري على تخوم الحدود التركية تتحول لأسطورة في صمود القوات الكردية في وجه قوات تنظيم "داعش" من خلال الحديث الذي يدور حول المعارك الضارية وحرب الشوارع فيها والقصف الجوي المستمر لقوات التحالف على قوات داعش فيها؛ وبالطبع من يدرس جغرافيا منطقة "كوباني" بدقة يدرك مدى المبالغة والتضخيم في نقل صورة الأحداث ولكن عند البحث لمصلحة من يتم ذلك تبرز تباينات واضحة.

لا شك أن الأكراد حولوا معركة "كوباني" لمعركة قومية كردية بامتياز، وقد شاهدنا فعلا توحد صفوف الكرد سياسيا وإعلاميا في سوريا والعراق وتركيا، وحول العالم وقيامهم بنشاطات وحملات إعلامية واسعة تمجد أبطال وبطلات "كوباني" فعلى سبيل المثال قامت إحداهن بإطلاق الرصاصة الأخيرة لديها على نفسها كي لا تقع بأيدي "داعش" بينما قامت أخرى بتفجير نفسها وسط قوات "داعش".

في مقابل المشاعر القومية الكردية أججت معركة "كوباني" مشاعر وطنية سورية وقومية عربية معاكسة؛ فهي من جهة أثارت المخاوف من تقسيم البلاد التي بات الكثير من السوريين يراه يقترب أكثر فأكثر؛ ومن جهة أخرى، فإن القوميين المتشددين الأكراد ظهروا وكأنهم يريدون من "كوباني" ثأرا بل ربما انتقاما مما تعرضوا له من قمع واضطهاد على أيدي نظام البعث سواء في العراق أو في سوريا، مما سيولد مشاعر قومية معادية لدى العرب ومن الصعب تلافي ذلك في المستقبل القريب؛ فقد تجاوز الأكراد مرجعيتهم الوطنية السورية نحو القومية الكردية بشكل مباشر لأول مرالنة عبر دخول قوات البيشمركة من العراق للقتال في "كوباني"، بينما لم يتم فتح المجال والسماح بدخول بعض قوات الجيش الحر العربية الوطنية السورية للقتال مع الأكراد ضد "داعش" في الوقت الذي نشبت فيه مظاهرات عنيفة من أكراد تركيا لمطالبة الحكومة السماح لقوات "بي كي كي" المصنفة كمنظمة إرهابية للقتال في "كوباني"، مما يشي بتحول المعركة كليا بالنسبة للأكراد باتجاه قومي بحت، ومن هنا ربما يمكن فهم مخاوف العرب السوريين من عملية التقسيم التي يسعى إليها الأكراد.

ثنائية عربي –كردي ربما لن تقتصر على التعاطي الإعلامي والسياسي بعد الآن؛ ومن المرجح أن نشهد صراعات وعمليات تطهير عرقي دامية بين الطرفين، لإحكام السيطرة على الأرض، وهذا سيولد المزيد من مشاعر الكراهية التي تدفع باتجاه التنافر أكثر فأكثر بين الطرفين والقبول بحقيقة الأمر الواقع في نهاية المطاف والذي لا يمكن الخلاص منه وهو التقسيم.

باستثناء الضربات الجوية للتحالف الدولي ضد "داعش" لم تشارك أي دولة القتال في سوريا بشكل مباشر رغم وجود الكثير من الميليشيات والمقاتلين غير السوريين فيها؛ وسيكون تدخل قوات البشمركة من كردستان العراق، وفق ذلك هو التدخل الخارجي الرسمي الأول الذي تتم مباركته بل ودعمه.

لماذا أحجم التحالف الدولي ضد "داعش" عن التدخل البري معترفا بصعوبة العملية؟ وكيف تم الزج بشكل مقصود بقوات البشمركة والإيقاع بها في مستنقع من الصعب أن تخرج منه نظيفة الثياب؟ وليس أمامنا تجربة ناجحة لتدخل قوات برية دون أن يتم استنزافها وهزيمتها في النهاية، وهذا في حال افتراض أن العامل القومي بقي مسيطرا على تلك القوات الكردية دون أن تلعب المحاور الإقليمية به وتحوله لصراعات كردية داخلية.

التحالف يريد تحقيق انتصار من معركة "كوباني" مع بداية عمله، والبيشمركة والأكراد القوميون يريدون منها انتصارا قوميا يعيد إحياء الأمل لديهم بالوطن الكردي وغرب كردستان، بينما النظام يبدو سعيدا لاستنزاف القوى ولانصراف كل الأنظار باتجاه "كوباني" وتركه يضرب بعنف أكثر في الداخل السوري دون حتى تسليط الأضواء على أفعاله؛ بينما تحاول تركيا الخروج بأكثر الأرباح عبر استنزاف القوى الكردية في المعركة التي ستطول عليهم فيما بعد بلا شك، ما يضعف من قوتهم في الساحة السياسية الكردية وذلك مرهون بنتائج تدخل البشمركة على المدى البعيد.

في "كوباني" كما حصل في "أم قصر" تمت إطالة أمد المعركة بشكل مبالغ فيه رغم أنها ليست الساحة الحقيقية للمعركة؛ "كوباني" نقطة تحول وانعطاف في تطور الثورة في سوريا؛ فإما أنها ستحافظ على بعدها الوطني وتمتد لتنتشر على باقي أرجاء البلاد، وهذا يحتاج جهود المخلصين الوطنيين من كل أطياف ومكونات اشعب السوري أو تسقط في فخ الانقسام والتقسيم القومي ومن ثم الطائفي؛ وأيضا هي معركة مصيرية فعلا للأكراد، وستجل في التاريخ الكردي مهما تكن نتائجها لأنها إما ستقود لدولة كردية أو ستكون بداية النهاية لحلم عاش الأكراد بانتظاره طويلا .... بكل الأحوال "كوباني" هي البداية والمعركة ليست في "كوباني" أو من أجلها فقط بل من أجل شيء آخر بعيد هناك.

المصدر: زمان الوصل الكاتب: عماد غليون
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ