لم يقتصر انتقام نظام الأسد من معارضيه على القتل والتعذيب داخل السجون، بل امتد ليشمل بعداً أفظع من ذلك: الانتقام بعد الموت، حيث حرمان الضحايا من حقهم الطبيعي في الوداع والدفن الكريم، وتحويل فقدانهم إلى مأساة مستمرة لعائلاتهم.
صدرت وثيقة داخلية عن الفرع 248 التابع لشعبة المخابرات العسكرية عام 2022، تضمنت توجيهات صارمة تهدف إلى إخفاء كل المعلومات المتعلقة بمصير المعتقلين وأماكن وجودهم، سواء كانوا أحياءً أو متوفين.
وشملت هذه التوجيهات تفاصيل دقيقة تنص على منع تقديم أي معلومات أو بيانات عن المعتقلين، حتى للجهات القضائية الرسمية، والامتناع التام عن الإفصاح عن حالات الوفاة داخل المعتقلات أو أماكن الدفن، بالإضافة إلى حجب المعلومات المتعلقة بالحالة الصحية وظروف الاحتجاز، وقطع أي وسيلة اتصال بين المعتقلين وأسرهم. بهذا الشكل، فرض النظام جداراً من الصمت والسرية التامة، ليُعمّق معاناة الأسر التي تعيش في ظلام تام حول مصير أحبّائها، ما يعكس سياسة انتقامية وحشية تستهدف كسر روح المعارضين وأسرهم حتى بعد فقدانهم حياتهم.
المقابر الجماعية وغياب القبور والشواهد
الكثير من الذين قضوا تحت التعذيب داخل المعتقلات لم تُسلّم جثثهم لأهاليهم، بل دُفنوا في مقابر جماعية مجهولة المواقع، بلا قبور مخصصة، وبلا شواهد تُخلّد أسمائهم. هذا الأسلوب في الدفن ليس مجرد إخفاء جسد، بل هو إرهاب معنوي مقصود يُريد أن يجعل من موت المعارض مجرد رقم أو اسم مجهول لا أثر له.
هذه المقابر الجماعية تحولت إلى كابوس لعائلات الضحايا، الذين يعيشون بين أمل المساعدة والانتظار الطويل، مع غياب أي معلومات موثوقة. الحزن يتضاعف مع غياب الوداع، ومع عدم قدرة الأهل على إقامة جنازة تليق بذكرى أحبّائهم.
ألم نفسي مستمر واحتجاز للروح
الانتقام من المعارض لا ينتهي بموت جسده، بل يبقى معلقاً في روح أسرته التي تعيش بين انتظار لا ينتهي وألم لا يزول. فقدان الجثمان أو عدم معرفة مكانه يجعل الحزن في حالة تجمّد دائم، ويجعل من موت المعارض جرحاً مفتوحاً لا يشفيه إلا الحقيقة والعدالة. بهذا، يؤكد نظام الأسد أنه لا يكتفي بإزهاق أرواح المعارضين، بل يستمر في قهرهم وأسرهم بعد الموت، في محاولة بائسة لاستمرار السيطرة والانتقام.
مرسوم رئاسي بتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا
ويُذكر أن رئاسة الجمهورية العربية السورية أصدرت في 17 أيار 2025، مرسوماً رئاسياً يقضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” كهيئة مستقلة، وذلك بناءً على الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية وفقاً لأحكام الإعلان الدستوري. ويأتي هذا القرار في إطار حرص الدولة على كشف مصير الآلاف من المفقودين في سوريا، وإنصاف عائلاتهم، ويهدف إلى تقديم الدعم القانوني والإنساني لهم، فضلاً عن توثيق حالات المفقودين والمختفين قسرياً، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية لهذه الحالات.
تم تعيين السيد محمد رضى جلخي رئيساً للهيئة، وكُلف بتشكيل فريق العمل المعني بوضع النظام الداخلي للهيئة في مدة أقصاها 30 يوماً من تاريخ الإعلان، وتتمتع الهيئة بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وستباشر مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية.
وكان قد تطرّق وزير الخارجية “أسعد الشيباني” في كلمة في القمة العربية الـ34 التي عُقدت في العاصمة العراقية بغداد، إلى أن “سوريا بدأت خطوات جادة نحو التعافي الوطني، حيث خاضت لأول مرة تجربة وطنية جامعة تضم جميع الأطياف السورية، وتضمن التمثيل وتعزز الكرامة الوطنية”. وأكد أن الحكومة السورية تعمل على “تحقيق العدالة الانتقالية وكشف مصير المفقودين، لأننا نؤمن أن لا مصالحة دون إنصاف”.
دعوات دولية لمحاسبة المسؤولين
وفي وقت سابق، دعت منظمة العفو الدولية “أمنستي”، الحكومة السورية الجديدة، إلى اتخاذ خطوات فورية وملموسة لمعالجة إرث الانتهاكات في البلاد، مشيرة إلى أهمية تحقيق العدالة ومعرفة الحقيقة وتعويض الضحايا. وطالبت المنظمة بتطبيق إصلاحات مستعجلة تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان لمنع وقوع المزيد من الانتهاكات.
في تقريرها الذي صدر مساء الجمعة، أكدت المنظمة أنها وثّقت، بين عامي 2011 و2024، ارتكاب النظام السوري العديد من الجرائم التي تشمل انتهاكات قانونية واسعة، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فضلاً عن انتهاكات حقوق الإنسان على يد نظام بشار الأسد. كما وثّقت المنظمة جرائم فظيعة ارتكبتها القوى الحليفة للنظام، مثل روسيا، بالإضافة إلى الجماعات المسلحة المعارضة للنظام المدعومة من تركيا، وكذلك سلطات الأمر الواقع بقيادة الأكراد.
ورأت المنظمة الحقوقية أن أمام الحكومة الانتقالية الجديدة، التي يقودها الرئيس أحمد الشرع، فرصة حاسمة لتحسين الوضع في سوريا وطي صفحة الماضي عبر ضمان عدم تكرار الفظائع. وحددت المنظمة في تقريرها مجموعة من الخطوات الضرورية التي يجب على السلطات السورية اتخاذها لتحقيق ذلك، لضمان الامتثال لالتزامات سوريا بموجب القانون الدولي.
الشراكات الحقوقية وتوثيق المفقودين
وكانت قد أعلنت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، عن توقيع مذكرة تفاهم مع المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية، المُنشأة بموجب قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، لافتة إلى أنها تمثل خطوة إضافية في مسار السعي الدؤوب نحو الحقيقة والمساءلة، بهدف كشف مصير وأماكن وجود عشرات الآلاف من المفقودين في مختلف أنحاء سوريا.
وقالت الشبكة إنه من خلال هذه الشراكة، ستُسهم بخبرتها المتراكمة على مدى أربعة عشر عاماً في توثيق الانتهاكات، وقواعد بياناتها الواسعة، ومعرفتها المعمّقة بالسياق السوري، لتعزيز فعالية آليات التحقيق الدولية في الوصول إلى معلومات دقيقة عن المفقودين، والمساعدة في تحديد هوية الضحايا في المقابر الجماعية.
وعبرت الشبكة عن أملها أن يُسهم هذا التعاون في تحديد مواقع تلك المقابر، وحمايتها، والتعرف على هوية الرفات البشرية فيها، وضمان معاملتها بكرامة واحترام، وتسليمها لعائلاتها لدفنها بشكل لائق متى أمكن ذلك.
وأكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بأنها تؤمن بأنَّ هذه الشراكة ستُعزز جهود المناصرة التي تركز على الضحايا، وستدعم مسارات العدالة الانتقالية، ومبادرات كشف الحقيقة، واستعادة كرامة عدد لا يُحصى من العائلات التي ما زالت تعيش ألم الفقد وعدم اليقين.
وجددت الشبكة التزامها بالتعاون الوثيق مع المؤسسات المحلية والدولية المكرّسة للحقيقة والعدالة والمساءلة، مؤكدة دعمها الثابت لحقوق الضحايا والناجين في نضالهم الشجاع من أجل سوريا قائمة على العدالة، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون.