الربيع العربي موجة أولى على طريق التغيير
الربيع العربي موجة أولى على طريق التغيير
● مقالات رأي ٣١ ديسمبر ٢٠١٤

الربيع العربي موجة أولى على طريق التغيير

 أربعة أعوام مرت على استشهاد البوعزيري الذي أشعل النار في جسده، فأشعل ثورة امتدت من تونس إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية. فقد تلقفت الشعوب الصرخة التي أُطلقت في وجه القهر والظلم والتمييز، ورددت نداء الحرية الذي طال انتظاره. غير أن الثورات التي انطلقت لم تبلغ أهدافها ما أثار ردود فعل سلبية وارتكاسات سياسية ونفسية بلغت لدى البعض حد الندم على التعاطف مع طلاب الحرية والكرامة وتمني العودة إلى ما قبل الحدث التاريخي والمعركة الكبرى التي فجرها الشباب الغاضب والمتطلع نحو الخلاص وتحقيق الحرية والكرامة لكل المواطنين.

فهل كانت الثورة خطأ يستدعي الندم والاعتذار، أم خطوة على طريق التغيير؟

لا شك في أن ثورات الربيع العربي لم تتقدم بسلاسة وتحقق أهدافها المجيدة، لكن ذلك لا يجعلها نافلة أو عاراً، فالذي حصل خطوة على طريق طويل، لأن التغيير لا يتم لأننا أردناه فقط بل لا بد من توافر مستلزمات تحققه ونجاحه. لذا، تستدعي الحصافة دراسة التجربة خلال صعودها وانكسارها، وإجراء التقويم الجاد والموضوعي، وبعقل بارد، استعداداً للموجة التالية فلا يعقل أن تنهض شعوب وتدفع أثماناً باهظة من حياة أبنائها ومواردها الوطنية والخاصة ثم تعود إلى المربع الأول، وكأن شيئاً لم يكن. فالذي حصل ليس هباء أو قبض الريح، بل خبرة حياتية وتجربة غنية بالدروس والعبر.

وأول ما تمكن ملاحظته في هذه التجربة العظيمة أنها ثورات شعبية غالبية قواها شبابية ومن نمط ثوري جديد، ما جعلها حالة خاصة تتأرجح بين الانفعالية والفعل الواعي، بين العفوية والفعل المنظم، تفتقر إلى النظرة الشاملة والخطة المبرمجة والقيادة الموحدة لاعتبارات ذاتية أساسها حرمان المجتمع من حرية التفكير والحركة طوال عقود، يحكمها الأمل والتطلع إلى الخلاص.

الأمر الثاني رفض سلطات الاستبداد المطلق تطلعات المواطنين وتمسكها بمواقعها وعدم توقفها أمام المآلات الخطيرة التي ستترتب على خيارها الرافض التغيير وذهابها إلى النهايات القصوى من دون ترك خط مفتوح للرجعة.

والثالث أنها حدثت في شروط غير مواتية، فلا المجال الإقليمي ولا الدولي كان جاهزاً لاستقبال حدث من هذا الوزن والقبول به وبنتائجه المحتملة، لذا كان انخراط القوى المحلية والإقليمية والدولية في الصراع من مواقع جد متباينة ومصالح شديدة التناقض، فلكل طرف تصور ومصالح ونهاية خاصة، وهي تصورات ومصالح ونهايات لا تتسق ولا تنسجم مع الثورة وأهدافها، بل إن بعضها يتعارض معها إلى حد التناقض، وبعضها يتقاطع معها في نقاط هامشية ولا يريد لها أن تبلغ أهدافها، بل أن تحقق أهدافه هو، وبعضها يريدها محرقة عبثية بلا نهايات محددة. وهذا أقام العقبات والعُقد وكرس توازن قوى محلي غير حاسم، لارتباطه بتوازنات قوى إقليمية ودولية، وحدّ من فرص نجاح الثورات وتحقيق التغيير الشامل على رغم الثمن الباهظ الذي دُفع مادياً وبشرياً، فطريق ثورات الربيع العربي لم يكن سالكاً كما كانت الحال مع الثورات الديموقراطية ضد الاستبداد الشيوعي في أوروبا الشرقية.

وما زاد الأمور تعقيداً وإرباكاً أن ضعف إمكانات الثوار المادية قادهم إلى الوقوع في براثن قوى متطرفة، ومن خارج سياق الثورة وتوجهها السياسي، وتحت هيمنة دول إقليمية ودولية سعت إلى تحويلهم إلى أداة لخدمة استراتيجياتها الخاصة في صراعها مع خصومها وأعدائها، وهذا أدخل الثورة في سياقات ومسارات خطيرة بما أضافه من أبعاد قومية وإثنية ودينية ومذهبية أعادت تشكيل معادلة الصراع ومسرح العمليات بحيث توارى وجه الثورة الأصيل تحت ركام التشققات الاجتماعية والمذهبية والقومية.

لكن، مع كل الاصطفافات والتحزبات والتمزقات السياسية والتشققات الاجتماعية والخسائر المادية والبشرية الكبيرة، فإن ما حصل قد حفر مجرى جديداً للحياة السياسية والاجتماعية، الفكرية والثقافية، فالتجربة عكست التغير الذي شهدته الشعوب العربية بعد قرون من الركود السياسي والاجتماعي والجفاف الفكري والثقافي الذي حاولت أنظمة الاستبداد تأبيده كي تبقى على عروشها من دون حسيب أو رقيب.

فالثورة الراهنة خطوة متقدمة بالنسبة لانتفاضتي مصر في 1978 وتونس في 1984 اللتين استنتج منهما الدكتور عصمت سيف الدولة ما اعتبره قانون الثورة في المجتمعات العربية آنذاك وهو: فورة قصيرة وعنيفة. فقد تميزت عنهما في ثلاث نقاط جوهرية في عمليات التغير الاجتماعي، الأولى في كثافة المشاركة الشعبية، بخاصة الشباب، والثانية في الفترة الزمنية التي دامتها، فترة طويلة على رغم المصاعب والنتائج غير المشجعة، والثالثة في حجم التضحيات التي جاد بها المواطنون، وظاهرة التضحية وتقبّل بذل النفس وتكيف الأهل مع الخسائر، البشرية خاصة، جديدة على المجتمعات العربية. فقد أشارت وثيقة إسرائيلية كتبت في الخمسينات، تناولت الركائز التي تستند إليها إسرائيل في حربها مع العرب، إلى ركيزة رئيسية وهي عدم تحمّل العرب تبعات الحروب والخسائر البشرية نتيجة عدم ممارستهم الحرب والتكيف مع مآسيها وويلاتها لاعتمادهم على الترك والكرد والمماليك في حروبهم طوال القرون الأخيرة.

فالثورات الراهنة، والتي سميت «الربيع العربي» عن جدارة، ليست النهاية بل هي معركة ضمن صراع طويل هدفه الحرية والكرامة التي ينشدها المواطنون، يمكن اعتبارها الموجة الأولى وستليها موجات حتى تتحقق أهداف المواطنين بالحرية والكرامة في ظل أنظمة تختارها الشعوب تقوم على سيادة القانون والعدالة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس، واحترام الحريات العامة والخاصة في دولة ديموقراطية تفصل بين السلطات وتفتح الفضاء السياسي أمام المواطنين لتشكيل أطر سياسية ونقابية ومنظمات مدنية وجمعيات حقوقية وهياكل إدارية تسمح بنمو المواطنين وتطورهم وإبداعهم، وللبلاد بالاستقرار والازدهار في ظل تنمية إنسانية مستدامة.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: علي العبدالله
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ