سوريا بعد السلاح: مسار مختلف
سوريا بعد السلاح: مسار مختلف
● مقالات رأي ١٥ أغسطس ٢٠١٧

سوريا بعد السلاح: مسار مختلف

إلى أين تتجه التطورات في سوريا؟ وهل بات ممكناً تبلوُر صورة نهائية يمكن أن يستقر عليها الوضع؟ تتسارع الأحداث وكثير منها خارج التوقع، والثابت الوحيد أن قمة هامبورغ التي جمعت الرئيسين ترمب وبوتين وضعت سوريا على سكة جديدة، لا مبالغة بالقول إن موسكو رسمت حدودها، قبل سنة من اليوم، لحظة إحكامها السيطرة على حلب، الأمر الذي يوصَف بأنه الإنجاز النوعي منذ بدءِ التدخل العسكري الروسي في سوريا.

نسمع اليوم حديثاً أميركياً عن ضرورة الوصول إلى وقف نار شامل، غداة إعلان اتفاق أميركي - روسي مفاجئ، قضى بجعل الجنوب السوري منطقة أمنية تمتد من القنيطرة في الجولان إلى درعا والسويداء. تلاه إعلان «خفض التصعيد» في الغوطة، ثم ريف حمص الشمالي، بمشاركة مصر ورعايتها، وكذلك إعلان وزارة الدفاع الروسية أنها تناقش مع الفصائل المسلحة وأطراف معارضة، إعلان 6 مناطق جديدة «خفض التصعيد»، بينها دمشق وحلب وحمص وحماه... إلخ.

أما إدلب، الثقب الأسود في الجسد السوري عموماً بعدما حوّلتها جبهة النصرة إلى ما يشبه الإمارة، فإن إسقاط هذا الوضع آتٍ، ولو تطلب المزيد من الوقت، لأنه لا سورياً ولا إقليمياً ولا دولياً مُجَاز استمرار سلطة هذه القوى السوداء، على أي بقعة سورية. لكن الأمر اللافت أن موسكو تصرفت بقرارات مؤتمر «آستانة»، مستبعدة عن التنفيذ «الضامنين» معها؛ إيران وتركيا، واجتذبت الأردن ومصر، ولهذا الأمر معنى مؤثر على الحل المستقبلي. وفيما تم حشد كل الفصائل، أطراف هذه الاتفاقات، للمشاركة في المعركة ضد الإرهاب؛ ضد «داعش» وضد «النصرة»، يبدو أن المعنى الحقيقي لما يتم تنفيذه على أرض الواقع، أنه يحمل تسليماً بأنه لا تسوية سياسية في القريب العاجل، أقله لأن أطراف هذه التسوية ليسوا جاهزين بعد. وهذا يقودنا للتأكيد أنه لغير مواجهة الإرهاب وهزيمته، فإن زمن السلاح والأعمال القتالية في سوريا انتهى كلياً، وأساساً مرحلة عسكرة الانتفاضة التي تمّ فرضها على الانتفاضة سقطت مع انتهاء معركة حلب. بهذا السياق تُبرز الأحداث انتصاراً روسياً صريحاً، فكل الوضع بات رهن مشيئة القيادة الروسية، التي تحوز أيضاً الضوء الأخضر الأميركي، ولا يبدو أن هذا الأمر كان سيتحقق لولا نجاح موسكو في أمرين مهمَّيْن؛ أولهما فرض إملاءاتها على النظام السوري بحيث كان هناك انصياع كامل من رأس النظام للقرارات الروسية من جهة، وثانيهما بدء تحجيم النفوذ الإيراني من جهة ثانية، والأمر جلي في إخراج ميليشيات الحرس الثوري من الجنوب ثم الغوطة الشرقية والريف الشمالي لحمص، وأكثر من ذلك فإن اتفاقات «خفض التصعيد» لحظت مطالبات آنية بعدم قيام الميليشيات الطائفية بأي دور أمني، ومطالبات واضحة بإخراج هذه الميليشيات من سوريا خلال عام واحد، وهنا تلتقي الإجراءات العملانية الروسية مع الرغبات الأميركية بتحجيم النفوذ الإيراني، ما يطرح الأسئلة عن مدى عمق التفاهمات الثنائية وتشعبها بين الرئيسين ترمب وبوتين.

على أرض الواقع عظيم جداً انتهاء الأعمال القتالية، وهذا يخدم مصالح السوريين بوقف إهراق دمهم مجاناً، ووقف تفتيت نسيج المجتمع السوري، وتشظي سوريا حصصاً بين قوى النفوذ الإقليمي والدولي. هذا الواقع الجديد شطب أحلام رأس النظام السوري بالانتصار العسكري، لكنه في الوقت ذاته حال دون سقوط الدولة السورية، وكثير من مؤسساتها العامة، وهذا أمر يُبنَى عليه، لأنه يجنِّب سوريا المزيد من الكوارث. طبعاً كل هذه المسائل غير نهائية، والتطورات تتلاحق، والقوى المتضررة كإيران التي لم تخفِ يوماً طموحاتها بالهيمنة تملك كثيراً من الأوراق ولن تقف مكتوفة الأيدي، لكنها وهي تجيد القراءة السياسية ستكون مضطرة للتكيف أملاً بالحفاظ على حدٍ من النفوذ، وأكثر من سواها تعرف أنه ضمن ميزان القوى الحالي، ستمضي روسيا في ترتيب الوضع السوري الداخلي على مختلف الصعد.

فالشرطة العسكرية الروسية تقوم بدور أمني متزايد ومطمئن، وجوانب أساسية من أمور المعيشة وتوفير العلاج الطبي وُضِعَت قيد الاهتمام. ولا شك أن هذا الوضع الجديد، سيوفر الإمكانية لعودة أعداد كبيرة من النازحين، والعودة لها أهميتها لأنها بمثابة مسمار في نعش الاقتلاع والتغيير الديموغرافي الذي عرفته بعض المناطق السورية، لا سيما في محيط دمشق والقلمون الغربي وسواهما.

بالتأكيد سوريا تتغير، وما يقوم به الروس من جهة، وما يحصل في الشمال الشرقي بدعم أميركي على يد «قوات سوريا الديمقراطية»، الطرف الأبرز في قتال «داعش»، يوحي وكأن الفيدرالية شكل للحكم في سوريا يتقدم على ما عداه، وهنا ربما كان التقارب الأميركي - الروسي أكبر مما كان يعتقد، وطبعاً ضمن الشروط الآنية لمناطق «خفض التصعيد»، سيتمُّ انتخاب مجالس تمثيلية، إذا ما أُعطيت من قِبَل كل المعارضة الأهمية التي تستحق، فإنها مرشحة لأن تكون الخزّان الحقيقي لبلورة الأسس السليمة لتحقيق طموحات الشعب السوري في يومٍ ليس ببعيد.

بالانتظار، تعرف كل القيادات السورية أن الثورة السورية استمرت بفعل تضحيات السوريين وليس إبداع القيادات المختلفة، وأن مناطق «خفض التصعيد» التي حقنت الدم ليست أبداً التسوية السياسية العادلة والمنشودة، ويجب عدم التوهم أبداً أن الروس سيؤمنون مطالب السوريين الحقيقية، لذا فإن الائتلاف السوري أمام التحدي، ومثله الهيئة العليا للمفاوضات التي أعلنت اعتزامها توسيع صفوفها، وتستعد، رغم الصعوبات، لتوحيد كل القوى، ليكون بالإمكان تشكيل وفد موحد، وصوت سوري واحد للمعارضة في كل محفل دولي.

الظروف الآن، بعد سقوط أكثر شبيحة الثورة وأمراء الحرب والنهب، مواتية لإيجاد خطاب موحد غير إقصائي، وقيادة جدية للسوريين تجمع جانبي النضال السياسي والعسكري، ولا تترك أي مجال للطامحين بالسيطرة على سوريا باللعب على تناقضات جزئية، لأنه دون ذلك لا نتائج مرضية للسوريين من كل التفاوض الدولي.

المصدر: الشرق الأوسط الكاتب: حنا صالح
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ