وهم التشكيل الفسيفسائي السُّوري
وهم التشكيل الفسيفسائي السُّوري
● مقالات رأي ٢٥ ديسمبر ٢٠١٤

وهم التشكيل الفسيفسائي السُّوري

المجتمع السُّوري مجتمعٌ فسيفسائيٌّ، سوريا تركيبةٌ فسيفسائيَّةٌ، التَّركيبة الفسيفسائية السُّورية... تعابير كثر تكرارها بمبالغة غير مسوغة أحياناً مع انطلاقة الثَّورة السُّورية. كان التَّكرار محليًّا ثُمَّ صارت تلوكه كلُّ الألسن واللغات ووسائل الإعلام والتَّصريحات السِّياسية والإعلاميَّة حَتَّىٰ بتنا نظنُّ أنَّ الفسيفساء السُّورية هٰذه غزو فضائيّ أو نيزك سيخبط الأرض بذيله أو نفسه.

كلا أيها السَّادة. المجتمع السوري ليس مجتمعاً فسيفسائيًّا. وهٰذه أكبر خدعة ضُحِك بها علىٰ السوريين الذين تقبلوها بسذاجة من دون أدن يدروا أبعادها.

الفسيفساء السُّورية هٰذه عبارةٌ غير جديدةٍ في حقيقة الأمر. لقد كان السُّوريون علىٰ هبل يكررونها فرحين بها، ويتغنون فرحين طربين بأنَّ سوريا مجتمع فسيفسائي وكأنهم يفرحون بفوزهم بكأس العالم!!!

لم نجد أبداً في أدبيَّات ما قبل البعث مثل هٰذا الوصف لسوريا، وإن مرَّ فمرَّ عرضاً أو شعراً غير مقصود. منذ استلم البعث السلطة في سوريا، وأنا لا أدين البعث بذاته أو بكونه حزباً، بدأ ترويج هٰذه البضاعة بطريقة ذكيَّة حَتَّىٰ صارت أنشودة يتغنى بها السُّوريون ويفخرون بها.

لا شك في أنَّ من يروج مثل ذۤلكَ بمثل هٰذا الذكاء يهدف هدفاً كبيراً. الهدف الكبير قد يكون خيراً وقد يكون لا يكون خيراً. وما وصلت إليه سوريا اليوم يبدي حقيقة تسويق هٰذا التوصيف. التَّاريخ لا تصنعه مصادفةٌ، وهٰذا عنوان كتاب باتريك سيل عن حافظ الأسد.

مع انطلاقة الثَّورة السُّورية بدأت التَّجليَّات الحقيقيَّة لهذه العبارة فصرنا نسمع عن التشكيل الفسيفسائي في سورية وخطورة هٰذه الفسيفسائية، وخصوصية هٰذه الفسيفسائية، وضرورة مراعاة هٰذه الفسيفسائية...

لقد بدا التصوير وكأنَّ سوريا استثناء تاريخيٌّ لا نظير له في العالم. وكأنَّ سوريا هي الوحيدة في هٰذا التشكيل الفسيفسائي.

والحقيقة أنَّ هٰذا التَّصوير ذاته هو الوهم التاريخي الأكبر الذي ساهم في صوغه فكر لئيم قذر. سوريا لا تختلف عن أيِّ بلدٍ في العالم علىٰ الإطلاق، بل إنَّ سوريا تكاد تكون هي الأقل تنوعاً في العالم إذا ما قورنت بالدُّول الأُخْرَىٰ. فلماذا سوريا دون خلق الله توصف بالفسيفسائية؟

لننظر في التَّركيبة السُّكَّانية السُّورية وما يدور من دندنة علىٰ وتر التَّركيبة الفسيفسائية السُّورية لنعرف حقيقة هٰذه العبارة المخربة والمدمرة. التَّركيبة السُّكَّانية لأيِّ دولة في العالم ينظر إليها من إحدىٰ زاويتين منفصلتين لا علاقة لأيٍّ منهما بالأُخْرَىٰ. هاتان الزاويتان هما العرقية أو الدينية/ الطائفيَّة. وأكرر سلفاً أنَّهُ لا يجوز الجمع بينهما لأنَّهُ لا يوجد بينهما أيُّ رابط يسمح بجمعهما معاً، فإمَّا أن نبحث في التَّركيبة علىٰ الأساس العرقي أو علىٰ الأساس الديني والطائفي. يشبه ذۤلكَ تماماً تصنيف أفراد مجتمع ما علىٰ أساس العائلات أو علىٰ أساس العمل. ففي كلِّ عائلةٍ يوجد من يعمل مختلف الأعمال. فكيف يمكن التَّصنيف علىٰ هٰذين الأساسين المتفارقين معاً؟

من النَّاحية العرقيَّة نحن أمام تصنيفين. التَّصنيف الأكثر اشتهاراً وتداولاً هو الذي يقول إن السُّوريين يتوزعون عرقيًّا علىٰ النَّحو التالي:

ـ العرب 93%

ـ الكورد 5 %

ـ آخرون([1]) 2 %

التصنيف الثاني علىٰ أساس ما كان يؤكده الأكراد قبل الثَّورة السُّورية، فهم كانوا يقولون إن نسبة الأكراد هي 8%، وكان التصنيف الرائج علىٰ هٰذا الأساس هو:

ـ العرب 91%

ـ الكورد 8 %

ـ آخرون 1 %

ولٰكنَّ الأكراد بعد الثَّورة، وخاصة عند إثارة الكلام في نسب التَّركيبة السُّكَّانيَّة السُّوريَّة صاروا يقولون إنهم 15%، وثَمَّة من يقول منهم إنهم يمثلون 20%، ورُبَّما تكون نسبتهم بعد فترة أكثر من نصف سوريا. الكلام سهل جدًّا.

السُّؤال الآن: أين الفسيفسائية العرقيَّة في سوريا؟  أيعقل أن تكون مثل هٰذه التَّركيبة فسيفسائيَّة؟

إذا قارنا هٰذه النِّسب مع معظم دول العالم، ولن نقول كلها، وجدنا أنَّ سوريا من أقلِّ دول العالم تنوعاً عرقيًّا علىٰ الإطلاق، انظروا إلىٰ أي دولةٍ أوروبيَّة والتنوع العرقي فيها، أليست سوريا هي الأقل؟ انظروا إلىٰ كثيرٍ من الدُّول الآسيويَّة والعربيَّة ومعظم دول القارتين الأمريكيتين ولا أتحدث عن كندا والولايات المتحدة فالتنوع فيها منقطع النَّظير... أليست سوريا هي الأقل تنوعاً عرقيًّا؟

أيُّ دولة من كلِّ هٰذه الدول تراعي حقوق الأقليات بالطريقة التي يريدون فرضها علىٰ سوريا والدول العربية؟؟

أي دولة هي التي يثار فيها حديث عن الأقليات بالطريقة التي تثار فيها عن سوريا، وكذۤلكَ الدُّول العربيَّة؟

لماذا سوريا فقط علىٰ رأسها ريشة، وفيها فقط تثار هٰذه الأحاديث؟

المجتمع الدولي لئيم لا يريد الخير لنا. هٰذا صحيح. ولٰكن لماذا يكون أبناء مجتمعاتنا أداة غبية لهذا اللؤم ويسيرون مع تفتيت المجتمع والدولة؟

قد يقول قائل هنا إنَّ المشكلة هي في التَّنوع الطَّائفي والديني وليس العرقي.

حسناً. سنذهب معهم فيما يريدون، ما الذي يوجد تحت باب التَّنوع الطَّائفي؟

إذا نظرناً إلىٰ المجتمع السُّوري من النَّاحية الطَّائفيَّة وجدنا أنَّ التَّشكيلة الطَّائفيَّة السُّوريَّة لا تختلف أبداً عن أي تشكيلةٍ طائفيَّة في معظم دول العالم. لا تختلف بالمطلق والعام، ولٰكن إذا نظرنا إليها من ناحية النِّسب سنجد أنَّها من أقل دول العالم تنوُّعاً طائفيًّا يدعو إلىٰ الخلاف أو الاختلاف أو الدُّخول في أيِّ سجالٍ حقوقيٍّ.

نحن أمام أكثر من إحصاءٍ أو تقديرٍ إحصائيٍّ. للتَّوزع السُّكَّاني علىٰ أساسٍ دينيٍّ في سوريا. علىٰ أساس دينيٍّ لا طائفي لأنَّهُ يفترض منطقيًّا أن طوائف الدِّين الواحد لا تحتسب تنوُّعاً دينيًّا. ومع ذۤلكَ نحن سنعد الطَّائفة ديناً لإرضاء طموح الفسيفسائيين.

التَّصنيف الأول وهو التَّصنيف الرَّسمي للدولة السُّورية، وهو تصنيفٌ مسيسٌ فيما يخص العلويين لأنَّ السلطة تريد رفع نسبتهم قدر المستطاع لعدم ظهور مدىٰ أقليتهم بالنسبة للتركيبة السُّكَّانية. ففي حين أنَّ النِّسبة في كلِّ التقديرات لا تزيد عن 8% فقد جعلها تصنيف الدولة 11.5%، وكذۤلكَ رفع في نسبة الدُّروز وكلَّ الأقليَّات الأُخْرَىٰ فوق الحقيقة، فجاء التصنيف علىٰ النَّحو التَّالي:

مسلمون (سنة) 76.1 %.

علويون 11.5 %.

مسيحيون 4.5 %.

دروز 3 %.

إسماعيليون 1 %.

شيعة اثني عشرية 0.4 %.

المجموع وفق هٰذا التصنيف 96.5%، يبدو أن الأقليات الدينية الأُخْرَىٰ افتراضاً هي 3.5%.

التَّصنيف الثاني هو التَّصنيف الأمريكي الذي صدر بعد فترةٍ من التَّصنيف الرَّسمي السُّوري، ولا يختلف عنه كثيراً في المبدأ. فحافظ تقريباً علىٰ نسبة العلويين، ورفع نسبة المسيحيين إلىٰ 8% الأمر الذي لم يكن في تاريخ سوريا منذ ما بعد الفتح الإسلامي إلىٰ اليوم. وكان التوزيع علىٰ النحو التالي:

مسلمون (السنة) 77 %.

علويون 10 %.

مسيحيون 8 %.

دروز وإسماعيليون وشيعة 3 %.

آخرون 2 %.

التَّصنيف أو التَّوزيع الثَّالث هو الذي قدمه عبد الحليم خدام وزير الخارجيَّة ونائب رئيس الجمهورية طيلة حكم حافظ الأسد وسنوات بشار الأولىٰ، ولديه المعلومات الفاصلة في ذۤلكَ فيما يفترض، وهٰذا التَّوزيع الذي قدَّمه علىٰ النَّحو التالي:

مسلمون (السنة) 80 %.

علويون 9 %.

مسيحيون 5 %.

آخرون 6 %.

من مقاطعة جميع التَّقديرات الإحصائيَّة، وكلها تقريباً تبالغ في نسب الأديان كلها فيما تقلل من نسبة المسلمين (السنة) نجد أنَّ التَّركيبة السُّكَّانية هي تركيبة إسلاميَّة خالصة، ونسبتهم الحقيقة نحو 85%، وأكثر أقلية دينية هي العلويون الذين لا تزيد نسبتهم بحال من الأحوال عن 8%، وبعدهم فوراً المسيحيون الذين لا تزيد نسبتهم حسب تقديرات المسيحيين السُّوريين عن 3%، ومع ذۤلكَ ففي أكبر التقديرات لا تزيد نسبتهم عن 5%. ومع ذۤلكَ سنقبل جدلاً وافتراضاً نسبة ال 80% للمسلمين، وعشرين بالمئة للآخرين بينهم 13% للعلويين والمسيحيين.

فبماذا تختلف هٰذه التَّركيبة في المبدأ عن تركيبة معظم دول العالم في الغرب والشرق والشمال والجنوب؟؟؟ بماذا تختلف سوريا عن دول أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا من ناحية التَّركيب الديني؟ فلماذا تعد التَّركيبة السُّورية فسيفسائيَّة ولا تعدُّ الأمريكية كذۤلكَ أو الفرنسيَّة أو الهنديَّة وكلها تفوق التَّركيبة السُّورية فسيفسائيَّة؟؟؟

رُبَّما هناك دول أقل من سوريا في هٰذا التنوع، ولٰكنَّ سوريا هي أقل من معظم دول العالم في هٰذا التَّنوع، وخاصَّة من الجانب الذي يستدعي الإرباك أو الاختلاف في تحديد هويَّة الدولة. فأي دولة فيها 80 بالمئة من السُّكَّان من طبيعة واحدة مثل سوريا؟

أستثني القليل من الدول، ولٰكن بالتأكيد سوريا من أقلِّ دول العالم تنوُّعاً يستدعي الخلاف في تحديد الهوية من الناحية الدينية/الطائفية، وهٰذه دول العالم أمامناً وتركيباتها أمامنا.

فلما يجب علىٰ سوريا أن تمزق هويتها إرضاء للغرب أو الشَّرق أو الأغبياء؟

لماذا سوريا فسيفساء وليست إيران ولا الباكستان ولا أمريكا ولا كندا ولا فرنسا ولا الهند...؟؟؟؟

سؤالٌ سنظلُّ نكرِّره: الآخرون يريدون لنا نتمزق فلماذا نساهم في تمزيق وطننا؟

هنا قد يوجد من يتفذلك ويقول: أنت نظرت إلىٰ الأمر من زاويتين العرقيَّة مستقلة عن الطائفية والطائفية مستقلة عن العرقيَّة. ماذا لو دمجنا الأمرين معاً ألن يكون هناك تنوعٌ كبيرٌ وخطيرٌ؟

هنا أيضاً وهمٌ جديدٌ وتضليلٌ خطير انطلت لعبته في العراق عندما قسم  هٰذا التقسيم المزدوج فقيل الشيعة 40%، المسلمون (السنة) 30%، الأكراد 30%!!! لاحظوا هٰذا الخلط فالشيعة عرب يشتركون مع المسلمين (السنة) بالعرق، والأكراد مسلمون (سنة) يشتركون مع العرب المسلمين (السنة) بهٰذا. فكيف اتَّسق هٰذا التوزيع؟ اتَّسق لغاية التقسيم والتَّفتيت الذي أرضى الشِّيعة والأكراد. إنَّهُ تقسيمٌ يشبه تقسيم أفراد مجتمع علىٰ أساس الطول، ثمَّ علىٰ أساس العائلة، ثمَّ جمع التقسيمين!!

وعلىٰ رغم ذۤلكَ وإرضاء لمطامع الفسيفسائيين سنذهب معهم في هٰذا التقسيم. فماذا سيكون؟

إذا قسمنا سوريا بهٰذا الاعتبار السريالي أي عربي مسلم، عربي علوي، عربي مسيحي، عربي شيعي، عربي درزي، عربي إسماعيلي، كردي مسلم، أرمني مسيحي، شركسي مسلم، آشوري مسيحي... إلىٰ آخر هٰذه الهستريا، فسنجد أنَّ العرب المسلمين (السنة) هم أكثر من 70%، ثمَّ الأكراد والعلويون بنسبة 8% لكلٍّ منهما، وواحد وأقل من واحد بالمئة لكل الأصناف الأُخْرَىٰ، علىٰ النحو التالي:

حَتَّىٰ بهٰذا التَّوزيع السِّريالي الهستيري تبقى هويَّة المجتمع السُّوري هي ذاتها، وأكثر الأقليَّات وجودهاً هي أقل من أن يحقَّ لها المجادلة في هويَّة المجتمع والدَّولة. وما خلاها من أقليَّات الأصناف الأُخْرَىٰ أقل من نصف واحد بالمئة لكل منها علىٰ الأكثر. وهي كلها نسب موجودة في كل دول العالم ولا تثار حولها أي نقاشات أو جدالات تحت أي مسمى.

مهما أثير من اعتراضات فإنها لا تغير الحقيقة، وتتهاوى أمام الواقع الصَّريح هو الهويَّة الصَّريحة للمجتمع السُّوري التي لا تختلف، في أسوأ تقدير، عن معظم دول العالم من الناحيتين العرقية والطائفية أو الدينية. ومع ذۤلكَ لا يوجد أي تشريعات أو محاصصات طائفية ولا عرقية في هٰذه الدول كلها. توجد دولة مواطنة، دولة قانون. نحن لا نريد أي محاصصة في دولتنا، ولن نقبل بأي محاصصة. نحن نريد دولة المواطنة والقانون.

المصدر: سراج برس الكاتب: عزت السيد أحمد
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ