العرب وإيران.. القطيعة لا تكفي
العرب وإيران.. القطيعة لا تكفي
● مقالات رأي ١٧ يوليو ٢٠١٦

العرب وإيران.. القطيعة لا تكفي

لم يدرك العرب إلا متأخرين أن العلاقة التي تربطهم بإيران لم تكن سوية. وكما يبدو فإن محاولاتهم لضبط سلوك النظام الإيراني في حدود اللياقات الدبلوماسية قد باءت بالفشل، وهو أمر كان متوقعا في ظل استمرار ذلك النظام في نهجه العقائدي الذي يستمدّ منه الحق غير المشروع في التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

ولأن تصحيح تلك العلاقة المضطربة أمر ميؤوس منه فإن تفادي أضرارها هو الفعل الإيجابي الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه الدول العربية متجنبة الانزلاق إلى ما هو أسوأ. وهو ما يمكن أن يجرّ المنطقة إلى كارثة شبيهة بحرب الثماني سنوات التي خاضها العراق في ثمانينات القرن الماضي.

وقد تبدو مسألة تفادي الأضرار هيّنة إذا ما ارتبطت بإنهاء تلك العلاقة غير السوية، غير أنها لن تكون كذلك إذا ما تعلق الأمر بمنع النظام الإيراني من الاستمرار في التدخل، مستثمرا هيمنته على عدد من الجماعات والمنظمات والأحزاب التي وضعت نفسها في خدمته وارتضت أن تكون منفذة لمخططاته كما هو حال حزب الله في لبنان.

صار واضحا أن تلك الكيانات التي لم تخف ارتباطها بالنظام الإيراني قد انفصلت بطريقة لا تقبل اللّبس عن أيّ خيار وطني يجمعها بفاعليات المجتمع الذي يحتضنها، بعد أن انساقت وراء المشروع التوسّعي الإيراني الذي يتّخذ من المسألة الطائفية وسيلة له في عزل جماعات بعينها عن المجتمع. وهو ما لم يخفه نوري المالكي زعيم حزب الدعوة الإسلامي في العراق حين تحدث عن الخطر المحدق بالمشروع الإسلامي وهي التسمية المضلّلة للمشروع الإيراني.

ولأن تلك الأحزاب غير الوطنية بسبب ولائها المطلق لنظام ولاية الفقيه تعمل داخل المجتمعات العربية مستغلة علوّ الصوت الطائفي وسط الفوضى السياسية التي تعيشها دول ضعفت أو تلاشت فيها قدرة المجتمع على ضبط سلوك أفراده قانونيا كالعراق ولبنان وسوريا، فإن خطر التمدد الإيراني يفوق بأضعاف الخطر الإسرائيلي الذي تراجع بسبب قوة التدمير الذاتي التي صارت تعصف بالعالم العربي.

وكما أرى فإن جزءا أساسيا من تلك القوة التدميرية يستمد طاقته من وجود أحزاب تشارك في صنع القرار المحلي معتصمة بالخندق الإيراني. وهو ما يجعلها بمثابة أذرع تنفيذية لما يرغب النظام الإيراني في أن يراه سائدا في العالم العربي. وليس من الصائب التغاضي عن تصريحات حسن نصرالله التي يؤكد من خلالها تبعية حزبه المالية والعقائدية والسياسية لنظام الولي الفقيه.

في ظل تلك المعطيات الواقعية تبدو مقاطعة إيران غير مجدية لتفادي أضرارها. فعلى المستوى العملي لا يمكن إنكار حجم التأثير الإيراني داخل القرار السياسي العراقي على سبيل المثال. وهو ما يعني أنّ العراق لن يكون في إمكانه أن يلعب دورا إيجابيا في صيانة الأمن القومي العربي، إذا لم تتح له فرصة إلحاق الضرر بأمن الدول العربية.

وهنا ينبغي التذكير بموقفيْ لبنان والعراق السلبيين من مسألة الإدانة العربية للهجوم الغوغائي المتعمد الذي تعرضت له سفارة المملكة العربية للسعودية في طهران وقنصليتها في مشهد. بطريقة ضمنية كانت إيران من خلال لبنان والعراق حاضرة في مجلس الجامعة العربية يومها.

لذلك فإنّ التصدي للخطر الإيراني لا يمكن أن يكون نافعا من غير تفحّص ومعالجة الأضرار التي ألحقها التمدد الإيراني بالجسد العربي في أوقات سابقة. وقد يكون مناسبا هنا أن يبدأ الحلّ من المسألة السورية التي جعلت من إيران طرفا في تقرير مصير شعب عربي ألقي به في أتون حرب أهلية، لم يكن الموقف العربي منها قائما على أساس الشعور بالمسؤولية إزاء ما يمكن أن تشكّله تلك الحرب من خطر على الأمن القومي.

إن مراجعة نقدية جادة لذلك الموقف من شأنها أن تقلب جزءا من المعادلة المضطربة. فتراجع الدور الإيراني في القضية السورية من شأنه أن يقلّم جزءا من أظافر إيران ويعيدها إلى حجمها الطبيعي. وما لم تنتقل الدول العربية من موقع تفادي تلقّي الضربات الإيرانية إلى موقع المبادرة الاستباقية التي تهدف إلى منع وقوع تلك الضربات، فإن روح التوسّع الإيراني ستبقى قادرة على بثّ سمومها في أجزاء واسعة من العالم العربي وتصدير ثقافة الموت، وذلك أقصى ما يمكن أن تقدمه طهران للآخرين.

في أحسن أحواله وإذا ما توفّرت النيّة الحسنة فإن نظام ولاية الفقيه سيكون متفضلا بكرم إذا ما قدم للآخرين ما يقدمه لشعبه. وهي نتيجة تدعو إلى الشعور بالتعاسة. فإيران بلد كئيب، تتراجع فيه أسباب الحياة، يُدار من قبل طغمة خفية تعتصم بالخط الذي يصل بينها وبين الإرادة المطلقة والصلة منقطعة تماما بين ما يرغب فيه المجتمع وبين ما صار سياقا ثابتا للعيش.

وهو ما يمكن أن يحدث في أيّ بلد، يُقدّر فيه لرجال الدين أن يحكموا سيطرتهم على مجتمعه. لا بسبب ماضويتهم وهو أمر مفروغ منه بل بسبب عقدهم المتراكمة من الحياة، بصيغتها الأرقى كونها مختبرا لتلاقي العناصر وامتزاجها وانصهارها وانبعاثها من جديد في صيغة أقوى وأجمل.

للحياة من وجهة فقهاء الدين المتزمتين صورة واحدة لا تقبل التحديث، هي تلك التي تمهّد للموت. ما من شيء أكثر. وتشهد وقائع السنوات الأخيرة على أن إيران لم تطور شيئا بقدر ما طورت وسائل وأدوات الموت. وإذا ما كان العالم قد منعها من الحصول على السلاح النووي فإنها استطاعت في مكان آخر أن تطور أسلحة للدمار الشامل، هي ليست أقل خطرا من السلاح النووي.

المعجبون بإيران ومريدوها يفاخرون بقوّتها الفتاكة. وواقعيا فإن إيران لم تبخل بخبراتها المتراكمة على جيرانها العرب. فهي لا تصدّر عقيدتها القتالية مجرّدة من موقفها من حقوق الإنسان مثلا. ولهذا فإن حزمة الخدمات التي تقدّمها إيران لأتباعها لا بد أن تؤدّي بالضرورة إلى تدمير فكرة المجتمع المدني وتحدُّ من إمكانية قيام دولة مدنية، يقوم أساسها المتين على شرعة حقوق الإنسان.

ولكم في العراق مثل على ما يمكن أن يلحقه المشروع الإيراني من أضرار مهلكة ببنية المجتمع. فالعراق الذي يمشي على الألغام الإيرانية لا يمكن أن يستعيد شيئا من دولته المدنية التي حطمها المحتل الأميركي. لقد قُدّر للعراقيين أن يُصابوا بخلل دمّر قدرتهم على استعمال حواسّهم، بعد ما سمّم الحزبيون الموالون لإيران حياتهم بمعجزات نظام ولاية الفقيه التي لا يمكن إدراك عظمتها من خلال الحواس المباشرة.

في حقيقتها فإن إيران لا تملك ما تقدمه للآخرين سوى الأزمات. الأزمات المستمرة وحدها هي ما يكسب الميليشيات شرعية تحتاجها من أجل السيطرة على المجتمع. ولأن إيران متعهدة جيدة في مجال إنشاء الميليشيات، ولها في ذلك تجربة عظيمة من خلال الحرس الثوري، فقد كانت حاضرة بقوة في لبنان وسوريا والعراق من خلال الميليشيات التي تأتمر بأوامرها وتمهّد أمامها الأرض لإنجاز حلمها في الاحتلال المباشر. لم تقدم إيران لجيرانها العرب سوى الميليشيات وهي عصابات مسلحة لا تخضع لقانون ولا تعترف بوطن ولا تحترم شعبا. أما المستشارون الإيرانيون من نوع قاسم سليماني فهم خبراء في فنون القتل وعلوم الإرهاب.

لذلك يكون من العبث والسخرية من الحقيقة إذا لم نعترف بأنّ إيران لا تملك شيئا سوى الموت تقدمه للعرب، جيرانها الذين يحلمون بحياة حرة، كريمة يضعون في خدمتها ثرواتهم التي حباهم الله بها.

وإذا ما كانت إيران قد نجحت في غفلة من العرب في نشر رموز الموت من شاكلة حسن نصرالله وهادي العامري في أماكن مختلفة من العالم العربي فلا يزال في إمكان العرب أن يدعموا رموز الحياة في الأماكن نفسها وسواها.

ما يجعلني متفائلا بإرادة الخير شعوري بأن المشروع الإيراني قد وصل إلى طريق مسدودة، وهو ما لا يعني أن النظام سيستسلم ويعكف على نفسه ولا يعني أن الفاسدين ممن أقسموا على الولاء لولاية الفقيه سينسحبون طوعا من المشهد، بقدر ما يعني أن المجتمعات التي كانت غافلة عن المشروع الإيراني باتت اليوم متأكدة من أن هلاكها إنما يكمن في ذلك المشروع.

إرادة الحياة العربية ستنتصر على إرادة الموت الإيرانية، غير أن ذلك الأمر لن يتم من غير العمل القومي المنظم.

المصدر: صحيفة العرب الكاتب: فاروق يوسف
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ