ترمب ينهي «عصر التنازلات» مع إيران
ترمب ينهي «عصر التنازلات» مع إيران
● مقالات رأي ١٤ ديسمبر ٢٠١٧

ترمب ينهي «عصر التنازلات» مع إيران

اتخذت الإدارة الأميركية في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قراراً بوقف شراء المواد النووية من إيران، بما في ذلك المياه الثقيل المنتج فيها. وهذا القرار الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُعتبر خطوة أخرى تبعث إلى طهران برسالة مفادها أن الرئيس الأميركي لا يميل إلى اعتبار خطة العمل الشاملة المشتركة من الصفقات الناجحة بأكثر من سلفه، وهو أمضى عزماً وتصميماً على ممارسة المزيد من الضغوط على إيران فيما يتعلق بأنشطتها في منطقة الشرق الأوسط.

وكان شراء الماء الثقيل من إيران بين قرارات الرئيس الأسبق باراك أوباما، ويهدف إلى ضمان التزام طهران مبادئ الاتفاق النووي، الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة من المفاوضين الدوليين عام 2015. وبحلول نهاية عام 2016، باعت طهران إلى الولايات المتحدة 32 طناً من الماء الثقيل، وتلقت في مقابل ذلك 8 ملايين دولار أميركي لهذا الغرض.

ونتيجة لذلك، لم يهدف قرار الرئيس أوباما إلى نقل كميات كبيرة من الماء الثقيل من إيران (وفقاً لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة، لا يمكن لإيران الاحتفاظ بكمية تفوق 130 طناً من الماء الثقيل في مخازنها الاحتياطية)، وكان من تدابير حفظ ماء الوجه للنظام الإيراني (إذ كانت إيران تبيع الماء الثقيل، ولم تكن تتخلى عن هذه المواد للأطراف الأجنبية طواعية كما يطالب المجتمع الدولي)، وإنما يعتبر من الحوافز المالية الأكيدة للقيادة الإيرانية يدفعها إلى الالتزام بالاتفاق المبرم. وبحلول عام 2017 الحالي، عانت إيران من مشكلات اقتصادية كبيرة جاءت نتيجة مركبة للآثار الارتدادية لتنفيذ حزمة العقوبات الدولية المفروضة عليها، ومشكلات هيكلية أخرى تتعلق باقتصاد البلاد.

ووفق تقييم بعض المحللين الإيرانيين، في عام 2017، عانت البلاد من تباطؤ كبير في النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي (من 12.5 في المائة في عام 2016 إلى 3.3 في المائة في العام الحالي) حيث ارتفع معدل التضخم من 8.9 في المائة في عام 2016 إلى 11.2 في المائة في العام الحالي (ما أدى إلى ارتفاع كبير في الأسعار بلغ 10 نقاط مئوية كاملة) مع ارتفاع معدلات البطالة من 11 في المائة إلى 12.4 في المائة عن الفترة نفسها. ويُعتَبر نقص تمويل المشاريع الهادفة إلى تنشيط الاقتصاد الإيراني من أبرز المشكلات الرئيسية التي تواجهها طهران.

وفي ظل هذه الظروف، كان مبلغ 8 ملايين دولار التي تتلقاها طهران من واشنطن، مقابل مبيعات الماء الثقيل، من المبالغ القليلة، ولكنه من الحاجات المهمة للاقتصاد الإيراني وإشارة إيجابية للمجتمع الدولي بأنه يمكنه زيادة مستوى التعاون التجاري والاستثمار مع طهران.

وكان من المفترض لقرار الرئيس ترمب وقف مشتريات الماء الثقيل الإيراني أن يحقق أهدافاً تتعارض مع خطط الرئيس الأسبق أوباما، إذ أراد الرئيس الأميركي أن يُظهر عزمه الأكيد على وفاء وعوده الانتخابية ذات الصلة بالاتفاق النووي مع إيران. ولا يمكن للرئيس ترمب الإعلان عن إلغاء خطة العمل الشاملة المشتركة بشكل فوري ومباشر بعد انتخابه، إذ من شأن خطوة كهذه أن تعود بآثار سلبية على العلاقات الأميركية مع الشركاء الأوروبيين الذين يساورهم القلق بشأن تصريحات الإدارة الأميركية، حول ضرورة إلغاء الاتفاق النووي بالكامل. كما أن عواقب إلغاء الاتفاق النووي غير واضحة تماماً: إذ لن يكون من الممكن إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران بشكل فوري (إذ إن ذلك يستلزم بالضرورة موافقة من مجلس الأمن الدولي) ولن يكون من الممكن أيضاً ضمان أن يُبرم اتفاق جديد وأفضل من الاتفاق الحالي.

وفي ظل هذه الظروف كذلك، ارتأت الإدارة الأميركية الإبقاء على خطة العمل الشاملة المشتركة الحالية (حتى الآن على أقل تقدير). وبدلاً من ذلك، تخيرت واشنطن اعتماد مجموعة من التكتيكات التي لا تسمح بتوجيه الاتهامات المباشرة ضد واشنطن بالانسحاب الجزئي من خطة العمل الشاملة المشتركة، ومع ذلك، فهي خطوات تهدف إلى جعل الحياة في إيران أكثر مشقة وصعوبة.

إن إنهاء مشتريات الماء الثقيل الإيرانية من الإشارات الواضحة إلى اللاعبين الآخرين المعنيين وإلى طهران نفسها، مفادها أن عصر التنازلات المقدمة إلى إيران قد انقضى. ومن الناحية الرسمية، يمكن للإدارة الأميركية تفسير قرارها بأنه يستند إلى الحاجة لوقف توفير الأموال إلى إيران التي يمكن استخدامها لاحقاً في تمويل أنشطتها المثيرة للجدل في بلاد الشام والخليج العربي. ومع ذلك، ومن الناحية العملية، يعكس هذا القرار القدرات الأميركية الحالية لزيادة الضغوط على القيادة الإيرانية إن اقتضى الأمر.

وبطبيعة الحال، فإن نقص الأموال التي يمكن لإيران الحصول عليها، مع العجز الواضح عن ذلك، من مواصلة مبيعات الماء الثقيل إلى الولايات المتحدة ليست بالمبالغ الكبيرة والمهمة للاقتصاد الإيراني. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة قد تجعل الشركات الدولية أقل ميلاً واهتماماً بالعمل المباشر مع طهران في ظل تصاعد التوترات الأميركية - الإيرانية الراهنة.

ورغم ذلك أيضاً، قد تغيب بعض العواقب الرئيسية المهمة عن مخيلة الرئيس ترمب التي تترتب، ولا بد، على تكتيكاته الحالية بالنسبة لمستقبل إيران ومستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة كذلك: فمن شأن الخطوات الأميركية أن تضعف وبصورة خطرة من مواقف جماعات النخبة الإيرانية والموجهة بشكل طبيعي نحو الحوار مع المجتمع الدولي.

إن إيران من البلدان التي تتوقف تصرفاتها على الصعيد الدولي على الآيديولوجية والمكانة الوطنية. وفي ظل الظروف الحالية، فإن أحد التساؤلات الكبيرة المطروحة يتعلق بمدى قدرة الرئيس حسن روحاني على تفسير الأمر لقيادة البلاد ولقاعدته الانتخابية ومدى أهمية الاستمرار جزءاً من اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة، وتحمل المزيد من الخطوات الاستفزازية الأميركية مع مواصلة ممارسة الضغوط، التي قد تتصاعد، على إيران.

ومن المهم أن نأخذ في اعتبارنا أن إيران تفسر خطة العمل الشاملة المشتركة على نطاق أوسع: بعبارة أخرى، فإن الخطوات الأميركية الأخيرة، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، لا تشكل انتهاكاً للاتفاق النووي كما يُفسر الأمر على هذا النحو في طهران. نتيجة لذلك، شرع المسؤولون الإيرانيون بالتهديد بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة.

أما بالنسبة إلى الرئيس روحاني، فقد تلقى الانتقادات الكثيرة من خصومه المحافظين للتوقيع على الاتفاق النووي الذي، كما هو مُعتقد لدى المعسكر المناوئ لروحاني، لم يمنح إيران الشيء الكثير، لكنه فرض عليها قيوداً تتعلق بوقف تطوير البرنامج النووي الوطني. ونتيجة لما تقدم، فإن إنهاء خطة العمل الشاملة المشتركة يعني، بصورة طبيعية، القضاء على المستقبل السياسي للرئيس روحاني، ويزيد من صعوبة الأمر كثيراً لضمان فوز إحدى الشخصيات السياسية المعتدلة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في البلاد.

ومن العواقب المتوقعة التي قد تترتب على سياسة الرئيس ترمب تصاعد الدور الروسي في المحافظة على خطة العمل الشاملة المشتركة، إذ في عامي 2013 و2015، لعبت السلطات الروسية دوراً مهماً في تسوية المشكلة النووية الإيرانية. وساعدت موسكو في تسهيل مفاوضات طهران مع مجموعة المفاوضين الدوليين في حين أرست مقترحات الوزير سيرغي لافروف لعام 2012، بشأن تسوية القضية النووية الإيرانية، الدعائم اللازمة لاستئناف المحادثات.

وفي هذه الحال، كانت الدوافع الروسية تستند إلى عدد من العوامل. أولاً، حصول إيران على القنبلة النووية ليس من الأمور المرغوب فيها لدى موسكو، إذ إن ذلك سيغير تماماً من موازين القوى في المنطقة ويشجع أنظمة شرق أوسطية أخرى، ربما تكون أقل استقراراً من إيران، على الانضمام إلى النادي النووي. ثانياً، اعتقدت روسيا أن القضية النووية غير المستقرة من شأنها، على نحو افتراضي، أن تؤدي إلى زعزعة استقرار إيران نفسها من واقع إيجاد الذرائع المسوغة لاندلاع نزاع عسكري بين الولايات المتحدة وإيران. وفي ظل هذه الظروف لم يكن الكرملين يرغب في أن تتحول إيران إلى دولة فاشلة أخرى بالقرب من حدود فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي بالإضافة إلى سوريا، والعراق، وأفغانستان. ثالثاً، ساعَدَ الدور الروسي في المفاوضات الدولية متعددة الأطراف بشأن القضية النووية الإيرانية في تعزيز أهمية موسكو كلاعب دولي إيجابي وبناء. وهذا الدور من الأهمية بمكان مع اعتبار ردود الفعل السلبية لدى المجتمع الدولي حيال ضم شبه جزيرة القرم، وإسناد روسيا للقوات الانفصالية في شرق أوكرانيا.

ومن شأن الأسباب ذاتها أن تشكل حافزاً للمشاركة الروسية الفعالة في قضية خطة العمل الشاملة المشتركة مرة أخرى. وعلى أدنى تقدير، فإن الولايات المتحدة الأميركية ليست المشتري الوحيد للماء الثقيل الإيراني. وبحلول نهاية عام 2016، تلقت روسيا 38 طناً من الماء الثقيل الإيراني، وإن لزم الأمر، يمكن لموسكو مواصلة شراء المواد النووية من طهران بغية تهدئة مخاوفها بشأن مستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة. وإن قررت موسكو ملء الفراغ القائم سيكون لهذا القرار نتائجه المهمة بالنسبة للكرملين، إذ سيتعمق دخول إيران في مجال النفوذ الروسي. وهذا، بدوره، سيجعل من طهران أكثر مرونة واستعداداً للوصول إلى حلول توافقية مع روسيا تتعلق ببنود أخرى ذات أهمية في الأجندة الروسية على الصعيد الدولي.

المصدر: الشرق الأوسط الكاتب: نيكولاي كوزانوف
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ