"عطش" دمشق والحياد المُزيف
"عطش" دمشق والحياد المُزيف
● مقالات رأي ٢ ديسمبر ٢٠١٤

"عطش" دمشق والحياد المُزيف

عادت مياه دمشق لمجاريها، جزئياً. ذلك يتعلق بمياه الشرب، أما مياه العلاقات بين السوريين فما تزال تتدفق مهدورةً على أرصفة الكيان السوري المتهالك، ويُنذر سقف رصيدها بالنفاذ، مع غياب العُقلاء من كل الأطراف. وتسود "الأنا" في مواقف الكثيرين من السوريين اليوم، خاصة تلك الفئة التي تضع نفسها في خانة الحياد حيال ما يحصل في المشهد السياسي والميداني السوري. بطبيعة الحال، يمكن تفهم الحياد في سوريا اليوم، لكن ما لا يمكن تفهمه أن يُوصف سلوكٌ يتلمس المصلحة حسب تبدل موازين القوى، باعتباره شكلاً من أشكال الحياد. كمثال على الحياد المُزيف سابق الوصف: إذا كنت من سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فإنك تصمت حيال جرائم النظام التي تستهدف سكان مناطق أخرى خارجة عن سيطرته. لكن حالما تقوم المعارضة بأي إجراء يطال مصالحك ومصالح سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، تخرج عن صمتك، ويعلو صوتك، وتمارس فن النقد السياسي، الذي حُرمت منه حيال النظام وإجراءاته. يمكن مشاهدة المثال السابق كسلوكٍ واقعٍ لدى الكثيرين من السوريين اليوم. فهم يحددون مواقفهم السياسية وفق معايير مصالحهم، ومعايير موازين القوى أيضاً. ففي مناطق سيطرة النظام يندرُ أن تجد أحداً ينتقد، فعلاً، أو قولاً، حصار النظام، إلى حد التجويع، لمناطق في جنوب دمشق أو ريفها القريب. وبطبيعة الحال، نتفهم أن ذلك نتاج الخوف من بطش النظام المعروف للقاصي والداني. لكن حينما استخدمت المعارضة مياه الشرب، في عين الفيجة، كوسيلة للضغط على النظام، تعالت أصوات "الحياديين"، منددةً بالمعارضة، زاعمةً أنه في "أخلاقيات" الحروب لا يجوز احتكار موارد الشراب والطعام. وكأن النظام انصاع يوماً لـ "أخلاقيات" الحروب تلك، رغم أن التاريخ يؤكد أن الحروب لم تكن لها "أخلاقيات" تحكمها في معظم الحالات. للأسف الشديد، بات جزء واسع من السوريين اليوم يحكم على الأمور من منظور المصلحة. وبما أن الجزء الأكبر من سكان سوريا اليوم هم أولئك القابعون تحت سيطرة النظام، لذلك نجد الأصوات ترتفع منددةً بأخطاء المعارضة وفصائلها. لكن الأصوات ذاتها تصمت "صمت القبور" حيال جرائم النظام وفظائعه. ما سبق تعميم يقبل الاستثناء، بطبيعة الحال. لكن تجربة قطع مياه الشرب عن دمشق، تؤكد هذا التعميم. فالنقد الذي تعرضت له المعارضة كان نقداً "أعمى"، نسي مُطلقوه أن سكان مناطق وادي بردى كانوا يتعرضون لهجمة عسكرية شعواء تتهددهم بالموت والاعتقال والنيل من الأعراض والأرزاق، وكان نبع عين الفيجة، المصدر التاريخي الرئيس لمياه شرب العاصمة، الوسيلة الوحيدة المتاحة في قبضتهم، للضغط على النظام. وقد أفلح هذا الضغط في نهاية المطاف، وانصاع النظام لمعظم شروط المعارضة، وأعادت الأخيرة ضخ مياه الشرب لسكان العاصمة الذين عانوا من العطش لأيام فقط، في الوقت الذي تعاني فيه مناطق في جنوب دمشق من العطش منذ أكثر من ثمانين يوماً، بسبب حصار النظام لها. الحيادية التي تعني أن أنتقد المعارضة حالما تخطئ، وأصمت حيال النظام، لأنني أخشى بطشه، ليست حياداً. والحيادية التي تغيب حينما تتعرض مصالحي للضرر ليست حيادية. أطلق إعلاميون ومثقفون سوريون حملات ممنهجة تحذر من كارثية تفجير نبع عين الفيجة، الذي هددت به فصائل الثوار. لكن هؤلاء لم يجرؤوا على توجيه اللوم للنظام، أو مطالبته بوقف حملته العسكرية على وادي بردى، بصورة تضمن عدم تنفيذ الثوار لتهديدهم. حملات البعض ساوت بين النظام والثوار، مساواةٍ "عمياء" بين الضحية والجلاد، تُلام فيها الضحية أنها ضربت تحت الحزام جلاداً يُشهر سكيناً على رقبتها، باعتبار أن الضرب تحت الحزام ليس من أخلاقيات الحروب. رمادية عمياء، تُنذر بالمزيد من الحقد والانقسام بين فئات السوريين. انقسام بدأ يترسخ بصورة قسرية، بين سوريين خاضعين للنظام، ارتبطت مصالحهم به، وبين آخرين خارجين عن سيطرته، ارتبطت مصالحهم بالإضرار به، وبالخاضعين لسيطرته. ومع غياب العُقلاء، الذين يمكن لهم تقدير الأمور حق قدرها. لا يبدو أن المستقبل المجتمعي في سوريا يُبشر بالخير. فحينما تغضب لألمٍ طالك، بينما تغلق أذنيك كي تتجنب سماع أنين المتألمين في جوارك، فتلك حالة لا تُبشر بخيرٍ لمستقبل سوريا ولمستقبل السوريين، سواء بقي النظام، أو رحل.

المصدر: المدن الكاتب: إياد الجعفري
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ