
بين حقول العمل ومقاعد الدراسة: معاناة الطلاب العاملين في الصيف
ينتظر طلاب المدارس في سوريا -من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية- العطلة الصيفية بفارغ الصبر، ليقضوا فترة استراحة يستعيدون فيها نشاطهم بعد أشهر من الضغوط الدراسية المتراكمة، بين الدروس والامتحانات والمراجعات. لكن بينما يستمتع معظمهم باللعب والسفر أو ممارسة الهوايات، يُضطر بعض الأطفال إلى استغلال هذه العطلة في العمل لمساعدة أسرهم أو جمع مصروفات العام الدراسي المقبل، مما يحرمهم من حقهم في الراحة والاستمتاع بطفولتهم.
ومن بين هؤلاء الطلاب، يُوجد أطفال تتراوح أعمارهم بين التاسعة والخامسة عشرة، يَعتبرون العطلة الصيفية فرصةً ثمينة للعمل وجمع المال، فيمارسون أعمالاً متنوعة، غالباً ما تكون بسيطة أو مؤقتة، لتخفيف العبء المالي عن كاهل أسرهم.
لكنهم في المقابل يتعرضون لتداعيات قاسية؛ إذ تُجبرهم هذه المسؤوليات المبكرة على تحمّل أعباء تفوق طاقتهم العمرية، مما يحرمهم من حقهم في الراحة، ويُعيق تطوير مهاراتهم الدراسية، ويُصعّب عليهم معالجة نقاط الضعف التعليمية بسبب عدم القدرة على تحمل تكاليف دورات التقوية أو الأنشطة التعليمية الداعمة.
ليست عمالة الأطفال ظاهرةً جديدةً في المجتمع السوري، إلا أن الأزمة التي خلّفتها سنوات الحرب قد حوّلتها إلى كارثة إنسانية بكل المقاييس. فما نتج عن النزاع من نزوح جماعي ودمار شامل وانهيار اقتصادي، إضافة إلى فقدان المعيل في كثير من الأسر، كلها عوامل أدت إلى تفاقم هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق.
وقد اضطرت هذه الظروف القاسية آلاف العائلات السورية، إلى دفع أبنائها الصغار إلى سوق العمل قبل الأوان، محمّلين إياهم مسؤوليات تفوق سنهم بكثير، وانتشر الأطفال العاملون في مجالات عمل متنوعة، تتراوح بين المهن المؤقتة والخطرة. فمنهم من اشتغل كباعة متجولين في الأسواق والشوارع، يعرضون بضائع بسيطة تحت أشعة الشمس الحارقة.
ومنهم من انضم إلى عائلاتهم في العمل الموسمي بالزراعة أو الحصاد، حيث ساعات العمل الطويلة مقابل أجر زهيد. كما انتشر آخرون في المحلات، ولم تقتصر المهن على ذلك، ففي المناطق الأكثر فقراً، اضطر بعض الأطفال إلى مزاولة أعمال شاقة مثل جمع الخردة أو النفايات.
يواجه الأطفال العاملون مخاطر صحية جسيمة تختلف باختلاف طبيعة المهن التي يزاولونها. فبالإضافة إلى الإرهاق البدني العام الذي يلازمهم بسبب ساعات العمل الطويلة، فإن كل مهنة تحمل في طياتها أضراراً جسدية خاصة؛ فالعاملون في الورش الصناعية يتعرضون لإصابات العمل والحروق.
بينما يعاني العاملون في الزراعة من مخاطر المبيدات الحشرية وأمراض التنفس، في حين يتعرض الباعة المتجولون لمخاطر حوادث الطرق وأشعة الشمس الحارقة. هذه الأضرار المتراكمة لا تقتصر على الآلام الآنية فحسب، بل قد تتحول إلى إعاقات دائمة تلازمهم طوال حياتهم.
وبحسب أخصائيين نفسيين، فإن عمالة الأطفال تُعرض الأطفال لمخاطر نفسية جسيمة، حيث يواجهون ضغوطاً عاطفية وجسدية تفوق قدراتهم التنموية. قد يعانون من القلق، الاكتئاب، وانخفاض تقدير الذات بسبب الحرمان من التعليم واللعب، وتعرضهم للاستغلال أو بيئات عمل قاسية. كما أن الإجهاد المزمن وانعدام الأمان قد يؤديان إلى اضطرابات نفسية طويلة الأمد، مما يعيق نموهم العاطفي والاجتماعي.
لمواجهة ظاهرة عمالة الأطفال في سوريا، لا بد من اعتماد حلول عملية وشاملة تعالج جذور المشكلة وتحد من آثارها. أولاً، من الضروري توسيع برامج الدعم المادي للأسر الفقيرة، بحيث لا تضطر إلى الاعتماد على دخل أطفالها لتأمين احتياجاتها اليومية. يشمل ذلك تقديم مساعدات مالية منتظمة، أو توفير سلال غذائية وخدمات أساسية تضمن الحد الأدنى من الاستقرار المعيشي للعائلة.
إلى جانب ذلك، من المهم إطلاق حملات توعية مجتمعية توضّح مخاطر عمل الأطفال على صحتهم ونموهم ومستقبلهم، وتحث الأهالي على حماية أبنائهم من الاستغلال. ويجب أن تترافق هذه الحملات مع رقابة فعلية على أماكن العمل، لمنع تشغيل الأطفال في المهن الخطرة أو في ظروف لا تتناسب مع أعمارهم.
كما يمكن أن تسهم المشاريع التنموية الصغيرة في التخفيف من عمالة الأطفال، من خلال تدريب أحد أفراد الأسرة على حِرف أو مهارات إنتاجية تدرّ دخلاً بديلاً، مما يسمح للأطفال بالعودة إلى حياتهم الطبيعية بعيداً عن سوق العمل.
رغم أن العطلة الصيفية يجب أن تكون وقتاً للراحة واللعب، إلا أن كثيراً من الطلاب -خاصةً من الأسر الفقيرة- يجدون أنفسهم مجبرين على العمل لمساعدة أهاليهم أو تأمين مصروف الدراسة. هؤلاء الأطفال الأبطال، يضحون بطفولتهم في ورش العمل والحقول والمحلات، حاملين على أكتافهم الصغيرة ما لا تحتمله، مما يجعلهم بحاجة لدعم مادي ومعنوي يغنيهم عن العمل بسن مبكرة.