١٤ أكتوبر ٢٠٢٥
حان موسم قِطاف الزيتون في سوريا، وبدأت العائلات تجمع ثماره بسعادة، متمنية أن تُحظى بموسم خير يمدّها بالأرباح والمؤونة. وبينما تفضّل بعض الأسر القطف بأنفسها دون الاستعانة بأحد، يلجأ آخرون، ولا سيما أصحاب الأراضي الواسعة، إلى تشغيل عمّال وعاملات لمساعدتهم في جني المحصول.
عاملات موسم الزيتون
يشكّل موسم قِطاف الزيتون فرصة عمل جيدة، خصوصاً للسيدات اللواتي لا يمتلكن فرصاً ثابتة أو شهادات تؤهلهنّ لوظائف أفضل. فيعملن بالقطاف مقابل أجر يومي يُتفق عليه مع أصحاب الأراضي، ويبدأن يومهن منذ الصباح الباكر ويواصلن العمل حتى العصر أو المغرب، وفقاً للاتفاق مع رب العمل.
تروي أم محمود، وهي سيدة خمسينية من ريف إدلب: "أعمل أنا وبناتي بقِطاف الزيتون في كل موسم تقريباً، ونستفيد من أجرتنا اليومية. وأحياناً يمنحنا أصحاب الأراضي كمية من الزيت أو الزيتون إضافةً إلى الأجر، وهذا يساعدنا كثيراً، خاصة أنني أعمل لأساعد زوجي في مصروف البيت".
صعوبة الوضع المعيشي
بحسب نساء يعملن في هذا المجال، فإن أغلبهنّ يرجعن سبب عملهن في قِطاف الزيتون، رغم ساعات العمل الطويلة والأجور الزهيدة مقارنةً بالجهد المبذول، إلى الفقر المدقع وغياب فرص العمل البديلة والحاجة الماسّة إلى المال.
تعب جسدي وضغط نفسي
تؤكد العاملات أنهن يعانين من مشقة جسدية بسبب ساعات العمل الطويلة، وما يرافقها من آلام في الظهر والرقبة والكتفين. كما تقلّ فرص حصولهن على استراحة خلال اليوم، خاصة أنهن يعدن بعد انتهاء القطاف إلى واجبات المنزل والأسرة، ما يفاقم شعورهن بالإرهاق الجسدي والنفسي.
مخاطر صحية
ولا تتوقف التداعيات التي تتعرض لها النساء خلال عملية قطاف الزيتون عند حدود التعب الجسدي والضغط النفسي، فهن معرضات أيضاً للدغات الحشرات أو الخدوش الناتجة عن الأشجار، إضافةً إلى خطر السقوط منها وما قد يسببه من كسور أو رضوض.
وتُظهر شهادات ميدانية أن العديد من العاملات تعاني من مشاكل في المفاصل والعضلات نتيجة تكرار العمل السنوي، خصوصاً اللواتي يقضين فترات طويلة ويقمن بمهام شاقة في الأراضي الزراعية.
غياب التعويض في حال التعرض لإصابة
علاوة على ذلك، تعاني العاملات في المهن الزراعية من غياب التأمين الصحي والدعم الطبي المباشر عند تعرضهن للإصابات، سواء كانت بسيطة أو متوسطة أو شديدة. فهذه الأعمال تُصنّف ضمن نطاق العمل الخاص، ما يحرمهن من أي تعويض.
العاملات بحاجة للدعم الإنساني
تؤكد ناشطات حقوقيات في سوريا أن العاملات المياومات بحاجة إلى دعم من المنظمات لتوفير تدريبات مهنية وفرص عمل بديلة تضمن لهن أجوراً أفضل وتحفظ حقوقهن، فالكثير منهن يقبلن الأعمال الشاقة بالرغم من أجورها الزهيدة وساعاتها الطويلة نتيجة الظروف المعيشية القاسية.
ختاماً، تجد كثير من السيدات اللواتي يعانين من ظروف اقتصادية قاسية في موسم الزيتون فرصة لجمع المال وتأمين مؤونة أسرهن، إلا أنهن في المقابل يعرّضن أنفسهن لمخاطر جسدية متكررة في ظل غياب التعويضات عند التعرض لإصابة، ما يبرز الحاجة إلى مبادرات توفر لهن عملاً أكثر أماناً واستقراراً.
٩ أكتوبر ٢٠٢٥
تروي قصة "أم محمد"، السيدة السورية المنحدرة من دير الزور، جانباً مؤلماً من معاناة آلاف السوريات اللواتي فقدن أزواجهن خلال سنوات الحرب، ووجدن أنفسهن وحيدات يواجهن أعباء الحياة وقسوتها، فالحرب خطفت منها زوجها وبدّلت حياتها بالكامل، لتصبح الغصة والحزن جزءاً من يومها، لا يفارقها أينما ذهبت.
منذ أن اقتحمت قوات النظام البائد منزلها واعتقلت زوجها، لم تره أم محمد مجدداً، حتى تعرّفت عليه لاحقاً في مقطع مصوّر يوثّق "مجزرة التضامن"، ظهر فيه الضابط أمجد يوسف وهو يُعدم المدنيين بدمٍ بارد. تقول إنها لم تستطع نسيان ملامح زوجها في الفيديو، ولا لحظة سقوطه بين الضحايا.
كانت أم محمد حاملاً في شهرها الثامن عندما اعتُقل زوجها. وبعد ولادة ابنها محمد، حاول المحيطون بها إخفاء الحقيقة عنه، لكن الصبي اكتشف بنفسه المشهد القاسي حين شاهد المقطع المصوّر المنتشر على مواقع التواصل، فعرف أن والده كان بين الذين أُعدموا، ودخل بعدها في صدمة شديدة استدعت نقله إلى المستشفى.
منذ ذلك الوقت، تحرص أم محمد على زيارة مكان المجزرة باستمرار، المكان الذي دُفن فيه زوجها بين الضحايا. تجلس هناك مع ابنها وتقول له بهدوء: "هنا دُفن والدك"، محاولة أن تزرع في قلبه شيئاً من الصبر على الفقد.
تعيش أم محمد اليوم في مبنى مهجور لا تتوافر فيه أبسط مقومات الحياة؛ بلا كهرباء ولا ماء، تحت وطأة فقر مدقع وضيق حال. تروي أنها في بعض الليالي تفكر بأنها لم تعد قادرة على الاحتمال، وأنها كانت على وشك إحراق نفسها وابنها من شدة اليأس، قبل أن تعود لتتشبث بالأمل. كل ما تتمناه اليوم هو أن تُستخرج جثث الضحايا من الحفرة الجماعية، وتُعاد دفنها في قبور تحمل أسماء أصحابها، لتجد مكاناً واضحاً تزور فيه زوجها وتترحّم عليه.
مجزرة حي التضامن، التي وقعت في نيسان/أبريل 2013، تُعد من أبشع الجرائم الموثقة في سوريا. إذ نفذت عناصر من شعبة المخابرات العسكرية (الفرع 227) عملية إعدام جماعي بحق ما لا يقل عن 41 مدنياً من سكان الحي، رمياً بالرصاص، قبل أن تُلقى جثثهم في حفرة ويُشعل فيها النار.
وفي عام 2022، ظهرت لقطات مصوّرة مسرّبة توثّق الجريمة بالكامل، ما أحدث صدمة واسعة وأعاد تسليط الضوء على واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ سوريا الحديث، وأثار مطالبات حقوقية ودولية بمحاسبة المسؤولين عنها.
قصة أم محمد ليست سوى نموذج واحد من حكايات لا تنتهي لنساء فقدن أزواجهن في الحرب، وما زلن ينتظرن العدالة، بين ذاكرة الفقد وضيق العيش وأملٍ لا ينطفئ في أن تُفتح القبور وتُقال الحقيقة.
٦ أكتوبر ٢٠٢٥
في كل صف دراسي، يلاحظ المعلم وجود طلاب يتمتعون بالذكاء والقدرة على الفهم، لكنهم يفضلون الصمت على المشاركة أو طرح الأسئلة. هؤلاء ليسوا أقل قدرة من زملائهم، بل يعانون من الخجل الذي يحول بينهم وبين التفاعل الطبيعي في البيئة الصفية، ما يؤدي إلى تراجع أدائهم الدراسي وتقييد إمكاناتهم.
أسباب نفسية وأسرية
تختلف أسباب الخجل من طالب لآخر، فبعضهم يمتلك طبيعة شخصية خجولة منذ الصغر، بينما يتأثر آخرون بأسلوب التربية داخل الأسرة. فالأهل الذين يعتمدون أسلوب القسوة أو النقد المستمر، أو يكثرون من المقارنات بين أبنائهم والآخرين، يزرعون في الطفل شعوراً بالدونية وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ متردداً خائفاً من ارتكاب الأخطاء أمام الآخرين.
تجارب محرجة وتعامل مدرسي غير داعم
وفي حالات أخرى، يكون الخجل ناتجاً عن تجارب محرجة سابقة داخل الصف، مثل تعرّض الطالب للسخرية بعد إجابة خاطئة أو طرح سؤال بسيط، ما يجعله يختار الصمت تجنباً للإحراج. كما أن بعض الطلاب يعانون من مشاكل في النطق أو بطء الكلام أو التأتأة، مما يزيد من قلقهم وخوفهم من التنمر.
ويؤكد مربّون أن البيئة المدرسية تلعب دوراً حاسماً، فحين يكون المعلم قاسياً في ملاحظاته أو يستخدم أسلوب التهكم والانتقاد، يتراجع الطلاب الخجولون أكثر، ويغيب تفاعلهم كلياً عن المشهد الدراسي.
انعكاسات سلبية على الأسرة والمعلم
تنعكس مشكلة الخجل سلباً ليس فقط على الطالب، بل أيضاً على أسرته التي تشعر بالقلق تجاه مستقبله الأكاديمي والاجتماعي، وعلى المعلم الذي يجد صعوبة في تقييم مستواه الحقيقي. كما يحدّ خجل بعض الطلاب من فعالية الحصة الدراسية ويجعل تشجيعهم على المشاركة تحدياً دائماً.
كيف يمكن مساعدة الطالب الخجول؟
يرى خبراء التعليم أن المعلم هو المفتاح الأول لتجاوز هذه العقبة، من خلال خلق بيئة صفية آمنة خالية من السخرية، وتشجيع الطلاب تدريجياً على التحدث والمشاركة. يمكن البدء بتكليف الطالب الخجول بمهام بسيطة، كقراءة فقرة قصيرة أو كتابة ملاحظة على اللوح، مع الحرص على الثناء على كل خطوة إيجابية يقوم بها.
كما يشدد التربويون على أهمية الدور الأسري في دعم الطالب، عبر تعزيز ثقته بنفسه داخل المنزل، وتشجيعه على الحوار والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية والجماعية التي تساعده على التفاعل بثقة. وينصح الأخصائيون بتجنّب النقد أو المقارنة مع الآخرين، والتركيز على نقاط القوة الصغيرة التي يحققها الطفل، لأنها تُعدّ قاعدة لبناء تقديره الذاتي.
يبقى الخجل في الصف مشكلة تربوية تحتاج إلى تعاون حقيقي بين الأسرة والمدرسة. فحين يجد الطالب تفهماً وتشجيعاً من معلمه ودعماً من أسرته، يبدأ تدريجياً في تجاوز مخاوفه والانخراط في العملية التعليمية بثقة، ليصبح فاعلاً في صفه ومؤمناً بقدراته مثل أي طالب آخر.
٤ أكتوبر ٢٠٢٥
يواصل السوريون المغتربون عن بلادهم العودة إلى سوريا بعد سنوات طويلة من الهجرة. فقد اضطر الكثيرون لمغادرة وطنهم بسبب الحرب وما شهدوه من قصف واعتقالات وتدمير للمنازل والممتلكات على يد نظام الأسد، مما أجبرهم على البحث عن ملاذ آمن خارج البلاد.
عودة ترافقها غصة
وتختلف مشاعر العائدين إلى ديارهم؛ فبعضهم يشعر بسعادة غامرة، خاصة أن هذه اللحظة كانت منتظرة لآلاف السوريين الذين حلموا بالعودة إلى وطنهم. بينما يشعر آخرون بالحزن وغصة في القلب، إذ توجد أشياء لا يمكنهم إعادتها معهم، مثل قبور الأحبة، والأصدقاء الذين تعرفوا عليهم في بلد اللجوء، وغيرها.
أم تودع قبور أولادها
وفي هذا السياق، تبرز قصة سيدة سورية انتشر لها مقطع مصور على منصات التواصل الاجتماعي، تظهر فيه وهي تودع أبناءها الثلاثة الذين توفوا بسبب الزلزال عام 2023.
جلست بجانب قبورهم، تنادي بأسمائهم—مؤمن، ماريا، وحمودة—وهي تعبر عن حرقة قلبها وحزنها العميق لفراقهم. وأخبرت أبناءها بأنها ستعود إلى سوريا، لكنها حزينة لأنها ستتركهم خلفها. وقد كان المقطع مؤثراً جداً، غنياً بالدموع وبالحسرة، ومليئاً بمشاعر الحزن العميق التي شعر بها كل من شاهدوه.
الكثير من السوريين يحملون نفس المعاناة
تفاعل المتابعون على منصات التواصل الاجتماعي مع الفيديو مؤكدين أنه يحمل كمية هائلة من الألم التي تعيشها العديد من الأمهات السورية. وأشاروا إلى أن المشهد موجع للقلب ومبكٍ، مشيرين إلى أن الكثير من السوريين يعيشون معاناة مشابهة.
وذلك ينطبق على أولئك الذين قضى أحد أقاربهم أو أبنائهم أو أحد أفراد عائلتهم أثناء وجودهم في بلاد المهجر، وتم دفنهم هناك، ثم اضطر أفراد العائلة للعودة إلى سوريا ليواجهوا نفس الحزن والفقد، الذي عاشته تلك السيدة.
ختاماً، تُظهر قصة وداع هذه المرأة لقبور أبنائها حجم الألم الذي يعانيه السوريون العائدون، وتبرز أن العودة إلى الوطن ليست سهلة دائماً، فهي مليئة بالحزن والحنين إلى من فُقدوا وإلى الأيام والذكريات التي تركوها خلفهم.
٢٥ يوليو ٢٠٢٥
لا يزال شبح المقابر الجماعية يلاحق السوريين بعد سقوط النظام البائد الذي ابتكر فكرتها ونفذها خلال حرب استمرت 14 عاماً. فأخفى من خلالها آلاف الجثث عن ذويها، متستراً على جرائمه، وممارساً انتقامه من معارضيه حتى بعد مماتهم. ليترك عوائلهم في انتظار قاتل، لا تعرف مصائر أبنائها المفقودين، فتعيش على ألم الفقدان والغموض.
بعد تحرير عدة مناطق في سوريا، كشف النقاب عن مقابر جماعية في إدلب وحمص وحماة ودير الزور وغيرها من المناطق التي شهدت صراعات دامية. ورغم سقوط نظام آل الأسد، لم تتعافَ سوريا من هذا الجرح العميق. مع أحداث السويداء، عاد كابوس المقابر الجماعية ليتصدر المشهد، مفتتحاً جرحاً غائراً في القلوب يصعب اندماله.
شهدت مدينة السويداء، جنوب سوريا، اشتباكات مسلحة أودت بحياة العشرات، حيث تراكمت الجثث في المشفى الوطني وسط ظروف كارثية. ووفقاً لمصادر محلية، دُفنت هذه الجثث في مقابر جماعية دون توثيق، مما أثار غضباً عارماً على منصات التواصل الاجتماعي وفي الواقع. وتشير تقارير حقوقية إلى أن هذه الطريقة في الدفن تعيق العدالة بإخفاء معالم الجرائم، مفاقمةً جرح السوريين الغائر.
على الصعيد الإنساني، تتكرر مأساة المقابر الجماعية التي عانى منها السوريون في ظل النظام البائد. خلال الأحداث الأخيرة في السويداء، فُقد عشرات الشباب من قوات الأمن العام والمدنيين، وبقيت عوائلهم حتى الآن في غياب تام للمعلومات عن مصيرهم.
ودفن الموتى في مقابر جماعية، خاصة دون توثيق أو إشراك العائلات، كما حدث في السويداء، يترك آثاراً نفسية واجتماعية مدمرة على أهالي الضحايا وذويهم. أبرزها:
عدم معرفة مصير الأحباء (حياة أو موت)، يجعلهم يعيشون على قيد الانتظار القاتل ما بين الأمل واليأس، هذا الغموض يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل القلق المزمن، الاكتئاب، أو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
إضافة إلى ما سبق، حُرمت العائلات في السويداء من دفن أبنائها وفق العادات والتقاليد، ومن إقامة جنازات تليق بهم أو وداعهم الأخير. هذا الحرمان يُعد انتهاكاً للقيم الاجتماعية والثقافية، مما يعمق شعورهم بالظلم. كما لم يتسنَ للأهالي دفن أحبائهم في قبور خاصة يمكن زيارتها.
كما ينعكس الأثر السلبي على العائلات، التي قد تنشغل بالبحث عن مصير المفقود، مما يؤدي إلى إهمال الجوانب الاقتصادية أو الاجتماعية، خاصة في ظل الأوضاع المتردية في سوريا، وذلك ما حصل مع عشرات الأسر خلال الحرب المندلعة في البلاد.
خصصت وزارة الداخلية السورية حسابات على واتساب وتليغرام للإبلاغ عن المفقودين خلال أحداث السويداء في يوليو 2025، داعيةً الأهالي إلى تقديم تفاصيل دقيقة عن المفقودين، تشمل الصورة الشخصية، بيانات الهوية، وآخر مكان تواجدوا فيه. ومع ذلك، أعرب العديد من الأهالي عن قلقهم من إطالة عملية البحث أو عدم التوصل إلى نتائج، كما حدث في مآسي سابقة.
يقترح ناشطون وحقوقيون إجراء فحوصات الحمض النووي لتوثيق الجثث وإعادة دفنها في قبور فردية، لتمكين العائلات من وداع أحبائهم وإتمام طقوس الحداد. كما يدعون إلى تقديم دعم نفسي للعائلات من خلال منظمات محلية ودولية لتخفيف آثار الخسارة الغامضة. وفي ظل تكرار مأساة المقابر الجماعية في السويداء، يبقى الأمل معلقاً على تحقيقات دولية شفافة تكشف مصير المفقودين، وتضمن العدالة للضحايا.
٢١ يوليو ٢٠٢٥
تفاعل الأهالي ورواد مواقع التواصل الاجتماعي بشكل واسع مع موقف أم سورية وقفت بثبات بين جموع المعزّين في الحي الجنوبي من مدينة أعزاز، حيث حضر العشرات لمواساتها بعد فقدانها نجلها الشاب صلاح كرز، الذي قُتل أثناء مشاركته في العمليات العسكرية ضد المجموعات الخارجة عن القانون في مدينة السويداء.
أصرَّ عشرات الشباب على الحضور لتقديم واجب العزاء لوالدي الشاب صلاح، تعبيراً عن تضامنهم ومواساتهم في هذا المصاب الجلل. وفي الوقت ذاته، أكدوا لهما أن ما قدمه ابنهما كان ثميناً وغالياً، فقد قدّم روحه فداءً لحماية الوطن وأهله.
وسطهم وقفت الأم المكلومة وسط تلك الجموع بملامح سيطر عليها الحزن والانكسار، لاسيما أن الجرح ما يزال طازجاً، وأكدَّ الشباب المجتمعون حولها أنهم كلّهم بمثابة أولادها، وصاروا يهتفون "أم الشهيد نحن ولادك".
عشرات الأمهات تجرّعن مرارة الفقد مؤخراً، إضافة إلى حكايا الألم التي عاشها الأهالي بفقدان أصدقائهم وأحبائهم، إثر الاشتباكات العسكرية التي شهدتها مدينة السويداء، والتي أسفرت عن استشهاد عشرات الشباب المتطوعين في قوات الأمن، الذين سارعوا إلى المدينة من أجل استعادة الأمن والاستقرار.
في ظل الأحداث والتوترات الأمنية التي شهدتها المنطقة، لم يكن مشهد أم الشاب صلاح استثناءً؛ فقد شهدت المنطقة العديد من المواقف المؤثرة التي ستظل محفورة في ذاكرة الأهالي مدى الحياة، لما تحمله من ألم عميق وجراح لا تمحى.
وهي هذا السياق يبزر مشهد وصول سيارات الإسعاف إلى مدينة إدلب حاملة جثامين الشباب إلى المشفى الوطني، بالتأكيد أولئك الشبان عندما شاهدوا عائلاتهم وأصدقائهم قبل ذهابهم إلى السويداء لم يكونوا يتوقعون أنها ستكون المرّة الأخيرة، وأنهم سيرجعون جثث مُحمّلة.
وتعرف ناشط سوري على ابن عمه من خلال فيديو نُشر لمجموعة من شباب الأمن العام وقعوا أسرى للمجموعات الخارجة عن القانون، وأعاد نشر المقطع المصور مرفقاً إياه بتعليق:
"هذا المقطع الذي ظهر فيه ابن عمنا الشهيد عبد الرحمن، وهو أسير قبل أن تُنفّذ فيه يد الغدر جريمة الإعدام، نحن لا نحزن لأننا خُلقنا لنكون شهداء في سبيل عقيدتنا، ودولتنا، وأرضنا.المجد والخلود لروحه الطاهرة، والعار لكل من تواطأ أو صمت".
وتضامنت أحد الناشطات مع أم سورية، كانت قد فقدت خلال الحرب في سوريا الممتدة لـ 14 عاماً، أربعة من أبنائها، وخسرت مؤخراً ابنها الخامس، ودعت لها بالصبر ولكل الأمهات والزوجات والأطفال الذين تيتموا في كل شبر من البلاد.
عشرات الحوادث المأساوية اصطدمت بها العائلات السورية مؤخراً بعد أحداث السويداء، شباب لم يكن هدفهم سوى حماية البلاد ومكافحة المجموعات الإرهابية ليعودوا إلى أهاليهم متوفيين، ويتركون جرحاً عميقاً في قلوب أهاليهم وأحبتهم.
١٥ يوليو ٢٠٢٥
خلال سنوات الحرب في سوريا، برزت المرأة السورية كعنصر فاعل في مجالات عدة، بعضها محفوف بالمخاطر، مثل إزالة مخلفات الحرب والتوعية بمخاطرها. ورغم التهديدات الكبيرة التي يشكلها هذا العمل، أصرّت عشرات النساء على خوض هذه التجربة الإنسانية الصعبة حمايةً لأرواح المدنيين.
في هذا التقرير، نسلّط الضوء على ثلاث سوريات يعملن في الدفاع المدني السوري تركن بصمة واضحة في هذا المجال:
إسراء الجرو.. توعية لحماية الأرواح
إسراء الجرو، طالبة في مجال الإرشاد النفسي، بدأت عملها التطوعي في الدفاع المدني السوري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، بعد خضوعها لتدريبات مكثفة حول أنواع الذخائر وطرق التعامل الآمن معها، تقول في تصريح لـ"شبكة شام":
"نركّز على توعية الأهالي بخطر مخلفات الحرب وإزالتها نهائيًا لحماية المدنيين. قبل بدء أي مهمة، نجري استبيانًا مع شخصيات مفتاحية من المنطقة لنعرف تاريخها وما إذا كانت تحوي ألغامًا أو أجسامًا مشبوهة. بعدها نتبع إجراءات العمل المعيارية ونلتزم باللباس الميداني الكامل وقاعدة (رجل واحد.. خطر واحد)".
ولاء دياب.. المرأة عنصر أساسي في فرق المسح
ولاء دياب، قائد فريق مسح الذخائر غير المنفجرة في مركز صوران – حماة، تعمل منذ ثلاث سنوات في مسح المناطق قبل تنفيذ عمليات الإزالة. تؤكد ولاء أن وجود النساء داخل هذه الفرق "ضروري لضمان جمع معلومات دقيقة من المجتمعات المحلية، خاصة في المناطق المحافظة". وتضيف:
"وجودنا يسهل التواصل مع النساء، ويمنحنا فرصة الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المعلومات المجتمعية. أشجع النساء على دخول هذا المجال، فهو يحتاج لشجاعة وصبر، لكنه ينقذ حياة كثيرين".
ديمة السعيد.. دافع إنساني وشخصي
أما ديمة السعيد، القادمة من إدلب، فتعمل منذ ثلاث سنوات في إزالة الذخائر غير المنفجرة والتوعية بمخاطرها. تقول إن دافعها كان إنسانيًا بعد أن شهدت كيف غيّرت قطعة معدنية مصير عائلات بأكملها. وتوضح مهامها:
"أشارك في الكشف عن الذخائر وإزالتها بأمان، وتطهير المناطق الملوثة. كما نقوم بجلسات توعية تستهدف النساء والأطفال لتعليمهم أشكال الذخائر وطرق الوقاية"، موجهة رسالة للأهالي: "لا تقتربوا من أي جسم غريب، والوعي هو سلاحنا الأقوى لحماية أنفسنا وأطفالنا".
شجاعة تحدث فرقًا
تجسد قصص إسراء الجرو، وولاء دياب، وديمة السعيد صورة المرأة السورية القوية التي لم تكتفِ بالتوعية فقط، بل تصدّرت الصفوف الأولى في مواجهة الخطر. ورغم التحديات، أثبتت هؤلاء النساء أن الشجاعة والوعي يمكن أن ينقذا أرواحًا ويغيّرا واقع مجتمعات بأكملها.
١٤ يوليو ٢٠٢٥
أصبحت ظاهرة تدخين الأطفال في سوريا أمراً مألوفاً في الآونة الأخيرة، في ظلّ غياب الرادع القانوني أو الخوف من العقاب. والأخطر من ذلك، هو توجه عدد متزايد منهم نحو استخدام جهاز التدخين الإلكتروني المعروف بـ(الفايب - Vape)، رغم ما يحمله من أضرار صحية جسيمة.
هذا الانجراف نحو التدخين، سواء التقليدي أو الإلكتروني، يجعل الأطفال عرضة لعدة تداعيات أبرزها الإصابة بأمراض مزمنة وسلوكيات سلبية قد تتطور مع الوقت، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً من الأسرة والمجتمع والجهات المعنية.
تعددت الأسباب التي دفعت الأطفال نحو التدخين، إلا أن أبرزها، بحسب القصص التي رُصدت خلال العمل على هذا الموضوع، يتمثل في غياب الرقابة الأسرية والمدرسية في آنٍ معاً. فالأطفال غالباً ما يجدون أنفسهم في بيئة محفزة على تبني سلوكيات ضارة، دون توجيه أو متابعة حقيقية من الأهل أو المدرسة.
كما يُعد غياب القدوة الحسنة عاملاً جوهرياً، حيث يتأثر الطفل بسلوك من حوله، سواء في الأسرة أو بين الأصدقاء. كثير من الأطفال تعلّموا التدخين مباشرة من الآباء المدخنين، فقلّدوهم دون وعي، معتقدين أن هذا السلوك طبيعي أو حتى "دليل على الرجولة".
إضافة إلى ذلك، يلعب رفاق السوء دوراً كبيراً في دفع الطفل نحو التجربة الأولى، في ظل غياب التوعية والمراقبة. وفي الوقت ذاته كان للعوامل الاقتصادية في تعزيز هذه الظاهرة، إذ أن سهولة حصول الأطفال على السجائر أو أجهزة التدخين الإلكتروني من المحلات التجارية، دون أي رقابة أو التزام بالقوانين التي تمنع بيعها للقاصرين، تُعد سبباً رئيسياً في استفحال المشكلة.
كما أن توفر المال في أيدي الأطفال، سواء من مصروفهم اليومي أو بطرق أخرى، يمنحهم القدرة على شراء منتجات التبغ دون صعوبة، خاصة في ظل غياب رقابة حقيقية من الأهل على كيفية إنفاق أبنائهم. هذه السهولة في الوصول والشراء تجعل التجربة الأولى أقرب مما يُتصوّر، وتمهّد الطريق للإدمان المبكر.
بحسب الدراسات الطبية، فإن التدخين يُعدّ شديد الضرر على صحة الأطفال، إذ يؤثر بشكل مباشر على الجهاز التنفسي، ويتسبب في ضعف نمو الرئتين. ولا يقتصر الخطر على ذلك، بل يمتد ليشمل ارتفاع احتمال الإصابة بأمراض مزمنة، مثل الربو، والتهاب الشعب الهوائية، وربما في المستقبل أمراض القلب والرئة.
كما يُظهر النيكوتين تأثيراً كبيراً على الجهاز العصبي للطفل، إذ يغيّر من كيمياء الدماغ ويؤثر على التركيز والانتباه. أما الإدمان المبكر، فهو من أخطر النتائج، لأن الطفل يصبح أسيراً للعادة في سن صغيرة، ما يصعّب عليه الإقلاع عنها لاحقاً، ويفتح المجال أمام سلوكيات أكثر خطورة.
وبحسب ما أوضحه أخصائيين نفسيين قابلناهم، فإن الأثر السلبي للتدخين لا يقتصر على الجانب الصحي فحسب، بل يمتد إلى السلوك النفسي والاجتماعي أيضاً. فالطفل المدمن على التدخين قد يلجأ إلى سلوكيات خاطئة وخطرة في حال لم يتمكن من تأمين المال اللازم لشراء السجائر أو جهاز الفايب.
من بين هذه السلوكيات: السرقة من الآخرين، أو إيذاء أصدقائه وسلبهم المال بالقوة، بل وقد يتطور الأمر إلى تبني سلوكيات عدوانية أو حتى التنمر على من حوله. هذا التدهور في السلوك يحدث نتيجة حاجة الطفل الشديدة للنيكوتين، في ظل غياب وعيه الكامل بمخاطر ما يقوم به، وافتقاره للتوجيه والدعم النفسي السليم.
اقترح ناشطون مجموعة من الحلول التي قد تسهم في مكافحة ظاهرة التدخين بين الأطفال، من بينها توعية الأهالي بأهمية مراقبة سلوكيات أبنائهم وتصرفاتهم، وضرورة فتح قنوات حوار صادقة معهم تساعدهم على الإقلاع عن هذه العادة السيئة.
كما شدد الناشطون على أهمية نشر التوعية حول أضرار التدخين في المدارس، من خلال برامج تستهدف الطلاب والمعلمين على حد سواء، لضمان وصول الرسالة لأكبر عدد ممكن من الأطفال. ومن جهة أخرى، دعوا إلى تدخل الحكومة بشكل فعال، عبر فرض قوانين تمنع بيع السجائر وأجهزة الفايب للأطفال، ومراقبة تطبيق هذه القوانين بدقة في المحلات التجارية.
تُعدّ ظاهرة انتشار التدخين بين الأطفال واحدة من أخطر الظواهر الاجتماعية، لما تشكله من تهديد مباشر لجيل كامل. فالأطفال الذين يبدأون بالتدخين معرضون ليس فقط لمخاطر صحية جسيمة، بل أيضاً لسلوكيات خاطئة قد تؤثر سلباً على أنفسهم، وعائلاتهم، والمجتمع بأسره.
لذلك، يتطلب الأمر تدخلاً عاجلاً وفعّالاً من جميع الجهات المعنية، بدءاً من الأسرة، مروراً بالحكومة، ووصولاً إلى المجتمع المدني، لضمان حماية أجيال المستقبل من هذه العادة الضارة.
١٤ يوليو ٢٠٢٥
تعرّض آلاف الأشخاص للإصابة بإعاقات مختلفة جراء القصف الذي طال قراهم ومدنهم خلال الحرب الممتدة لـ 14 عاماً، لتتغيّر حياتهم بشكل كلي، وتخلق أمامهم عقبات جديدة تُعيقهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، وتترك في داخلهم جرحاً نفسياً عميقاً لخسارتهم جزءاً من جسدهم، ومرورهم بمواقف قاسية في حياتهم اليومية.
من بين أولئك الأشخاص، الشاب يونس الزعبي، الذي فقد في إحدى الليالي كافة أفراد عائلته وبُترت قدمه، جراء قصف طال حي جوبر الذي يعيش فيه، ليصطدم بعد الإصابة بواقع قاسٍ، ويصبح سقف أحلامه أن يحصل على طرف صناعي يُمكّنه من المشي بشكل طبيعي كبقية الناس.
وروى الشاب يونس تفاصيل الحادثة، الواقعة في اليوم الأول من كانون الأول عام 2012، لصحيفة زمان الوصل، فقال إنهم تعرّضوا للقصف بالهاون الساعة السادسة مساءً، فاستشهد والده ووالدته وأخته. قبل التعرض لتلك الكارثة، كانت الأم تُحضّر العشاء، وكان الوالد مريضاً، وكانوا ينتظرون قدوم الأخ الأصغر كي يتناولوا العشاء سوية.
تناول يونس عشاءه ثم نام، ليستيقظ على صوت شقيقه الذي أخبره بأنهم قُصفوا، فصار يزحف لأن بطنه أُصيب وقدمه أيضاً، ولم يشعر بشيء حينها، وكان وجهه مملوءاً بالتراب. نقله الأهالي بسيارة إلى الهلال الأحمر، ومنه أُسعف إلى مشفى ابن النفيس في مساكن برزة، وهناك أدخلوه إلى غرفة العمليات، وبعد أن استفاق وجد ساقه قد بُترت، ولديه تشوهات بسبب الإصابة.
والآن، جُلُّ ما يتمناه يونس هو تأمين طرف صناعي له، وأن يعتمد على نفسه دون أن يُثقل على أحد، فمن الصعب عليه أن يمشي بهذه الحالة، عدا عن كونه بكلية واحدة ولديه إصابة في بطنه وظهره. وأعرب ذلك الشاب عن أمنيته باستئجار منزل يعيش فيه، خاصةً أنه يقطن حالياً في غرفة بسيطة داخل معمل المنظفات الذي يعمل فيه.
آلاف المصابين في سوريا من الرجال والنساء يعيشون ظروفاً قاسية مشابهة إلى حدٍّ ما لوضع يونس، ولم تتوقف معاناتهم عند الإصابة فقط، بل خسروا أيضاً أفراداً من عائلاتهم، مما ساهم في تعميق المأساة في حياتهم.
ازدادت نسبة الإعاقات في ظل الحرب، وفرضت على أصحابها أعباء إضافية وعقبات يومية، وفي ظل هذا الوضع، فهم بحاجة ماسة إلى دعم من المجتمع المحيط والمؤسسات الحكومية لتلبية متطلباتهم، كي يتجاوزوا محنتهم ويواصلوا حياتهم بشكل طبيعي.
١٣ يوليو ٢٠٢٥
رغم سنوات الحرب والنزوح والخسارات المتتالية، لم يتخلّ آلاف الآباء السوريين عن إيمانهم بحق بناتهم في التعليم، فواجهوا التحديات بلا تردد، وضحّوا بالكثير من أجل أن يروا ابتسامة الفخر على وجوه بناتهم يوم تخرّجهن.
في مشهد بات يتكرر كل عام، تسير الفتيات السوريات في حفلات التخرّج وهنّ يرتدين قبعات العزّ، يحملن شهادات تعبهن، وفي أعينهن بريق الأمل والانتصار. لكن خلف هذه الصورة يقف آباء حملوا العبء، وواجهوا الفقد والفقر، ولم يبخلوا بالجهد أو المال.
تعليم الفتيات... أولوية رغم النزوح
آباء نزحوا من قراهم ومدنهم بعد قصف النظام المخلوع، خسروا منازلهم وأراضيهم، وتغيرت حياتهم من الاعتماد على الأرض إلى البحث عن عمل يومي في مناطق النزوح، لكنهم لم يترددوا في الاستمرار بدعم تعليم بناتهم، رغم الفقر والعوز.
بعضهم باع ممتلكاته، آخرون استدانوا، أو عملوا في مهن شاقة مقابل أجر زهيد، فقط ليضمنوا أن لا تقف الظروف في وجه مستقبل بناتهم. فقد كان همّهم الأول: أن يَرَين بناتهم على مقاعد الدراسة، لا خلف الجدران.
"قالوا لهم إن تعليم البنات لا يُجدي.. لكنهم لم يستسلموا"
روت العديد من الفتيات أن آباءهن سمعوا كثيراً من النصائح بالتخلّي عن فكرة التعليم في ظل الحرب، وأن الفتاة "لن تنفع أهلها"، بل "تتزوج ويذهب جهد تعليمها لبيت زوجها"، لكنّ أولئك الآباء تجاهلوا هذه الأصوات، وواصلوا رسالتهم بعزيمة لا تلين.
في عيونهم، كانت كل شهادة فوزًا شخصيًا، وكل نجاح انتصارًا على الحرب، وكل حلم يتحقق هو صفعة في وجه الدمار.
من قلب الحرب.. إلى قلب الحياة
لم تكن التضحيات مادية فقط. فقد عاش هؤلاء الآباء فواجع فقد الأبناء والأصدقاء والأهل، ومع ذلك ظلوا على موقفهم، يواجهون الحزن بالقوة، ويحثّون بناتهم على الاستمرار. لم يشأ أحدهم أن يرى ابنته تنكسر، فكان هو من يتماسك كي لا تنهار العائلة.
الفتيات اللواتي أنهين دراستهن، اليوم يعملن في المشافي كطبيبات وممرضات، أو في المدارس كمعلمات، أو في الصيدليات، ودوائر الهندسة، والمكاتب الإدارية، وكل ذلك ما كان ليتم لولا عزيمة الآباء ودعمهم المستمر.
شهادة حبّ وصبر
من الميدان، من الخيمة، من الغربة، خرج الآباء السوريون ليكتبوا درساً لا يُنسى في التربية والوفاء. هم لم ينتظروا مقابلاً من بناتهم، ولم يطلبوا عرفاناً، بل اعتبروا نجاح بناتهم هو النجاح الأكبر الذي يستحقه وطنهم الذي يحلمون بعودته من تحت الركام.
وفي بلد يعاني من الجراح والانقسامات، كانت هذه القصص الإنسانية خير دليل على أن الأمل لا يزال حيًا، وأن التضحية لا تموت، وأن من صبر اليوم على الحرب سيحصد غدًا ثمار السلام.
١٢ يوليو ٢٠٢٥
رغم سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، لا تزال آلاف العائلات السورية تعيش على أمل كاذب أو مجهول، بانتظار بصيص خبر عن مصير أبنائها المغيبين قسرًا. عبد اللطيف متعب، والد الشابة المعتقلة منى نسب، هو أحد هؤلاء الآباء الذين أنهكتهم سنوات البحث والاستنزاف، دون أن يجدوا ما يطفئ ألم الانتظار أو يضع نهاية لمأساتهم.
يقول عبد اللطيف في مقطع مصوّر نشرته صحيفة "زمان الوصل"، إن ابنته اعتُقلت منذ سنوات بينما كانت متجهة إلى دمشق برفقة خطيبها، الذي كان يسعى لإتمام معاملة تأجيل الخدمة العسكرية. اتصلت به من "كراجات" العاصمة، وأبلغته أنها في طريق العودة، لكن الاتصال انقطع ولم تعد إلى المنزل.
مرت الساعات وأُغلِق هاتفها، لتبدأ بعدها رحلة طويلة من الأسئلة والإنكار والتضليل. علم الأب لاحقًا من أحد ركاب الحافلة أن ابنته وخطيبها أُنزلا منها عند حاجز يتبع الفرقة الأولى التابعة للنظام المخلوع، إلا أن مسؤولي الفرقة أنكروا وجودها لديهم.
ورغم ذلك، استمرت "إشارات الحياة" تظهر بين الحين والآخر. فقد أكدت مصادر من داخل وزارة الدفاع، بحسب رواية الأب، أن منى لا تزال على قيد الحياة، مستندين إلى عمليات "تفييش أمني" أظهرت اسمها في عدة مرات، كان آخرها عام 2022. هذه المعلومات المضللة فتحت أبواب الاستغلال على مصراعيها، حيث دفع الأب مبالغ طائلة بحثًا عن وسطاء أو محامين يعدونه بسماع صوت ابنته أو المساعدة في الإفراج عنها.
في إحدى المحاولات، لجأ إلى محامية تعمل في شارع بغداد بالعاصمة دمشق، طلبت منه 3.5 ملايين ليرة سورية مقابل وعود برؤية أو سماع صوت ابنته، لكنه لم يجد منها سوى وعود كاذبة. اضطر عبد اللطيف في نهاية المطاف إلى بيع قطعة من أرضه، واستدان أموالًا من الآخرين في سبيل مواصلة رحلة البحث المرهقة، والتي شملت زيارة أماكن احتجاز سرية مثل مساكن الضباط ومراكز الأمن.
ورغم كل المحاولات، لم يصل عبد اللطيف إلى أي نتيجة مؤكدة. يقول بمرارة: "بدنا نعرف إذا كانت عايشة ولا ميتة، وإذا ماتت، بدنا قبر ندفنها فيه".
قضية منى ليست استثناءً، بل تمثل جرحًا جماعيًا في جسد المجتمع السوري، حيث تشير بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن أكثر من 177 ألف شخص لا يزالون في عداد المختفين قسرًا. ورغم انهيار النظام الذي كان السبب الرئيسي في هذه الجريمة الممتدة، لا تزال الحقيقة غائبة، والمسؤولون عن هذه الانتهاكات بعيدون عن المحاسبة.
ومع كل وقفة احتجاجية تنظمها عائلات المفقودين، يرتفع الصوت نفسه: "لن نسامح، ولن نصمت"، مؤكدين أن العدالة هي الطريق الوحيد لإنصاف أبنائهم، وأن الغياب لا يجب أن يتحوّل إلى نسيان، ولا إلى عفو مجاني عن الجناة.
٨ يوليو ٢٠٢٥
لا تغيب عن بالي صديقتي ريحانة، كانت فتاة مفعمة بالحيوية حين نزحت من حمص وجاءت إلى قريتنا في عام 2012. كانت حزينةً، ومثقلةً بالفقد، بعد أن اضطرت لمغادرة المدينة التي أحبتها وترعرعت فيها. كانت فتاة لطيفة ولها من اسمها نصيب.
بعد عام واحد من نزوحها من حمص، عُقد قرانها على ابن عمها، وكانت فرحتها لا توصف بزواجها من الشخص الذي أحبته. في العام التالي، 2013، هاجرت إلى تركيا هرباً من القصف وأهوال الحرب، وبعد سنة واحدة رُزقت بطفلتها الأولى.
عاشت هناك أكثر من عشر سنوات، لم تستطع خلالها أن تعود، لا زيارة ولا إجازة. قبل وقوع زلزال شباط عام 2023، كانت حاملاً بطفلها الثاني بشهرها التاسع، الذي ظلّت تنتظره سنوات، إذا صادفت مشاكل طبية كانت تمنعها من الحمل خلال السنوات الماضية، جعلتها تنتظر وترتاد المراكز الطبية بشكل دوري.
كانت سعيدة جداً بالحمل الجديد، وكانت كلما اشترت قطعة من ملابس الطفل المرتقب، ترسل لي صورها لتأخذ رأيي. كانت تنتظر لحظة الولادة بفارغ الصبر، تلك اللحظة التي تحتضن فيها طفلها بعد طول انتظار.
وقبل الزلزال بأيامٍ قليلة، كنا نتواصل كالمعتاد. كانت متحمسة، مشعة بالأمل، فرِحةً بالطفل الذي طال انتظاره. ثم جاء اليوم المشؤوم، في السادس من شباط عام 2023، ضرب زلزالٌ مدمّر سوريا وتركيا. كان يوماً مرعباً، ضاعت أخبار العائلات في مناطق من سوريا وتركيا.
انهار المبنى الذي كانت تسكن فيه ريحانة في كهرمان مرعش. نجا زوجها ووالد زوجها من تحت الأنقاض، لكن ريحانة وحماتها، بقين عالقات تحت الركام. ثلاثة أيامٍ كاملة، 72 ساعة من الصمت، لا خبر ولا صوت. حاولتُ التواصل مع أهلها في سوريا، لكنهم كانوا قد بدأوا يفقدون الأمل، فالوقت يمضي، والنفَس مقطوع، وكل من يُنتشل بعد هذه المدة يكون غالباً قد فارق الحياة.
وفي اليوم الثالث، أخرجوها من تحت الأنقاض، كانت ريحانة قد فارقت الحياة، هي وحماتها. وقع الخبر علينا كالصاعقة، أما والدتها، التي لم ترها منذ أكثر من عشر سنوات، فقد كانت في حالٍ يُرثى لها. لم يتحمل قلبها هذا الفقد، وهي التي كانت تحلم باحتضان ابنتها من جديد.
ريحانة، التي طالما خافت من الطيران الحربي، وكانت تمضي أيامها مختبئة في الكهوف التي حفرها الأهالي في أرياف إدلب لاستخدامها كملجأ للاختباء من القصف، رحلت بطريقة لم تخطر ببالها يوماً. هربت من الموت في سوريا، وصبرت في تركيا عقداً من الزمن، لتموت تحت أنقاض زلزال لم نكن نتوقعه، ماتت ريحانة هي ومولودها الذي في بطنها.