تعرفت عائلة سورية على ابنها المفقود، موفق خالد قدور، بعد مرور أكثر من عقد على اختفائه، إثر ظهوره في صورة حملت الرقم 364، ضمن مجموعة ضخمة من صور المعتقلين نشرتها صحيفة "زمان الوصل"، الصور، التي وثّقت معتقلين اعتقلتهم ميليشيا الدفاع الوطني وصوّرتهم.
موفق، كما نقلت الصحيفة عن عائلته، كان في مقتبل العمر حين اعتقلته عناصر تابعة لقوات الدفاع الوطني من منزله. ومنذ ذلك الحين، غاب عن الأنظار كآلاف غيره، وأصبح رقماً في سجل المغيبين. قوات الدفاع الوطني، ميليشيا رديفة للجيش السوري، لعبت دوراً مركزياً في عمليات الخطف والاعتقال والانتهاكات التي رافقت سنوات الحرب، وكانت أداة من أدوات الرعب التي فتكت بالمجتمع السوري.
لحظة غدر مفاجئة لا تعرف الرحمة غيّرت مصير ذلك الشباب الذي كان يعيش حياته بشكل طبيعي، ولديه عائلة وأصدقاء ومحبين، بلحظة اختطفته قوات الأسد المجرم وزجت به في السجن وجعلته يعيش صوراً من الجحيم.
عشرات الآلاف من الشباب لاقوا مصير موفق في بلد مزّقته حرب لا ترحم، وحكمت عليهم بأن يعيشوا لعنة المعتقل، وأن تختفي حياتهم فجأة، من دون مقدمات، فقط لأنهم كانوا في المكان الخطأ أو قالوا الكلمة الخطأ أو لأن اسمهم ورد على ورقة في يد عنصر لا يعرف الرحمة.
ضاعت السبل بعائلات السورية وهي تبحث عن مصير أبنائها. ما من إجراء إلا وقامت به في محاولات يائسة لالتقاط أثر. سنوات مرّت ولا شيء سوى الانتظار والوجع والرجاء. ثم تأتي صورة، أو فيديو، أو وثيقة مسرّبة، فتسقط العائلة بين وجعين: هل تفرح لأنها عرفت مصير فقيدها؟ أم تحزن لأنها فقدت معه آخر خيط أمل بأنه حي؟
لا توجد كلمات تصف حجم هذه الفاجعة. ليست مجرد حالات فردية. إنها جريمة ممنهجة. إنها سياسة اقتلاع كاملة لجيل كامل من السوريين، شباباً كانوا في مقتبل أحلامهم، اقتيدوا قسراً إلى السجون، حيث عاشوا صنوف العذاب، وربما ماتوا دون أن يلفظوا وداعهم الأخير.
ولم تكن لعنة المعتقل مقتصرة على من دخله. بل امتدت كجنازات مؤجلة لعائلات بأكملها. جراح لا تندمل، أسئلة لا تنتهي، ونهايات لا تُكتب بكرامة. في سوريا، حيث كل شيء تغيّر، يبقى المعتقلون هم الحقيقة الثابتة التي لا يمكن أن ينساها الشعب، مهما صمت العالم.
في بلدٍ تحوّلت فيه المقابر الجماعية إلى محطات للأمل واليأس، وفي وطنٍ صار الوداع فيه ترفاً لا يُمنح، تقف آلاف الأمهات السوريات على عتبة الانتظار، معلّقات بين الشك واليقين، بين الألم والرجاء، بين الموت والحياة.
تحكي إحدى الناشطات قصة والدتها التي، رغم مرور اثني عشر عاماً على استشهاد ابنها أحمد في ريف حمص، لا تزال تبحث عنه، حيّاً كان أم ميتاً. ورغم وجود مقطع فيديو يُظهره بعد استشهاده، محاطاً برفاقه الذين مزّقت أجسادهم آلة الحرب، لم تقتنع الأم حتى اليوم أن ابنها قد مات فعلاً. وعندما أُعلن عن تحرير سجن صيدنايا، سارعت تطلب من أحد الأقرباء الذهاب إلى هناك، علّه يكون من بين الناجين. ذلك رغم يقين الجميع أن أحمد قد استُشهد منذ زمن طويل.
تقول الناشطة: "من يستطيع إقناع أمّ أن ابنها قد مات، إن لم تتمكن من توديعه، ولم تمشط شعره بيديها قبل أن تدفنه؟ وتضيف: "حين رأيتُ صورة لمقبرة جماعية اكتُشفت في ريف حماة، وجدت نفسي أبحث بين الأحذية، لعلّي أجد حذاء أحمد بينها. عندها فقط أدركت أن ما كانت تفكر أمي لم يكن إلا وجعاً لم أختبره بعد. أدركت أن القصة لا تتعلق بالعقل، بل بالقهر الذي استوطن قلوبنا منذ أن فقدنا أبناءنا دون أن ندفنهم".
هذا الشعور ليس فردياً. إنه وجعٌ جماعي تعيشه كل أم فقدت ابنها في المعتقلات أو على جبهات القتال أو في القصف أو تحت التعذيب. أمهات لم يُسلَّم لهن جثمان، ولم يُسمح لهن بوداع، ولم يُكتب لهن أن يدفنّ أبناءهن في قبر معروف. كل مقبرة مكتشفة تعيد فتح الجرح. كل صورة، كل خبر عن "معتقل سابق أُفرج عنه" يُعيد لهن الأمل، رغم أنهن يعرفن في أعماقهن أن من رحل قد رحل، لكن القلوب تأبى أن تُسلّم.
لا يمكن لعقل أن يستوعب كمّ الألم الذي يعيشه ذوو المفقودين والمغيبين. إنهم يعيشون في حلقة مفرغة من الحزن غير المكتمل. لا بكاءهم يهدأ، ولا دموعهم تجف، لأن الحكاية بلا نهاية. لأن الحزن بلا قبر. لأن الموت بلا جنازة.
والأدهى من ذلك، أن هذا الألم لا يُقدَّر سياسياً، ولا يُعترف به قانونياً، وكأن معاناة الأمهات ليست جزءاً من القضية. في حين أن العدالة الحقيقية لا تكتمل إلا عندما تُفتح ملفات المغيبين والمختفين قسراً، عندما يُعثر على قبورهم، ويُسلّم رفاتهم لذويهم، وتُعطى الأمهات حقهن في الحزن والوداع والدفن والصلاة.
أحمد ليس حالة فردية، بل رمز لعشرات الآلاف من الشهداء والمغيبين الذين لم يُعرف لهم قبر، ولم تُذكر لهم جنازة. وأمه هي صورة مصغّرة لآلاف الأمهات اللواتي يعيشن على حافة الانهيار، تُنهكهن أسئلة بلا أجوبة، وذكريات بلا جسد.
في سوريا، لا يُطلب من الأمهات أن يتجاوزن الحزن، بل يُطلب منهن أن يتجاوزن غياب الحقيقة، أن يسلّمن بفقد دون جثمان، أن يبكين دون قبر، وهذا ما لا يُحتمل.
مع اقتراب المواسم الصيفية، تتأهب النسوة في الأرياف السورية للعمل في مختلف الأنشطة الزراعية التي تزداد كثافتها في هذا الوقت من السنة، من قطاف الفواكه والخضار إلى تنقية الأعشاب والحصاد، وسط هؤلاء العاملات، تبرز مشاهد لفتيات صغيرات، تتراوح أعمارهن ما بين 13 و18 عاماً، يشاركن في هذا العمل الشاق، في ظاهرة أصبحت مألوفة في العديد من المناطق الريفية السورية.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على الأسباب التي تدفع الفتيات في سن مبكرة إلى الانخراط في أعمال زراعية شاقة، مستندين في ذلك إلى شهادات جمعناها خلال بحثنا الميداني، كما نتناول التداعيات النفسية والتعليمية والصحية التي تتركها هذه التجربة على حياتهن.
سوء الظروف الاقتصادية
تندرج أغلب أسباب الفتيات تحت إطار الفقر والحاجة الماسة للمال، فالعديد من الأسر الريفية في سوريا عانت من ظروف اقتصادية قاسية، تفاقمت نتيجة سنوات الحرب، وتردي الوضع المعيشي، وغياب المعيل في بعض الحالات بسبب النزوح، الاعتقال، أو الوفاة.
هذه الضغوط تجبر العائلات إلى الدفع ببناتهن إلى سوق العمل الزراعي كوسيلة للبقاء. في كثير من الأحيان، لا يكون أمام الفتيات خيار سوى الانخراط في العمل لمساعدة الأسرة في تأمين لقمة العيش.
طبيعة الأعمال والأجور
تتنوع المهام التي تؤديها الفتيات بحسب الموسم، حيث يعملن في قطاف المشمش، الكرز، التين، والعنب، الفستق الحلبي، وغيرها من المواسم التي تُزرع في سوريا، أو في تنظيف الأراضي الزراعية من الأعشاب، أو الحصاد كحصا الحمص والعدس والكزبرة والكمون وغيرها.
وهذه الأعمال تتطلب مجهوداً بدنياً كبيراً تحت أشعة الشمس الحارقة ولساعات طويلة. وموسم الأعمال الزراعية ليس مرتبطاً بالصيف فقط، هناك أنشطة زراعية في فصول أخرى مثل قطاف الزيتون وجمع ثماره في الفترة ما بين تشرين الأول وكانون الثاني، وغيرها.
أما الأجور، فهي متدنية مقارنة بحجم الجهد والتعب الذي تبذله الفتيات، كما تختلف من منطقة إلى أخرى، بل ومن مزرعة لأخرى أحياناً. ففي شمال غربي سوريا، تُدفع الأجور غالباً بالليرة التركية، بينما تُدفع في الأرياف الأخرى بالليرة السورية.
وغالباً ما يتم استغلال حاجة الفتيات الماسّة للمال لفرض ساعات عمل طويلة، دون أي شكل من أشكال التأمين الصحي أو الضمانات القانونية. وفي حال تعرضت إحداهن لإصابة أو مرض ناتج عن العمل، لا تحصل على أي تعويض، لأن العمل يتم عادة لدى أصحاب أراضٍ خاصين، وليس ضمن إطار رسمي أو حكومي يوفر الحماية أو الحقوق.
تداعيات نفسية وصحية وتعليمية
أثر هذا العمل المبكر على الفتيات يتعدى الجسد ليطال النفس والعقل. من الناحية الصحية، يسبب العمل الزراعي المستمر في هذا السن مشاكل صحية مثل آلاماً في الظهر والمفاصل، فضلاً عن تعرضهن لأمراض جلدية أو ضربات شمس بسبب طول التعرض للعوامل الجوية. أما نفسياً، فالكثير منهن يشعرن بالإرهاق، الانعزال، وفقدان الأمل، إذ يُجبرن على تحمل أعباء تفوق أعمارهن.
تعليمياً، يتسبب العمل المتواصل خلال الصيف وأحياناً خلال العام الدراسي بانقطاع الكثير من الفتيات عن المدرسة. بعضهن يغادرن مقاعد الدراسة بشكل نهائي، ما يحد من مستقبلهن وفرص تمكينهن لاحقاً. التعليم، بالنسبة لهؤلاء، يتحول إلى رفاهية يصعب الوصول إليها وسط متطلبات البقاء اليومي.
قضية عمل الفتيات القاصرات في الزراعة ليست فقط مسألة اقتصادية، بل هي أزمة حقوقية وتنموية. هي انعكاس مباشر لتردي الأوضاع العامة، وغياب سياسات الحماية الاجتماعية، والتوعية بأهمية التعليم. لا بد من جهود مشتركة، من منظمات المجتمع المدني والسلطات المحلية والدولية، للحد من هذه الظاهرة، عبر تقديم بدائل اقتصادية للأسر، وبرامج دعم تعليمية ونفسية للفتيات، لأن أي مجتمع لا يحمي طفولته، إنما يهدد مستقبله بأكمله.
وسط معاناة أسر المفقودين، وأصواتهم التي لا تهدأ مطالبةً بكشف مصير أبنائهم، تبرز قصة أب سوري انقطعت أخباره عن ابنته بعد أن اعتُقلت على حاجز الكابلات. في مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يقول الأب: "لا أبحث عن تعويض... أريد فقط أن أعرف مصير ابنتي."
ابنته، التي لم تتجاوز الثامنة عشرة، كانت تحمل طفلتها الصغيرة عندما اعتُقلت على حاجز الكابلات. ومنذ ذلك اليوم، انقطعت أخبارها كلياً. وكل ما تبقى للعائلة هو الانتظار القاتل، والصور الباهتة، وذكريات لا تنطفئ. لم تتوقف معاناته عند هذا الحد. فبعد الاعتقال، لا سيما أنه تعرض لـ الابتزاز على يد السماسرة، الذين تاجروا بآلامه مدّعين القدرة على تحرير ابنته.
وأشار الأب بحزم إلى أن معرفة مصير المفقودين يجب أن تبدأ من رؤساء الأفرع الأمنية، والأشخاص الذين خدموا على الحواجز خلال فترة حكم النظام البائد.
مرّت ستة أشهر على سقوط المجرم بشار الأسد، ورغم ذلك لا تزال معاناة أهالي المفقودين مستمرة. في البداية، ظن الكثير من الأهالي أن الأسد نفسه هو العقبة الوحيدة أمام معرفة مصير أبنائهم، لكنهم فوجئوا بعد فراره في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بأن عشرات الآلاف من المعتقلين ما زالوا في عداد المفقودين، ولم يُعثر لهم على أثر حتى بعد فتح السجون.
لقد تعمّد الأسد المخلوع إذلال معارضيه بأبشع الوسائل، فلم يكتفِ باعتقالهم وتعذيبهم تحت ظروف صحية ونفسية وإنسانية مأساوية، بل أخفى مصيرهم عن ذويهم، كنوع من الانتقام المستمر.
واليوم، تعيش آلاف العائلات السورية على قيد الانتظار، تتشبث بأمل معرفة مصير أبنائها:هل هم أحياء؟ وإن ماتوا، أين دُفنوا؟ وما مصير الأطفال الذين اعتُقلوا معهم؟ وغيرها من الأسئلة الموجعة التي تُثقل قلوب الأمهات والآباء، ولا جواب.
في مواجهة هذا الصمت القاتل، انطلقت مبادرات كثيرة تطالب بكشف مصير المعتقلين، مثل خيمة الحقيقة وبعض المؤتمرات والوقفات الاحتجاجية. رُفعت صور المختفيين في الشوارع، وعلت أصوات أهاليهم بلافتات ومناشدات، وما تزال القصص الجديدة تُروى كل يوم، ومناشدات أخرى تُطلق، في رحلة البحث المستمرة عن الحقيقة والعدالة.
بعد سنوات طويلة من التهجير القسري والنزوح، بدأ عدد من السوريين بالعودة إلى قراهم ومدنهم، حاملين آمالاً في استعادة حياتهم وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب. لكن الواقع الذي واجههم كان أقسى من توقعاتهم، فغالبية المنازل والمباني السكنية تعرضت للدمار الكامل جراء القصف المستمر وعمليات التخريب التي قامت بها قوات النظام البائد، مما دفعهم إلى اتخاذ خيار العيش في خيام مؤقتة فوق الأنقاض.
الظروف الاقتصادية والمعيشية: عبء يفوق الطاقات
العودة إلى قراهم لم تكن بداية حياة جديدة كما حلموا، بل كانت بداية معاناة جديدة بسبب الواقع الاقتصادي المرير. العائلات التي قضت سنوات النزوح في ظروف قاسية، فقدت مصادر دخلها تماماً، وعادت منهكة مالياً، بلا عمل أو مصدر دخل ثابت. ووسط غياب فرص العمل وارتفاع أسعار المواد الأساسية، بات توفير أبسط مستلزمات الحياة تحدياً كبيراً.
إعادة بناء المنازل في ظل هذا الواقع المادي الصعب أصبح حلماً بعيد المنال. فالترميم يحتاج إلى تأمين مواد البناء مثل الأسمنت والحديد والأحجار، وكذلك تكاليف أجور العمالة، وكل ذلك يتطلب مالاً لا يملكه معظم السكان. لذلك، اضطر الكثير منهم إلى البقاء في خيام مؤقتة توفر لهم الحماية الحد الأدنى فقط، بعيداً عن الأمان والراحة التي توفرها المنازل السليمة.
القطاع الزراعي: من مصدر رزق إلى كابوس مستمر
الأمل الوحيد لأغلب العائدون هو الزراعة، بأن يزرعوا أراضيهم ويبنون بيوتهم من ثمن المحاصيل التي سوف يجنونها، فالأراضي الزراعية ومختلف أنواع الأشجار من زيتون وتين وفستق حلبي وغيره، كان المصدر الأساسي لرزق كثير من العائلات. وكانوا يعتمدون عليها كجزء من دخلها اليومي، إلا أنها تعرضت للقطع أو التلف خلال سنوات النزوح. كما أن سنوات الحرب والمناخ غير المستقر، ونقص الموارد المائية والزراعية، أدت إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل حاد لهذا العام.
وذلك سوف يؤثّر سلبًا على الدخل المادي ويساهم في عدم الاستقرار الاقتصادي، مما يجعل من الصعب عليهم استثمار أراضيهم أو الاعتماد على الزراعة كمصدر أساسي للعيش، مما يزيد من تعقيد أزمة إعادة الإعمار والعودة إلى الحياة الطبيعية.
المبادرات والدعم: جهود قليلة وسط دمار واسع
رغم هذه التحديات الكبيرة، حاولت بعض المنظمات المحلية والدولية إطلاق مبادرات لدعم الأهالي في إعادة بناء منازلهم وتحسين ظروفهم المعيشية. فمثلاً، أطلقت منظمة "شفق" مشاريع لترميم المئات من المنازل في مناطق أخرى مثل عنجارة بريف حلب وتل مرديخ في ريف إدلب، لكنها جهود لا تكفي أمام حجم الدمار الهائل في مناطق كثيرة مثل قرية الحويجة.
الحاجة إلى دعم أكبر وأشمل من المنظمات والجهات المانحة باتت ملحة، لأن التحديات الاقتصادية، وضعف البنية التحتية، وغياب الخدمات الأساسية، تضع السكان في مواجهة مستمرة مع الواقع القاسي. عودة النازحين إلى منازلهم تحتاج إلى دعم مادي وتقني شامل يمكنهم من بناء حياة مستقرة وكريمة.
يعاني ناجون من الاعتقال من ذكريات مؤلمة لما حصل معهم خلال سجنهم، تجعلهم يصرون على طلب حقهم بمحاسبة كل من تسبب بمأساتهم، ومنهم السيدة ندى، ناجية سورية تعرضت للتعذيب في أقبية النظام البائد عام 2011، بتهمة "التعاطف مع العدو". في حين أنها كانت تساعد للأهالي خلال بداية الثورة السورية، من خلال تقديم الطعام، والدواء، والملابس، كما ورد في صحيفة Fædrelandsvennen.
وذكرت الصحيفة أن ندى كانت تقيم مع 14 امرأة أخرى داخل زنزانة لا تتجاوز 6 أمتار، والتي فيها بدأت رحلتها مع التعذيب الوحشي والذي تمثل بـ اقتلاع الأظافر، الصعق بالكهرباء، الضرب، الاغتصاب، والإذلال. ولا تنسى ندى صرخات النساء في الزنازين المجاورة وهن يتعرضن للتعذيب، جثث المعتقلات المرمية على الأرض لأيام، وغيرها من الصور المرعبة والمؤلمة.
استخدم نظام المجرم بشار الأسد أشد أنواع التعذيب مع المعتقلين والمعتقلات انتقاماً من مواقفهم المعارضة التي اتخذوها ضده مع انطلاق الثورة السورية في شهر آذار /مارس عام 2011. وذلك ما أكدته شهادات ناجييين من السجن في حين لم يحالف الحظ لعشرات الآلاف من المعتقلين ومات أغلبهم تحت التعذيب. وهذه الحقيقة التي اصطدم بها ذويهم عند فتح السجون وعدم العثور عليهم.
ندى كانت من بين الذين نجوا، فهربت إلى تركيا، ثم إلى النرويج أواخر عام 2015، لكن لم تفارقها ذكريات الاحتجاز القسري وسوء ظروفه. ثم قررت أن تتحدث عن تجربتها من خلال فيلم وثائقي حمل عنوان "الناجون"، والذي تضمنَّ أيضاً شهادات مرعبة عاشها لاجئون نجوا من أبشع الانتهاكات.
وقررت ندى إخفاء هويتها وحمل اسم مستعار "ميرا". لكن بعد انتهاء التصوير، تغيرت الأوضاع كلياً في سوريا. ولم يعد هناك سبباً يجعلها خائفة من إظهار وجهها، ولا من الكلام، ولا حتى من الاتهام. خرجت اليوم ندى بوجهها واسمها الحقيقي لتقول:"لا أسامح. ولو رأيت من عذبني، لقتلته. حتى لو عوقبت، لا بأس... سأبقى أروي، لأننا إن صمتنا، سيحدث هذا من جديد".
لم تستسلم ندى، مثلها مثل غيرها من الناجيات، لما حصل معها في المعتقل، بل أصرت على إكمال حياتها بشكل طبيعي وتجاوز ماحصل. والآن، تريد ندى أن تساعد أخريات من السوريات اللواتي فقدن أزواجهن وأطفالهن، عبر مشاريع صغيرة مثل شراء آلات خياطة تمنحهن فرصة للحياة.
ويصرُّ الشعب السوري بما فيه الناجون من الاعتقال، ذوي المعتقلين والشهداء وكل من تضرر بفعل جرائم النظام المخلوع على محاسبة الأسد الجلاد وكل من ساعده ودعمه خلال ممارسات الإجرام التي ارتكبها ضدهم لمجرد المطالبة بالحرية وحقوقهم التي يستحقونها كمواطنين في البلاد.
اضطرت العديد من النساء في مناطق سورية خلال سنوات الحرب إلى دخول سوق العمل بطرق غير تقليدية، منها بيع البضائع عبر التجول بين المنازل والمباني السكنية. فرضت ظروف الحرب القاسية واقعاً صعباً على العائلات، وأجبرت الكثير من النساء على الاعتماد على أنفسهن لتحقيق دخل مادي يساعد في تأمين الاحتياجات الأساسية، والسعي نحو الاستقلال الاقتصادي.
يُعرف هذا النوع من العاملات باسم "مندوبات مبيعات" أو ببساطة "بائعات متجولات"، ويأخذ عملهن أشكالًا متعددة؛ فبعضهن يعملن ضمن شركات أو محلات تجارية، مقابل نسبة من الأرباح أو راتب شهري ثابت، في حين تعمل أخريات بشكل مستقل، فيتحملن وحدهن الأرباح أو الخسائر، وقد يكتفين بالحفاظ على رأس المال فقط.
المنتجات التي تُباع عادة تشمل مستحضرات التجميل، العطور، المكياج، الملابس النسائية، الإكسسوارات، المستلزمات المنزلية، وأحياناً أدوات المطبخ، وهي سلع يكثر الطلب عليها من قبل الأسر. وتفضل العديد من الزبونات الشراء من البائعات المتجولات لأنه يوفر عليهن عناء الذهاب إلى الأسواق، خصوصاً في ظل الانشغالات التي من الممكن أن تواجهها السيدة.
هذا النوع من العمل يتطلب مهارات خاصة، أبرزها القدرة على الإقناع واللباقة في الحديث، حيث تسعى المندوبة إلى شرح مزايا المنتجات وإقناع الزبونة بشراء المزيد من القطع، مستخدمة كلمات مجاملة ولطيفة، تساهم في كسب ود الزبونة وتحفيزها على الشراء.
الحاجة أولاً... ثم تأتي الصعوبات
الدافع الرئيسي لمعظم النساء للعمل كبائعات متجولات هو الحاجة، إذ تُعد الظروف الاقتصادية الصعبة، وغياب المعيل، وقلة فرص العمل، أبرز الأسباب التي تدفعهن لهذا النوع من المهن. كثير من النساء أكدن في شهادات جمعناها أنهن لا يجدن بديلاً يوفر دخلاً ثابتاً، وبعضهن لم يحصلن على فرص تعليم تؤهلهن لوظائف أخرى.
رغم صعوبة العمل، إلا أن بعض النساء يجدن فيه جانباً من المتعة، خاصة عندما يكنّ برفقة صديقات أو قريبات، مما يخفف من وطأة الروتين اليومي ويجعل من التجول تجربة أقل ثقلاً وأكثر حيوية.
تحديات العمل الميداني
يواجه هذا العمل اليومي العديد من التحديات، أبرزها الإرهاق الجسدي الناتج عن التنقل المستمر من مكان إلى آخر، وحمل البضائع الثقيلة. كما تعاني بعض البائعات من مواقف محرجة عند رفض سيدات لاستقبالهن بطريقة غير لبقة، بسبب الحذر أو عدم الثقة أو حتى اعتراض الأزواج على وجودهن في المنزل.
العمل تحت درجات حرارة مرتفعة في الصيف أو برد قارس في الشتاء يسبب مشاكل صحية للبائعات، ويزيد من صعوبة دوامهن على المهنة. وإلى جانب الظروف المناخية، هناك أيضاً نظرة دونية من بعض أفراد المجتمع، حيث تتعرض البائعات لتعليقات جارحة وانتقادات قاسية، متجاهلة دوافعهن الحقيقية للعمل.
واحدة من أخطر التحديات التي تواجه البائعات هي احتمالية التعرض للسرقة، إذ تقع مسؤولية تعويض البضائع المسروقة على البائعة نفسها، ما يزيد من العبء المالي ويجعل المهمة محفوفة بالمخاطر.
واليوم، بعد أن تحررت البلاد من حكم المجرم بشار الأسد، يأمل الأهالي أن تبدأ مرحلة جديدة تعطيهم حقوقهم التي يستحقونها. تتطلع النساء، كما الرجال، إلى واقع أفضل يضمن فرص عمل كريمة للشباب والشابات، ويمنح الجميع حق العيش بكرامة دون اضطرار للبحث عن لقمة العيش في ظروف قاسية ومهينة.
في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2024، طُويت صفحة مظلمة من تاريخ سوريا بهروب بشار الأسد وعائلته إلى موسكو، بعد سنوات من القمع والدمار والقتل، ومع هذا الحدث المفصلي، بدأ السوريون بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها قسراً، هرباً من الموت والاعتقال، وعادت الحياة إلى الطرقات، لكنها لم تعد كما كانت، بل وسط ركام وأنقاض تروي فصولاً دامية من القهر والتدمير الممنهج.
فما إن وطئت أقدام الأهالي أرضهم حتى اصطدموا بواقع موجع: بيوت مهدّمة، شوارع خاوية، وممتلكات منهوبة أو محترقة. كان المشهد صادماً، لا يمتّ بصلة إلى ما احتفظت به الذاكرة من صور وذكريات. تلك البلدات والقرى التي كانت تنبض بالحياة والطمأنينة تحوّلت إلى رماد.
"عدتُ إلى بيتي بعد ست سنوات من النزوح، فلم أجد سوى الركام... حتى الباب سُرق، لكنني قلت في نفسي: من هنا سأبدأ من جديد"، يقول أبو حسام عندما كان يجلس قرب خيمة نصبها فوق أنقاض منزله في ريف حماة.
قبل الحرب، كانت هذه القرى والمدن عامرة بالأهل والأحبة، مليئة بالحركة والمواسم والاحتفالات. لكل منزل قصة، ولكل زاوية ذكرى. يتذكّر الأهالي الأسواق في الأعياد، أصوات المآذن وقت الغروب، وروائح الخبز الطازج التي تعبق في الصباح. لم يتخيّل أحد أن طلب الحرية سيقود إلى كل هذا الخراب.
تسرد سلمى، من ريف إدلب، وهي تتفقد بقايا منزلها الذي دُمّر كليا: "كان في بيتنا شجرة تين زرعها والدي بيده، وكنت أتنافس مع أختي لقطف أولى الثمار في كل موسم... عدت اليوم فلم أجد لا الشجرة ولا البيت، ولكن رائحة الأرض لا تزال كما هي".
إلى جانب هذه الذكريات الجميلة، لا تغيب عن الذاكرة صور الرعب التي عاشها الناس خلال الحرب. القصف العشوائي، البراميل المتفجّرة، الليالي الطويلة في الأقبية، الخوف من الاعتقال، وانقطاع الأخبار عن الأحبة. كل ذلك ترك أثراً عميقاً في النفوس.
تقول أم باسل، عادت مؤخراً إلى قريتها في ريف حلب، والتي فقدت زوجها وأحد أبنائها تحت القصف: "في إحدى الليالي كنا مختبئين في القبو، وأنا أضم أولادي الأربعة إلى صدري. وقع الانفجار قريباً جداً، حتى شعرنا أن الموت قد حلّ علينا. لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة ما حييت".
ورغم فداحة الفاجعة، لم يستسلم الأهالي. بل شرع كل منهم في محاولة ترتيب حياته من جديد، وفق الإمكانات المتاحة. البعض أقام خياماً على أنقاض منزله، وآخرون بدأوا بترميم غرفة صغيرة أو حائط قائم، والبعض الآخر أعاد فتح محله وسط الخراب، كأنما يقول للحياة: نحن هنا باقون.
"لن يعيد إعمار بلادنا أحدٌ سوانا، وإن بقينا ننتظر فسوف يضيع كل شيء. بدأت مع شقيقي بتنظيف الحي، ونحاول إعادة المياه، شيئاً فشيئاً سنعود إلى الحياة" هكذا علق سامي، شاب عاد من لبنان إلى كفرنبل مدينته.
الدمار لم يلغِ انتمائهم، ولم تُضعفهم سنوات النزوح والتشريد. ومع توافر الأدلة والوثائق التي تثبت حجم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام البائد، يصرّ الأهالي على أن المحاسبة أمر لا بد منه، ليس انتقاماً، بل إحقاقاً للحق، ومنعا لتكرار المأساة. تقول أم مازن، التي فقدت زوجها وابنها تحت القصف، وعادت لتسكن خيمة فوق منزلها المهدّم: "ما حدث لنا لا يمكن السكوت عنه... نريد أن نعرف من دمّر، ومن قتل، ومن يجب أن يُحاسب".
إن عودة السوريين اليوم ليست مجرد حركة سكانية، بل فعل صمود ومقاومة. إنهم يعيدون بناء ذاكرتهم من بين الأنقاض، ويسترجعون أرضهم التي وُلدوا وعاشوا فيها. سوريا لم تُخلق لتبقى تحت الركام، وشعبها لم يُقدّر له أن يُنسى أو يُقصى. من قلب المحنة تولد الإرادة، ومن وسط الركام ينهض الأمل. وسوريا، أخيراً، بدأت تخطو طريق العودة، خطوة خطوة.
في بيتٍ ريفي متواضع في جنوب إدلب، عاد أصحابه منذ أسابيع قليلة بعد سنوات من النزوح الطويل، بدأت الحياة تدبّ من جديد مع اقتراب عيد الأضحى. في مطبخ أم علاء، اجتمعت أربع نسوة يشاركنها تحضير معمول العيد.
أم علاء تقف أمام فرن الغاز، تراقب صواني المعمول وهي تستوي ببطء، تضبط الحرارة بحذر، بينما أم سامي تصف القطع الجاهزة في الأواني المعدنية بدقة متناهية. وعلى الطاولة الخشبية، تجلس أم علي وأم مازن، يقطّعان العجينة الطرية ويحشيانها بالتمر قبل أن يضغطاها داخل القوالب.
في زاوية الغرفة، يجلس الأطفال على الحصيرة، يرقبون المشهد بعيون لامعة وابتسامات مترقبة، بانتظار أول قطعة ساخنة تخرج من الفرن. تملأ المكان رائحة الهيل والسمن، وتمتزج أصوات ضحكات النساء بأزيز الفرن، فتبدأ بذلك التحضيرات التي لا تخص العجينة فقط، بل العيد كله.
العيد هذا العام مختلف، فهو يحمل فرحة العودة إلى الديار بعد سنوات من النزوح والسفر. عادت العائلات إلى قراها ومدنها، وامتلأت البيوت من جديد بالأهل والأحباب، بعد غياب طويل فرضته الحرب وسقوط الطاغية. هذه العودة أعادت للحياة رونقها، وجعلت العيد أكثر بهجة.
في مكان آخر من سوريا، في إحدى قرى ريف حماة، يمشي أبو ياسر في حارته القديمة ببط. تفوح في الأجواء رائحة الكعك المخبوز في بيوت الجيران، فتعود به الذكريات إلى أيام ما قبل النزوح، حين كانت أمه تخبز الكعك صباح العيد وتعطيه أول قطعة ساخنة. اليوم، تحمل الرائحة ذاتها مشاعر النجاة والحمد، وشعوراً عميقاً بأن الحلم الذي كان بعيدًا صار واقعاً يُعاش من جديد.
لا تقتصر التحضيرات حالياً على الحلويات كالعك والبرازق والأصابع المحشوة بالتمر وغيرها فقط، بل تشمل شراء الملابس الجديدة للأطفال، وتنظيف المنزل وترتيبه وتزيينه بلمسات خاصة تملأ البيت دفئاً وحياة. وتشهد هذه الأيام صوراً جميلة من التعاون ما بين الجارات والصديقات والأخوات، يساعدن بعضهن البعض في الخبز، وتنظيف البيوت، وتبادل القوالب والمكونات، لتتحول هذه الطقوس إلى لحظات من الفرح الجماعي والتكافل.
تتجلى بهجة العيد هذه السنة في كل زاوية من بيوت القرى والمدن التي عادت تنبض بالحياة، حيث تتلاقى الأحاديث والضحكات بعد سنوات من الغياب والفراق. الأجواء مليئة بالأمل والتفاؤل، فالناس يستقبلون العيد بقلوب مفتوحة وأعين تلمع بالحياة من جديد.
والفرحة الأكبر تكمن في أن هذا العيد يُحتفل به داخل البيوت التي عاد أصحابها إليها أخيراً، فالأطفال يفرحون بالحلوى التي تُعد لهم بعناية، ويشعرون بأن العيد قد حلّ حقاً عندما يرتدون ثيابهم الجديدة ويجتمعون مع أهلهم وأحبائهم. في هذه اللحظات، تكون طقوس العيد ليست فقط تقليداً، بل انتصاراً للحياة بعد سنوات من الألم والفرقة.
في المجتمعات الشرقية، لا تزال النظرة إلى المرأة المُعاقة أو التي تعاني من عيب خلقي مشبعة بالأحكام المسبقة، والنظرات الدونية، والتمييز، وكأن الجمال والكمال الجسدي شرط أساسي لتقييم المرأة وإنسانيتها، بل وحتى أهليتها للزواج والحياة الطبيعية. المجتمع السوري ليس استثناءً، بل هو أحد النماذج لهذه التحديات.
تعاني هؤلاء النساء من ثلاثي مؤلم: التنمر، صعوبات الزواج، والضغط النفسي، وكلها تتغذى من ثقافة مجتمعية ترى في العيب الخِلقي أو الإعاقة وصمة، لا مجرد اختلاف جسدي طبيعي. تحت هذه المعاناة تختبئ قصص لنساء قويات، رغم هشاشة الدعم الذي يتلقينه.
قابلنا ثلاث نسوة تجرعن مرارة تداعيات العيب الخلقي، ووافقن على نشر قصصهن لكن بشرط وضع أسماء مستعارة بدلاً من أسمائهن:
أم عبير تنمر لا يموت
تروي أم عبير، التي تعرج في مشيتها، كيف كان المجتمع قاسياً حتى في أكثر اللحظات المفترض أن تكون سعيدة: خطبتها. تقول: "عندما خطبني زوجي، أغلب الناس صاروا يقولون لي كيف ستتزوج واحدة "فصعة"؟ كأن مشيتها أصبحت جريمة تُحاسب عليها، أو عائقاً يُصادر منها الحق في الحب والزواج. ورغم أنها تزوجت وأنجبت وكبرت بناتها، إلا أن تلك الكلمة "الفصعة" بقيت تطاردها. فالعيب الجسدي هنا تحوّل إلى هوية اجتماعية، تختزل إنسانها، وألمها، وحتى علاقتها بأولادها.
المعلمة مرام: "علمي لا يكفي"
مرام، المعلمة المثقفة وذات الأداء الممتاز في مهنتها، لم تشفع لها كل شهاداتها أمام "وحمة" على وجهها. تعلق: "بعض الناس لا يرون علمي وثقافتي، ولا يستمعون إلى شهادات الأطفال بحسن تدريسي، وإنما إلى الوحمة التي في وجهي". وتضيف: "بل الأسوأ من ذلك، أن الوحمة تحولت إلى "خطر وراثي" في عيون حماتها، وعلقت:"كانت أم زوجي تقول لي لا تنظري إلى المرآة وتتوحمي، أخاف أن تنتقل الوحمة لابنتك".
التنمر من الطفولة حتى ما بعد الزواج
منذ طفولتها، لُقبت سناء بـ"العورة"، فقط لأنها حولاء، وهي صفة خلقية لا تُنقص من إنسانيتها شيئًا. تسرد قصتها بنبرة هادئة ويغلب عليها الحزن: "منذ طفولتي تعرضت للتنمر لدرجة لم أعد أرغب بإكمال تعليمي".
هذا الضغط النفسي الهائل كاد يحرمها من مستقبلها، لولا أن القدر أرسل لها رجلاً لم يُشعرها يوماً بالنقص: "تزوجت، والحمد لله زوجي أكرمني، ولا مرة تفوه بكلمة عن هذا الموضوع". لكن رغم الحب والاحترام في بيتها، فإن المجتمع ما زال يحتقرها في كل زاوية:"وإلى الآن أسمع كلمة عورة وأشعر بالإهانة."
منى ذات الحرق
قصة منى تبدأ من عمر السنتين، عندما أُصيبت بحروق في الكتف والظهر بالزيت المغلي. بسبب الفقر، لم تُعالج. كبرت والجروح في جسدها أصبحت حاجزاً اجتماعياً لا يُكسر. تقول:"عندما يتقدم لي شاب، وتصارح أمي أمه بوجود حرق في جسدي، يتراجعون عن الخطبة". وكل ما يُعرض عليها هو دور "الزوجة الثانية"، أو زوج لأرمل أو مطلق ولديه أبناء، مع أنها ما تزال في العشرين من عمرها. وإن حاولت الدفاع عن نفسها، تُنبش جراحها بأقسى الكلمات: "أحياناً عندما يريد أحد أن يستفزني ينعتني بالمحروقة".
المرأة المُعاقة أو صاحبة العيب الخِلقي في مجتمعاتنا ليست بحاجة إلى شفقة، بل إلى عدالة اجتماعية، وإلى احترام إنسانيتها وكرامتها. إن العار الحقيقي لا يكمن في جسد مغاير، بل في عقلية ترفض أن ترى الإنسان ما وراء المظهر. قصة كل من أم عبير، مرام، سناء، ومنى، هي شهادة مؤلمة على الواقع، ورسالة يجب أن تُسمع: التغيير لا يأتي إلا عندما نغيّر نظرتنا نحن أولاً.
في تشرين الأول عام 2012، وبينما كانت سوريا تغرق في دوامة العنف والاعتقالات، توجهت الشابة فاطمة إبراهيم الطوال إلى سجن دير الزور لزيارة شقيقها المعتقل حينها، أحمد إبراهيم الطوال، وفقاً لقصة نشرتها "زمان الوصل"، التي وثقت الحادثة وأكدت أن فاطمة لم تُسمح لها بالمغادرة بعد الزيارة، إذ تم توقيفها على حاجز السجن وترحيلها إلى العاصمة دمشق، وهناك انقطعت أخبارها تماماً.
منذ ذلك اليوم، لم يظهر لها أثر، لا عبر محكمة، ولا عبر زيارة، ولا حتى رسالة مقتضبة. لم توجه لها تهم، ولم يسمح لعائلتها بزيارتها أو الاستفسار عنها في أي مركز أمني. لقد اختفت فاطمة فجأة، بلا أثر.
أسرة مفجوعة بمصير مزدوج
مصير فاطمة كان جزءاً من مأساة أكبر طالت العائلة نفسها. فشقيقاها، أحمد ومحمد إبراهيم الطوال، ظهرت أسماؤهما لاحقاً ضمن قوائم "شهداء التعذيب" في سجن صيدنايا، وهو أحد أكثر السجون السورية وحشية، حيث توثق المنظمات الحقوقية عمليات تصفية جسدية ممنهجة. في بلد تحوّل فيه السجن إلى قدر محتوم، والإفراج إلى معجزة، انتهت حياة الشقيقين داخل الزنازين، بينما بقيت فاطمة بين الحياة والموت، تائهة في سراديب لا يعرفها أحد.
سوريا... بلد تحت حكم الغياب
قصة فاطمة ليست حالة نادرة، بل واحدة من عشرات آلاف القصص التي تمزج الألم بالغموض. ففي سوريا، الاختفاء القسري تحوّل إلى سياسة ممنهجة يستخدمها النظام السوري وأجهزته الأمنية لترهيب المجتمع وإخماد أي صوت معارض.
ثمن الانتظار... من الوقت حتى الصحة والكرامة
قصص المختفين لا تُروى فقط من خلال أرقامهم أو صورهم، بل من خلال ألم العائلات التي استنزفت نفسياً وجسدياً ومادياً بحثاً عن خبر أو معلومة أو بصيص أمل. بعض الأهالي باعوا ممتلكاتهم، ودفعوا المال لمخادعين أو سماسرة بحجة "الحصول على معلومة".
البعض انتظر سنوات وبعضهم انهار نفسياً، وبعض الأمهات رحلن قبل أن يعرفن إن كان أبناؤهن على قيد الحياة أو استشهدوا في أقبية المجرم بشار الأسد. بعد أن تحررت سوريا من رجس الأسد وافتُتحت السجون لم يتم العثور على آلاف المختفيين ليغلب الظن بأنه تم تصفيتهم دون رحمة.
فاطمة الطوال... أيقونة وجعٍ سوري
فاطمة لم تكن ناشطة، ولا صحفية، ولا سياسية. كانت فقط أختاً قررت أن تزور شقيقها المسجون. لكن في سورياالتي كانت محتلة من قبل الديكتاتور، كانت هذه وحدها جريمة كافية لتُغيَّب، ويُبتلع وجودها في ظلام الزنازين. قصتها، كقصة كثيرين، يجب ألا تُنسى، بل يجب أن تبقى حاضرة كصرخة تذكر العالم بأن وراء كل اسم في قاعدة بيانات هناك إنسان له حياة، وعائلة، وأحلام، وانتهى به المطاف مجرد رقم في "ذاكرة الغياب السوري".
في مشهدٍ معقّد خلّفته سنوات الحرب الطويلة في سوريا، لم تكن المرأة السورية مجرّد متلقية للألم أو شاهدة على الخراب، بل كانت فاعلة في ساحات متعددة، تخوض معركة الصمود اليومي، وتشارك في إعادة ترميم ما مزّقته الحرب، بدءاً من التعليم والإغاثة، وصولاً إلى ميادين العمل الخطرة، وأخطرها إزالة مخلفات الحرب والألغام.
ورغم توقّف المعارك العسكرية، فإن ما خلّفته من ذخائر غير منفجرة وألغام مزروعة يواصل حصد الأرواح وتشويه الأجساد، لا سيما مع عودة المدنيين إلى مناطقهم وقراهم بعد التحرير. هذه الذخائر، المنتشرة في الحقول، وبين الأنقاض، وفي المدارس والمخيمات، تحوّلت إلى أدوات قتل صامتة، تفتك بأطفال وسكان عادوا بحثاً عن الحياة.
في هذا السياق، تداول ناشطون على مواقع التواصل صورة للشابة هبة كدع (29 عامًا)، وهي إحدى المتطوعات في مجال إزالة مخلفات الحرب. وقد أثار عملها ردود فعل واسعة، لما يحمله من مخاطر جمّة في ساحة ميدانية غالبًا ما تقتصر على الرجال.
في لقاء لها مع الجزيرة نت، قالت كدع إنها اختارت هذا الطريق بعد أن شاهدت حجم المأساة التي خلفتها الألغام في المناطق المحررة، حيث فقد كثيرون أطرافهم أو أصيبوا بتشوهات، وبعضهم قضى نتيجة ملامسة أجسام مخفية لم يعرفوا أنها قاتلة.
بدأت كدع كمتطوعة في حملات التوعية، قبل أن تلتحق بدورات تدريبية في السلامة والتعامل مع الذخائر المشبوهة، مؤكدة أن هذه ليست مسؤولية ذكورية فقط، بل إن على الجميع، رجالاً ونساء، أن يشاركوا في حماية المجتمع.
وأضافت:"الحرب لا تنتهي بمجرد توقف القتال، بل تبقى آثارها تتربص بالمدنيين، والأخطر أن كثيرًا من هذه المخلفات مزروع بطرق تمويه معقدة، منها ما يبدو كلعبة، أو موضوع داخل أثاث المنازل كالثلاجات والغسالات".
وأكدت كدع أن بعض هذه المخلفات تم توثيقها في مناطق كانت تحت سيطرة النظام السابق، الذي استخدم أساليب متقدمة في إخفاء أدوات القتل، بهدف إطالة أمد الخطر حتى بعد انسحابه.
كما وجهت دعوة للمجتمع الدولي والمنظمات المختصة لتقديم الدعم اللوجستي والتقني لتطهير الأرض السورية من هذه القنابل المؤجلة، محذرة من أن أي تهاون في التعامل معها يعني المزيد من الضحايا.
وختمت حديثها بالتشديد على أهمية عدم لمس أي جسم مجهول، مهما بدا بسيطًا، وضرورة التواصل مع فرق الهندسة المختصة عند الاشتباه بأي مادة خطرة.
إن ما تواجهه سوريا اليوم لم يعد يقتصر على إعادة الإعمار المادي، بل يتطلب جهدًا وطنيًا وإنسانيًا لإزالة آثار الحرب الأشد فتكًا. وتثبت المرأة السورية مرة أخرى أنها ليست في الهامش، بل في قلب الفعل والنجاة والبناء.
إن دخول النساء إلى ميادين كانت حكرًا على الرجال، مثل تفكيك الألغام، يعبّر عن وعي جديد وشجاعة جماعية، تؤسس لمرحلة ما بعد الحرب، حيث تكون المرأة شريكة في القرار، والحماية، والإعمار، وتكمل دورها في معركة البقاء وإعادة الحياة.