تقارير تقارير ميدانية تقارير اقتصادية تقارير خاصة
١٢ يوليو ٢٠٢٥
أب سوري يواصل بحثه عن ابنته المعتقلة منذ سنوات: باع أرضه وواجه الاستغلال... ولا إجابة حتى اليوم

رغم سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، لا تزال آلاف العائلات السورية تعيش على أمل كاذب أو مجهول، بانتظار بصيص خبر عن مصير أبنائها المغيبين قسرًا. عبد اللطيف متعب، والد الشابة المعتقلة منى نسب، هو أحد هؤلاء الآباء الذين أنهكتهم سنوات البحث والاستنزاف، دون أن يجدوا ما يطفئ ألم الانتظار أو يضع نهاية لمأساتهم.

يقول عبد اللطيف في مقطع مصوّر نشرته صحيفة "زمان الوصل"، إن ابنته اعتُقلت منذ سنوات بينما كانت متجهة إلى دمشق برفقة خطيبها، الذي كان يسعى لإتمام معاملة تأجيل الخدمة العسكرية. اتصلت به من "كراجات" العاصمة، وأبلغته أنها في طريق العودة، لكن الاتصال انقطع ولم تعد إلى المنزل.

مرت الساعات وأُغلِق هاتفها، لتبدأ بعدها رحلة طويلة من الأسئلة والإنكار والتضليل. علم الأب لاحقًا من أحد ركاب الحافلة أن ابنته وخطيبها أُنزلا منها عند حاجز يتبع الفرقة الأولى التابعة للنظام المخلوع، إلا أن مسؤولي الفرقة أنكروا وجودها لديهم.

ورغم ذلك، استمرت "إشارات الحياة" تظهر بين الحين والآخر. فقد أكدت مصادر من داخل وزارة الدفاع، بحسب رواية الأب، أن منى لا تزال على قيد الحياة، مستندين إلى عمليات "تفييش أمني" أظهرت اسمها في عدة مرات، كان آخرها عام 2022. هذه المعلومات المضللة فتحت أبواب الاستغلال على مصراعيها، حيث دفع الأب مبالغ طائلة بحثًا عن وسطاء أو محامين يعدونه بسماع صوت ابنته أو المساعدة في الإفراج عنها.

في إحدى المحاولات، لجأ إلى محامية تعمل في شارع بغداد بالعاصمة دمشق، طلبت منه 3.5 ملايين ليرة سورية مقابل وعود برؤية أو سماع صوت ابنته، لكنه لم يجد منها سوى وعود كاذبة. اضطر عبد اللطيف في نهاية المطاف إلى بيع قطعة من أرضه، واستدان أموالًا من الآخرين في سبيل مواصلة رحلة البحث المرهقة، والتي شملت زيارة أماكن احتجاز سرية مثل مساكن الضباط ومراكز الأمن.

ورغم كل المحاولات، لم يصل عبد اللطيف إلى أي نتيجة مؤكدة. يقول بمرارة: "بدنا نعرف إذا كانت عايشة ولا ميتة، وإذا ماتت، بدنا قبر ندفنها فيه".

قضية منى ليست استثناءً، بل تمثل جرحًا جماعيًا في جسد المجتمع السوري، حيث تشير بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن أكثر من 177 ألف شخص لا يزالون في عداد المختفين قسرًا. ورغم انهيار النظام الذي كان السبب الرئيسي في هذه الجريمة الممتدة، لا تزال الحقيقة غائبة، والمسؤولون عن هذه الانتهاكات بعيدون عن المحاسبة.

ومع كل وقفة احتجاجية تنظمها عائلات المفقودين، يرتفع الصوت نفسه: "لن نسامح، ولن نصمت"، مؤكدين أن العدالة هي الطريق الوحيد لإنصاف أبنائهم، وأن الغياب لا يجب أن يتحوّل إلى نسيان، ولا إلى عفو مجاني عن الجناة.

اقرأ المزيد
٨ يوليو ٢٠٢٥
هربت من الحرب في سوريا فماتت تحت أنقاض الزلزال

لا تغيب عن بالي صديقتي ريحانة، كانت فتاة مفعمة بالحيوية حين نزحت من حمص وجاءت إلى قريتنا في عام 2012. كانت حزينةً، ومثقلةً بالفقد، بعد أن اضطرت لمغادرة المدينة التي أحبتها وترعرعت فيها. كانت فتاة لطيفة ولها من اسمها نصيب.

بعد عام واحد من نزوحها من حمص، عُقد قرانها على ابن عمها، وكانت فرحتها لا توصف بزواجها من الشخص الذي أحبته. في العام التالي، 2013، هاجرت إلى تركيا هرباً من القصف وأهوال الحرب، وبعد سنة واحدة رُزقت بطفلتها الأولى.

عاشت هناك أكثر من عشر سنوات، لم تستطع خلالها أن تعود، لا زيارة ولا إجازة. قبل وقوع زلزال شباط عام 2023، كانت حاملاً بطفلها الثاني بشهرها التاسع، الذي ظلّت تنتظره سنوات، إذا صادفت مشاكل طبية كانت تمنعها من الحمل خلال السنوات الماضية، جعلتها تنتظر وترتاد المراكز الطبية بشكل دوري.

كانت سعيدة جداً بالحمل الجديد، وكانت كلما اشترت قطعة من ملابس الطفل المرتقب، ترسل لي صورها لتأخذ رأيي. كانت تنتظر لحظة الولادة بفارغ الصبر، تلك اللحظة التي تحتضن فيها طفلها بعد طول انتظار.

وقبل الزلزال بأيامٍ قليلة، كنا نتواصل كالمعتاد. كانت متحمسة، مشعة بالأمل، فرِحةً بالطفل الذي طال انتظاره. ثم جاء اليوم المشؤوم، في السادس من شباط عام 2023، ضرب زلزالٌ مدمّر سوريا وتركيا. كان يوماً مرعباً، ضاعت أخبار العائلات في مناطق من سوريا وتركيا.

انهار المبنى الذي كانت تسكن فيه ريحانة في كهرمان مرعش. نجا زوجها ووالد زوجها من تحت الأنقاض، لكن ريحانة وحماتها، بقين عالقات تحت الركام. ثلاثة أيامٍ كاملة، 72 ساعة من الصمت، لا خبر ولا صوت. حاولتُ التواصل مع أهلها في سوريا، لكنهم كانوا قد بدأوا يفقدون الأمل، فالوقت يمضي، والنفَس مقطوع، وكل من يُنتشل بعد هذه المدة يكون غالباً قد فارق الحياة.

وفي اليوم الثالث، أخرجوها من تحت الأنقاض، كانت ريحانة قد فارقت الحياة، هي وحماتها. وقع الخبر علينا كالصاعقة، أما والدتها، التي لم ترها منذ أكثر من عشر سنوات، فقد كانت في حالٍ يُرثى لها. لم يتحمل قلبها هذا الفقد، وهي التي كانت تحلم باحتضان ابنتها من جديد.

ريحانة، التي طالما خافت من الطيران الحربي، وكانت تمضي أيامها مختبئة في الكهوف التي حفرها الأهالي في أرياف إدلب لاستخدامها كملجأ للاختباء من القصف، رحلت بطريقة لم تخطر ببالها يوماً. هربت من الموت في سوريا، وصبرت في تركيا عقداً من الزمن، لتموت تحت أنقاض زلزال لم نكن نتوقعه، ماتت ريحانة هي ومولودها الذي في بطنها.

اقرأ المزيد
٥ يوليو ٢٠٢٥
ما بين الحزن على وفاة أبناء والبحث عن مفقودين.. قصة الأم المكلومة "آمنة"

منذ أكثر من عشر سنوات، وآمنة محيي الدين تبحث عن أطفالها المعتقلين. تحلم بلحظة اللقاء والعناق الدافئ لتضع حدّاً لانتظار طويل أتعبها وسرق من وقتها وجهدها، كيف يسع لقلب تلك السيدة أن يحتمل فراق ستة من أبنائها في عام واحد؟

بدأت معاناة الفقد عند آمنة في اليوم الخامس من شهر كانون الثاني عام 2014، حين فقدت أطفالها الأربعة مع زوجها على حاجز "علي الوحش". كانوا لا يزالون صغاراً جداً: محمد عمره تسع سنوات، فاطمة سبع سنوات، مريم سنتين، وميمونة الشام عشرة أشهر.

لم تتوقع آمنة أن يحصل معها ذلك، فالمكان الذي فقدت فيه أطفالها يُفترض أنه معبر إنساني خُصص للعائلات كي تخرج منه بعد ظروف فقر وجوع وحصار.

توقفت حياة آمنة عند لحظة الفقد، وصارت جميع تفاصيل حياتها مرهونة بالبحث عنهم. تقول في شهادة صوتية نشرتها صحيفة "زمان الوصل": "منذ تلك اللحظة وأنا أبحث عن أولادي، لم أدع مكاناً إلا وبحثت فيه: في دور الأيتام، وزارة الشؤون الاجتماعية، الهلال الأحمر، الصليب الأحمر، السفارات، محكمة الإرهاب، القابون، القضاء العسكري، ولم أعثر عليهم."

ولم تتوقف مأساتها عند هذا الحد، بل فقدت اثنين آخرين من أولادها: شاب يدرس الطب في سنته الأولى استُشهد بقذيفة، وابنة عمرها 19 عاماً كانت مريضة وأُصيبت بحرارة داخلية. حينها كانوا محاصرين، ولا يوجد إمكانية للخروج أو دخول أطباء أو الحصول على علاج.

آمنة، مثلها مثل آلاف الأمهات في سوريا، اجتمعت العديد من المآسي في قصتها. فقدت الاستقرار والشعور بالأمان، ثم فقدت أبناءها بين من تأكدت وفاتهم ومن لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم، مما دفعها للبحث والانتظار والتمسك بالأمل رغم مرور أكثر من عقد.

وبعد أن تحررت سوريا من النظام البائد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، استأنفت آمنة رحلة البحث عن أولادها من جديد. واختصرت معاناتها ومأساتها بعبارة مؤلمة: "عجزت، لا أعرف ماذا أفعل؟"

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠٢٥
انتهت مآسي الحرب.. لكن من يُعيد الأحبة ويُنسينا الألم

انتهت الحرب في سوريا، وسقط بشار الأسد الذي كان سبباً في نزوحنا واغترابنا عن وطننا لسنوات طويلة. ابتعدنا عن أرضنا وأهلنا وأحبتنا، وتجرعنا مرارة الغربة في كل لحظة. ورغم أن المآسي قد انتهت، ولن تعود بإذن الله، فإن الظروف والذكريات ما تزال محفورة في الذاكرة، عصيّة على النسيان.

أنا واحدة من النساء اللواتي ذقن مرارة الغربة. غادرت إلى تركيا في عام 2013، حين كنت حاملاً بطفلي الأول. لم نعد قادرين على احتمال الخوف الذي كنا نعيشه يومياً؛ قصف الطيران الحربي، والمدفعية، وانفجار القذائف في كل مكان. انقطعت الكهرباء، ونزح معظم سكان القرية، وأصبح تأمين أبسط الاحتياجات أمراً شبه مستحيل.

قبل سفري بعام، فُجعت عائلتنا بفقد اثنين من أعمامي، أحدهما في حلب والآخر في معرة النعمان. كانت تلك أول مرة نخسر فيها أحبة منذ بداية الثورة. نعم، كنا نتوقع كل شيء مع اشتداد الحرب، لكن أن نعيش الفقد واقعًا كان أمرًا يفوق التصور. 

لا أنسى دموع جدتي وجدي وهما يبكيان ولديهما بحرقة، ولا تلك البيوت التي غمرها الحزن، ولا السكون الثقيل الذي خيّم على الحارة بأكملها. ومع مرور الوقت، أصبحت حكايات الفقد مألوفة، تتكرر مع كل تصعيد جديد في البلاد، حتى صار الحزن جزءاً من يومياتنا.

وفي تركيا، كثيراً ما مررت بظروف ومواقف شعرت فيها أنني بأمسّ الحاجة إلى والدتي وأهلي، خاصة حين أنجبت ابني. في كل لحظة كنت أشتاق إلى منزلنا، إلى الحارة، إلى الجيران الذين كبرنا بينهم. كانت حياتنا كلها قائمة على الانتظار؛ انتظار فتح باب الإجازات، انتظار خبرٍ مفرح، انتظار أن تتحسن الأوضاع في البلاد. لكن هذا الانتظار طال... واستمر لأكثر من عشر سنوات.

لكن المآسي لم تتوقف عند هذا الحدّ. خلال تلك السنوات، فُجعت بوفاة أشقائي الثلاثة، كل واحدٍ منهم رحل في وقت مختلف: الأول استُشهد في قصف جوي، والثاني قضى في حادث سير، أما الثالث فاستُشهد أثناء الرباط. 

احترق قلبي لغيابي عن عائلتي في تلك اللحظات القاسية، لعدم قدرتي على الوقوف إلى جانب أمي وأبي، أو أن أواسيهما، أو أن أُلقي على إخوتي نظرة الوداع الأخيرة. كل ما استطعت فعله أن أراهم عبر مكالمات الفيديو، ملفوفين بالكفن، وسط نحيب الحاضرين وبكاء القلوب... كان مشهداً لا يُحتمل.

أما والدي، فقد ألمّ به المرض وبدأت صحته تتدهور شيئاً فشيئاً، حتى اضطر لإجراء عملية في القلب. كان وضعه يزداد سوءاً مع مرور الأيام، وأكثر ما كان يؤلمني هو شدة تعلّقه بالقرية، كان يحلم بتحرّرها، ويتمنى أن يراها مرة أخرى، أن يمشي في أزقتها ويتأمل تفاصيلها التي لم تغب عن قلبه. 

كثيراً ما كان يطلب من من حوله أن يدعوا له بطول العمر، حتى يأتي يوم النصر، ويعود إليها حرّاً كما كان يتمنى، توفي قبل التحرير بعام وثلاثة أشهر، لم أودعه أيضاً، كنت أتمنى أن أقبل يده التي لطالما مسح بها على رأسي برحمة. الآن نتجهز للعودة، ووضع حدّ للغربة الطويلة، سنعود إلى قرانا وأراضينا، لكن من يُعيد لنا الذكريات والأحبة.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠٢٥
طالب الهندسة عمار العمر.. شاب سوري قضى خلف القضبان بسبب وشاية كاذبة

لم يكن عمار ياسر العمر يدرك أن مشواره الجامعي في كلية الهندسة بجامعة دمشق سيتحول إلى طريق بلا عودة، بعدما وقع ضحية لوشاية كاذبة أوصلته إلى أقبية النظام البائد، حيث فُقدت حياته واختفى مستقبله إلى الأبد.

ينحدر عمار من مدينة دير الزور، وكان الابن البكر لعائلته، يدرس في قسم الاتصالات بكلية الهندسة، عندما اعتقلته قوات النظام السوري في السادس والعشرين من آذار/مارس 2014، وهو لا يزال في سنته الدراسية الثانية. وبحسب ما نقلته صحيفة "زمان الوصل"، فقد جرى اعتقاله تعسفياً من سكنه الجامعي في العاصمة دمشق، إثر بلاغ أمني كيدي قدّمه زميله في السكن.

تشير التفاصيل إلى أن عمار لم يكن ناشطاً سياسياً أو متورطاً في أي نشاط معارض، بل كان طالباً عادياً يعيش حياته بهدوء، لكن ما أشعل شرارة المأساة هو تقديمه شكوى ضد زميله بعد أن سرق منه هاتفاً محمولاً ومبلغاً مالياً. انتقم الأخير من عمار عبر استغلال نفوذ والده، الضابط في جيش النظام، فكتب تقريراً أمنياً كاذباً أدى إلى اعتقاله على الفور.

دخل عمار غياهب السجون، وغاب عن عائلته نحو أربعة أشهر، عجزوا خلالها عن معرفة مكان احتجازه أو مصيره. عاش والده وأمه وإخوته على أمل أن يعود، حتى جاءهم نبأ وفاته بطريقة صادمة: "السيد الرئيس أصدر عفواً، ابنكم ميت. هذه شهادة وفاته." كانت تلك الكلمات كافية لتحطيم العائلة بأكملها، وقلب حياتهم إلى حزن دائم وأسئلة بلا أجوبة.

لم يكن العفو المزعوم إلا غطاءً لجرائم الإعدام والقتل تحت التعذيب، التي مارستها الأجهزة الأمنية للنظام البائد بحق آلاف السوريين الأبرياء. وما زالت المأساة تتكرر مع عائلات لا تعرف مصير أبنائها، أو استلمت خبر وفاتهم بدم بارد، كما حصل مع عائلة عمار.

أثارت قصة عمار تفاعلاً واسعاً بين السوريين، الذين عبّروا عن تضامنهم مع عائلته، مؤكدين أن لا عدالة انتقالية يمكن أن تكتمل دون محاسبة الجناة الذين تسبّبوا بموته. وطالب كثيرون بالكشف عن هوية الشخص الذي كتب التقرير الكيدي وسلّمه إلى الأمن، ليُقدّم إلى العدالة، إلى جانب كل من تلطخت يداه بدماء الأبرياء.

قصة عمار واحدة من عشرات آلاف القصص التي خرجت من زنازين الأسد، حاملةً بين طياتها وجعاً جماعياً لا يُمحى من ذاكرة السوريين، وحافزاً لمواصلة المطالبة بالعدالة، والحقيقة، والقصاص.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠٢٥
من منزلٍ نابض بالحياة إلى أطلال سوداء.. مأساة أم عامر في حي السكري

لم تكن العودة إلى الديار بعد النزوح مبعث فرحٍ لكثير من السوريين، بل كانت في أحيان كثيرة صدمة تفوق ألم الغياب، ففي الأحياء التي كانت ذات يوم تضجّ بالحياة، لم يجد العائدون سوى أنقاض ومنازل محروقة وجدران شوهتها نيران الانتقام، تاركةً خلفها ذكرى موجعة عن أماكن كانت تؤويهم ذات يوم.

أم عامر، إحدى النازحات من حي السكري في مدينة حلب، عادت بعد سنوات من التهجير القسري لتجد بيتها وقد تحول إلى ركام أسود، تآكلته النيران، وغاب عنه كل أثر للحياة. المنزل الذي كانت تملؤه ضحكات أبنائها وذكريات عائلتها، أصبح مكانًا لا يصلح للعيش، بعدما أضرمه شبيحة النظام البائد حقدًا وانتقامًا.

ظهرت أم عامر في مقطع مصور نشرته صحيفة "زمان الوصل"، وهي تتجول في أرجاء بيتها الذي غيّرته الحرب، تتفقد بمرارة مطبخها وغرفتها، وتقول بصوت تختلط فيه الحسرة بالغضب: "هذا بيتي.. كنت أعمل في مكتب الإغاثة، وخرجت منه في 2016. الشبيحة أحرقوه وأحرقوا بيوتًا أخرى غيره". وأضافت أن الحي بأكمله في حالة يرثى لها، ولا قدرة مادية لدى السكان لترميم ما تهدّم، فالفقر يحاصرهم من كل جانب.

فقدت أم عامر الاستقرار، فمرةً تسكن عند أختها، وأخرى تنتقل إلى أحد المخيمات، من دون مأوى دائم يأويها هي وأولادها الذين ازداد عددهم خلال سنوات النزوح. وتقول بأسى: "خرجنا كعائلة واحدة وعدنا أربعة أو خمسة أفراد، لكن لا سكن ولا بيوت".

لحظة مفجعة عاشتها حين جلست أمام مرآتها القديمة، تلك التي كانت تتزين أمامها في أيام ما قبل الحرب، وقالت وهي تتحسس حوافها المحطمة: "كنت أحبها كثيرًا، كان لها ديكور جميل، لكن كل شيء فُسد. لم يتركوا شيئًا إلا وسرقوه.. حتى الصنابير والأبواب والنوافذ نُهبت".

ليست قصة أم عامر استثناءً في سوريا، بل هي جزء من مأساة كبرى يعيشها آلاف العائدين إلى مدنهم المدمرة. عائلات نزحت خوفًا من القصف والاعتقال، صبرت سنوات على البؤس والألم، علّها تعود ذات يوم لتجد بيتها كما تركته، فإذا بها تواجه فاجعة من نوع آخر. فالانتقام الذي مارسه النظام لم يكتفِ باعتقال الناس أو قتلهم، بل سعى إلى محو آثارهم، بتدمير بيوتهم ونهبها، لتتحول لحظة العودة من حلمٍ إلى كابوس.

أم عامر، كما آلاف الأمهات السوريات، لم تجد في عودتها مأوى، بل وجعًا يتجدد كلما نظرت إلى بيتها الذي أصبح كومة من السُخام والذكريات المحترقة.

اقرأ المزيد
٢ يوليو ٢٠٢٥
انتظرت زوجي المعتقل طويلاً ولم يعد

كانت حياتنا تسير بشكل طبيعي، كحال سائر العائلات في محيطنا الاجتماعي، لا همّ لنا سوى تربية الأطفال، والاعتناء بهم وبمستقبلهم، إلى أن اعتُقل زوجي في عام 2013 أثناء سفره إلى لبنان، فانقلبت الأمور رأساً على عقب، وبدأت الصعوبات تتوالى واحدة تلو الأخرى.

في البداية، ظننت أنه سيُفرج عنه بعد فترة قصيرة، خاصةً أنه لم يكن عسكرياً ولا متظاهراً، ولم يسبق له أن تدخل في الشؤون السياسية، بل لم يُبدِ رأياً في الثورة أو نظام الأسد أمام الآخرين. كان رجلاً بسيطاً، كل اهتمامه منصبٌّ على عمله في معامل تصنيع الأحجار الإسمنتية في لبنان.

عندما اُعتقل زوجي كنت حاملاً، وأرعى ثلاث بنات وصبيّاً. لم أتخيل أنني سأضع مولودي دون وجود زوجي إلى جانبي، الذي طالما انتظر قدوم هذا الطفل بشوقٍ ولهفة. وأنا كنت قد اعتدت أن يكون بجانبي في كل ولادة، ليمنحني الدعم النفسي والمعنوي. حاولت أن أُصبّر نفسي، وأن أقوَى من أجل أطفالي. 

ومع مرور الوقت، طال غيابه، وبدأت أشعر بضرورة أن أعمل لأعيل أطفالي، فمساعدة أهلي وأهله لم تكن كافية. وبعد أن أنجبت صبيّاً آخر وتعافيت، بدأت أعمل في الأراضي الزراعية ضمن الورشات، وأحاول الاقتصاد في النفقات ما استطعت.

ومضت السنوات دون أن يعود زوجي، ومع ذلك لم يخبو الأمل في قلبي يوماً. كنت أتصوّر أنه سيطرق الباب في أية لحظة، لذلك لم أغيّر قفل المنزل، على أمل أن يتحقق حلمي بعودته.  في عام 2019، اضطررنا للنزوح من قريتنا في ريف إدلب الجنوبي وبدأت حينها أشعر بثقل المسؤولية. فقدان المنزل، ومغادرة القرية، والعيش في المخيمات لم يكن بالأمر الهيّن، لكن لم يكن أمامنا خيار سوى الصبر والتحمّل. 

بدأت أعمل كمربية أطفال، أعتني بأبناء النساء الموظفات أثناء غيابهن في العمل، وأتقاضى أجراً منهن، ومضت الأيام، وكبر الأولاد، ولم يصلني أي خبر عن زوجي. كنت أغبط النساء اللواتي يشاركهن أزواجهن مسؤولية البيت وتربية الأبناء.

ومع انطلاق معركة ردع العدوان، وبطولات مقاتلي الثورة، نما الأمل في قلبي من جديد، وشعرت أن لقائي بزوجي بات قريباً، خاصة مع موجات التحرير التي شهدتها المدن والبلدات. ومع كل انتصار، كنا نُكبّر ونفرح، حتى سقط النظام في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2024.

بدأت أترقب خبر الإفراج عن زوجي من السجن، لكن ذلك لم يحدث. مرت أسابيع، ثم أخبرني أحد أقاربي أن اسم زوجي ورد ضمن قوائم المعتقلين الذين توفوا في السجن، لأدخل في واحدة من أكبر الصدمات والخيبات في حياتي.

لم أشعر بالفرح بالتحرير كما شعر به الآخرون؛ كانوا يُكبّرون ويزورون محافظاتهم التي حُرموا منها لسنوات طويلة، أما أنا، فكنت أبكي على زوجي الذي خسرته دون ذنب، وانتظرته أحد عشر عاماً. لم أكن وحدي في تلك الخيبة، فالكثير من النساء نالتهن نفس المحنة. الأمل الوحيد الذي تبقّى لي اليوم هو أولادي.

اقرأ المزيد
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
حين تتجمع مآسي الحرب في قصة واحدة.. أم هشام ذاقت مرارة الانتظار والفقدان 

لم يخطر ببال أم هشام يوماً أن أبناءها الثلاثة، الذين حملتهم في رحمها تسعة أشهر، وأنجبتهم وربّتهم حتى أصبحوا شباباً، لن يكونوا إلى جانبها في المستقبل. لم تتوقع أن تفقدهم، فتقضي ما تبقى من عمرها تتحسر على فراقهم، ويلازمها شعور مرير بالانكسار لا يفارق أيامها المقبلة.

من خلال مقطع فيديو، تحدثت أم هشام، واحدة من الأمهات السوريات، بصوت هادئ وملامح طغى عليها الحزن، عن الفقد الذي عاشته خلال الحرب في سوريا التي امتدت لـ 14 عاماً، وكانت سبب بدخول المأساة إلى حياة العوائل السورية.

تقول أم هشام إن ابنها البكر هشام اعتقلته قوات النظام البائد في عام 2012، ظلّتْ تنتظره طويلاً، واقتات على الصبر حالها كحال الآلاف من أمهات المعتقلين، لكن دون أن تُحظى بالنتيجة المرجوة، فبالرغم من تحرير البلاد في 8 كانون الأول/ديسمبر عام 2024، لم يعد ابنها إلى حضنها ولم تراه، ولم تسمع عنه أي خبر. ومع ذلك ما تزال الأم المكلومة متأملة بعودته حتى الٱن.

ولم تتوقف محنتها عند هذا الحد، إذ استشهد اثنين من أولادها. وعلقت، وهي تجلس على كرسي وحولها صور أبنائها: "كل شيء يُعوض إلا الإنسان لا يعوض، إلا الشباب الذين فقدوا، رحمهم الله وتقبلهم"، أحد شهدائها اسمه محمد وكان يدرس في السنة الثالثة من كلية التجارة والاقتصاد، ووصفت وصول خبر وفاته بالقاسي جداً.

وقالت الأم بحرقة: "تلت شباب ما يضل حدا منهم، واللي ضل مريض بده مين يساعده"، ثم تحدثت عن الظروف القاسية التي تمرُّ بها في الوقت الحالي، والتي تمثلت بعدم قدرتها على إصلاح منزلها ولا حتى تركيب نوافذ له، في حين أنها تعيش في منزل للإيجار وأصحابه يطالبون به، وبالمقابل زوجها مريض يعاني من مشاكل بالقلب، وغير قادر على العمل.

قصة أم هشام تختزل في طياتها أكثر من مأساة، حيث اجتمع فيها وجع الفقد والحزن على من رحل، مع ألم الانتظار الطويل لمن فُقد وانقطعت أخباره. أضيف إلى ذلك الضيق المادي، والحاجة الملحة لإصلاح منزل، واحتمالية فقدان المأوى، فضلًا عن مرض زوجها، وما يرافق ذلك من صعوبة الوضع المعيشي.

تأثرت معظم العائلات السورية بتبعات الحرب التي عصفت بالبلاد، إذ عايشت كل أسرة شكلاً من أشكال المعاناة، سواء بفقدان أحد أفرادها، أو الغرق في الفقر والضيق المعيشي، أو اعتقال أحد أبنائها، فضلًا عن النزوح القسري، ودمار المنازل ونهب ممتلكاتها، وغيرها من الظروف القاسية التي تركت أثرًا عميقًا في حياتهم.

لقد ذاقت العائلات عدة أشكال من تلك المعاناة على مدار سنوات الحرب، ما أدى إلى إنهاكها واستنزاف قواها النفسية والمادية. ورغم سقوط الطاغية، المسؤول الأول عن تلك المآسي، لا يزال الحزن مخيّماً على حياة الأمهات، إذ إن ما فقدنه خلال هذه المحنة الكبرى لا يمكن أن يُعوّض.

اقرأ المزيد
٢٨ يونيو ٢٠٢٥
الأمومة في مواجهة الإعاقة: نساء سوريات يتحدّين الحرب ويحتفظن بحق الحياة

خلال سنوات الحرب السورية، أصيبت آلاف النساء بإعاقات دائمة نتيجة القصف، أو الشظايا، أو تحت أنقاض الزلازل التي ضربت البلاد، وأشدها في شباط/فبراير 2023. هذه الإصابات لم تغيّر فقط تفاصيل الحياة اليومية لهؤلاء النساء، بل أثّرت بشكل مباشر على أدوارهن الاجتماعية، خاصة حين يتعلق الأمر بتجربة الحمل والولادة.

الأمومة رغم الإعاقة: قرارٌ بالحياة
على الرغم من الألم والمحدوديات الجسدية، اختارت العديد من النساء السوريات مواصلة حياتهن والمضي قدمًا نحو تجربة الأمومة، رافضات أن تكون الإعاقة عائقًا أمام غريزة الحياة، وبحسب شهادات طبية ميدانية، يواجهن صعوبات جمّة خلال الحمل، تتضاعف بحسب طبيعة الإعاقة، من إصابات العمود الفقري، إلى بتر الأطراف، أو فقدان القدرة على الحركة.

النساء اللواتي يعانين من إعاقات حركية خاصة في الجزء السفلي، يحتجن إلى متابعة طبية مستمرة، ومساعدة دائمة في الأنشطة اليومية، وتوفير رعاية صحية دقيقة لمواكبة الحمل، أما بعد الولادة، فتتفاقم التحديات، حيث تصبح العناية بالطفل مسؤولية مضاعفة تتطلب جهدًا خاصًا، لا سيما من الأمهات اللواتي فقدن القدرة على استخدام اليدين، أو يفتقرن إلى الدعم العائلي المباشر.

حالات واقعية... من الألم يولد الصبر
في حديث مع شبكة "شام"، نقلت الطبيبة النسائية "دانية معتصم حمدوش"، العاملة في مشفى السامز للأمومة والطفولة في مدينة الدانا، مجموعة من الحالات المؤثرة التي رافقتها طبياً. من بين أبرزها: "أمٌ لـ3 أطفال، حامل في أسبوعها الـ27، مصابة بشلل رباعي كامل نتيجة شظية اخترقت النخاع الشوكي. تُنقل على نقالة ولا تتحرك سوى باستخدام يديها ورقبتها، في حين تتولى والدتها كامل رعايتها.

أيضاً "امرأة فقدت قدرتها على الإنجاب نتيجة إصابة مباشرة في الحوض تسببت في تلف المبايض، وسيدة حامل في شهرها الثالث تعاني من بتر كامل في الطرف السفلي، وتواجه تحديات كبيرة في الحركة والعناية الذاتية.

هذه الحالات، على مأساويتها، تمثّل فقط عيّنة من عشرات بل مئات النساء السوريات اللواتي يعشن تجارب مماثلة في صمت.

دعم الأمهات.. ضرورة لا رفاهية
تشير الطبيبة دانية إلى أن النساء ذوات الإعاقة بحاجة إلى رعاية شاملة، لا تقتصر على المتابعة الطبية، بل تشمل دعمًا نفسيًا، واحتياجات غذائية خاصة، وعلاجًا طويل الأمد لتعزيز الأعصاب والعضلات، كما أن إصابات الحوض والعمود الفقري تعد من أكثر الإعاقات تأثيرًا على تجربة الحمل والولادة.

وتوضح أن توفر الدعم الأسري، وخاصة من الأمهات أو الشركاء، يشكّل عاملاً حاسمًا في تمكين المرأة من تجاوز التحديات، فالكثير من الأمهات نجحن في تربية أطفالهن، رغم إعاقتهن، فقط لأنهن تلقين الدعم الكافي، في المقابل، تغدو الأمومة عبئًا نفسيًا وجسديًا صعبًا على من يعشن في عزلة، أو من فقدن أمهاتهن، أو يعانين من غياب الشريك.

أمهات من رحم الألم
رغم قسوة الحرب والإعاقات التي خلفتها، تواصل نساء سوريات إثبات قدرتهن على الصمود، لا تقف الإعاقة عائقًا أمام حقهن في الحياة والأمومة، بل تكون أحيانًا دافعًا للمضي قدمًا. وتؤكد تجاربهن أن الدعم والرعاية هما مفتاح التغلب على الظروف، وأن إرادة الحياة لدى الأمهات أقوى من الجراح.

اقرأ المزيد
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
النساء الأرامل: جرح إنساني مفتوح فاقمته الحرب بعد فقدان المعيل

أفرزت الحرب السورية واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية قسوة، تمثّلت في تصاعد ظاهرة ترمّل النساء، بعدما خلّف الصراع المستمر آلاف الضحايا من الرجال، ما بين من سقطوا في المعارك، أو قُتلوا جراء القصف، أو اختفوا تحت التعذيب والاعتقال أو في ظروف غامضة لا يزال مصيرهم مجهولاً. 


ووجدت آلاف النساء أنفسهن في مواجهة واقع جديد وقاسٍ، محمّلات بأعباء مضاعفة نفسياً واجتماعياً ومادياً، بعد غياب المعيل وتحولّهن إلى المسؤولات الوحيدات عن إعالة أسرهن.

في مخيم للأرامل قرب أطمة بريف إدلب الشمالي، تحكي "أم عبد الله"، 46 عاماً، تفاصيل حياتها بعد فقدان زوجها في إحدى معارك الثورة: "منذ عشر سنوات وأنا أتحمل مسؤولية خمسة أطفال وحدي، لم أكن أعرف في السابق سوى رعاية المنزل، أما اليوم فأنا مسؤولة عن كل شيء. إنها مسؤولية مرهقة، لكن لا خيار أمامي سوى الصبر".

فرضت ظروف النزوح وغياب الأمان على النساء الأرامل واقعاً معقداً، يتراوح بين تدبير السكن، وتوفير الطعام والدواء، وتربية الأطفال. 


وتفاوتت أماكن إقامتهن بعد النزوح بحسب القدرة المادية والدعم المتوفر؛ فبعضهن استقر في مخيمات قريبة من مناطقهن الأصلية، وأخريات لجأن إلى مجمعات خصصت لاحتضان الأرامل، فيما فضلت قلة منهن التوجه نحو البلدات والقرى.

"أم عبدو"، أرملة من ريف إدلب تبلغ من العمر 50 عاماً، تسرد ما عاشته عند نزوحها: "حين اضطررنا للفرار من قريتنا، لم أتمكن من أخذ شيء من المنزل، لم يكن لدي من يساعدني أو يذهب ليحمل أغراضنا وسط الخطر، ولو كان زوجي على قيد الحياة، لكنّا خسرنا أقل بكثير".

مع اشتداد الأوضاع المعيشية، اضطرت الكثير من الأرامل إلى العمل في مهن شاقة لا تتناسب مع أوضاعهن الصحية أو الاجتماعية، "سناء المحمد"، 37 عاماً، نازحة من ريف حلب تقيم في مجمع للأرامل قرب سرمدا، بدأت العمل مستخدمة في مكتب تابع لمنظمة إغاثية.

وتقول سناء: "أعمل من الثامنة صباحاً حتى الثالثة ظهراً، أقوم بأعمال التنظيف وتحضير الضيافة للموظفين، ثم أعود لرعاية أطفالي. يومي مزدحم بالمهام، لكن لا مجال للتوقف".

في حالات أخرى، اضطرت النساء إلى العمل في الزراعة، أو في أعمال يدوية مرهقة، أو كمندوبات مبيعات بدخل زهيد، بحثاً عن لقمة العيش في ظل غياب أي دعم كافٍ.

أعباء نفسية واجتماعية
يشرح براء الجمعة، الباحث المتخصص في الصحة النفسية والدعم الاجتماعي، الأثر العميق الذي يتركه فقدان الزوج على المرأة السورية قائلاً: "المرأة الأرملة لم تفقد فقط شريك حياتها، بل فقدت الحماية الاجتماعية والسند النفسي والاعتراف المجتمعي بحقها في الحياة. أصبحت تتحمل مسؤوليات الأسرة بالكامل في وقت لا يقدّم لها المجتمع الكثير".

وأضاف في تصريح لشبكة "شام": "مع تكدّس الأدوار، يبدأ الانهاك النفسي بالظهور بصمت؛ من الشعور الدائم بالذنب، إلى الانطفاء الداخلي، والتوتر الزائد، وضعف الاهتمام بالنفس. كلها مؤشرات على أزمة نفسية مزمنة تتطلّب عناية حقيقية".

ويرى "الجمعة"، أن الدعم يجب أن يبدأ من الواقع لا من التنظير، من خلال رؤية الأرملة كإنسانة قوية وقادرة، وتوفير بيئة اجتماعية داعمة تشمل أقاربها وجيرانها، كما يشدد على ضرورة إنشاء مشاريع صغيرة مرنة، تساعد النساء على توفير دخل مستقر دون إهمال واجباتهن الأسرية، إلى جانب ضرورة إتاحة خدمات دعم نفسي عملي، بلغات ومفردات مفهومة، بعيدة عن الوصم أو التعقيد.

الحاجة إلى تمكين فعلي
في خضم ما خلّفته الحرب من مآسٍ، أثبتت النساء الأرامل في سوريا قدرة استثنائية على التحمل ومواجهة المحن، رغم الإمكانات المحدودة وضغط الأدوار، ومع أن التحديات لا تزال جسيمة، فإن المبادرات الهادفة إلى التمكين الاقتصادي والدعم النفسي والمجتمعي تمثل بارقة أمل، وخطوة ضرورية على طريق طويل نحو الاستقرار.

خلاصة القول، إن المرأة التي فقدت كل شيء، لا تنتظر عطفاً ولا شفقة، بل فرصاً حقيقية تليق بكرامتها، وتعيد لها القدرة على بناء ما تهدّم. وفي وطن أنهكته الحرب، فإن إعادة بناء الإنسان لا تقل أهمية عن إعادة إعمار الحجر.

 

اقرأ المزيد
٢٢ يونيو ٢٠٢٥
نساء سوريا في مواجهة المحنة: شهادات من قلب الألم والصمود

واجهت نساء سوريا خلال سنوات الحرب التي امتدت لأربعة عشر عاماً، ظروفًا قاسية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فضلًا عن التحديات الأمنية وغيرها من جوانب الحياة. واضطررن إلى القبول بإجراءات لم يتخيّلن يوماً أن يرضخن لها، في سبيل تربية الأبناء وتأمين معيشتهم، والحفاظ على استقرار العائلة قدر المستطاع.

ورغم قسوة الواقع، تغلبت العديد من النساء على تلك الظروف، وأثبتن قدرتهن على التحمل ومواجهة الصعاب، لأداء واجباتهن تجاه الأسرة، وعدم السماح للحرب بأن تُحطم سعادتهن أو تسرق منهن حياتهن الطبيعية. وقد رصدنا عدداً من هذه الظروف من خلال شهادات ميدانية جمعناها أثناء العمل على هذا التقرير.

يُعد العيش في مخيمات النزوح التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة، من أصعب ما واجهته النساء في بداية رحلة التهجير. فمن كانت تسكن في منزل واسع يحفظ خصوصيتها وخصوصية أسرتها، وجدت نفسها في خيمة صغيرة، أو غرفة ذات سقف معزول، يحيط بها العديد من الخيام والغرف الأخرى، مما ضيّق حركتها وأثر على حياة أولادها وأفقدهم الشعور بالراحة.

تقول أم عبدو، 45 عاماً، وهي نازحة من ريف حماة: "أكثر ما آلمني هو انعدام الخصوصية، أشعر أن كل الأهالي في المخيم يروننا ويسمعوننا، التأقلم بالبداية كان صعباً على لأولاد، خاصة أنهم اعتادوا على العيش في منزل مكون من غرفتين، وساحة حوله، كانوا يلعبون فيها على راحتهم، وعندما نزحنا صرت أجبرهم اللعب على البقاء، فمنزلنا الجديد صغير ومحاط بعدة منازل أخرى لا تبعد عنه سوى مسافات قصيرة جداً، وأخاف أن يُزعجوا الجيران".

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أُجبرت بعض النساء على غسل ملابس العائلة يدوياً، والطبخ على مواقد الحطب، لا سيما أن كثيرات لم يتمكنّ من إحضار أجهزتهن الكهربائية التي تركنها في قراهنّ ومدنهنّ، التي تعرضت للنهب بعد سيطرة قوات النظام. ومن كانت محظوظة بإخراج بعض الأجهزة، اضطرت لبيعها لتأمين احتياجات الأسرة الأساسية.

وتتابع أم مازن، 40 عاماً، وهي أم لستة أبناء:"كنت أملك غسالة وثلاجة وفرناً كهربائياً، لكنها لم تغادر منزلي في ريف حلب. وعندما لجأنا، كان عليّ أن أتعلم كيف أطبخ على الحطب، وأغسل بيدي. لم أتخيل يوماً أنني سأفعل ذلك، لكنني صبرت في سبيل التأقلم ومن أجل عائلتي".

كما اضطرت الكثير من النساء إلى تقليص احتياجات أسرهن، واختيار الأهم منها، سواء في الطبخ أو الاستهلاك اليومي. فاستبدلن وجبات تتطلب مكونات مكلفة بأخرى أبسط، أو حافظن على نفس الأطباق بتعديل كميات المكونات، كاستخدام كمية أقل من اللحوم، أو الاستغناء عنها تماماً.

وتوضح أم باسل، وهي عاشت تجربة النزوح من مدينة حمص واتجهت نحو مخيمات إدلب: كنت أعدّ الكبة مرة أسبوعياً، والآن بالكاد أحضرها مرة في الشهر، وإن فعلت، ليس بذات الطريقة التي كنت اعتمدها في السابق. وأتحايل بالمكونات كي لا يشعر أطفالي بالفرق".

ونزلت سيدات كثيرات إلى ميدان العمل، خاصة من فقدن المعيل، فقبلن بأعمال مرهقة وذات أجور زهيدة، مثل العمل في الأراضي الزراعية ضمن ورشات قطف المحاصيل، ما أدى لإصابتهن بمشاكل صحية في العمود الفقري واليدين والعيون بسبب طبيعة العمل القاسية.

تقول سعاد، 37 عاماً، نازحة من ريف إدلب، وهي عاملة في الأراضي الزراعية: "أعود إلى خيمتي كل يوم وأنا بالكاد أستطيع الوقوف. ظهري يؤلمني من الانحناء لساعات طويلة، وأصابعي متشققة. لكن لا خيار لدي، فأنا الوحيدة التي تعيل أطفالي بعد وفاة زوجي بالقصف، أحياناً أشعر بأنني تعبت من ثقل المسؤولية وأنني غير قادرة على الإكمال، لكن عندما أتذكر أن بناتي الثلاث ليس لهن غيري، أقاوم وأصبر".

كما عملت بعض النساء في جمع الحديد والبلاستيك من الشوارع والقمامة لبيعه أو استخدامه في المنزل، بينما لجأت أخريات إلى البيع المتنقل، كبيع مستحضرات التجميل أو العمل في معامل المخللات. ومنهن من حظيت بفرصة عمل في محال الألبسة، حيث كانت ظروف العمل أفضل وإن لم تكن الأجور كافية.

الآن، وبعد أن تحررت بعض المناطق من النظام البائد، عاد قسم من العائلات إلى قراهم ومدنهم، حاملين معهم حكايات تعب ومقاومة، وسنوات من الكفاح بصمت، في حين بقيت نساء أخريات لأن الفرصة لم تسنح لها بعد، وبناء على حدينا مع نساء لم يرجعن، ذكرن أن منازلهن مدمرة وغير صالحة للسكن ولا يملكن مال في الوقت الحالي ليقمن ببناءه مجدداً، لكن ذلك لا يعني أنهن لا يفكرن بالأمر، وإنما يخططن لترتيب الوضع.

في السابق حسب ما ذكرت النسوة، كان هناك مخاوف وقلق على مستقبل الأولاد خاصة أن المنطقة تشهد حرباً قاسية، لكن بعد سقوط المجرم بشار الأسد، صار هناك أمل بأن الحياة ستصبح أفضل، ويتمنين أن يعيش أبناؤهن أياماً أجمل من التي مرت.

 

اقرأ المزيد
١٩ يونيو ٢٠٢٥
في كل زاوية حكاية فَقْد... أمهات الشهداء لا يغادرهن الغياب

في خضمّ أفراح النصر وعودة الحياة إلى وجه الوطن، وبين أصوات الفرح التي تعلو احتفالاً بانتهاء حقبة القمع وبداية مرحلة جديدة للسوريين بسقوط الطاغية بشار الأسد، تقف مشاهد أخرى، صامتة، لكنها أكثر وقعاً وعمقاً. فبينما ينشغل الناس برسم ملامح الغد، هناك أمهات تنحني قلوبهن بصمت، وتسكن ملامحهن حكاية فقد لا يندمل.

أمهات الشهداء، أولئك النسوة اللواتي حملن في قلوبهن جراحاً لا يراها سواهن، ولم تبرأ بمرور الأيام. في زوايا من المدن والبيوت السورية، يجلسن بصمت تام، يراقبن الحياة من خلف ستار الذكريات، يمضين في حياتهن اليومية ويقمن بواجباتهن الأسرية والاجتماعية من باب الواجب فقط، لا عن رغبة أو اندفاع، بل كي تستمر العائلة ولكي تسير أمور البيت كما يجب.

لا ينكرن فرحة التحرر ولا يتجاهلن بشائر الأمل، لكن داخل كل واحدة منهن حزن ثقيل لا تقدر على رفعه الأيام ولا يخفّفه تغير الحال. كل لحظة فرح تمرّ، تذكرهن بمن غاب. في كل مناسبة وطنية، في كل عيد، في كل خبر مفرح، هناك زاوية خالية في الذاكرة، في البيت، على المائدة، في الطريق. أبناؤهن الشهداء، الذين ارتقوا في ساحات القتال أو تحت أنقاض القصف، أو غابوا خلف القضبان دون عودة، ظلوا حضوراً دائماً في تفاصيل الحياة. الحنين لا يهدأ، والفقد لا يتضاءل.

مرت السنوات، وتغيّر الكثير، لكن شعور الألم بقي متجذراً في صدورهن. تتغير البلاد، تذوب الحدود القديمة، تُلغى العقوبات، تُفتح أبواب الحياة أمام الأجيال الجديدة، لكن في قلب الأم، الزمن متوقف عند لحظة الرحيل. لا تعيش الأمهات الماضي فقط، بل يحملنه معهن في كل يوم، في كل ركن من البيت، في كل صوت يشبه صوت من رحل.

كثيرات منهن أُنهكن، خارت قواهن، وذبلت ملامحهن من الحزن المكبوت، من المرض الذي استقر في الجسد نتيجة القهر، من الوحدة التي لا يملؤها أحد. حتى ابتساماتهن أصبحت ثقيلة، كأنها تؤدي مجاملة، لا شعوراً. ملامح الوجوه باتت شاهدة على وجعٍ لا يُنسى، وحركة الأجساد تثقلها ذاكرة لم تتعب من التذكير.

ورغم كل هذا، فإن ما تركه الشهداء في قلوب أمهاتهم، وفي ذاكرة الوطن، ليس مجرد غياب، بل حضور بطولي محفور في الضمير. هؤلاء الأمهات لم يخترن هذا الطريق، لكنهن سرن فيه بصلابة مؤلمة، بصمت يوازي البطولة. في زمن الحروب، لا تكون الجبهات فقط حيث يتساقط الرصاص، بل في بيوت تنتظر، وتبكي، وتفتقد.

إن تكريم الشهداء لا يكتمل دون تقدير أمهاتهم، فكل واحدة منهن هي ذاكرة وطن، ورمز لفقدٍ عظيم، وصبر نبيل لا يُنسى. أمهات الشهداء لسن مجرد شخصيات في خلفية المشهد، بل هنّ جزء أساسي من حكاية البلاد. ووسط كل تطور سياسي أو إنجاز وطني، يبقين شاهداً حيّاً على الثمن الباهظ الذي دُفع، وعلى وجعٍ لا يعالجه الزمن، بل يرافقهن حتى النهاية.

اقرأ المزيد
1 2 3 4 5

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٨ أكتوبر ٢٠٢٥
"فضل عبد الغني" يكتب: شروط حقوقية أساسية لتطبيع العلاقات السورية - الروسية
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٦ أكتوبر ٢٠٢٥
زيارة إلى العدو.. لماذا أغضبت زيارة الشرع لموسكو السوريين؟
أحمد ابازيد - رئيس تحرير شبكة شام
● مقالات رأي
١٣ أكتوبر ٢٠٢٥
هل تتعارض العدالة الانتقالية مع السلم الأهلي في سوريا.. ؟
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٢ أكتوبر ٢٠٢٥
بيان الهجري يكشف الرفض الداخلي له رغم محاولات شرف الدين تحويله لـ "آله" غير قابل للنقد
فريق العمل
● مقالات رأي
٥ أكتوبر ٢٠٢٥
فضل عبد الغني: "العلم" الرمز الوطني الأسمى لتجسيد الهوية الوطنية في البروتوكولات والدبلوماسية
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٤ أكتوبر ٢٠٢٥
فضل عبد الغني: تغييب العدالة في اتفاقيات السلام… خطرٌ على الاستقرار واستدامة السلم
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٣ أكتوبر ٢٠٢٥
تمديد حالة الطوارئ الأمريكية في سوريا: رسالة سياسية إلى فلول الأسد
فريق العمل