بعد سنوات طويلة من التهجير القسري والنزوح، بدأ عدد من السوريين بالعودة إلى قراهم ومدنهم، حاملين آمالاً في استعادة حياتهم وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب. لكن الواقع الذي واجههم كان أقسى من توقعاتهم، فغالبية المنازل والمباني السكنية تعرضت للدمار الكامل جراء القصف المستمر وعمليات التخريب التي قامت بها قوات النظام البائد، مما دفعهم إلى اتخاذ خيار العيش في خيام مؤقتة فوق الأنقاض.
الظروف الاقتصادية والمعيشية: عبء يفوق الطاقات
العودة إلى قراهم لم تكن بداية حياة جديدة كما حلموا، بل كانت بداية معاناة جديدة بسبب الواقع الاقتصادي المرير. العائلات التي قضت سنوات النزوح في ظروف قاسية، فقدت مصادر دخلها تماماً، وعادت منهكة مالياً، بلا عمل أو مصدر دخل ثابت. ووسط غياب فرص العمل وارتفاع أسعار المواد الأساسية، بات توفير أبسط مستلزمات الحياة تحدياً كبيراً.
إعادة بناء المنازل في ظل هذا الواقع المادي الصعب أصبح حلماً بعيد المنال. فالترميم يحتاج إلى تأمين مواد البناء مثل الأسمنت والحديد والأحجار، وكذلك تكاليف أجور العمالة، وكل ذلك يتطلب مالاً لا يملكه معظم السكان. لذلك، اضطر الكثير منهم إلى البقاء في خيام مؤقتة توفر لهم الحماية الحد الأدنى فقط، بعيداً عن الأمان والراحة التي توفرها المنازل السليمة.
القطاع الزراعي: من مصدر رزق إلى كابوس مستمر
الأمل الوحيد لأغلب العائدون هو الزراعة، بأن يزرعوا أراضيهم ويبنون بيوتهم من ثمن المحاصيل التي سوف يجنونها، فالأراضي الزراعية ومختلف أنواع الأشجار من زيتون وتين وفستق حلبي وغيره، كان المصدر الأساسي لرزق كثير من العائلات. وكانوا يعتمدون عليها كجزء من دخلها اليومي، إلا أنها تعرضت للقطع أو التلف خلال سنوات النزوح. كما أن سنوات الحرب والمناخ غير المستقر، ونقص الموارد المائية والزراعية، أدت إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل حاد لهذا العام.
وذلك سوف يؤثّر سلبًا على الدخل المادي ويساهم في عدم الاستقرار الاقتصادي، مما يجعل من الصعب عليهم استثمار أراضيهم أو الاعتماد على الزراعة كمصدر أساسي للعيش، مما يزيد من تعقيد أزمة إعادة الإعمار والعودة إلى الحياة الطبيعية.
المبادرات والدعم: جهود قليلة وسط دمار واسع
رغم هذه التحديات الكبيرة، حاولت بعض المنظمات المحلية والدولية إطلاق مبادرات لدعم الأهالي في إعادة بناء منازلهم وتحسين ظروفهم المعيشية. فمثلاً، أطلقت منظمة "شفق" مشاريع لترميم المئات من المنازل في مناطق أخرى مثل عنجارة بريف حلب وتل مرديخ في ريف إدلب، لكنها جهود لا تكفي أمام حجم الدمار الهائل في مناطق كثيرة مثل قرية الحويجة.
الحاجة إلى دعم أكبر وأشمل من المنظمات والجهات المانحة باتت ملحة، لأن التحديات الاقتصادية، وضعف البنية التحتية، وغياب الخدمات الأساسية، تضع السكان في مواجهة مستمرة مع الواقع القاسي. عودة النازحين إلى منازلهم تحتاج إلى دعم مادي وتقني شامل يمكنهم من بناء حياة مستقرة وكريمة.
يعاني ناجون من الاعتقال من ذكريات مؤلمة لما حصل معهم خلال سجنهم، تجعلهم يصرون على طلب حقهم بمحاسبة كل من تسبب بمأساتهم، ومنهم السيدة ندى، ناجية سورية تعرضت للتعذيب في أقبية النظام البائد عام 2011، بتهمة "التعاطف مع العدو". في حين أنها كانت تساعد للأهالي خلال بداية الثورة السورية، من خلال تقديم الطعام، والدواء، والملابس، كما ورد في صحيفة Fædrelandsvennen.
وذكرت الصحيفة أن ندى كانت تقيم مع 14 امرأة أخرى داخل زنزانة لا تتجاوز 6 أمتار، والتي فيها بدأت رحلتها مع التعذيب الوحشي والذي تمثل بـ اقتلاع الأظافر، الصعق بالكهرباء، الضرب، الاغتصاب، والإذلال. ولا تنسى ندى صرخات النساء في الزنازين المجاورة وهن يتعرضن للتعذيب، جثث المعتقلات المرمية على الأرض لأيام، وغيرها من الصور المرعبة والمؤلمة.
استخدم نظام المجرم بشار الأسد أشد أنواع التعذيب مع المعتقلين والمعتقلات انتقاماً من مواقفهم المعارضة التي اتخذوها ضده مع انطلاق الثورة السورية في شهر آذار /مارس عام 2011. وذلك ما أكدته شهادات ناجييين من السجن في حين لم يحالف الحظ لعشرات الآلاف من المعتقلين ومات أغلبهم تحت التعذيب. وهذه الحقيقة التي اصطدم بها ذويهم عند فتح السجون وعدم العثور عليهم.
ندى كانت من بين الذين نجوا، فهربت إلى تركيا، ثم إلى النرويج أواخر عام 2015، لكن لم تفارقها ذكريات الاحتجاز القسري وسوء ظروفه. ثم قررت أن تتحدث عن تجربتها من خلال فيلم وثائقي حمل عنوان "الناجون"، والذي تضمنَّ أيضاً شهادات مرعبة عاشها لاجئون نجوا من أبشع الانتهاكات.
وقررت ندى إخفاء هويتها وحمل اسم مستعار "ميرا". لكن بعد انتهاء التصوير، تغيرت الأوضاع كلياً في سوريا. ولم يعد هناك سبباً يجعلها خائفة من إظهار وجهها، ولا من الكلام، ولا حتى من الاتهام. خرجت اليوم ندى بوجهها واسمها الحقيقي لتقول:"لا أسامح. ولو رأيت من عذبني، لقتلته. حتى لو عوقبت، لا بأس... سأبقى أروي، لأننا إن صمتنا، سيحدث هذا من جديد".
لم تستسلم ندى، مثلها مثل غيرها من الناجيات، لما حصل معها في المعتقل، بل أصرت على إكمال حياتها بشكل طبيعي وتجاوز ماحصل. والآن، تريد ندى أن تساعد أخريات من السوريات اللواتي فقدن أزواجهن وأطفالهن، عبر مشاريع صغيرة مثل شراء آلات خياطة تمنحهن فرصة للحياة.
ويصرُّ الشعب السوري بما فيه الناجون من الاعتقال، ذوي المعتقلين والشهداء وكل من تضرر بفعل جرائم النظام المخلوع على محاسبة الأسد الجلاد وكل من ساعده ودعمه خلال ممارسات الإجرام التي ارتكبها ضدهم لمجرد المطالبة بالحرية وحقوقهم التي يستحقونها كمواطنين في البلاد.
اضطرت العديد من النساء في مناطق سورية خلال سنوات الحرب إلى دخول سوق العمل بطرق غير تقليدية، منها بيع البضائع عبر التجول بين المنازل والمباني السكنية. فرضت ظروف الحرب القاسية واقعاً صعباً على العائلات، وأجبرت الكثير من النساء على الاعتماد على أنفسهن لتحقيق دخل مادي يساعد في تأمين الاحتياجات الأساسية، والسعي نحو الاستقلال الاقتصادي.
يُعرف هذا النوع من العاملات باسم "مندوبات مبيعات" أو ببساطة "بائعات متجولات"، ويأخذ عملهن أشكالًا متعددة؛ فبعضهن يعملن ضمن شركات أو محلات تجارية، مقابل نسبة من الأرباح أو راتب شهري ثابت، في حين تعمل أخريات بشكل مستقل، فيتحملن وحدهن الأرباح أو الخسائر، وقد يكتفين بالحفاظ على رأس المال فقط.
المنتجات التي تُباع عادة تشمل مستحضرات التجميل، العطور، المكياج، الملابس النسائية، الإكسسوارات، المستلزمات المنزلية، وأحياناً أدوات المطبخ، وهي سلع يكثر الطلب عليها من قبل الأسر. وتفضل العديد من الزبونات الشراء من البائعات المتجولات لأنه يوفر عليهن عناء الذهاب إلى الأسواق، خصوصاً في ظل الانشغالات التي من الممكن أن تواجهها السيدة.
هذا النوع من العمل يتطلب مهارات خاصة، أبرزها القدرة على الإقناع واللباقة في الحديث، حيث تسعى المندوبة إلى شرح مزايا المنتجات وإقناع الزبونة بشراء المزيد من القطع، مستخدمة كلمات مجاملة ولطيفة، تساهم في كسب ود الزبونة وتحفيزها على الشراء.
الحاجة أولاً... ثم تأتي الصعوبات
الدافع الرئيسي لمعظم النساء للعمل كبائعات متجولات هو الحاجة، إذ تُعد الظروف الاقتصادية الصعبة، وغياب المعيل، وقلة فرص العمل، أبرز الأسباب التي تدفعهن لهذا النوع من المهن. كثير من النساء أكدن في شهادات جمعناها أنهن لا يجدن بديلاً يوفر دخلاً ثابتاً، وبعضهن لم يحصلن على فرص تعليم تؤهلهن لوظائف أخرى.
رغم صعوبة العمل، إلا أن بعض النساء يجدن فيه جانباً من المتعة، خاصة عندما يكنّ برفقة صديقات أو قريبات، مما يخفف من وطأة الروتين اليومي ويجعل من التجول تجربة أقل ثقلاً وأكثر حيوية.
تحديات العمل الميداني
يواجه هذا العمل اليومي العديد من التحديات، أبرزها الإرهاق الجسدي الناتج عن التنقل المستمر من مكان إلى آخر، وحمل البضائع الثقيلة. كما تعاني بعض البائعات من مواقف محرجة عند رفض سيدات لاستقبالهن بطريقة غير لبقة، بسبب الحذر أو عدم الثقة أو حتى اعتراض الأزواج على وجودهن في المنزل.
العمل تحت درجات حرارة مرتفعة في الصيف أو برد قارس في الشتاء يسبب مشاكل صحية للبائعات، ويزيد من صعوبة دوامهن على المهنة. وإلى جانب الظروف المناخية، هناك أيضاً نظرة دونية من بعض أفراد المجتمع، حيث تتعرض البائعات لتعليقات جارحة وانتقادات قاسية، متجاهلة دوافعهن الحقيقية للعمل.
واحدة من أخطر التحديات التي تواجه البائعات هي احتمالية التعرض للسرقة، إذ تقع مسؤولية تعويض البضائع المسروقة على البائعة نفسها، ما يزيد من العبء المالي ويجعل المهمة محفوفة بالمخاطر.
واليوم، بعد أن تحررت البلاد من حكم المجرم بشار الأسد، يأمل الأهالي أن تبدأ مرحلة جديدة تعطيهم حقوقهم التي يستحقونها. تتطلع النساء، كما الرجال، إلى واقع أفضل يضمن فرص عمل كريمة للشباب والشابات، ويمنح الجميع حق العيش بكرامة دون اضطرار للبحث عن لقمة العيش في ظروف قاسية ومهينة.
في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2024، طُويت صفحة مظلمة من تاريخ سوريا بهروب بشار الأسد وعائلته إلى موسكو، بعد سنوات من القمع والدمار والقتل، ومع هذا الحدث المفصلي، بدأ السوريون بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها قسراً، هرباً من الموت والاعتقال، وعادت الحياة إلى الطرقات، لكنها لم تعد كما كانت، بل وسط ركام وأنقاض تروي فصولاً دامية من القهر والتدمير الممنهج.
فما إن وطئت أقدام الأهالي أرضهم حتى اصطدموا بواقع موجع: بيوت مهدّمة، شوارع خاوية، وممتلكات منهوبة أو محترقة. كان المشهد صادماً، لا يمتّ بصلة إلى ما احتفظت به الذاكرة من صور وذكريات. تلك البلدات والقرى التي كانت تنبض بالحياة والطمأنينة تحوّلت إلى رماد.
"عدتُ إلى بيتي بعد ست سنوات من النزوح، فلم أجد سوى الركام... حتى الباب سُرق، لكنني قلت في نفسي: من هنا سأبدأ من جديد"، يقول أبو حسام عندما كان يجلس قرب خيمة نصبها فوق أنقاض منزله في ريف حماة.
قبل الحرب، كانت هذه القرى والمدن عامرة بالأهل والأحبة، مليئة بالحركة والمواسم والاحتفالات. لكل منزل قصة، ولكل زاوية ذكرى. يتذكّر الأهالي الأسواق في الأعياد، أصوات المآذن وقت الغروب، وروائح الخبز الطازج التي تعبق في الصباح. لم يتخيّل أحد أن طلب الحرية سيقود إلى كل هذا الخراب.
تسرد سلمى، من ريف إدلب، وهي تتفقد بقايا منزلها الذي دُمّر كليا: "كان في بيتنا شجرة تين زرعها والدي بيده، وكنت أتنافس مع أختي لقطف أولى الثمار في كل موسم... عدت اليوم فلم أجد لا الشجرة ولا البيت، ولكن رائحة الأرض لا تزال كما هي".
إلى جانب هذه الذكريات الجميلة، لا تغيب عن الذاكرة صور الرعب التي عاشها الناس خلال الحرب. القصف العشوائي، البراميل المتفجّرة، الليالي الطويلة في الأقبية، الخوف من الاعتقال، وانقطاع الأخبار عن الأحبة. كل ذلك ترك أثراً عميقاً في النفوس.
تقول أم باسل، عادت مؤخراً إلى قريتها في ريف حلب، والتي فقدت زوجها وأحد أبنائها تحت القصف: "في إحدى الليالي كنا مختبئين في القبو، وأنا أضم أولادي الأربعة إلى صدري. وقع الانفجار قريباً جداً، حتى شعرنا أن الموت قد حلّ علينا. لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة ما حييت".
ورغم فداحة الفاجعة، لم يستسلم الأهالي. بل شرع كل منهم في محاولة ترتيب حياته من جديد، وفق الإمكانات المتاحة. البعض أقام خياماً على أنقاض منزله، وآخرون بدأوا بترميم غرفة صغيرة أو حائط قائم، والبعض الآخر أعاد فتح محله وسط الخراب، كأنما يقول للحياة: نحن هنا باقون.
"لن يعيد إعمار بلادنا أحدٌ سوانا، وإن بقينا ننتظر فسوف يضيع كل شيء. بدأت مع شقيقي بتنظيف الحي، ونحاول إعادة المياه، شيئاً فشيئاً سنعود إلى الحياة" هكذا علق سامي، شاب عاد من لبنان إلى كفرنبل مدينته.
الدمار لم يلغِ انتمائهم، ولم تُضعفهم سنوات النزوح والتشريد. ومع توافر الأدلة والوثائق التي تثبت حجم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام البائد، يصرّ الأهالي على أن المحاسبة أمر لا بد منه، ليس انتقاماً، بل إحقاقاً للحق، ومنعا لتكرار المأساة. تقول أم مازن، التي فقدت زوجها وابنها تحت القصف، وعادت لتسكن خيمة فوق منزلها المهدّم: "ما حدث لنا لا يمكن السكوت عنه... نريد أن نعرف من دمّر، ومن قتل، ومن يجب أن يُحاسب".
إن عودة السوريين اليوم ليست مجرد حركة سكانية، بل فعل صمود ومقاومة. إنهم يعيدون بناء ذاكرتهم من بين الأنقاض، ويسترجعون أرضهم التي وُلدوا وعاشوا فيها. سوريا لم تُخلق لتبقى تحت الركام، وشعبها لم يُقدّر له أن يُنسى أو يُقصى. من قلب المحنة تولد الإرادة، ومن وسط الركام ينهض الأمل. وسوريا، أخيراً، بدأت تخطو طريق العودة، خطوة خطوة.
في بيتٍ ريفي متواضع في جنوب إدلب، عاد أصحابه منذ أسابيع قليلة بعد سنوات من النزوح الطويل، بدأت الحياة تدبّ من جديد مع اقتراب عيد الأضحى. في مطبخ أم علاء، اجتمعت أربع نسوة يشاركنها تحضير معمول العيد.
أم علاء تقف أمام فرن الغاز، تراقب صواني المعمول وهي تستوي ببطء، تضبط الحرارة بحذر، بينما أم سامي تصف القطع الجاهزة في الأواني المعدنية بدقة متناهية. وعلى الطاولة الخشبية، تجلس أم علي وأم مازن، يقطّعان العجينة الطرية ويحشيانها بالتمر قبل أن يضغطاها داخل القوالب.
في زاوية الغرفة، يجلس الأطفال على الحصيرة، يرقبون المشهد بعيون لامعة وابتسامات مترقبة، بانتظار أول قطعة ساخنة تخرج من الفرن. تملأ المكان رائحة الهيل والسمن، وتمتزج أصوات ضحكات النساء بأزيز الفرن، فتبدأ بذلك التحضيرات التي لا تخص العجينة فقط، بل العيد كله.
العيد هذا العام مختلف، فهو يحمل فرحة العودة إلى الديار بعد سنوات من النزوح والسفر. عادت العائلات إلى قراها ومدنها، وامتلأت البيوت من جديد بالأهل والأحباب، بعد غياب طويل فرضته الحرب وسقوط الطاغية. هذه العودة أعادت للحياة رونقها، وجعلت العيد أكثر بهجة.
في مكان آخر من سوريا، في إحدى قرى ريف حماة، يمشي أبو ياسر في حارته القديمة ببط. تفوح في الأجواء رائحة الكعك المخبوز في بيوت الجيران، فتعود به الذكريات إلى أيام ما قبل النزوح، حين كانت أمه تخبز الكعك صباح العيد وتعطيه أول قطعة ساخنة. اليوم، تحمل الرائحة ذاتها مشاعر النجاة والحمد، وشعوراً عميقاً بأن الحلم الذي كان بعيدًا صار واقعاً يُعاش من جديد.
لا تقتصر التحضيرات حالياً على الحلويات كالعك والبرازق والأصابع المحشوة بالتمر وغيرها فقط، بل تشمل شراء الملابس الجديدة للأطفال، وتنظيف المنزل وترتيبه وتزيينه بلمسات خاصة تملأ البيت دفئاً وحياة. وتشهد هذه الأيام صوراً جميلة من التعاون ما بين الجارات والصديقات والأخوات، يساعدن بعضهن البعض في الخبز، وتنظيف البيوت، وتبادل القوالب والمكونات، لتتحول هذه الطقوس إلى لحظات من الفرح الجماعي والتكافل.
تتجلى بهجة العيد هذه السنة في كل زاوية من بيوت القرى والمدن التي عادت تنبض بالحياة، حيث تتلاقى الأحاديث والضحكات بعد سنوات من الغياب والفراق. الأجواء مليئة بالأمل والتفاؤل، فالناس يستقبلون العيد بقلوب مفتوحة وأعين تلمع بالحياة من جديد.
والفرحة الأكبر تكمن في أن هذا العيد يُحتفل به داخل البيوت التي عاد أصحابها إليها أخيراً، فالأطفال يفرحون بالحلوى التي تُعد لهم بعناية، ويشعرون بأن العيد قد حلّ حقاً عندما يرتدون ثيابهم الجديدة ويجتمعون مع أهلهم وأحبائهم. في هذه اللحظات، تكون طقوس العيد ليست فقط تقليداً، بل انتصاراً للحياة بعد سنوات من الألم والفرقة.
في المجتمعات الشرقية، لا تزال النظرة إلى المرأة المُعاقة أو التي تعاني من عيب خلقي مشبعة بالأحكام المسبقة، والنظرات الدونية، والتمييز، وكأن الجمال والكمال الجسدي شرط أساسي لتقييم المرأة وإنسانيتها، بل وحتى أهليتها للزواج والحياة الطبيعية. المجتمع السوري ليس استثناءً، بل هو أحد النماذج لهذه التحديات.
تعاني هؤلاء النساء من ثلاثي مؤلم: التنمر، صعوبات الزواج، والضغط النفسي، وكلها تتغذى من ثقافة مجتمعية ترى في العيب الخِلقي أو الإعاقة وصمة، لا مجرد اختلاف جسدي طبيعي. تحت هذه المعاناة تختبئ قصص لنساء قويات، رغم هشاشة الدعم الذي يتلقينه.
قابلنا ثلاث نسوة تجرعن مرارة تداعيات العيب الخلقي، ووافقن على نشر قصصهن لكن بشرط وضع أسماء مستعارة بدلاً من أسمائهن:
أم عبير تنمر لا يموت
تروي أم عبير، التي تعرج في مشيتها، كيف كان المجتمع قاسياً حتى في أكثر اللحظات المفترض أن تكون سعيدة: خطبتها. تقول: "عندما خطبني زوجي، أغلب الناس صاروا يقولون لي كيف ستتزوج واحدة "فصعة"؟ كأن مشيتها أصبحت جريمة تُحاسب عليها، أو عائقاً يُصادر منها الحق في الحب والزواج. ورغم أنها تزوجت وأنجبت وكبرت بناتها، إلا أن تلك الكلمة "الفصعة" بقيت تطاردها. فالعيب الجسدي هنا تحوّل إلى هوية اجتماعية، تختزل إنسانها، وألمها، وحتى علاقتها بأولادها.
المعلمة مرام: "علمي لا يكفي"
مرام، المعلمة المثقفة وذات الأداء الممتاز في مهنتها، لم تشفع لها كل شهاداتها أمام "وحمة" على وجهها. تعلق: "بعض الناس لا يرون علمي وثقافتي، ولا يستمعون إلى شهادات الأطفال بحسن تدريسي، وإنما إلى الوحمة التي في وجهي". وتضيف: "بل الأسوأ من ذلك، أن الوحمة تحولت إلى "خطر وراثي" في عيون حماتها، وعلقت:"كانت أم زوجي تقول لي لا تنظري إلى المرآة وتتوحمي، أخاف أن تنتقل الوحمة لابنتك".
التنمر من الطفولة حتى ما بعد الزواج
منذ طفولتها، لُقبت سناء بـ"العورة"، فقط لأنها حولاء، وهي صفة خلقية لا تُنقص من إنسانيتها شيئًا. تسرد قصتها بنبرة هادئة ويغلب عليها الحزن: "منذ طفولتي تعرضت للتنمر لدرجة لم أعد أرغب بإكمال تعليمي".
هذا الضغط النفسي الهائل كاد يحرمها من مستقبلها، لولا أن القدر أرسل لها رجلاً لم يُشعرها يوماً بالنقص: "تزوجت، والحمد لله زوجي أكرمني، ولا مرة تفوه بكلمة عن هذا الموضوع". لكن رغم الحب والاحترام في بيتها، فإن المجتمع ما زال يحتقرها في كل زاوية:"وإلى الآن أسمع كلمة عورة وأشعر بالإهانة."
منى ذات الحرق
قصة منى تبدأ من عمر السنتين، عندما أُصيبت بحروق في الكتف والظهر بالزيت المغلي. بسبب الفقر، لم تُعالج. كبرت والجروح في جسدها أصبحت حاجزاً اجتماعياً لا يُكسر. تقول:"عندما يتقدم لي شاب، وتصارح أمي أمه بوجود حرق في جسدي، يتراجعون عن الخطبة". وكل ما يُعرض عليها هو دور "الزوجة الثانية"، أو زوج لأرمل أو مطلق ولديه أبناء، مع أنها ما تزال في العشرين من عمرها. وإن حاولت الدفاع عن نفسها، تُنبش جراحها بأقسى الكلمات: "أحياناً عندما يريد أحد أن يستفزني ينعتني بالمحروقة".
المرأة المُعاقة أو صاحبة العيب الخِلقي في مجتمعاتنا ليست بحاجة إلى شفقة، بل إلى عدالة اجتماعية، وإلى احترام إنسانيتها وكرامتها. إن العار الحقيقي لا يكمن في جسد مغاير، بل في عقلية ترفض أن ترى الإنسان ما وراء المظهر. قصة كل من أم عبير، مرام، سناء، ومنى، هي شهادة مؤلمة على الواقع، ورسالة يجب أن تُسمع: التغيير لا يأتي إلا عندما نغيّر نظرتنا نحن أولاً.
في تشرين الأول عام 2012، وبينما كانت سوريا تغرق في دوامة العنف والاعتقالات، توجهت الشابة فاطمة إبراهيم الطوال إلى سجن دير الزور لزيارة شقيقها المعتقل حينها، أحمد إبراهيم الطوال، وفقاً لقصة نشرتها "زمان الوصل"، التي وثقت الحادثة وأكدت أن فاطمة لم تُسمح لها بالمغادرة بعد الزيارة، إذ تم توقيفها على حاجز السجن وترحيلها إلى العاصمة دمشق، وهناك انقطعت أخبارها تماماً.
منذ ذلك اليوم، لم يظهر لها أثر، لا عبر محكمة، ولا عبر زيارة، ولا حتى رسالة مقتضبة. لم توجه لها تهم، ولم يسمح لعائلتها بزيارتها أو الاستفسار عنها في أي مركز أمني. لقد اختفت فاطمة فجأة، بلا أثر.
أسرة مفجوعة بمصير مزدوج
مصير فاطمة كان جزءاً من مأساة أكبر طالت العائلة نفسها. فشقيقاها، أحمد ومحمد إبراهيم الطوال، ظهرت أسماؤهما لاحقاً ضمن قوائم "شهداء التعذيب" في سجن صيدنايا، وهو أحد أكثر السجون السورية وحشية، حيث توثق المنظمات الحقوقية عمليات تصفية جسدية ممنهجة. في بلد تحوّل فيه السجن إلى قدر محتوم، والإفراج إلى معجزة، انتهت حياة الشقيقين داخل الزنازين، بينما بقيت فاطمة بين الحياة والموت، تائهة في سراديب لا يعرفها أحد.
سوريا... بلد تحت حكم الغياب
قصة فاطمة ليست حالة نادرة، بل واحدة من عشرات آلاف القصص التي تمزج الألم بالغموض. ففي سوريا، الاختفاء القسري تحوّل إلى سياسة ممنهجة يستخدمها النظام السوري وأجهزته الأمنية لترهيب المجتمع وإخماد أي صوت معارض.
ثمن الانتظار... من الوقت حتى الصحة والكرامة
قصص المختفين لا تُروى فقط من خلال أرقامهم أو صورهم، بل من خلال ألم العائلات التي استنزفت نفسياً وجسدياً ومادياً بحثاً عن خبر أو معلومة أو بصيص أمل. بعض الأهالي باعوا ممتلكاتهم، ودفعوا المال لمخادعين أو سماسرة بحجة "الحصول على معلومة".
البعض انتظر سنوات وبعضهم انهار نفسياً، وبعض الأمهات رحلن قبل أن يعرفن إن كان أبناؤهن على قيد الحياة أو استشهدوا في أقبية المجرم بشار الأسد. بعد أن تحررت سوريا من رجس الأسد وافتُتحت السجون لم يتم العثور على آلاف المختفيين ليغلب الظن بأنه تم تصفيتهم دون رحمة.
فاطمة الطوال... أيقونة وجعٍ سوري
فاطمة لم تكن ناشطة، ولا صحفية، ولا سياسية. كانت فقط أختاً قررت أن تزور شقيقها المسجون. لكن في سورياالتي كانت محتلة من قبل الديكتاتور، كانت هذه وحدها جريمة كافية لتُغيَّب، ويُبتلع وجودها في ظلام الزنازين. قصتها، كقصة كثيرين، يجب ألا تُنسى، بل يجب أن تبقى حاضرة كصرخة تذكر العالم بأن وراء كل اسم في قاعدة بيانات هناك إنسان له حياة، وعائلة، وأحلام، وانتهى به المطاف مجرد رقم في "ذاكرة الغياب السوري".
في مشهدٍ معقّد خلّفته سنوات الحرب الطويلة في سوريا، لم تكن المرأة السورية مجرّد متلقية للألم أو شاهدة على الخراب، بل كانت فاعلة في ساحات متعددة، تخوض معركة الصمود اليومي، وتشارك في إعادة ترميم ما مزّقته الحرب، بدءاً من التعليم والإغاثة، وصولاً إلى ميادين العمل الخطرة، وأخطرها إزالة مخلفات الحرب والألغام.
ورغم توقّف المعارك العسكرية، فإن ما خلّفته من ذخائر غير منفجرة وألغام مزروعة يواصل حصد الأرواح وتشويه الأجساد، لا سيما مع عودة المدنيين إلى مناطقهم وقراهم بعد التحرير. هذه الذخائر، المنتشرة في الحقول، وبين الأنقاض، وفي المدارس والمخيمات، تحوّلت إلى أدوات قتل صامتة، تفتك بأطفال وسكان عادوا بحثاً عن الحياة.
في هذا السياق، تداول ناشطون على مواقع التواصل صورة للشابة هبة كدع (29 عامًا)، وهي إحدى المتطوعات في مجال إزالة مخلفات الحرب. وقد أثار عملها ردود فعل واسعة، لما يحمله من مخاطر جمّة في ساحة ميدانية غالبًا ما تقتصر على الرجال.
في لقاء لها مع الجزيرة نت، قالت كدع إنها اختارت هذا الطريق بعد أن شاهدت حجم المأساة التي خلفتها الألغام في المناطق المحررة، حيث فقد كثيرون أطرافهم أو أصيبوا بتشوهات، وبعضهم قضى نتيجة ملامسة أجسام مخفية لم يعرفوا أنها قاتلة.
بدأت كدع كمتطوعة في حملات التوعية، قبل أن تلتحق بدورات تدريبية في السلامة والتعامل مع الذخائر المشبوهة، مؤكدة أن هذه ليست مسؤولية ذكورية فقط، بل إن على الجميع، رجالاً ونساء، أن يشاركوا في حماية المجتمع.
وأضافت:"الحرب لا تنتهي بمجرد توقف القتال، بل تبقى آثارها تتربص بالمدنيين، والأخطر أن كثيرًا من هذه المخلفات مزروع بطرق تمويه معقدة، منها ما يبدو كلعبة، أو موضوع داخل أثاث المنازل كالثلاجات والغسالات".
وأكدت كدع أن بعض هذه المخلفات تم توثيقها في مناطق كانت تحت سيطرة النظام السابق، الذي استخدم أساليب متقدمة في إخفاء أدوات القتل، بهدف إطالة أمد الخطر حتى بعد انسحابه.
كما وجهت دعوة للمجتمع الدولي والمنظمات المختصة لتقديم الدعم اللوجستي والتقني لتطهير الأرض السورية من هذه القنابل المؤجلة، محذرة من أن أي تهاون في التعامل معها يعني المزيد من الضحايا.
وختمت حديثها بالتشديد على أهمية عدم لمس أي جسم مجهول، مهما بدا بسيطًا، وضرورة التواصل مع فرق الهندسة المختصة عند الاشتباه بأي مادة خطرة.
إن ما تواجهه سوريا اليوم لم يعد يقتصر على إعادة الإعمار المادي، بل يتطلب جهدًا وطنيًا وإنسانيًا لإزالة آثار الحرب الأشد فتكًا. وتثبت المرأة السورية مرة أخرى أنها ليست في الهامش، بل في قلب الفعل والنجاة والبناء.
إن دخول النساء إلى ميادين كانت حكرًا على الرجال، مثل تفكيك الألغام، يعبّر عن وعي جديد وشجاعة جماعية، تؤسس لمرحلة ما بعد الحرب، حيث تكون المرأة شريكة في القرار، والحماية، والإعمار، وتكمل دورها في معركة البقاء وإعادة الحياة.
في قلب مجتمع أنهكته الحرب، برزت ظاهرة تأخر الزواج كأحد الأوجاع الصامتة التي قلّما تجد من يصغي لها. لم تكن هذه الظاهرة حديثة الولادة، لكنها تضخّمت على وقع النزوح، والموت، والانهيار الاقتصادي، حتى باتت واحدة من أبرز التحديات التي تواجه المرأة السورية ما بعد 2011.
وجوه خلف الجدران
روعة، امرأة سورية تجاوزت الخامسة والثلاثين، تقول بمرارة: "كلما حضرت زفافًا، ورأيت السعادة في وجه العروس، شعرت بالحسرة. لم يكن لي نصيب بهذه الفرحة… الشباب اليوم يبحثون عن فتيات أصغر، والواقع لا يرحم".
تصريحات روعة تعكس همًّا مشتركًا تعيشه آلاف النساء السوريات، ممن تأخرت فرصهن في الزواج لا لعيب فيهن، بل لأن الحرب أغلقت أبوابًا كثيرة: فقدان المعيل، النزوح، الفقر، وأحكام اجتماعية قاسية.
أولويات الحرب... وآثارها الاجتماعية
الحرب لم تفتك بالجغرافيا فقط، بل طالت بنية الأسرة والمجتمع. آلاف الشباب السوريين قُتلوا، أو اختفوا في المعتقلات، أو هاجروا دون عودة. ومع تقلّص عدد الرجال القادرين على الزواج، وتفاقم الأزمة المعيشية، تحوّل الزواج إلى "رفاهية مؤجلة".
سلمى (43 عاماً) من ريف إدلب، تحكي: "كنت أؤجّل زواجي لرعاية والديّ المرضى... بعد وفاتهما، وجدت نفسي وحيدة في الأربعين. إخوتي عادوا لحياتهم، أما أنا فلا أعلم إن كان أحد سيطرق بابي بعد اليوم".
النزوح... حرمان من الخيارات
علا أبو أكرم (36 عاماً) عاشت عشر سنوات في مخيم أعزاز: "والدي رفض تزويجي طوال فترة النزوح… كان ينتظر العودة. اليوم عدنا، لكني أخشى أن تكون الفرصة قد ضاعت".
تعكس قصة علا وجهًا آخر من معاناة النساء في النزوح، حيث حُرمن من بناء حياة مستقرة بحجّة الظروف المؤقتة، ليتحول المؤقت إلى دائم، وينقضي العمر في الانتظار.
أعباء نفسية مضاعفة
وراء كل قصة عنوسة، حالة من القلق، الحزن، والخوف من المجهول. كثير من النساء تحدثن عن مشاعر عزلة، ومرارة، وغيرة مكتومة من صديقاتهن اللواتي يعشن حياة أسرية. وفي دراسة ميدانية بعنوان "الواقع النفسي للمرأة اللاجئة"، تبيّن أن غياب الدعم العاطفي، والضغوط العائلية والمادية، تركت آثارًا سلبية على الصحة النفسية للنساء، خاصة في المخيمات.
وصمة اجتماعية… وظلم مزدوج
رغم أن تأخر الزواج ليس خطأ فرديًا، إلا أن المرأة وحدها تُحمّل تبعاته في مجتمع تقليدي، لا يزال ينظر للزواج كمؤشر أساسي على النجاح والاستقرار.
تقول سلمى:"العنوسة ليست فقط حالة اجتماعية، بل شعور بالإقصاء. كأن القطار مضى عنك، ولن يعود".
نحو وعي اجتماعي جديد
الزواج لا يجب أن يكون معيارًا لاكتمال المرأة، لكن التعامل مع تأخره يتطلب تفكيكًا للوصمة، وإعادة تعريف لمفهوم الشراكة، بعيدًا عن العمر والجغرافيا، وقريبًا من القيم الإنسانية.
ما بين القصف، النزوح، والأحكام المسبقة، تقف آلاف النساء السوريات على مفترق طرق، وقد سرقت الحرب من أعمارهن ما لا يعوّض. إنهن لا يحتجن شفقة، بل فرصة عادلة للحياة، والحب، والاستقرار.
في الوقت الذي عمّت فيه مشاعر الفرح أرجاء سوريا بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية رفع بعض العقوبات عن البلاد، يواصل ناشطون ومنصات حقوقية نشر القصص وتوثيق الأدلة التي تدين المجرم بشار الأسد ووالده المقبور حافظ، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري طوال أكثر من خمسين عاماً من القمع والاستبداد.
وفي سياق هذه الجرائم، نشرت صحيفة "زمان الوصل" في 15 أيار/مايو الجاري قصة الشاب خليل منلا موسى، سائق أجرة من مدينة اللاذقية، الذي اختفى عام 2013 في ظروف غامضة. يروي خاله أن خليل خرج بسيارته ولم يعد، فبدأت العائلة رحلة البحث عنه في قسم شرطة اللاذقية دون نتيجة.
لاحقًا، صُدمت العائلة برؤية اسمه في نشرات الأخبار الرسمية كأحد ضحايا تفجير إرهابي، حيث بثّ التلفزيون الرسمي مشاهد لتفجير سيارة، وزُعم أن خليل كان بداخلها. لكن الحقيقة كانت أبشع: خليل اختُطف على يد عناصر مخابرات الأسد، وتم تفجير السيارة لتلفيق التهمة وتبرير الجريمة ضمن رواية "الإرهاب" التي يُتقن النظام فبركتها.
وأضاف خاله أن العائلة توجهت إلى قرية "كلماخو" بحثاً عن أي معلومات، وسألت المختار، لكنه أجابهم باستهزاء: "اذهبوا وابحثوا عنه في النهر، هناك عشرات الجثث لإرهابيين، قد تجدونه بينهم." لم يجرؤ أحد على الذهاب.
قصة خليل، وقصة قزحيا، وآلاف غيرهم، ليست استثناءً بل جزء من نمط متكرر من الإجرام الممنهج. كل ذلك يثبت أن جرائم النظام لا تسقط بالتقادم، وأن الحقيقة، مهما طال الزمن، لا يمكن دفنها.
وتتوالى الشهادات حول المعتقلين الذين تمت تصفيتهم بطرق وحشية داخل أقبية النظام، حيث لجأ النظام إلى تبرير وفاتهم بحجج غير منطقية مثل: "ضيق نفس"، "أزمة قلبية"، "إعدام بتهمة الانتماء للإخوان"، "العمالة"، "الإرهاب"، وغيرها من التهم الجاهزة التي طالما استخدمها لتصفية المعارضين.
بعد تحرر بعض المناطق من قبضة النظام المجرم السابق، بدأت تتكشف الحقيقة المروعة، حيث عُثر على مقابر جماعية ووثائق رسمية تثبت أن آلاف المعتقلين تمّت تصفيتهم داخل المعتقلات بطرق بشعة، تتنوع بين التعذيب حتى الموت أو الإعدام الميداني دون محاكمات.
هذه الحقائق، التي لطالما شكك بها البعض في بدايات الثورة، أصبحت اليوم موثقة ومثبتة بالأسماء والصور. وعند تحرر البلاد من رجس الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر عام 2024، تم الوصول للسجون، إلا أن العديد من الأهالي صُدموا بعدم إيجاد أبنائهم ليتبين أنه تم إعدامهم.
وتعيد هذه الحقائق إلى الأذهان القصة التي أثارت ضجة واسعة، وهي قصة الشاب المسيحي قزحيا، المعتقل قبل 40 عاماً، والذي تم إعدامه تحت التعذيب في معتقلات النظام بتهمة "الانتماء إلى الإخوان المسلمين" – وهي تهمة تفضح عبثية أجهزة النظام، حيث لا يمكن لعاقل أن يصدق أن شاباً مسيحياً يمكن أن يكون عضواً في تنظيم إسلامي سلفي، لكنها كانت تهمة جاهزة تُساق لأي معتقل دون أي اعتبار للواقع أو المنطق أو الدين.
اعتادتْ مجتمعاتنا المحافظة تحميل المرأة أضعاف ما يُحمّل للرجل في المواقف الصعبة، إذ يُربط الشرف غالباً بالنساء دون غيرهن. كثير من النساء اشتكين من نظرة المجتمع القاسية، خاصة عند تعرضهن لتجارب كالتوقيف أو الغياب القسري، فواجهن أحكاماً جائرة وتأويلات مسيئة تمسّ سمعتهن وكرامتهن.
قصة "ميرا" والشائعات التي تُلاحق النساء
حين انتشرت قصة هروب "ميرا" من منزل والدها للزواج، استذكرت إحدى السيدات معاناتها بعد اعتقالها، إذ واجهت شائعات وتهماً كاذبة، أبرزها أنها هربت مع حبيبها، مما سبب ألماً بالغاً لعائلتها. علّقت قائلة: "لم يكن الأمر سياسياً بقدر ما كان نتيجة مجتمع فارغ يتلذذ بالخوض في أعراض الناس".
وأضافتْ أن آلاف التعليقات كانت تردد: "هربت لتتزوج"، أو "كانت مضطهدة في بيت أهلها"، بينما رفض البعض تصديق أنها معتقلة أصلاً، واعتبروا ما حدث لا علاقة له بالثورة. وأكدت أن أثر تلك التجربة لا يزال حاضراً في حياتها، قائلة: "حتى اليوم، لم أنم. عودة ميرا أعادتني إلى قصتي... أياً تكن حقيقتها، أفكر بها وبأهلها، وبخذلان هذا المجتمع".
الظلم الاجتماعي بعد الاعتقال: وصمة تلاحق الناجيات
وقد اشتكت العديد من الناجيات من الاعتقال من الظلم الاجتماعي الذي يلاحقهن بعد خروجهن، بسبب تداول أقاويل مسيئة بحقهن، يعود أصلها إلى اعتقاد سائد بأن كل معتقلة تعرضت حتماً للاغتصاب، وهو أمر غير مؤكد في جميع الحالات.
أسهمت بعض وسائل الإعلام، من خلال الإفراط في تسليط الضوء على قصص الاعتداء الجنسي داخل المعتقلات، في ترسيخ هذه الصورة النمطية. ونتيجة لذلك، ما إن يُعرف عن امرأة أنها كانت معتقلة، حتى تتشكل عنها تصورات مشوهة تؤثر سلباً على حياتها الشخصية ومكانة عائلتها الاجتماعية.
خوف الناجيات من الظهور الإعلامي: بسبب الوصمة الاجتماعية
هذه الوصمة دفعت العديد من الناجيات إلى العزوف عن الظهور الإعلامي أو المشاركة في جهود التوثيق. خلال عملنا على هذا الملف، تواصلنا مع إحدى الناجيات بهدف توثيق تجربتها ومشاركة قصتها، وقد أبدت في البداية استعداداً للحديث، لكنها بعد نحو عشر أيام، اعتذرت عن المتابعة بسبب خطوبتها، إذ طلب منها خطيبها عدم التواصل مع الصحفيين حفاظاً على خصوصيتهم وتجنباً للتعليقات التي من الممكن أن ترد. احترمنا رغبتها، باركنا لها الخطوبة، وقررنا الانسحاب.
وبالمثل، رحبت ناجيات أخريات بفكرة المشاركة، لكنهن وضعن شرطاً أساسياً، وهو استخدام أسماء مستعارة ضمن المادة الصحفية، مع تعديل بعض التفاصيل المتعلقة بمكان الإقامة أو الانحدار الجغرافي، خوفاً من أن يتعرف عليهن أحد، مما قد يتسبب لهن أو لعائلاتهن بوصمة اجتماعية أو مضايقات لا يرغبن بخوضها.
تجربة "رقية" والشائعات الملاحقة
تروي رقية، وهي شابة أُوقفت على حاجز لقوات النظام عام 2015، قائلة: "كنت أعود من مدينة حماة، التي كانت تحت سيطرة نظام المجرم بشار الأسد، إلى قريتي في ريف إدلب الجنوبي. كانت الحافلة تقلّ عددًا من أبناء القرية، ولم أكن وحدي. لم يُطلب من أي امرأة النزول، ولم يُجرِ العناصر حديثاً معنا، بل اقتصر الحديث على الرجال.
وتضيف: رغم ذلك، لاحقتني الشائعات، وتعرض والدي لكثير من الكلام الجارح، إذ بدأ الناس يلومونه لأنه سمح لي بالسفر لإكمال دراستي الجامعية في حماة. مرت نحو عشر سنوات على الحادثة، وما زال البعض يتحدث عنها، رغم أنني لم أُعتقل، ولم يُحقق معي، ولم أغادر الحافلة أصلاً"
وتابعت: "في إحدى المرات، كنت برفقة والدتي في زيارة إلى منزل أحد الأقارب. كانت الغرفة مكتظة بأشخاص أعرف بعضهم، وآخرين لا أعرفهم. فجأة، قالت لي إحدى الحاضرات أمام الجميع: (مو أنت اللي نزّلوكي العساكر على الحاجز؟) شعرت والدتي حينها بإحراج شديد، فغادرنا المكان فوراً".
التعليقات الجارحة بعد الخروج من السجن
تضيف إحدى الناجيات: "بعد خروجي من السجن، تفاجأت بكمّ التعليقات غير اللائقة التي كنت أسمعها من الناس، دون أي مراعاة لتأثير الكلام على من مرّ بتجربة قاسية. ما معنى أن يسأل أحدهم فتاة: هل حصل معك شيء؟ ثم يعلّق على إجاباتها بالتشكيك أو الاستغراب، وكأن الألم بحاجة لإثبات حتى يُصدق. لم أتعرض للاغتصاب، لكن نظرات الناس وأسئلتهم كانت كفيلة بأن تجعلني أشعر وكأني أُدان لمجرد أنني اعتُقلت."
دور الإعلام والمجتمع في التصحيح
لمواجهة هذا الظلم المجتمعي، يبرز دور الإعلام المسؤول في تفكيك الصورة النمطية المرتبطة بالمعتقلات، وتسليط الضوء على تجاربهن بكرامة واحترام. كما تُعد حملات التوعية المجتمعية والدعم النفسي للناجيات خطوات ضرورية، إلى جانب سنّ قوانين تجرّم التشهير وتحمي النساء من الوصمة الاجتماعية. إتاحة المجال للناجيات لرواية قصصهن بأمان قد يكون بداية تغيير حقيقي في نظرة المجتمع.
نحو مجتمع أكثر عدالة
يبقى التحدي الأكبر ليس في خروج النساء من المعتقل، بل في خروجهن من دائرة الشك والوصمة المجتمعية. فاستعادة الكرامة لا تكتمل إلا حين يتوقف المجتمع عن معاقبتهن مرتين: مرة على ما تعرضن له، ومرة على ما لم يفعلن. إن منح الناجيات مساحة آمنة للبوح، ومساندتهن بدل التشكيك بهن، هو الخطوة الأولى نحو عدالة اجتماعية طال انتظارها.
يُعتقد أن السجن هو أشد ما يمكن أن يواجهه الإنسان، لكن العديد من المعتقلين السابقين يكتشفون أن الخروج منه ليس نهاية الألم، بل بدايته. فالمعاناة لا تقتصر على جدران الزنزانة، بل تمتد لتغطي تفاصيل الحياة بعد استعادة الحرية.
قصة محمد: التغيير الذي لا يُحتمل
تجسد قصة محمد هذه الحقيقة المؤلمة. بعد ثلاث سنوات من الاعتقال والتعذيب الجسدي والنفسي، خرج من السجن ليجد نفسه محملاً بندوب لا تندمل بسهولة. كان يظن أن لحظة الخروج ستنهي معاناته، لكنه اكتشف أن العالم الذي تركه قد تغير بشكل جذري. فقد شقيقين خلال غيابه، وتحولت قريته إلى ساحة حرب. أصدقاؤه الذين شاركوه الحلم سقطوا شهداء، والوطن الذي كان يعرفه لم يعد كما كان. لا أمان، ولا عمل، ولا انتماء.
على الرغم من كل ذلك، لم يسمح محمد لليأس أن يسيطر عليه. قرر العودة إلى الأرض، حمل المعول، وبدأ من جديد. زواجه وإنجابه كانا نقطة تحوّل، لم يكن هروبًا من الواقع، بل مسؤولية جديدة منحته سببًا للتمسك بالحياة. أصبح يقاوم من أجل أبنائه، كي لا يعيشوا ما عاشه هو.
قصة قصي: من الألم إلى الأمل
أما قصي، الشاب الذي مر بتجربة اعتقال قاسية، فقد ذاق أنواعًا من التعذيب والترهيب، وخرج من السجن محملاً بجراح داخلية لا تُرى، لكنها لم تكسره. وجد نفسه أمام خيارين: أن يبقى أسير الذكريات، أو أن يبدأ حياة جديدة. فاختار الطريق الأصعب. التحق بدورات تدريبية، تعلّم مهارات جديدة، وبدأ العمل مع منظمات إنسانية. أعاد بناء نفسه، وبنى أسرة، وحوّل ألمه إلى طاقة تدفعه لخدمة الآخرين، ليصبح نموذجًا لقوة الإنسان على النهوض.
فاطمة: تحدّي المجتمع والظروف
وفي زاوية أخرى من هذا المشهد، تبرز قصة فاطمة، التي اعتُقلت لشهرين فقط أثناء مرورها بمناطق سيطرة النظام. ورغم ما عانته من عبء النظرة المجتمعية كامرأة معتقلة، رفضت أسرتها السماح لها بالانكسار، فاحتضنتها ودعمتها. وعندما فُتحت الجامعات في شمال غربي سوريا، التحقت بأحدها، وعملت في التعليم والتدريب، وتزوجت، وأنجبت ثلاثة أبناء. فاطمة تمثل المثال الحي على أن الدعم الأسري والمجتمعي قادر على صناعة الفارق في حياة الأفراد.
ما بعد الألم: الإرادة طريق النجاة
تُظهر هذه القصص، مثل العديد من الحكايات التي لا تصل إلى الأضواء، أن من يخرج من المعتقل لا يحتاج فقط إلى التهاني، بل إلى دعم نفسي، واحتواء اجتماعي، وفرص حياة كريمة. فآثار الاعتقال لا تختفي بمجرد الخروج من السجن؛ بل تحتاج إلى وقت وعناية لتتعافى النفس ويستعيد الإنسان توازنه.
إعادة بناء الثقة بالنفس وإحياء الأمل لا تكون مسؤولية الفرد فقط، بل هي مسؤولية المجتمع ككل. فحين يجد المعتقلون السابقون من يعينهم على النهوض، ويشجعهم على المضي قدمًا، تتحقق عملية التعافي بشكل أسرع وأكثر فاعلية. المجتمع الذي يقف إلى جانب ضحاياه لا يُعيد بناء أفراده فقط، بل يُعيد بناء ذاته أيضًا. لذا، فإن الاستثمار في دعم هؤلاء الأفراد ليس فقط في مصلحتهم الشخصية، بل في مصلحة المجتمع ككل، حيث يُسهم في إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتعزيز التماسك المجتمعي.
الاحتضان المجتمعي: خطوة نحو إعادة الدمج
الاحتضان المجتمعي هو الخطوة الأولى نحو إعادة دمج الأفراد في المجتمع، وقد ثبت نجاحه في العديد من الحالات. من نجا من السجن ثم واجه الحياة مجددًا لا يُنظر إليه كضحية فقط، بل كصاحب تجربة نادرة، وإرادة حياة، وحق في العدالة.
عندما سقط الجلّاد: حلم العدالة الذي لم يتحقق بعد
وفي اللحظة التي سقط فيها الجلاد، بكى العديد من الناجين من الاعتقال. بكوا لأنهم شعروا أن شيئًا من كرامتهم قد عاد إليهم، لكن حلمهم بالعدالة لم يتحقق بعد. فالحريّة بلا محاسبة ناقصة، والانتصار بلا عدالة هو انتصار مؤقت.