
بيان الهجري يكشف الرفض الداخلي له رغم محاولات شرف الدين تحويله لـ "آله" غير قابل للنقد
أثار البيان الأخير الصادر عن الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الدروز في السويداء، جدلاً واسعًا داخل الأوساط الدرزية والسورية عمومًا، بعدما تضمّن إشارات لغوية وسياسية اعتُبرت خروجًا على الثوابت الوطنية، أبرزها استبدال اسم “جبل العرب” التاريخي بمصطلح “جبل باشان” ذي الجذور التوراتية، إضافة إلى دعواته لتدويل ملف السويداء عبر مناشدة الأمم المتحدة ومجلس الأمن التدخل في شؤون المحافظة.
أثار البيان جدلًا واسعًا بين أبناء الطائفة الدرزية، بين من يرفض هذا التودّد والتقرب من إسرائيل مؤكدين أنهم سوريون أولًا وأخيرًا، وبين من يراه خطوة سياسية ضرورية لكسب دعم إسرائيل في تشكيل “دولتهم المزعومة”. وبين هذا وذاك، يبدو أن الهجري يجرّ السويداء بأكملها إلى مصيرٍ مجهول، ربما لا يدرك هو نفسه إلى أين يمضي بها، فيما يقف خلفه من يعينه على هذا المسار.
انقسام درزي متزايد
في مواجهة هذا البيان، قال المتحدث باسم حركة رجال الكرامة، باسم أبو فخر، في فيديو نشره على صفحته الشخصية على “فيسبوك”، شرح فيه المسار التاريخي لاسم السويداء، بدأ من جبل باشان حتى جبل العرب، وعلّق على الفيديو المنشور قائلًا:
“إن أبناء الجبل ما زالوا عربًا وسوريين قبل أن يكونوا دروزًا، ولم يصبحوا يهودًا أو متصهينين، وما زال سلطان الأطرش قدوتنا ومثلنا الأعلى”، وشدد أنهم أهل الأصالة وأن جبلهم اسمه جبل العرب.
وفي المقابل، كان أبو فخر واضحًا بعدائه للدولة السورية في الفيديو الذي نشره حيث وصفها بـ”سلطة الإرهاب” واتهمها بارتكاب المجازر، وعلى الرغم من هذا العداء، كان واضحًا وإن بشكل غير مباشر برفضه لتوجهات الهجري التي تدفع وترمي السويداء بحضن إسرائيل.
كلام أبو فخر فجّر غضبًا واسعًا بين العديد من أبناء الطائفة الدرزية، إذ اتهمه بعضهم بالخيانة العظمى، ووصل الأمر إلى دعوات علنية لاعتقاله أو حتى قتله. وكان واضحًا حجم الهجوم عليه بمجرد المرور على الصفحات والشخصيات الداعمة للهجري. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن شخصًا بحجم أبو فخر، وقدر مكانته داخل الطائفة، تعرّض لمثل هذا الكم من التهديد، فكيف سيكون حال أي شخصٍ عادي في السويداء لو تجرأ على قول الرأي نفسه؟
شرف الدين يؤسّس لخطاب تأليه
بالتوازي مع الجدل حول البيان، صعّد الإعلامي ماهر شرف الدين – المعروف بمواقفه المعادية للدولة السورية – من لهجته الدفاعية عن الشيخ الهجري، معتبرًا أن الأخير “رمز وجودي لا يجوز المساس به”، وأن أي نقد له هو “خيانة” للطائفة.
هذا الخطاب، الذي يخلط بين القداسة الدينية والولاء السياسي، اعتبره محللون محاولة ممنهجة لتأليه الهجري وتحويله إلى زعيم غير قابل للنقد، بما يكرّس حالة استقطاب خطيرة داخل الطائفة الدرزية، ما يعني تهديدًا مبطنًا لجميع الدروز حتى أولئك الذين يحاولون مجرد التصويب والنقد البنّاء.
خطاب شرف الدين يحمل تهديدًا لجميع من يحاول من الدروز التطاول على شخص الهجري، ويضعه في خانة الخيانة بمجرد التحدث عنه بأي شيء يمس توجهاته، وهو ما يراه الكثيرون حتى من أبناء الطائفة الدرزية محاولة لخلق “آله” أو على أقل تقدير طاغية جديد بطابع ديني.
اتفاق عمّان يكشف رفض الهجري لجميع الحلول
في أغسطس – سبتمبر 2025، تم التوصل إلى اتفاق ثلاثي في عمّان (سوريا – الأردن – الولايات المتحدة) لحل أزمة السويداء عبر خارطة طريق تشترط وحدة الأرض السورية وتمكين التمثيل المحلي وإعادة الخدمات.
إلا أن اللجنة القانونية العليا في السويداء، التي تتبع للهجري، رفضت الاتفاق معتبرة أنه يفرض وصاية خارجية وينقصه تمثيل حقيقي داخل المحافظة.
في المقابل، كانت الدولة السورية قد اعترفت في مناسبات سابقة بوجود تجاوزات ارتكبها بعض عناصرها بحق الدروز خلال الأحداث، وأكدت الحكومة مرارًا وتكرارًا أنها ستقوم بالتحقيق ومحاسبة كل من ارتكب أي انتهاكات بحق جميع الأطراف.
ورغم اعتراف الدولة بحدوث تجاوزات من بعض عناصرها، فإن الملفت أن الهجري بدوره يتجاهل الحديث عن الانتهاكات التي ارتكبتها مجموعاته المسلحة ضد أبناء البدو في المنطقة، وكأنها طرف منزه بالكامل.
وهنا نستشف أن الهجري لا يكتفي بتدمير السويداء عبر خطاباته المعادية، بل يعارض الخطط العملية والحلول التي قد تضعه في موقع تفاوض داخلي أو شراكة مع دمشق، مفضلاً أن تكون الحلول من خارج الإطار الوطني عبر إسرائيل.
وعندما يُوجه الهجري المشروع الذي يصبو إليه نحو التقارب والتودد لإسرائيل عبر تغيير تسمية الطائفة وحذف اسم المسلمين منها تارة، وتغيير اسم الجبل تارة أخرى من جبل العرب إلى جبل باشان، وتحويل أيام المظاهرات الأسبوعية في السويداء من يوم الجمعة إلى يوم السبت، يصبح واضحًا أن مشروع الهجري لم يعد يتجه لدمشق إطلاقًا، بل يرسل رسالة أسبوعية إلى تل أبيب أنه يتذلل لها طالبًا القرب منها.
وطموح الهجري بدولة مستقلة أو كيان تابع لإسرائيل غير منطقي وعملي، فالسويداء متنوعة؛ غالبيتها من الدروز، ويوجد فيها نسبة كبيرة أيضًا من البدو السنة والمسيحيين، وجميعهم من العرب، كما أن السويداء تقع في محيط سني بالكامل لا يربطها أي حدود مع إسرائيل، مما يجعل فكرة الانفصال أو الانتساب لإسرائيل فكرة غير قابلة للتطبيق عمليًا.
أصوات تطالب بالعودة إلى دمشق
لهذا السبب تبرز بوضوح بين الحين والآخر أصوات من الطائفة الدرزية تطالب الهجري بالتعقل، وبتقديم رؤى واقعية تفتح جسرًا مع دمشق وليس مع الخارج، لأن الحل الحقيقي لمشكلة السويداء لا يمر إلا عبر الدولة السورية، وليس من خلال مشاريع خارجية أو انفصالية.
الأصوات التي ترتفع بين الفينة والأخرى هي من ضمن الطائفة الدرزية نفسها، التي لا ترى بالهجري رجلًا سياسيًا أو لديه رؤية واقعية، حيث يعيش عشرات الآلاف من النازحين في مدينة السويداء، ولم يتمكن لغاية اللحظة من إيجاد أي حلول لهم لإعادتهم إلى قراهم الواقعة تحت سيطرة الدولة، كما أنه لم يتمكن من الإفراج عن مختطف واحد موجود لدى البدو، بل الدولة السورية هي من تتوسط لدى البدو لإخراجهم.
للبدو مطالب أيضًا، منها الإفراج عن أبنائهم المختطفين لدى الهجري وميليشياته والكشف عن مصير أبنائهم الذين قتلوا ودفنهم الهجري في مقابر جماعية، وايضا العودة إلى قراهم وأحيائهم، وهنا أيضًا يتجاهل الهجري أي حقوق للبدو في السويداء، حيث يريدها صافية له ولطائفته فقط دون غيرهم، متجاهلًا أن لهم أملاكًا وأراضي وعقارات ومحلات.
يرى مراقبون أن الأزمة الأخيرة كشفت عمق الانقسام داخل الطائفة الدرزية بين تيار وطني يسعى للحفاظ على موقع السويداء ضمن الدولة السورية، وتيار آخر يحاول تسويق مشروع سياسي انفصالي تحت غطاء ديني.
وتُظهر الأحداث أن بيان الشيخ الهجري لم يكن مجرّد تصريح ديني، بل وثيقة سياسية تعبّر عن تحوّل في الرؤية والتموضع، فيما يلعب ماهر شرف الدين دورًا في تغليف هذا التحوّل بخطاب تعبوي طائفي يجرّ الجبل إلى عزلة عن محيطه الوطني.
غير أن الأصوات الوطنية من داخل السويداء وخارجها ما تزال ترفض هذا المسار، متمسكة بثوابتها التاريخية وبأن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا الموحدة، مهما تعددت الأسماء أو تبدّلت الشعارات، وأن الطريق للحل يبدأ بتغيير البوصلة نحو دمشق.