مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى

أثار فيديو إعدام أحد الأشخاص داخل مستشفى السويداء الوطني، قبل أيام، موجة واسعة من الغضب والإدانة، اجتاحت المنصات الإعلامية والحقوقية على السواء. وانهالت المواقف من شخصيات عامة، ومسؤولين رسميين، ومؤسسات حقوقية، معتبرة أن ما حدث يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون، وضربًا لقيم الدولة والمؤسسات، وإهانة للعدالة.

وهذا الغضب، على فظاعته، كان مفهومًا تمامًا، رغم عدم وضوح ملابسات الحادثة بشكل كامل حتى اللحظة. ومع ذلك، فإن ما لا خلاف عليه هو أن إذلال أفراد الطواقم الطبية أو استهدافهم، سواء ميدانيًا أو معنويًا، أمر مرفوض بالمطلق.

لكن يفترض أن تكون معايير الأخلاق والعدالة واحدة. فعندما تقع انتهاكات هنا أو هناك، يجب إدانتها جميعًا دون تمييز، وعدم الانحياز لطرف ضد آخر لمجرد القرب الفكري أو الطائفي. فالانتهاك يبقى انتهاكًا، سواء صدر من صديق أو من خصم.

اليوم، وفي مشهد لا يقل خطورة، انتشر مقطع مصور يُظهر مجموعة مسلحة تتبع لميليشيات حكمت الهجري، وهي تطلق النار مباشرة على المسجد الكبير في مدينة السويداء، ما أدى إلى تدمير أجزاء من بنائه وتخريب محتوياته، وسط شعارات طائفية فجّة. مشهد يُنذر بموجة غضب طائفي، وقد يجر وراءه تداعيات لا تُحمد عقباها.

اللافت في هذه الحادثة لم يكن فقط الاعتداء على أحد دور العبادة، بل الصمت شبه الكامل من ذات الجهات والشخصيات التي كانت الأعلى صوتًا في إدانة مشهد القتل داخل المستشفى. تلك الأصوات غابت أو تجاهلت، وكأن استباحة مسجد لا تستحق موقفًا أو إدانة، فقط لأن الفاعل هذه المرة من “جماعتها”، أو لأن الضحية لا يتوافق مع الامتداد السياسي أو الطائفي لها.

هذا الصمت الانتقائي، الذي تحكمه الهوية والانتماء والمزاج، لا يقل خطرًا عن الانتهاك ذاته. بل إنه يكرّس ثقافة أخطر، تقوم على تصنيف الضحايا وشرعنة الظلم متى ما وافق هوى البعض، وتحوّل العدالة إلى أداة انتقائية، لا قيمة لها إلا حين تناسب الانحيازات.

الاعتداء على المسجد لا يمكن فصله عن سياق التوترات الطائفية المتصاعدة في السويداء، في ظل تنامي سلطة الفصائل المسلحة، وتزايد الخطاب التحريضي والطائفي، لا سيما من شخصيات ذات تأثير واسع داخل الطائفة الدرزية، أمثال ماهر شرف الدين، الذي لم يتوقف منذ أسابيع عن ضخ خطاب عدائي صريح ضد المسلمين السنة.

وفي ظل غياب القانون، وعدم القدرة على محاسبة أي طرف متورط بانتهاكات — سواء داخل الفصائل المسلحة أو خارجها — تستمر بعض الجهات في تحميل الدولة كامل المسؤولية عن كل ما يجري، بينما تتغاضى تمامًا عن مسؤولية ميليشيات الهجري، التي ارتكبت انتهاكات موثقة ضد أبناء العشائر البدوية، من قتل وتهجير وتدمير للممتلكات.

ما يجري في السويداء هو اختبار حقيقي للنخب والمثقفين والناشطين، الذين لطالما تحدثوا عن العدالة والحياد الأخلاقي، لكن كثيرًا منهم يتراجعون عن هذه القيم عندما يكون الطرف المخطئ هو ذاته الذي يدعمونه. بل يسارع بعضهم إلى اختلاق مبررات سخيفة لأفعال لا يمكن الدفاع عنها بأي معيار أخلاقي أو قانوني.

فهل تُرفع الأصوات هذه المرة دفاعًا عن حرمة المسجد كما رُفعت سابقًا دفاعًا عن المقتول في المستشفى؟ أم أن المعايير ستبقى مزدوجة، والإدانات انتقائية، تُقاس بميزان الطائفة والانتماء لا بميزان العدالة؟

العدالة لا تتجزأ. من يرفض القتل، يجب أن يرفض أيضًا تدنيس دور العبادة. ومن يندد بغياب القانون في المستشفى، يجب أن يرفضه أيضًا حين يغيب في المسجد. أما من يختار الصمت حين لا تناسبه هوية الضحية، فلا يمكنه بعد اليوم التحدث باسم الإنسانية أو الأخلاق.

في لحظة كهذه، تبدو سوريا بأمسّ الحاجة إلى خطاب وطني نزيه، لا يستند إلى الخلفيات المذهبية ولا الاعتبارات الفصائلية، بل إلى القيم التي تُبقي المجتمعات موحدة وتحول دون سقوطها في مستنقع الكراهية والدمار.

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية

لم يكن يوم 8 ديسمبر 2024 مجرد لحظة سياسية عابرة في تاريخ سوريا، بل شكّل لحظة مفصلية أنهت عهدًا امتد لأكثر من عقد من الحرب والقمع بقيادة الإرهابي الفار بشار الأسد، وفتحت الطريق أمام إعادة تشكيل الدولة السورية على أسس جديدة قوامها السيادة والكرامة والعدالة، ومع هذا التغير التاريخي، برز سؤال جوهري: كيف ستتعامل سوريا الجديدة مع التحالفات القديمة، وعلى رأسها العلاقة المعقدة مع روسيا؟

لقد اتسمت علاقة نظام الأسد البائد مع موسكو بقدر كبير من التبعية السياسية والعسكرية، بل والاقتصادية، فالدعم الروسي العسكري في وجه الثورة السورية، وعمليات القصف التي طالت المدنيين، تركت جراحًا غائرة في ذاكرة السوريين. 

لكن، مع مجيء الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تغيّرت معادلة التعامل مع روسيا: لم تعد دمشق تتلقى الإملاءات، بل باتت تصوغ أولوياتها الوطنية بوعي واستقلال، وتسعى إلى بناء علاقات متوازنة تحفظ مصالح الشعب السوري.

وفي هذا السياق، تحمل زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو رمزية واضحة، فهي ليست امتدادًا لاتفاقات أُبرمت في عهد النظام البائد، بل بداية مراجعة شاملة لتلك الاتفاقات، فالمطلوب اليوم ليس مجرد تعديلات شكلية، بل إعادة تعريف العلاقة على أساس الاحترام الكامل للسيادة السورية، ورفض أي تبعية تُعيد إنتاج الهيمنة السابقة.
ما ورّثه الأسد لحكومته الجديدة لم يكن فقط خرابًا سياسيًا ومؤسساتيًا، بل شبكة من الالتزامات الاقتصادية الجائرة، أبرزها ديون وصفقات مشبوهة مع شركات روسية في مجالات النفط والقمح والطاقة، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة، لا بد من إعادة التفاوض على هذه الملفات بما يضمن العدالة والشفافية والمصلحة الوطنية، ويضع حدًا لاستغلال سوريا كـ"سوق تصريف" لمصالح أطراف خارجية.
إن إصرار الحكومة السورية على فتح هذه الملفات مع موسكو لا يُمثّل عداءً أو قطيعة، بل تعبيرًا عن نضج سياسي يعيد تعريف العلاقة وفق أسس الشراكة لا الوصاية. وهذا التوجه لا يقتصر على العلاقة مع روسيا فحسب، بل يشمل كافة التحالفات والعلاقات الدولية التي تنسجم مع الرؤية السورية الجديدة.
تسعى سوريا اليوم إلى الخروج من أسر "الاصطفافات الجغرافية" التي طالما كبّلتها، فليست دمشق في وارد العودة إلى محور سياسي ضد آخر، بل تعمل لبناء موقع مستقل يضع المصلحة السورية فوق كل اعتبار، إنها فرصة تاريخية لسوريا لأن تعود إلى المجتمع الدولي من موقع القوة الأخلاقية، بوصفها بلدًا خرج من تحت أنقاض الاستبداد ليبني نموذجًا جديدًا لدولة ديمقراطية مستقلة.

إعادة الإعمار في سوريا ليست مجرد مشروع عمراني أو بنية تحتية، بل اختبار سياسي لمدى قدرة الحكومة السورية على الدفاع عن استقلال قرارها. وفي هذا السياق، لن يكون هناك مكان لأي شراكة لا تعترف بسيادة الدولة السورية، فالمطلوب من الحلفاء - الروس وغيرهم - هو احترام هذه السيادة وتقديم الدعم بشروط نزيهة وعادلة، لا تنتقص من القرار الوطني.

إن سوريا الجديدة، كما تتطلع إليها غالبية السوريين، هي دولة المواطن لا دولة الحاكم، وهي سوريا التي تنتمي للعالم لا لمحور، وتبني علاقاتها وفق قواعد الاحترام المتبادل لا التبعية، وإذا كان الاجتماع في موسكو اليوم يرمز إلى شيء، فهو أن صفحة جديدة تُكتب بعقول السوريين لا بأوامر الخارج، وبيد حكومة تُعيد الاعتبار للسيادة وتعيد الشعب إلى موقع القرار.

ومما لاشك فيه فإن التحولات الجارية في سوريا ليست مجرد تغييرات في السلطة، بل هي تحوّل في البوصلة الوطنية، من حكم الفرد إلى حكم المؤسسات، ومن الاستبداد إلى سيادة القانون، ومن الانغلاق إلى الانفتاح المسؤول، وهذا هو الاختبار الحقيقي لسوريا بعد الأسد: هل تملك الإرادة لتكون دولة حرة، قادرة على ترميم جراحها، وبناء مستقبلها بيد أبنائها؟ كل المؤشرات تقول: نعم، الطريق بدأ.

اقرأ المزيد
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية

فضل عبد الغني
يمثّل الانتقال السياسي في أعقاب الصراعات المسلحة الداخلية منعطفاً حاسماً في مسار أي دولة نحو السلام المستدام والحكم الديمقراطي، وفي الحالة السورية، تكتسب هذه المرحلة الانتقالية أهمية استثنائية، نظراً لتزامنها مع تحديين مترابطين: إعادة بناء مؤسسات داخلية منهارة، وإدارة تهديدات خارجية معقدة ومتعددة الأوجه وفي مقدمتها الاحتلال والعدوان الإسرائيلي.

يجادل هذا المقال بأن نجاح سوريا في مواجهة هذه التهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية يتوقف على التعزيز المنهجي للبنى الداخلية، فالتحولات التي تُركّز على النهج التنازلي وتتجاهل العمليات التشاورية الشاملة، تقود بالضرورة إلى تفكك المؤسسات واستمرار حالة اللااستقرار.

في المقابل، تُظهر النماذج الناجحة أن المؤسسات الانتقالية التعددية، والمشاركة السياسية الواسعة، والحماية المتكاملة للحقوق، تشكّل الأسس الضرورية لتوافقات تأسيس الدولة وترسيخ ديمقراطية مستدامة، وأنّ التحوّل السياسي في سوريا لا يمكن أن يُختزل في عملية نقل للسلطة أو إصلاح مؤسسي سطحي، بل يجب أن يُفضي إلى إعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الدولة والمجتمع.

ركائز التوحيد الداخلي
ينطلق الإطار النظري لفهم التحول السياسي في سوريا من النموذج المتكامل لترسيخ الديمقراطية الذي طوّره لينز وستيبان، والذي يُحدّد خمس مجالات مترابطة لتحقيق التنمية الديمقراطية المستدامة: (المجتمع المدني، المجتمع السياسي، سيادة القانون، البيروقراطية الحكومية، الاقتصاد المؤسسي)، لا تعمل هذه المجالات كوحدات منفصلة، بل كنظم متشابكة يحدد تفاعلها الجماعي نجاح عملية الانتقال بعد الصراع.

تبرز العلاقة بين التصميم المؤسسي ومنع تكرار النزاع المسلح كعامل أساسي في نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا.

وتُظهر الدراسات المستقاة من تجارب دول ما بعد النزاع أن الهياكل المؤسسية المصممة بعناية تُشكّل أدوات فاعلة لإدارة التحديات الداخلية ومواجهة التهديدات الخارجية، كما تشير إلى أن المؤسسات القائمة على آليات صنع قرار توافقية، والمدعومة بأطر للمشاركة والمراقبة الأممية، تُسهم بشكل كبير في تقليص احتمالات تجدد الصراع، ويُعدّ هذا الاستنتاج بمنزلة نقد مباشر للنُهج التي تُغلب التغيير السريع على حساب التصميم التشاركي الشامل.

تلعب آليات اتخاذ القرار التوافقي دوراً محورياً في منع الانقسامات المجتمعية خلال الفترات الانتقالية، وتشير العديد من أدبيات الانتقال السياسي إلى أن ترتيبات تقاسم السلطة تُعزز فرص السلام عبر ثلاث آليات مترابطة:

تقديم ضمانات أمنية للفئات المتحاربة سابقاً.
تأكيد المشاركة السياسية المستقبلية لهذه الجماعات ضمن بنية الدولة.
إنشاء مؤسسات تُتيح معالجة مظالم الماضي بشكل بنّاء.
ويُسهم هذا التكامل في تحويل النزاع الصفري إلى منافسة ديمقراطية بنّاءة، مما يعزّز قدرة الجبهة الداخلية على مواجهة الضغوط الخارجية من دون اللجوء إلى استبداد جديد أو عنف متجدد.

المشاركة السياسية كبنية تحتية ديمقراطية
إن المشاركة السياسية لجميع مكوّنات المجتمع تمثل ركيزة محورية لتعزيز الجبهة الداخلية خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، هذا النموذج التشاركي يجب أن يشمل المشاركة الفعّالة في بناء المؤسسات، وصياغة السياسات، وتشكيل هياكل الحوكمة، لأن المشاركة الواسعة تؤدي أدواراً متعددة: فهي تمنح المؤسسات شرعية مجتمعية، وتفتح قنوات سلمية للتعبير عن المظالم، وتُعزز التماسك الاجتماعي الضروري لترسيخ الديمقراطية.

تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية..

تتجلى فعالية المشاركة السياسية في قدرتها على تحويل المؤسسات من هياكل مفروضة إلى تعبيرات أصيلة عن الإرادة العامة، فعندما تُهيئ المؤسسات الانتقالية بيئة شاملة للمشاركة، فإنها تولّد ما يُعرف بـ"شرعية المدخلات"، أي الشعور بأن بنية الحكم تعكس القيم والتفضيلات الجمعية، وتُعد هذه الشرعية ضرورية لضمان الالتزام بالمعايير الديمقراطية الجديدة ومنع عودة البُنى الموازية التي قد تُقوّض الدولة في مواجهة التحديات الخارجية.

كذلك، تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية، ويجب أن تُصمَّم هذه القنوات بحيث تكون متاحة لجميع فئات المجتمع، لا سيما الفئات المهمشة تاريخياً أو المتضررة من النزاع، وهنا تتبدى العلاقة التكاملية بين الشمولية المؤسسية والمشاركة الشعبية: فكل منهما يُعزّز الآخر، ويُسهم في بناء منظومة ديمقراطية مرنة قادرة على التكيّف مع الأزمات من دون الانهيار.

إطار الحقوق وحماية الأقليات
تبرز حماية حقوق الأقليات كركيزة لمنع اندلاع الصراعات وتعزيز الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، وتشير أدبيات الانتقال السياسي إلى أربع فئات أساسية من هذه الحقوق ينبغي معالجتها بشكل مباشر: الحق في الوجود، الذي يحمي الجماعات من التهجير القسري أو الإقصاء الجسدي؛ والحق في الهوية، الذي يضمن حرية التعبير الثقافي واللغوي والديني؛ والحق في عدم التمييز، الذي يُكفل المساواة أمام القانون؛ وأخيرًا، الحق في المشاركة السياسية والاقتصادية، الذي يُتيح الانخراط الفعّال في عمليات الحوكمة والتنمية.

يتجاوز تكريس هذه الحقوق في الدستور مجرد الالتزام الرمزي، إذ يُشكّل قاعدة قانونية صلبة للوقاية من تجدد الصراع.

وتبيّن التعديد من التجارب أنه عندما تُحمى حقوق الأقليات دستورياً وتُفعّل عبر النظم الانتخابية، والمؤسسات القضائية، والهياكل التعليمية قبل تصاعد التوترات، فإن احتمالية اندلاع نزاعات عنيفة تتراجع بدرجة ملحوظة.

وتكتسب هذه الوظيفة الوقائية أهمية مضاعفة في السياق السوري، حيث يُعد التعايش بين جماعات متنوعة ضمن بنية ديمقراطية موحّدة ضرورةً لا مفر منها، شرط الحفاظ في الوقت نفسه على الهويات الخاصة لهذه الجماعات.


ولا تقتصر الإمكانات التحويلية للنهج القائم على الحقوق على منع الصراعات، بل تمتد لتشمل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جذورها، وتُشدد أدبيات العدالة الانتقالية على أن تكون الأطر الحقوقية متمحورة حول الضحايا، وأن تعزّز ملكية المجتمع لعملية التحول.

يعمل هذا النهج على مستويات متعدّدة: فهو يُحوّل الضحايا من متلقين سلبيين إلى فاعلين يملكون حقوقًا؛ ويُسهِم في المصالحة عبر الاعتراف بالانتهاكات الماضية؛ ويُعيد بناء مؤسسات الدولة التي كانت سببًا أو أداة في استمرار انتهاكات الحقوق.

إن تمكين الأفراد والمجتمعات من التعبير عن ذواتهم كأصحاب حقوق يُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، ويُعزز بالتوازي شرعية النظام الديمقراطي والتماسك المجتمعي.

آليات التحول المستدام – التماسك الاجتماعي والمواطنة التعددية
يُعرَّف التماسك الاجتماعي بأنه قدرة المجتمع على ضمان رفاه جميع أفراده، مع الحد من أوجه عدم المساواة وتفادي الاستقطاب، ويتجاوز هذا المفهوم مجرد الانسجام المجتمعي السطحي، ليُشكل الركيزة الضرورية التي تُرسّخ المؤسسات الديمقراطية وتُتيح لها الازدهار.

وفي السياق السوري الانتقالي، يبرز التماسك الاجتماعي كضرورة ملحّة لإعادة بناء مجتمع ممزّق وتحويله إلى كيان سياسي موحّد قادر على الحكم الذاتي الديمقراطي.

تتطلب آليات الحد من عدم المساواة ومعالجة الاستقطاب مقاربات تشمل الجوانب الهيكلية والإجرائية للحوكمة، وتُشير الدراسات إلى أن الحد من التفاوتات يتم عبر مسارات متعددة:

أولها السياسات المعتمدة على إعادة التوزيع التي تُعالج الفجوات الاقتصادية.
ثانيها التصميمات المؤسسية الشاملة التي تضمن التمثيل العادل.
ثالثها الرمزية السياسية التي تعترف بالمظالم التاريخية وتُعزز آفاق المصالحة المستقبلية.
ينبغي أن تعمل هذه الآليات بتوازٍ لمنع تحوّل الانقسامات التي أفرزها الصراع إلى انقسامات سياسية دائمة، كما يتطلّب تفادي الاستقطاب تركيزاً على قنوات التواصل الفعالة، والتربية المدنية، وتوسيع شبكات اجتماعية عابرة للهويات الطائفية أو الأيديولوجية.

وفي هذا السياق، يبرز ترسيخ المواطنة التعددية كهدف أساسي لسياسات التماسك الاجتماعي، ويُشكّل هذا النموذج المتقدّم للانتماء السياسي صيغةً تُزاوج بين الحقوق والمسؤوليات في إطار يدمج مختلف الجماعات الهوياتية ضمن نسيج مدني موحّد.

وتتجاوز المواطنة التعددية مفهوم "التسامح" إلى الاعتراف الفعّال بالهويات المتنوعة ضمن إطار قانوني ومؤسسي جامع، وتُظهر الأدبيات أن كلًّا من الديمقراطية والتماسك الاجتماعي يعزّزان هذا النمط من المواطنة عبر آليات متداخلة تُقرّ بالتنوع، وتُبني في آنٍ واحد مشروعاً سياسياً مشتركاً.

وتفرض هذه الصيغة المؤسسية للمواطنة التعددية نفسها كضرورة خاصة في الحالة السورية، إذ تُتيح إدارة التنوع، مما يُنشئ ما يُطلق عليه المُنظرون السياسيون "الوحدة في التنوع".


التصميم الدستوري (في الحالة السورية: الإعلان الدستوري الذي يحكم سوريا لخمس سنوات)
يُعدّ تصميم الدستور في مجتمعات ما بعد النزاع فرصة نادرة لبناء رؤى مشتركة حول مستقبل الدولة، ووضع خرائط طريق ملموسة لترسيخ الديمقراطية.

وتُجمع الدراسات على أن عملية إعداد الدستور، وكذلك مضمونه، يؤثران تأثيراً جوهرياً في نتائج المرحلة الانتقالية، إذ تؤسس العمليات التشاركية لأسس أكثر متانة للحكم مقارنةً بالمسارات الفوقية أو الإقصائية، وفي السياق السوري، لا ينبغي النظر إلى وضع الدستور كمجرد إجراء قانوني، بل كفعل سياسي تخييلي يُعيد تعريف أسس التعايش في الدولة الجديدة.

تتجلّى العلاقة بين صياغة الدستور والممارسة الديمقراطية من خلال آليات متعددة، فعمليات وضع الدساتير التشاركية تعمل كـ"مدارس للديمقراطية"، تُكسب المواطنين والنخب مهارات الحوار، والتفاوض، والتسوية، والاختلاف المنتج، وهي مهارات أساسية لبناء الحكم الرشيد.

وتشير الأدبيات إلى أن فترات الانتقال غالباً ما تشهد مراجعة أو إعادة صياغة للدساتير الوطنية بما يعكس القيم الجديدة، ما يُثبت أن الصياغة التعددية للدستور تُؤثر بعمق على فرص نجاح المرحلة الانتقالية، فعندما تتضمن العملية الدستورية أصواتاً متعددة ووجهات نظر متنوعة، فإن النص الناتج يُجسّد تعقيد النسيج المجتمعي ويوفر إطاراً لإدارته سلمياً.

ويظهر دور الأطر الدستورية الشاملة في تعزيز قدرة الدولة على الاستجابة للتهديدات الخارجية من خلال بناء هياكل حوكمة موحّدة ومرنة، فالدساتير التي تُوازن بين الوحدة والتنوع، والمركزية واللامركزية، والثبات والقدرة على التكيف، تُوفر للدولة الأدوات المؤسسية اللازمة لمواجهة التحديات الخارجية من دون المساس بالمبادئ الديمقراطية.

يبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة..

وتبرز أهمية هذا التوازن في الحالة السورية، حيث تصبح الحاجة ملحّة لصياغة أحكام دستورية واضحة تتعلّق بحوكمة الطوارئ، والرقابة على قطاع الأمن والجيش، والفصل بين السلطات، بما يضمن حماية المؤسسات الديمقراطية ويُمكّن من استجابات فعالة للمخاوف الأمنية الحقيقية.

خاتمة
يُظهر استعراض الأدبيات النظرية والتجريبية دعمًا للفرضية التي تؤكد أن قدرة سوريا على التصدي للتهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية تعتمد، في جوهرها، على التعزيز المنهجي للجبهة الداخلية، وذلك من خلال مشاركة سياسية شاملة، وحماية قوية للحقوق.

فالتحولات الديمقراطية المستدامة لا تُختزل في وقف الصراع أو نقل السلطة، بل تتطلب إعادة بناء جذرية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، تقوم على إصلاح مؤسسي، وتجديد اجتماعي، وإدماج سياسي متكامل.

ويبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة: تمنح المشاركة السياسية شرعية للمؤسسات الجديدة، وتُمهّد لحلول سلمية للنزاعات، وتُحصّن حماية الحقوق مسار التحول من عودة المظالم، ويُؤسس التماسك الاجتماعي قاعدة مجتمعية صلبة لترسيخ الديمقراطية.

ويُظهر هذا التفاعل الثلاثي أن أي محاولة لترجيح عنصر على حساب آخر من شأنها إضعاف العملية برمتها، وإعادة إنتاج الهشاشة المؤسساتية والانقسامات الداخلية.


وتُعبّر الدعوة إلى تعزيز الداخل لمواجهة الخارج عن فهم متقدم لمفهوم الأمن في سياقات ما بعد النزاع. فالنماذج الأمنية التقليدية التي تُركّز على القدرات العسكرية أو السيطرة الاستبدادية أثبتت عدم جدواها في إدارة التعقيدات التي تواجه المجتمعات الانتقالية.

وتُظهر الدراسات الحديثة أن المؤسسات الديمقراطية الشاملة والمرنة تُوفّر الآليات الأنجع لمواجهة التهديدات الخارجية من دون تقويض الأسس الديمقراطية أو إثارة مقاومة داخلية، وتتحدى هذه النتيجة الافتراض الشائع بأن الديمقراطية والأمن هدفان متعارضان، كاشفةً عن تداخلهما الحيوي في مسار بناء السلام.

في السياق السوري، يعني هذا أن السبيل الأكثر فاعلية لمواجهة التهديدات الخارجية يبدأ من الداخل: ببناء مرونة ديمقراطية من خلال عمليات قد تكون شائكة لكنها ضرورية، تُؤسس لسلام مستدام وأمن طويل الأمد وكرامة إنسانية حقيقية.

ويُعدّ نجاح هذا المسار حجر الزاوية في مستقبل سوريا كدولة ديمقراطية ذات سيادة، قادرة على التعامل مع تعقيدات الإقليم، وضامنة لحقوق ورفاهية مواطنيها كافة.

اقرأ المزيد
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟

لطالما عانت نساء سوريات من تداعيات قانون الجنسية المُتبع منذ عهد النظام البائد قبل عقود، والذي ينصُّ على منح الجنسية السورية فقط عن طريق الأب، ولا يتيح لهن حق إعطائها لأبنائهن في حال الزواج من غير سوري.

ازدادت أعداد النساء المتأثرات بذلك القانون خلال سنوات الحرب التي اندلعت في سوريا بعد ثورة آذار/مارس 2011، لا سيما مع تزايد حالات زواج السوريات من غير السوريين نتيجة ظروف النزوح واللجوء، بالإضافة إلى دخول مغتربين وأجانب إلى البلاد وزواج بعضهم من سوريات وإنجاب أطفال منهم، مما أدى إلى اتساع شريحة الأطفال المحرومين من الجنسية السورية.

ورغم المحاولات المتكررة لتعديل المرسوم التشريعي رقم 276 الصادر عام 1969، المُتعلق بمسائل الجنسية في سوريا، وطرح المشروع مراراً في مجلس الشعب على مدار العقدين الماضيين، لم تتحقق النتائج المرجوة لصالح النساء،  فقد رفض النظام البائد هذه التعديلات بحجة مخاوف التغيير الديموغرافي، ثم تذرع لاحقاً بمبرر محاربة الإرهاب عقب اندلاع الثورة السورية.

مع تصاعد أعداد الحالات وتزايد المطالبات النسائية بتعديل قانون الجنسية، انطلقت خلال سنوات الحرب مبادرات داعمة، من بينها حملة "جنسيتي من حقي"، التي أطلقها فريق ورشة للمناصرة والتوثيق عام 2017. جاءت هذه المبادرة بعد توثيق الفريق لحالات متعددة لأمهات سوريات لم تتمكن من تسجيل أطفالهن، مما حرم هؤلاء الأطفال من حقوقهم الأساسية في التعليم والتنقل والسفر والإغاثة وغيرها.

تقول مرام المصطفى، 35 عاماً، سورية تقيم في تركيا: "تزوجت من شاب تركي بعد هجرتي من مدينة إدلب، وأنجبت طفلين يحملان الجنسية التركية. كثيراً ما أفكر، بيني وبين نفسي، أنه لو عاد أطفالي معي إلى سوريا، فسيُحرمون من العديد من الحقوق لكونهم لا يحملون الجنسية السورية، وسيشعرون بالغربة في بلد والدتهم".

ورغم صعوبة وضع مرام، إلا أن حالها يبقى أيسر مقارنة بأم جورية، التي تزوجت من مغترب سعودي لا تعرف عنه سوى اسمه، وقد توفي في منطقة الباغوز قبل سنوات، بعد أن أنجبت منه طفلتين.

تمكّنت من تسجيل الطفلتين في محكمة إدلب بغرض الحصول على أوراق ثبوتية، إلا أنهما لم تُمنحا الجنسية السورية، ولا حتى جنسية والدهما. واليوم، تواجه الطفلتان خطر انعدام الجنسية، ما يهدد مستقبلهما القانوني والاجتماعي.

وبحسب حملة "مين زوجك" التي انطلقت  في شهر كانون الثاني/يناير عام 2018، فإن أعداد النساء المتزوجات من مقاتلين أجانب في محافظة إدلب تحديداً 1735 حالة زواج، أنجبت منهن 1124امرأة أكثر من 1826طفلاً. 

تُرجّح مصادر محلية أن عدد الأطفال عديمي الجنسية قد ازداد في سوريا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع دخول أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب إلى البلاد خلال فترة الحرب، ما ينذر بكارثة إنسانية تتمثل في وجود آلاف الأطفال بلا جنسية.

وفي أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، أعادت ناشطات وأمهات سوريات فتح ملف القانون الذي يمنع النساء من منح الجنسية لأبنائهن، موجّهات نداءً إلى الحكومة السورية بضرورة إنصاف المرأة، وتعديل القانون بما يكفل المساواة، ويعترف بحق الأم في نقل جنسيتها لأبنائها تماماً كما هو الحال بالنسبة للأب.

وقد عبّرت عدد من السيدات السوريات اللواتي قابلناهن عن شعورهن بالعجز والدونية القانونية بسبب عدم قدرتهن على منح الجنسية لأطفالهن، إضافة إلى القلق العميق على مستقبل هؤلاء الأطفال، لا سيما أبناء المهجّرين الذين لا يُعرف عنهم سوى أسمائهم وألقابهم. كما أشرن إلى إحساس بالذنب، إذ يشعرن أن أبناءهن يدفعون ثمن "خيارهن الشخصي" في الزواج من أجانب.

وتأمل الأمهات أن تُمنح الفرصة لأبنائهن لحمل جنسيتهن، ليكون لهم انتماء وجذور واضحة لا تنفصل عن أصولهم السورية، وحتى لا يُعاملوا كغرباء أو لاجئين في حال قرروا الاستقرار في وطن أمهاتهم. فبحصولهم على الجنسية، يصبحون مواطنين سوريين كغيرهم، يفتخرون بالانتماء إلى سوريا ويعتزون بها.

في الوقت ذاته، ترى ناشطات أن حرمان الأمهات من حق منح الجنسية لأبنائهن يُعد شكلاً من أشكال التمييز، ويستدعي تعديل القانون لتحقيق مبدأ المساواة. خاصة أن المرحلة الأخيرة شهدت خطوات إيجابية لصالح النساء، من أبرزها إسناد مناصب مهمة لقيادات نسائية بارزة في البلاد.

تبقى النساء السوريات هن المتضررات الوحيدات من قرار اتخذه النظام السابق، متذرعاً بحجج واهية ومتجاهلاً المعاناة والتضييقات التي ستنجم عنه، بالإضافة إلى الأعباء الثقيلة التي ستقع على عاتقهن. وها هي النسوة اليوم يعلقن آمالهن على الحكومة الجديدة، على أن تتخذ خطوات منصفة تضمن لهن ولأبنائهن الحق الكامل في الحصول على الجنسية السورية، وتحقيق العدالة والمساواة.

اقرأ المزيد
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت

تُعدّ إدانةُ الطبيب السوري علاء م. من قبل المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت أكثر من مجرد حالة استثنائية للمساءلة عن جرائم فظيعة؛ فهي تمثل إنجازًا قضائيًا بالغ الأهمية يتجاوز حدود القضية الفردية.

فبعد ثلاثِ سنوات ونصفٍ من الإجراءات، اختُتمت بالحكم عليه بالسجن المؤبد لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، باتت هذه المحاكمة علامة فارقة في مسار العدالة، لا من حيث عقوبتها فقط، بل لِما تتيحه من إمكانات لتشكيل بنية العدالة الانتقالية في سوريا بعد زوال نظام الأسد.

يُوفر التزامن بين هذا الحكم والتحولات السياسية المتوقعة في سوريا فرصة فريدة لنقل الخبرات القانونية وتوطينها. فرغم أن محاكمات الولاية القضائية العالمية كانت، حتى وقت قريب، السبيلَ الوحيد لمحاسبة المتورطين في الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد، فإنها باتت اليوم تُشكّل نماذج يمكن الاسترشاد بها لبناء آليات محلية للمساءلة.

لقد أرست محكمة فرانكفورت من خلال بنائها ملفات عن التعذيب المنهجي في المستشفيات العسكرية، وإنشائها هياكل القيادة، وتحديدها الجرائم ضد الإنسانية في السياق السوري، أسسًا فقهية مهمة للمحاكم السورية المستقبلية.

يتناول هذا المقال الكيفية التي يمكن من خلالها توظيف الأبعاد الإجرائية والإثباتية والموضوعية لمحاكمة علاء م. في دعم الانتقال السوري من آليات العدالة الخارجية إلى مسارات عدالة داخلية.

ثانيًا: الولاية القضائية العالمية كجسر نحو المساءلة الوطنية
يشكّل مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي استندت إليه محكمة فرانكفورت في محاكمة علاء م.، أداة وقتية للعدالة لا تنفي السيادة السورية، فوفق مبدأ التكامل، الذي يُعد حجر الزاوية في القانون الجنائي الدولي، تُمنح المحاكم الوطنية الأولوية في الملاحقات القضائية، ولا تتدخل الآليات الدولية أو خارج الإقليم إلا عند عجز الدول أو امتناعها عن القيام بذلك.

وفي الحالة السورية، حال الطابع المنهجي للعنف الذي مارسه نظام  الأسد دون تحقيق أي عدالة داخلية، مما استوجب اللجوء إلى الآليات القضائية العالمية.

لكن هذه المحاكمات العابرة للحدود لا تُعنى فقط بالمساءلة المباشرة، بل تؤدي دورًا مهمًا في حفظ الأدلة وبناء الأطر القانونية للمستقبل. فقد وثّقت محكمة فرانكفورت، من خلال شهادات أكثر من خمسين شاهدًا وتحليلات خبراء في منهجيات التعذيب وهياكل القيادة، أرشيفًا دقيقًا كان يمكن أن يتعرض للفقد أو الإتلاف في بيئة غير مستقرة.

كما أن خلاصاتها بشأن تحويل المستشفيات العسكرية إلى مواقع تعذيب، والطابع المنظم للهجمات على المدنيين، ودور الأجهزة الأمنية، تُعدّ بمثابة روايات قضائية يمكن اعتمادها لاحقًا من قبل القضاء السوري عبر الإشعارات أو المراجع القانونية.

إن الانتقال من نظامٍ استبدادي يتعذّر معه تحقيق العدالة إلى سياق ما بعد النزاع، يتطلّب تحوّلًا ممنهجًا من الاعتماد على العدالة الخارجية نحو تأسيس مسارات وطنية قائمة على سيادة القانون.

ولا ينبغي النظر إلى أحكام الولاية القضائية العالمية كفرضٍ قانوني خارجي، بل كسوابق تأسيسية يمكن الاستفادة منها في صوغ منهجيات محلية للمقاضاة، وتحديد معايير الإثبات، وتطوير فهم قانوني متخصص لجرائم الفظائع. وتُشكّل محاكمة فرانكفورت نموذجًا لتحليل الجرائم الجماعية وتفكيكها إلى أفعال فردية قابلة للتقاضي، بما يحافظ على تميّزها المنهجي.

هذا التحول لا يعني نقل الأحكام الأجنبية بحَرفيتها، بل يتطلب دمجها في إطار سيادي يعكس الخصوصيات القانونية السورية ويُراعي المعايير الدولية.

وبهذا المعنى، فإن قضايا الولاية القضائية العالمية تؤدي وظيفة الجسر المؤقت، الذي يربط بين واقع العجز المؤسسي ومآل السيادة القضائية، مانحةً سوريا أدوات ومناهج لإعادة العدالة إلى الداخل.

ثالثًا: معايير الإثبات ومنهجيات التوثيق القضائي
تُجسّد محاكمة فرانكفورت، التي امتدت على مدار 186 يومًا، مستوًى عاليًا من الدقة في التوثيق المطلوب لمقاضاة جرائم الفظائع الجماعية، واضعةً بذلك معايير إثبات تتجاوز الممارسات الجنائية التقليدية.

أتاح هذا الإطار الزمني الممتد تجميعًا منهجيًا لمصادر أدلة متنوعة، ما أدى إلى تكوين مصفوفة وقائعية تُوثّق الأفعال الإجرامية الفردية في سياقها النظامي. ولا تُعبّر مدة الإجراءات عن بطء بيروقراطي، بل عن تعقيد المهمة المتمثلة في إثبات المسؤولية الجنائية ضمن نمط منظم من العنف ترعاه الدولة، يتطلب مواءمة الوقائع الفردية مع الهجمات الواسعة ضد المدنيين.

عكس استخدام المحكمة أساليبَ إثبات متعددة الطبيعةَ المركبة لملاحقة مرتكبي الجرائم الفظيعة. فقد أدلى أكثر من خمسين شاهدًا بروايات مباشرة عن التعذيب، والعنف الجنسي، والقتل في المستشفيات العسكرية، بينما وضع الخبراء هذه الشهادات في سياقها ضمن منظومة الاستخبارات والقيادة العسكرية السورية.

أسهم دمج شهادات الناجين مع التحليل الجنائي والوثائق المكتوبة في صياغة أنماط قانونية متماسكة من تجارب فردية متناثرة. وتزداد أهمية هذا التثليث المنهجي في مواجهة جرائم صُممت لتمحى آثارها، حيث يتعمد الجناة إتلاف الوثائق وترهيب الشهود.

تطلّب الكشف عن سلاسل القيادة في هياكل أمنية مغلقة، اعتمادَ مناهج مبتكرة للتعامل مع الأدلة الظرفية، والتعرف على الأنماط المتكررة.

وقد أظهرت المحكمة قدرة على الربط بين أفعال علاء م. والسياسات المؤسسية الأشمل، ما أتاح إثبات مسؤوليته ضمن إطار عنف منظم. ومن خلال رسم خرائط للهياكل التشغيلية للمستشفيين العسكريين 601 و608، والقسم 261 التابع لمديرية الاستخبارات العسكرية، كشفت المحاكمة كيف أعيد توظيف المؤسسات الطبية بشكل منهجي كمراكز للتعذيب، محوّلةً بذلك أماكن الاستشفاء إلى أدوات عنف ممنهج.

لعبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان دورًا مهمًا في ربط مسارح الجريمة بقاعات المحاكم.

وقد تجسّدت مساهماتهما في تقديم الوثائق، وتحديد الشهود، وتوفير تحليلات سياقية دعمت عمل الادعاء العام، مؤكدةً الدور المحوري لمنظمات المجتمع المدني كوسطاء في عمليات المحاسبة.

ساهم التوثيق المنتظم الذي أجرته الشبكة على مدى أربعة عشر عامًا في توفير استمرارية زمنية لحفظ الأدلة، بينما حوّلت خبرة المركز الأوروبي الوثائق الخام إلى ملفات قابلة للتقاضي.

ويُقدّم هذا النموذج التعاوني، الذي تعمل فيه منظمات حقوق الإنسان كأمناء على الأدلة وميسّرين قانونيين، نموذجًا قابلًا للتكرار يمكن اعتماده في الإجراءات القضائية السورية المستقبلية.

رابعًا: الإصلاح المؤسسي استنادًا إلى السوابق القانونية
يمثّل إدماج الجرائم الدولية في القانون المحلي السوري تحديًا عميقًا يتجاوز مجرد التعديل التشريعي. وقد وفّرت محكمة فرانكفورت، من خلال تعريفها الدقيق للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في قضية علاء م.، نموذجًا فقهيًا يُمكن البناء عليه، غير أن إصلاح المنظومة القانونية السورية يتطلّب تجاوز الفجوة القائمة بين التعريفات الدولية والتقاليد القضائية الوطنية.

ويُظهر قصور قانون العقوبات السوري الحالي في التعامل مع العنف المنهجي الذي ترعاه الدولة الحاجة إلى مراجعة شاملة، تعتمد إما صياغة تشريعات جديدة أو تطوير أطر قانونية انتقالية تُجرّم صراحةً الجرائم الدولية، وَفقًا للمعايير العرفية المعتمدة دوليًا.

ويتصدّر استقلال القضاء الشروط الأساسية لإجراء محاكمات ذات مصداقية لمن ارتكبوا الجرائم الجسيمة، وهو ما يستدعي إصلاحات بنيوية تتجاوز المظاهر الشكلية للمؤسسات القضائية.

فالإصلاح القضائي السوري يجب أن يعالج بُعدين متكاملين: الاستقلال الشكلي عبر الضمانات الدستورية، واستقرار الوظيفة القضائية، وتوفير الموارد، إلى جانب الاستقلال الجوهري من خلال تعزيز ثقافة قضائية تقاوم التدخلات السياسية وتتمسك بالنزاهة القانونية.

ولا يُمكن تصور محاسبة فعلية لمجرمي الدولة دون قضاء حر قادر على مساءلة البنى الأمنية والعسكرية التي طالما تمتعت بالحصانة في عهد الأسد.

كما يُعدّ إصلاح القطاع الأمني، المُرتكز إلى مبادئ المساءلة، خطوة جوهرية في هندسة العدالة الانتقالية. ولا ينبغي أن يُنظر إلى الأجهزة الأمنية كأدوات لإعادة الهيكلة فقط، بل كمواقع يجب إخضاعها للمحاسبة والمشاركة في كشف الحقيقة.

ويُبرز ما كشفته قضية علاء م. من تحويل المستشفيات العسكرية إلى مراكز للتعذيب، الحاجة إلى تفكيك الثقافة المؤسسية التي شرعنت العنف. فالإصلاح يجب ألا يقتصر على تبديل الأفراد أو إعادة رسم الهياكل، بل يتطلّب ترسيخ أطر عقائدية جديدة تدمج مبادئ حقوق الإنسان ضمن الممارسات التشغيلية اليومية.

ويتجسّد هذا النهج العملي في إنشاء آليات داخلية فعّالة للمساءلة، مثل مكاتب المفتش العام المزودة بصلاحيات تحقيق حقيقية، والتدريب الإلزامي على حقوق الإنسان ضمن برامج التطوير المهني، واعتماد معايير واضحة لمساءلة القادة عن الانتهاكات التي تقع ضمن نطاق سلطتهم.

ويُدرك هذا النموذج أن الإصلاح الجذري لا يتحقق فقط من خلال الرقابة الخارجية، بل من خلال غرس ثقافة المساءلة داخل المؤسسات التي تأسست على منطق القمع.

وتُرسّخ محاسبة المهنيين الطبيين على انتهاك واجباتهم الأخلاقية مبدأً مفصليًا: أن الالتزامات المهنية لا يمكن إخضاعها لضرورات الدولة الأمنية، وهو ما يجب أن يسري على كافة القطاعات المنخرطة في منظومة العنف المنهجي.

خامسًا: تأسيس بنية للعدالة الانتقالية
تتطلب العدالة الانتقالية في السياق السوري تحولًا من المقاربات الارتجالية للمحاسبة إلى بناء منظومة متكاملة تعالج البنى التي أنتجت الفظائع، لا مجرد معاقبة الجناة الأفراد.

فنتائج محكمة فرانكفورت، التي كشفت عن التحويل المنهجي للمرافق الطبية إلى مراكز للتعذيب، تُظهر مدى تورط أطر مؤسسية كاملة في ممارسة العنف، مما يستوجب آليات مساءلة تعالج هذه البنى الهيكلية، مع الحفاظ على دقة المسؤولية الجنائية الفردية.

ومن هنا، ينبغي أن تطوّر العدالة الانتقالية السورية إستراتيجيات تربط بين القضايا الفردية والأنماط الجماعية، بما يرسّخ سرديات قانونية تعكس الطابع المنهجي للجريمة دون أن تُفرغ المسؤولية الفردية من معناها.

وتُعدّ آليات تقصي الحقائق ركيزة أساسية مكملة للمحاكمات الجنائية، إذ تسمح بفهم الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي مهّدت لوقوع الجرائم. وبينما تركّز الإجراءات القضائية على تحديد المسؤوليات الفردية ضمن إطار قانوني، تتيح لجان الحقيقة استكشاف السياقات الأوسع، بما في ذلك الأطر الأيديولوجية التي شرّعت العنف، والبنى البيروقراطية التي مأسسته.

ويؤدي هذا التكامل بين المسارين وظائف متمايزة، ولكن متكاملة: فالقضاء يُرسي المساءلة القانونية، فيما تعيد تقصي الحقائق بناء السرديات التاريخية وتُمهّد الطريق للإصلاح المؤسسي طويل الأمد.

ومن جهة أخرى، تتطلب العدالة الانتقالية مقاربة تتمحور حول الضحايا، تتجاوز النماذج الانتقامية التقليدية نحو نموذج يُقرّ بحقوق الضحايا كمشاركين فعليين في تصميم العدالة.

وقد أبرزت تجربة المدعين المشتركين في قضية علاء م.- ممثلين عبر الآليات القضائية الأوروبية- إمكانات مشاركة الضحايا وتحدياتها. ولضمان شمولية هذه المشاركة، يجب الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق، يطالبون بالتعويض، والمشاركة، وتخليد الذاكرة، لا كشهود فقط.

ويستدعي ذلك تأسيس بنى مؤسسية تُتيح للضحايا التعبير عن مطالبهم، والمساهمة في تصميم آليات المساءلة، ووضع برامج تعويض تُعالج الأضرار المادية والمعنوية على حد سواء.

كما ينبغي أن تُسهم إجراءات العدالة في إعادة تأهيل الناجين، لا في إعادة تفعيل صدماتهم. ويبقى التحدي في تحقيق توازن دقيق بين الاستجابات الفردية للاعتداءات، والاعتراف بالجراح الجماعية التي خلّفها العنف المنهجي.

ولتحقيق ذلك، لا بد من تبنّي ابتكارات مؤسسية مثل وحدات دعم الضحايا داخل النيابات العامة، وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي المرافقة للمسارات القانونية، وآليات تشاركية تمكّن الضحايا من صياغة أجندة العدالة الانتقالية، متجاوزين دورهم كمقدّمي أدلة فقط.

سادسًا: التكامل القانوني الدولي وبناء القدرات القضائية
تُعد عضوية سوريا في نظام روما الأساسي بعد المرحلة الانتقالية خطوة إستراتيجية نحو ترسيخ الشرعية القضائية وبناء القدرات المؤسسية. إذ يُتيح هذا الانضمام الوصول إلى فقه المحكمة الجنائية الدولية، والمبادئ التوجيهية الإجرائية، وبرامج التدريب وبناء القدرات، إلى جانب ترسيخ الالتزام بالمعايير القانونية الدولية.

وقد أرست محاكمة فرانكفورت ضد علاء م. معايير إثبات وإجراءات تُعد مرجعية لما ينبغي أن تبلغه المحاكم السورية من مستوى لتلبية متطلبات التكامل، بما يمنع تدخل المحكمة الجنائية الدولية، مع الاستفادة من خبراتها المؤسسية.

لكن تفعيل الفقه الدولي يتطلب ترجمة مدروسة بين الأطر القانونية والسياقات السياسية والاجتماعية المحلية. ويوفّر الحكم في قضية علاء م.، إلى جانب قضايا أخرى نُظرت بموجب الولاية القضائية العالمية، سوابق فقهية يمكن الاستناد إليها لتفسير الجرائم ضد الإنسانية في السياق السوري.

غير أن الاعتماد غير النقدي على الأحكام الأجنبية قد يؤدي إلى تناقضات قانونية أو رفض شعبي وسياسي. ولهذا، ينبغي للفقهاء السوريين أن يطوّروا منهجيات انتقائية تستند إلى القيمة الإقناعية للسوابق الدولية، مع استخلاص المبادئ التي يمكن تكييفها محليًا.

ويتطلب ذلك دراسة كيفية تعامل المحاكم الدولية مع قضايا مشابهة، مثل إثبات الطابع المنهجي للهجمات على المدنيين، أو مسؤولية القيادة في أجهزة أمنية مغلقة، أو التمييز بين العمليات العسكرية المشروعة وأفعال العنف الإجرامي.

ويفرض بناء الخبرات القضائية والادعائية الحاجةَ إلى آليات منظمة لنقل المعرفة، تتجاوز النماذج التدريبية التقليدية. فقد كشفت محاكمة فرانكفورت عن تعقيد الملاحقات القضائية للفظائع، ومن ثم، ينبغي أن يشمل بناء القدرات محاور متعددة: فقه الجرائم الدولية، إدارة المحاكمات المعقدة، حماية الشهود، والمهارات الجنائية والطب الشرعي.

ويمكن لبرامج التبادل التي تتيح للمهنيين السوريين مراقبة المحاكمات الدولية، والعلاقات الإرشادية مع خبراء الادعاء الدوليين، وتمارين بناء القضايا المشتركة، أن تُسرّع وتيرة تطوير الكفاءة القضائية.

وتبرهن تجربة الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في قضية علاء م. على إمكانية عمل منظمات المجتمع المدني كجسور معرفية، تربط بين المعايير الدولية والسياق السوري، وتُقدّم منهجيات يمكن استيعابها وتوطينها ضمن المؤسسات السورية.

خاتمة
يُمثل الحكم الصادر ضد علاء م. ثمرةً لجهود متواصلة بذلها الناجون ومنظمات حقوق الإنسان والآليات القانونية الدولية، لكسر جدار الإفلات من العقاب الذي طالما رافق العنف الذي مارسه نظام الأسد.

كما يُشكّل هذا الحكم أرضية قانونية صلبة يمكن لسوريا البناء عليها لتأسيس منظومة مساءلة وطنية، تُحوّل الاعتماد على المحاكم الأجنبية إلى قدرة ذاتية قائمة على السيادة والعدالة.

لكن هذا الانتقال من آليات العدالة الخارجية إلى آليات داخلية لا يتحقق بإعادة هيكلة المؤسسات فحسب، بل يتطلّب إعادة تعريف العلاقة بين سلطة الدولة وحكم القانون.

وقد أظهرت محاكمة فرانكفورت أن العنف الممنهج قابل للتفكيك إلى أفعال قابلة للمحاسبة، وأن الأطباء وغيرهم من الفاعلين لا يمكنهم التذرع بالأوامر العليا لتبرير انتهاكهم الواجبات المهنية، وأن توثيق الأدلة يمكن أن يصمد أمام محاولات المحو المتعمدة.

إن المعايير الإثباتية والإجرائية التي أرستها محكمة فرانكفورت، والشراكات التي تشكّلت بين المجتمع المدني والمؤسسات القضائية، والمقاربات التي تتمحور حول الضحايا، توفر جميعها أدوات مجرّبة يُمكن تكييفها في السياق السوري، ولتُصاغ داخل المؤسسات السورية، وبأيادي قانونييها، ومن أجل تعافي مجتمعها.

المصدر: الجزيرة نت

اقرأ المزيد
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان

لم تسلم دور العبادة في سوريا من ويلات الحرب، إذ شكّل استهداف المساجد والكنائس واحداً من أكثر أوجه المأساة قسوةً في ذاكرة السوريين، لا سيما مع تكرار مشاهد القصف والتدمير التي طالت أماكن طالما ارتادوها بحثاً عن السكينة والطمأنينة، ولأداء واجباتهم الدينية.

ومنذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، أصبحت المساجد هدفاً مباشراً لقوات النظام، لا سيما تلك التي انطلقت منها المظاهرات السلمية بعد صلاة الجمعة، وبدلاً من أن تكون بيوت الله ملاذاً آمناً، تحولت إلى نقاط استهداف مباشر، سقط فيها شهداء وهم يؤدون صلاتهم، دون أي اعتبار لحرمة المكان أو الدم.

ولم يكن ذلك وليد اللحظة، إذ سبقه استهداف مماثل خلال مجزرة حماة عام 1982، حيث وثّقت التقارير تدمير 79 مسجداً وثلاث كنائس على يد قوات النظام آنذاك، في محاولة لإخضاع المدينة وكسر إرادة سكانها.

ومع تصاعد العمليات العسكرية بعد عام 2011، باتت دور العبادة هدفاً متكرراً للقصف، سواء لتصفية الحراك الشعبي، أو لإفراغ المدن من سكانها، حتى بعد التهجير، استُكمل تدمير المساجد ونهب محتوياتها، وبحسب إحصائيات صادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن أكثر من 1453 استهداف سجل على أماكن عبادة، بفعل القصف المباشر أو الهدم المتعمد من قبل قوات النظام.

كما طالت الاعتداءات الكنائس أيضاً، فقد وثّقت تقارير حقوقية، قصف كنيسة السيدة العذراء في حي بستان الديوان بمدينة حمص، وتضرر كنيسة القديس جاورجيوس في إدلب، إضافة إلى تعرض كنيسة أم الزنار للنهب على يد عناصر تابعة للنظام.

وترافقت هذه الانتهاكات مع محاولات سياسية لتحويل مسار الثورة إلى نزاع طائفي، في محاولة من النظام السابق لضمان ولاء الأقليات الدينية.،ومؤخراً، حاول بعض الموالين له تحميل الحكومة الانتقالية والأجهزة الأمنية مسؤولية تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق، في محاولة لإعادة إحياء الخطاب الطائفي، إلا أن هذه المحاولة قوبلت برفض شعبي واسع وفشلت في تأجيج الانقسامات.

الأثر النفسي والاجتماعي
لم يكن استهداف دور العبادة مجرّد دمار مادي، بل خلّف أثراً نفسياً واجتماعياً عميقاً، فالمساجد والكنائس لطالما كانت فضاءات جامعة، تعزز الهوية الروحية والاجتماعية للمجتمع المحلي، وتشكل نقطة التقاء يومي وروحي بين أبناء الحي أو القرية، ولذلك، فإن تدميرها شكّل انتهاكاً جماعياً طال الذاكرة الجمعية للسوريين.

أطفال فقدوا إحساسهم بالأمان في حضرة أماكن العبادة، ومصلون قُطعت صلاتهم تحت الركام، وشيوخ بكوا مآذن مهدّمة وكنائس محترقة، كلّهم يحملون صدمةً سيبقى أثرها ممتداً لسنوات. وقد شكّل ذلك جزءاً من صدمة جماعية، جعلت حتى أماكن الطمأنينة جزءاً من مشهد الرعب المستمر.

ورغم هذا الدمار، أصرّ كثير من السوريين على التمسك بالأمل، فمع أولى فرص العودة إلى مناطقهم، سارعوا إلى ترميم المساجد والكنائس، بأيديهم أو بدعم من مجتمعاتهم المحلية، وعادوا إليها للصلاة والتعبد، في رسالة رمزية بأن إعادة بناء الإنسان تبدأ من إعادة بناء القيم، وأن إعادة إعمار الحجر جزء لا يتجزأ من شفاء الوجدان.

اقرأ المزيد
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا

ظهر قبل أيام فادي صقر، القيادي في مليشيات الدفاع الوطني التابعة لنظام الأسد، في تسجيل مصوّر يظهر فيه كوسيط للإفراج عن متورطين في ارتكاب انتهاكات. وفي الرابع من شباط/ فبراير 2025، شهدت دمشق مشهدًا لافتًا تمثّل في خروج اللواء محمد الشعار، وزير الداخلية السوري السابق ومهندس القمع المنهجي، من مخبئه ليُعلن تسليم نفسه طوعًا لمديرية الأمن العام.

ثم ظهر في مقابلة تلفزيونية أعلن فيها عدم مسؤوليته عن أيّ من الانتهاكات التي مارسها نظام الأسد. مثّل هذا الظهور الإعلامي ظاهرة مقلقة في السياق الانتقالي السوري، إذ أثار هذا الإنكار الوقح تساؤلات عميقة حول مظاهر الإفلات من العقاب في خضم التحولات السياسية. فما هي البُنى التي تُمكّن المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية من التفاوض على استسلامهم بدلًا من مواجهة المحاسبة الفورية؟

فهم الإفلات من العقاب وتطور مبدأ مسؤولية القيادة
يُعد مبدأ مسؤولية القيادة من أبرز إسهامات القانون الجنائي الدولي في التصدي للإفلات من العقاب، وقد تطوّر هذا المفهوم من الإطار العسكري إلى الإطار المدني، مُشكلًا الأساس القانوني لمساءلة الوزراء وكبار المسؤولين عن الجرائم الممنهجة.

نظّم نظام روما الأساسي هذا التطور، موضحًا الفروقات بين مسؤوليات القيادة العسكرية والمدنية، حيث نصّت المادة 28 (ب) على تحميل القادة المدنيين المسؤولية في حال كانوا على علم، أو تجاهلوا عمدًا معلومات تشير بوضوح إلى ارتكاب مرؤوسيهم جرائم.

ورغم أن هذا المعيار يبدو أكثر تقييدًا مقارنةً بما يُفرض على القيادة العسكرية، فإنه يعكس واقع تدفق المعلومات في البيروقراطيات المدنية. وتبرز أهمية معيار "التجاهل الواعي" في المناصب الوزارية تحديدًا، حيث يمكن للمسؤولين أن يعزلوا أنفسهم عمدًا عن تفاصيل التنفيذ، مع احتفاظهم بالسيطرة على السياسات العامة.

ويُقدّم مفهوم العنف الهيكلي، كما طوّره يوهان غالتونغ، إطارًا نظريًا لفهم كيفية تغلغل الإفلات من العقاب داخل مؤسسات الدولة، ففي مقابل العنف المباشر، الذي يتمثل في أفعال الإيذاء الجسدي الواضحة، يعمل العنف الهيكلي من خلال البُنى الاجتماعية التي تعيق الأفراد عن تلبية احتياجاتهم الأساسية.

وعند تطبيق هذا المفهوم على أجهزة الأمن، يتضح أن الإفلات من العقاب لا يعكس غياب العدالة فحسب، بل هو نظام فعّال لإدامة العنف عبر آليات بيروقراطية.

تُنتج أجهزة الأمن، وفقًا لغالتونغ، ما يُسمى بـ "السلام السلبي"؛ أي غياب العنف المباشر عبر القمع المنهجي لا عبر معالجة أسباب النزاع. يقوم هذا النظام على توقع عدم معاقبة موظفي الدولة الذين يرتكبون الانتهاكات، مما يُنتج بيئة تحفيزية تُكافئ الوحشية وتعاقب ضبط النفس.

وقد تجسّدت هذه الديناميكية بوضوح في عهد الشعار، إذ حظي الضباط الذين مارسوا التعذيب أو أطلقوا النار على المتظاهرين بالحصانة، في حين تعرّض من أبدى تساهلًا لمخاطر الاتهام بالولاء للمعارضة.

ويُعتبر تطبيع الفظائع عبر الممارسات البيروقراطية آلية مركزية داعمة للعنف الهيكلي. تُحوّل النماذج الرسمية، والبروتوكولات الإدارية، وإجراءات التشغيل إلى أدوات تنفيذ لجرائم القتل والتعذيب والإخفاء القسري، على نحو يجعلها تبدو كمهام إدارية روتينية.

وتُظهر الممارسات الموثقة لوزارة الداخلية السورية- مثل تسجيل المختفين قسرًا كمتوفَين، أو تنفيذ مصادرة الممتلكات عبر المحاكم المدنية، أو فرض حظر السفر من خلال مكاتب الجوازات – كيف يُعاد تسويق الفظائع من خلال طابع إداري بيروقراطي، يضفي عليها مظهرًا من الشرعية المضلِّلة.

العدالة الانتقالية والسلم الأهلي – نموذج فادي صقر
برز مجال العدالة الانتقالية كمسار مستقل بعد التحولات الديمقراطية في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، حيث قدّم أطرًا للتعامل مع إرث الأنظمة الاستبدادية أو النزاعات المسلحة، وتزداد حدة التوترات النظرية في هذا المجال؛ بين السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، وبين النهج المتمحور حول الضحية والنهج المتمحور حول الجاني.

وتُعد معضلة "السلام مقابل العدالة" جوهر هذا الجدل. فبينما يرى باحثون، مثل جاك سنايدر وليزلي فينجاموري، أن الملاحقات القضائية المبكرة قد تُزعزع استقرار التحولات الهشة وتُعيد إشعال الصراع، ويدعون إلى تبني نهج "السلام أولًا"، الذي يُفضي إلى تحقيق الاستقرار قبل المضي نحو المساءلة، فبالمقابل، تحاجج كاثرين سيكينك بأن تأجيل العدالة يمنح الجناة فرصة لتدمير الأدلة، وترهيب الشهود، وترسيخ الإفلات من العقاب.

وتُشير نظرية "تسلسل العدالة" إلى أن المساءلة القضائية المبكرة قد تُحدث أثرًا رادعًا وتُعزز سيادة القانون. ويأخذ السياق السوري هذه المعضلة إلى أقصى مداها: فهل يمكن تحقيق استقرار حقيقي في ظل بقاء شخصيات مثل فادي صقر خارج دائرة المحاسبة، أم إن هذا الإفلات بحد ذاته يُقوّض فرص السلام المستدام؟

يُسلط التباين بين النهجين المتمحورين حول الضحية والجاني، الضوء على تناقض نظري إضافي. إذ تمنح العدالة الانتقالية المتمحورة حول الضحية الأولوية لكشف الحقيقة، والاعتراف، والتعويض، كما يتجلى في عمل لجان الحقيقة التي تُقدم العفو مقابل الشهادات. وينطلق هذا النهج من فرضية أن الضحايا يسعون للحصول على الاعتراف، ومنع تكرار الجرائم أكثر من سعيهم للانتقام.

أما النهج المتمحور حول الجناة، فيُركّز على المساءلة الجنائية بوصفها وسيلة لتحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب. وتتجلى محدودية النهج الأول عند التعامل مع كبار المسؤولين، إذ بينما يمكن استقطاب الجنود للمشاركة مقابل عفو، فإن شخصيات مثل الشعار تمتلك معرفة تُدين النظام بأكمله، ما يجعل انخراطهم غير مرجح ما لم يواجهوا ضغوطًا جدية بالملاحقة القضائية.

المسؤولية القانونية للشعار
تتجلّى أوضح مؤشرات مسؤولية محمد الشعار المباشرة في عضويته ضمن "خلية الأزمة"، التي أُنشئت في مارس/ آذار 2011 كأعلى هيئة لاتخاذ القرار الأمني في سوريا.

تكشف شهادات منشقين ووثائق موثّقة أن هذه الخلية كانت تعقد اجتماعات منتظمة لتنسيق الرد الأمني على الاحتجاجات، برئاسة بشار الأسد شخصيًا. وبصفته وزيرًا للداخلية وعضوًا فاعلًا في هذه الخلية، ساهم الشعار في صياغة سياسات تُجيز بوضوح استخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين.

وتظهر محاضر الاجتماعات التي حصلت عليها الشبكة السورية لحقوق الإنسان إشارات صريحة إلى "حلول أمنية حاسمة" و"القضاء على التجمعات الإرهابية"- وهما تعبيران مستتران عن أوامر تنفيذ مجازر، وإن حضور الشعار هذه الاجتماعات، وتزامنها مع تنفيذ وزارة الداخلية لاحقًا عمليات قتل جماعي، يُثبت وجود علاقة سببية واضحة بين تخطيط السياسات وتنفيذ الجرائم.

ويُعزز هذا الترابط الزمن بين قرارات خلية الأزمة وتصاعد أنماط العنف من قِبل وزارة الداخلية. تُظهر بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الضحايا المدنيين بعد اجتماعات بعينها، خاصة تلك التي ناقشت مظاهرات الجمعة.

كما يُشير التوزيع الجغرافي المنسّق لعمليات القتل عبر محافظات متعددة إلى وجود تخطيط مركزي ممنهج، لا إلى عنف عشوائي. وقد مكّن الموقع المزدوج للشعار، كوزير للداخلية وعضو في خلية الأزمة، من تحويل الخطط الأمنية إلى أوامر تنفيذية مباشرة.

وتتضمن الوثائق المسربة من وزارة الداخلية خلال عامي 2011 و2012 تعليمات موقّعة باسم الشعار، أو تُشير إلى أوامره الشفهية، موجّهة إلى فروع الأمن السياسي، وإدارات الهجرة والجوازات، والسجلات المدنية. تشمل هذه التوجيهات تحديد "حصص اعتقال"، ومتابعة مؤيدي المعارضة، وتوفّية المختفين قسريًا.

وتُظهر هذه الوثائق – من خلال الترويسات الرسمية والأختام وقوائم التوزيع- الطابع البيروقراطي المنهجي لتطبيق السياسات، لا مجرد أوامر فردية أو عشوائية. وتبرز خطورة هذه الوثائق في التعميمات التي تُجيز "الضغط الأقصى" على المتظاهرين وأسرهم، في إشارة ضمنية إلى التعذيب والعقاب الجماعي.

تسليح وظائف وزارة الداخلية
يُعد تحوّل وزارة الداخلية السورية من جهاز إداري مدني إلى أداة للقمع الممنهج نموذجًا صارخًا على ظاهرة "تسليح المؤسسات"، ففي عهد محمد الشعار، بين أبريل/ نيسان 2011 وأكتوبر/ تشرين الأول 2018، شهدت الوزارة انتقالًا من أداء وظائفها التقليدية إلى أداء دور أمني شامل يخدم سلطة استبدادية.

وقد شكّل دمج الوظائف الإدارية والأمنية تحت قيادة الشعار تحوّلًا نوعيًا في ممارسات الحكم الأسدي. ففي الوقت الذي تُبقي فيه الأنظمة الاستبدادية التقليدية على فصل رمزي بين الشرطة السرية والإدارات المدنية، أحرزت سوريا الأسد تكاملًا بين الجانبين.

تحوّلت إدارة الهجرة والجوازات، المكلفة نظريًا بإصدار الوثائق، إلى جهاز أمني اعتقل 1608 مدنيين؛ من بينهم 73 حصلوا على "تسويات أمنية" رسمية، وفقًا لتوثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

كما تورّطت مكاتب السجل المدني، المفترض أنها مختصة بتسجيل المواليد والوفيات، في تزوير السجلات لإخفاء المعتقلين قسرًا. وقد أدى هذا الاندماج بين الإداري والأمني إلى تقويض أي شعور بالأمان داخل بيروقراطية الدولة، وأصبح من الصعب على المواطنين التمييز بين الإجراءات الإدارية والفخاخ الأمنية.

واتسع نطاق عمل مديرية الأمن السياسي، المسؤولة اسميًا عن مراقبة الأنشطة السياسية، حتى أصبحت حاضرة في كافة الدوائر الحكومية. كما مُنحت فروع الأمن الجنائي، التي كانت تقليديًا تُعنى بالجرائم العادية، صلاحيات جديدة للتحقيق في "الإرهاب"، وهو توصيف يُستخدم غالبًا لوصم أي نشاط معارض.

والأكثر خطورة أن تدفقات المعلومات أُعيد تنظيمها بحيث طُلب من جميع الوزارات تزويد وزارة الداخلية ببيانات المواطنين، ما أنشأ بنية مراقبة واسعة تُتيح الاعتقال بناءً على مؤشرات إدارية حول تعاطف مفترض مع المعارضة.

وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما مجموعه 256 ألفًا و364 انتهاكًا نُسبت مباشرة إلى أجهزة وزارة الداخلية- وهو رقم مرجّح أن يكون أقل من الواقع نظرًا لصعوبات التوثيق تحت الحكم الاستبدادي.

ويعكس عدد القتلى المدنيين في المظاهرات- 10 آلاف و542 قتيلًا- تبنّي سياسات إطلاق نار بقصد القتل، لا مجرد فشل في السيطرة على الحشود. أما الانتشار الجغرافي لهذه العمليات- الذي لم يقتصر على معاقل المعارضة- فيُشير إلى تخطيط مركزي، لا إلى انحرافات محلية.

وقد شكّل "الاضطهاد الإداري" إسهامًا ابتكاريًا من وزارة الداخلية في منهجية القمع، إذ مارست عنفًا مؤسسيًا مقننًا من خلال أدوات قانونية. فعمليات مصادرة الممتلكات، التي بلغت 11 ألفًا و267 حالة، جرت بإجراءات قضائية صورية، محوّلةً المحاكم إلى أدوات للاضطهاد.

أما قرارات حظر السفر، التي طالت 115 ألفًا و836 شخصًا، فمكّنت من الاعتقال على المعابر الحدودية. كما أُصدرت 112 ألف مذكرة تفتيش، سُخّرت لتنفيذ مداهمات منهجية تحت غطاء قانوني. وقد أثبت هذا الشكل من العنف الإداري استدامته وفاعليته، إذ واجه إدانة دولية محدودة، بينما أسهم في إحكام السيطرة على السكان.

الشعار كحالة اختبار للعدالة الانتقالية السورية
يكشف ظهور الشعار من مخبئه- بادّعاء "الاستسلام" دون أي اعتقال فوري، ثم ظهوره الإعلامي نافيًا مسؤوليته- عن الطريقة التي يستغل بها الجناة حالة الغموض والفراغ في المرحلة الانتقالية. إن السماح له بتسليم نفسه دون محاسبة فورية يُرسل رسائل بالغة الخطورة:

أولًا، يُظهر أن مصالح الجاني قد تُقدَّم على حقوق الضحايا، إذ اختار توقيت ظهوره، وصاغ روايته الخاصة، وتجنّب الإهانة التي واجهها ضحاياه أثناء اعتقالهم القسري.
وهذا السلوك يتعارض تمامًا مع مبادئ العدالة الانتقالية التي تُعلي من كرامة الضحايا.

ثانيًا، يُشير إلى إمكانية التفاوض مع الجناة الممنهجين، سواء عبر تبادل المعلومات أو الأصول مقابل المعاملة المُيسّرة. مثل هذه السوابق تُشجّع على سلوك إستراتيجي خطير: حيث يمتنع الجناة عن التعاون إلا بشروطهم.
وسيُشكّل ردّ السلطات السورية على قضيتي الشعار وفادي صقر سابقة لها تبعات بعيدة المدى في مسار العدالة الانتقالية. فالتوازن بين ضرورات الاستقرار ومتطلبات المحاسبة يستلزم تحليلًا دقيقًا يتجاوز ثنائية "العدالة أو السلم". إن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق من دون محاسبة تُؤسس للشرعية.

ويُطرح الآن السؤال عن التوقيت والتدرّج: هل ينبغي محاكمة الشعار على الفور استنادًا إلى الأدلة الموثقة، بالتوازي مع استمرارية التحقيقات؟ وكيف يمكن استخلاص المعرفة المؤسسية منه دون منحه حصانة؟ تتطلب هذه المقاربات وجود مؤسسات راسخة تتمكن من إنجاز المهمة ببراعة.

الخاتمة: ثمن الإفلات من العقاب
يُقوّض إفلات كبار المسؤولين من المحاسبة البنية الأخلاقية التي تُعد شرطًا أساسيًا لترسيخ السلم الأهلي والاستقرار. وتُظهر دراسات العدالة الانتقالية أن المجتمعات الخارجة من سياقات عنف ممنهج تحتاج إلى "اعتراف سردي"؛ أي اتفاق جمعي حول ما حدث، ومن يتحمّل المسؤولية، ولماذا يجب ألّا يتكرر.

عندما ينجح مدبّرو الجرائم، كالشعار، في التلاعب بالسردية العامة والتنصّل من أدوارهم عبر الإعلام، فإنهم يعوقون هذا الاعتراف الضروري. ويُملأ الفراغ السردي الناتج بخطابات إنكار وأساطير متنافسة، تُقوّض فرص المصالحة وتُسمّم النقاش الديمقراطي.

وتضم سوريا آلاف المتورطين في الانتهاكات من المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإدارية، الذين يتابعون بدقة مسار قضية الشعار. نجاح محاكمته سيُثبت عزم الحكومة الانتقالية على كسر حلقة الإفلات من العقاب. أما فشله، فسيُرسل رسالة بأن التوافق السياسي يمكن أن يُستخدم كدرع للحماية من المساءلة، مما سيُعزز مناعة الجناة ويُشجع على التحصّن والمقاومة.

إن كسر حلقة الإفلات من العقاب ضرورة إستراتيجية لضمان استقرار طويل الأمد. فالمجتمعات التي تتجاهل محاسبة الجرائم الممنهجة تُواجه احتمالات حقيقية لتجدد العنف.

وتُهدد شبكات الجناة، التي لا تزال تملك النفوذ والموارد، استقرار الدولة ومؤسساتها الناشئة. أما الضحايا، المحرومون من الاعتراف الرسمي، فيميلون نحو أشكال عدالة بديلة، بما فيها الانتقام. ويُفضي هذا المناخ إلى هشاشة قد تؤدي إلى عودة الاستبداد أو تجدّد النزاع.

إن قضية الشعار تتجاوز المحاسبة الفردية. فهو، بصفته وزيرًا للداخلية في الفترة الأكثر دموية من تاريخ سوريا الحديث، يُجسّد الإجرام المؤسسي. ومواجهة هذا الإرث تتطلب أكثر من محاكمات رمزية؛ بل تتطلب مقاربات شاملة تُعالج الثقافة المؤسسية، والذاكرة الجمعية، والعنف الهيكلي. وهذا ما تحتاجه سوريا – الآن، وبإلحاح.

 

اقرأ المزيد
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة

منذ لحظة سقوط نظام بشار الأسد وصعود حكومة الرئيس أحمد الشرع، وضعت سوريا نفسها على مسار جديد قائم على استعادة السيادة وبناء شراكات إقليمية مستقلة، ومع تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران إلى مستويات غير مسبوقة، تطرح التساؤلات بحدة حول موقف دمشق: هل تنجح في تجنّب الاصطفاف؟ أم أنها ستكون مضطرة للاختيار؟.

أولًا: الواقع العسكري والأمني في الجنوب السوري

من المهم التأكيد أن الجنوب السوري، وخاصة أرياف درعا والقنيطرة خالٍ تمامًا من التواجد العسكري أو الأمني المنظم للمليشيات الإيرانية أو حزب الله، وفق ما تؤكده مصادر ميدانية متعددة.

هذا الفراغ لم يأتِ صدفة، بل هو نتيجة جهود ممنهجة بذلتها الحكومة الجديدة لتفكيك البنية التحتية للمحور الإيراني في الجنوب، وتحصين المنطقة ضد محاولات إعادة الانتشار.

ولكن، تبقى السويداء خارج هذه الحسابات، خاصة أن الكثير من قادة النظام السابق ما تزال موجودة فيها ويعملون منها على عدم استقرار الجنوب السوري وسوريا. ولكن في المقابل من الصعب جدا أن تنطلق أي عمليات تهدد اسرائيل من السويداء، لعدة أسباب منها أن هناك تنسيق بين الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي للمسلمين الموحدين الدروز وبين تل أبيب، كما أن اسرائيل صرحت مرارا وتكرارا أنها ستحمي الدروز في السويداء من أي تهديد يقع عليهم.

لذلك، أيّ مزاعم عن احتمالية رد إيراني انطلاقًا من الأراضي السورية لا تبدو واقعية في الوقت الراهن، فالرد الإيراني، إن وقع، سيكون غالبًا انطلاقًا من أراضٍ عراقية أو عبر مليشيات في لبنان، بينما تبقى سوريا بمنأى عن ذلك لأسباب تتعلق بتوازنات إقليمية دقيقة.

ثانيًا: سوريا بعد الأسد.. دولة بلا حلف أيديولوجي

بعكس ما كانت عليه في مرحلة حكم الأسد، لم تعد سوريا اليوم طرفًا في أي محور عقائدي. الحكومة الجديدة تسعى لتثبيت مفهوم “الدولة الوطنية المستقلة”، وهو ما ينعكس في تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة، من التنسيق مع واشنطن، إلى تطبيع كامل مع دول الخليج، واتفاقيات أمنية غير معلنة مع الأردن وتركيا.

هذا التموضع يضع دمشق خارج الاصطفاف الإجباري، لكنه لا يمنحها رفاهية الحياد التام. فالحرب المفتوحة بين إسرائيل وإيران ستفرض على الجميع إعادة التموضع، لا سيما على الدول المتاخمة للجبهة.

ثالثًا: الحلف الإقليمي الجديد.. وسؤال الخيارات

المؤشرات السياسية والعسكرية الأخيرة تدل على تبلور محور إقليمي جديد، تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل ودول اوروبية، ويضم دولًا خليجية أساسية، مثل السعودية والإمارات والبحرين، إضافة إلى تركيا بدرجة أقل. هذا المحور يسعى إلى تحجيم الدور الإيراني، وتأمين استقرار شرق المتوسط والخليج.

سوريا الجديدة تميل بوضوح إلى هذا المعسكر، ليس حبًا بالمصالح الإسرائيلية، بل دفاعًا عن مصالحها الذاتية: تثبيت الأمن جنوبًا، إعادة الإعمار، إعادة الارتباط بالاقتصاد العربي، وضمان الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة.

الحيادية التامة قد تكون غير مطروحة لدى دمشق في حال توسعت رقعة المعركة بين طهران وتل أبيب، وسيكون الرئيس السوري أحمد الشرع مضطرا للانحياز جانب الحلف الأمريكي الإسرائيلي، لأن الحيادية المطلقة تعني عودة العقوبات وتدمير اقتصاد سوريا المدمر، ما سيعني بالتأكيد عدم الاستقرار في سوريا وربما سيعجل ذلك بحرب أهلية وعودة سريعة لتظيم داعش، لذلك ستكون دمشق في حقل ألغام من الصعب عليها أن تتجنب بعضها.

رابعًا: التهديد الإيراني.. ضغط لا يُستهان به

رغم انهيار البنية الإيرانية في الجنوب خصوصا وسوريا عموما، لا تزال إيران تحتفظ بنفوذ في الشرق السوري (ريف دير الزور تحديدًا)، كما أن لديها خلايا سياسية ومالية يمكن تنشيطها في لحظات التوتر. وبالتالي، فإن مواجهة إقليمية شاملة قد تدفع إيران إلى استخدام أوراقها داخل الأراضي السورية، ولو بشكل غير مباشر.

الحكومة السورية تدرك ذلك، وهي تتحرك على مسارين:
 • الأول: تأمين الجبهة الداخلية سياسيًا وأمنيًا.
 • الثاني: تنسيق استخباري واسع مع أطراف إقليمية ودولية لمراقبة أي نشاط عسكري أو امني.

خامسًا: الحرب الإقليمية المحتملة.. هل يمكن تجنّبها؟

إذا تطورت المواجهة إلى حرب إقليمية، فإن حياد سوريا لن يكون ممكنًا بالكامل. لكن السيناريو الأكثر ترجيحًا، أن تسعى دمشق للقيام بدور استباقي يتمثل في:
 1. ضبط حدودها من أي نشاط عدائي قد يجرها للصراع.
 2. تأكيد موقفها الرافض لاستخدام أراضيها لأي هجوم.
 3. المشاركة في جهود الوساطة، إن توفرت، خصوصًا مع وجود قنوات اتصال مع كل من أنقرة، الرياض، وواشنطن.

سوريا الجديدة تقف أمام لحظة مفصلية في التوازنات الإقليمية. وبين تهديدات محور طهران، وفرص محور إقليمي غربي-عربي، تبدو خيارات دمشق محسوبة بدقة: لا عودة لمحور الممانعة، ولا خضوع مطلق لحلف تل أبيب. بل محاولة لتثبيت سيادة ناضجة، واستثمار التحولات لبناء مستقبل مستقر.

لكن ما لم يُحسم حتى الآن، هو: إلى أي مدى ستُمنح دمشق هذا الحيّز من الاستقلال؟ وهل سيسمح تصاعد المواجهة الكبرى بين إسرائيل وإيران ببقاء منطقة وسطى بين المحورين؟

 

اقرأ المزيد
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد

تصاعدت خلال الأيام الماضية، حدة التعليقات التي يشاركها "أيتام الأسد"، تحمل نوع من الشماتة والفرح المصطنع، ظناً منهم أن الخلافات التي ظهرت بين بعض الناشطين الأحرار والحكومة الحالية دليل على بداية انهيار العلاقة بين الطرفين أو تمهيد لانقلاب شعبي جديد، هذا التفسير السطحي والمبني على الأوهام يعكس عدم فهمهم لطبيعة العلاقة القائمة اليوم في سوريا بين القوى الثورية والمكونات الحكومية التي تمثل مرحلة ما بعد الأسد الساقط. 

الانتقادات التي وُجهت مؤخراً، سواء لمؤتمر السلم الأهلي، الذي رأى فيه بعض الناشطين تبريراً غير مقبول لعودة ضباط خدموا في عهد الأسد دون محاسبة، أو التصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها عضو اللجنة "حسن صوفان" حول المجرم "فادي صقر"، ليست دليلاً على انقسام أو انهيار، بل دليل على وعي جديد قائم على حرية التعبير، وممارسة الحق في النقد المسؤول، وهو ما لم يعرفه أيتام النظام المجرم السابق يوماً.

ومن خلال رصد منشوراتهم وتعليقاتهم التي تحمل نبرة انتصار مزيفة، وكأنهم يظنون أن أبناء الثورة تخلوا عن مبادئهم، أو أن الثورة انتهت وأنهم قد يعودون من الباب الخلفي إلى مشهد سياسي كانوا سبباً رئيسياً في تدميره.


هذا الوهم نابع من عقليتهم القديمة التي ترى في الولاء للحكومة طاعة مطلقة، وتعتبر أي نقد نوعاً من الخيانة أو التفكك، بل إن هذا ما تعوّدوا عليه في ظل حكم الأسد الإرهابي، حيث كان الولاء الأعمى هو القاعدة، والنقد يُعتبر خروجاً عن الصف ويعرض للمساءلة والملاحقة.

أما اليوم، فإن من يقود الرأي العام من الناشطين الأحرار، هم أشخاص لا يخضعون لسلطة فوق سلطة الحق، يؤيدون الخطوات التي تخدم مصلحة السوريين، سواء جاءت من الحكومة أو من غيرها، ويرفضون أي سلوك يخالف مبادئ الثورة وكرامة الشعب، الانتقاد ليس ضعفاً، بل قوة للتصحيح؛ وهو ما لا يفهمه من تربى في بيئة تقمع الصوت المخالف وتقدس الحاكم.

الحكومة الحالية، بكل ما فيها من تحديات ونقاشات، ليست فوق المساءلة، وهذا ما يدركه الثوار جيداً. لذلك فإن وجود نقاشات واختلافات علنية حول بعض القرارات أو الشخصيات ليس خللاً، بل ظاهرة صحية تعبّر عن واقع جديد يسعى لبناء دولة على أساس القانون والمساءلة، لا دولة المخابرات والتهليل الأعمى.

في النهاية، فإن ما يروج له أيتام الأسد، من أوهام حول تفكك الصف أو نهاية المشروع الثوري، لا يعدو كونه محاولة يائسة للعودة إلى مشهد لفظهم منذ سنوات. الشعب السوري، بمختلف مكوناته الثورية والمدنية، يدرك أن النقد البناء ضرورة، وأن الكرامة لا تُساوم، وأن بناء سوريا الحرة لا يعني تكرار أخطاء الماضي، بل مواجهتها وتصحيحها.

اقرأ المزيد
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني

يُجسّد دور المدعين العامين في المجتمعات الديمقراطية الحديثة مفارقة تقع في صميم الحوكمة الدستورية وسيادة القانون. يتمتع هؤلاء المدعون بسلطة تقديرية واسعة في تحديد من يُحال إلى القضاء بتهم جنائية، إلا أنهم ملزمون في الوقت ذاته بالتوفيق بين متطلبات المساءلة السياسية والاستقلال المهني.

ويعكس هذا التوتر تحديات أعمق في النظرية الديمقراطية بشأن كيفية تنظيم مؤسسات تستجيب للإرادة العامة مع بقائها محصّنة ضد التدخلات السياسية. تُظهر الدراسات الحديثة أن استقلال الادعاء العام يُعزّز من مساءلة السلطة التنفيذية من خلال تمكين ملاحقة الموظفين العموميين في قضايا الفساد وسوء استخدام السلطة، بينما تضمن آليات المساءلة خضوع المدعين العامين أنفسهم للمحاسبة أمام المؤسسات الديمقراطية. ومع ذلك، لا يزال تحقيق التوازن المثالي بين هذين البُعدين من أكثر التحديات تعقيدًا التي تواجه أنظمة العدالة الجنائية عالميًا، حيث تختلف المقاربات بحسب التقاليد الدستورية والسياقات السياسية والتاريخ المؤسسي لكل دولة.

الإطار المفاهيمي: استقلال النيابة العامة والمساءلة
يشمل مفهوم استقلال النيابة العامة أبعادًا هيكلية ووظيفية تُميّزه عن استقلال السلطة القضائية، مع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة شبه القضائية للعمل الذي تقوم به النيابة. ويُقصد باستقلال النيابة العامة ألا يُتوقع من المدعين العامين أن تترتب على أدائهم المهني عواقب سلبية، مثل العزل أو النقل أو خفض الأجور. ويركّز هذا المفهوم على العلاقة بين المدعين العامين والسلطات الحكومية، لا سيما السلطة التنفيذية التي كثيرًا ما تمارس سلطتها الإدارية على أجهزة الادعاء.

ويتجلّى هذا الاستقلال في قدرة المدعين العامين على اتخاذ قراراتهم بحرية، دون تدخل أو تأثير من السلطة التنفيذية أو موظفين عموميين، خصوصًا في القضايا التي تطول هؤلاء الأشخاص، مثل الفساد، واستغلال السلطة، وانتهاكات حقوق الإنسان. ويمتد نطاق الاستقلال ليشمل المهام الأساسية للنيابة العامة، بما في ذلك قرار تحريك الدعوى، وإجراء التحقيقات، وتقرير الاستمرار في الملاحقة القضائية أو سحب التهم.

وفي المقابل، فإن المساءلة تشير إلى وجود آليات تكفل استخدام هذه السلطة التقديرية بشكل مسؤول، وفقًا للمعايير القانونية والمهنية. وتشمل المساءلة كلاً من الضوابط البيروقراطية الداخلية وآليات الرقابة الخارجية المصممة لمنع الانحرافات في ممارسة سلطة الادعاء، مع الحفاظ على ثقة الجمهور في عدالة النظام الجنائي.

ولا ينبغي فهم العلاقة بين الاستقلال والمساءلة على أنها تعارضية، بل تكاملية. إذ إن الاستقلال من دون مساءلة قد يؤدي إلى انحرافات في أداء النيابة العامة، ويُقوّض ثقة المواطنين في حيادها، في حين أن المساءلة من دون استقلال تُفضي إلى إمكانية التلاعب السياسي بالإجراءات الجنائية. ولهذا، يتعين على أنظمة الادعاء الفعّالة أن تُقيم ترتيبات مؤسسية تضمن تحصين المدعين العامين من التدخلات السياسية، مع بقائهم في الوقت ذاته خاضعين للمساءلة المهنية والديمقراطية بشأن سلوكهم وأدائهم الوظيفي.

يعكس التوتر القائم بين استقلال النيابة العامة والمساءلة السياسية إشكالية دستورية عميقة تتصل بمبدأ فصل السلطات وبُنى الحوكمة الديمقراطية.

الأنظمة الرئاسية والنماذج التنفيذية التشريعية
تميل الأنظمة الرئاسية عادةً إلى تركيز سلطة تعيين المدعين العامين في يد السلطة التنفيذية، مع إدماج آليات رقابة تشريعية لضمان المساءلة الديمقراطية. ففي الولايات المتحدة، يُجسّد النظام الفيدرالي هذا التوجه من خلال ما يُعرف ببند التعيينات، حيث يُرشّح الرئيس المدعي العام، إلا أن تعيينه لا يُستكمل إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ. وتخدم هذه الآلية التشاركية غرضين رئيسيين: ضمان إسناد المناصب العليا لأشخاص ذوي كفاءة، وتوفير رقابة ديمقراطية على قرارات التعيين التي تتخذها السلطة التنفيذية.

تشمل هذه العملية مراجعة دقيقة من خلال جلسات استماع تعقدها اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ، حيث يُقيّم الأعضاء مؤهلات المرشحين، وتوجهاتهم القانونية، ومواقفهم السياسية. ويُبرز هذا النموذج الأميركي كيفية تحقيق التوازن في الأنظمة الرئاسية بين كفاءة الأداء التنفيذي والضوابط المؤسسية.

ويشغل النائب العام في الولايات المتحدة موقعين حيويين في آنٍ واحد: وزير العدل، ورئيس أجهزة إنفاذ القانون، ما يُضفي على هذا المنصب وزنًا دستوريًا كبيرًا. وتُنتج هذه المسؤولية المزدوجة توترات مستمرة بين واجب المساءلة السياسية أمام السلطة التنفيذية، وضرورة الحفاظ على استقلال القرار داخل جهاز النيابة العامة. ويُظهر هذا الوضع التحدي الدائم في تأمين استقلال النيابة العامة ضمن بنى تخضع، بطبيعتها، للمساءلة السياسية.

الأنظمة البرلمانية وسلطة رئيس الوزراء
في المقابل، تنتهج الأنظمة البرلمانية مسارات مختلفة في تعيين المدعين العامين، تعكس طبيعة هياكلها الدستورية واندماج السلطتين التنفيذية والتشريعية. فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، تعتمد نظام التعيين التنفيذي المباشر، حيث يُعين رئيس الوزراء المدعي العام لإنجلترا وويلز دون الحاجة إلى تصويت أو مصادقة من البرلمان. ويُجسد هذا الإجراء مبدأً برلمانيًا راسخًا مفاده أن الحكومة، بعد نيلها ثقة البرلمان، تملك صلاحية تعيين كبار المسؤولين التنفيذيين.

غير أن هذا النموذج يطرح توترات واضحة بين الأدوار السياسية والقانونية للمدعي العام، الذي يُضطلع في آنٍ واحد بمهام وزير في الحكومة ومستشار قانوني أول لها. ويمكن أن يؤدي هذا التداخل إلى تضارب في المصالح، لا سيما حين يضطر المدعي العام لاتخاذ قرارات تمس زملاءه السياسيين أو تتعلق بسياسات الحكومة ذاتها.

ويعتمد النظام البريطاني إلى حدّ كبير على الأعراف الدستورية والمهنية القانونية، بدلاً من آليات رقابية مؤسسية صارمة، لضمان استقلال النيابة العامة. وتُبرز قضايا مثل رفع دعاوى ازدراء ضد شخصيات سياسية رفيعة التحديات المترتبة على هذا الترتيب، لا سيما ما يتعلق بإمكانية وجود تعارض فعلي أو مُتصوّر في المصالح، بما يُهدد مبدأ الحياد وتحقيق العدالة.

يشغل النائب العام في الولايات المتحدة موقعين حيويين في آنٍ واحد: وزير العدل، ورئيس أجهزة إنفاذ القانون، ما يُضفي على هذا المنصب وزنًا دستوريًا كبيرًا.

التوتر الأساسي: الاستقلال مقابل الرقابة السياسية
يعكس التوتر القائم بين استقلال النيابة العامة والمساءلة السياسية إشكالية دستورية عميقة تتصل بمبدأ فصل السلطات وبُنى الحوكمة الديمقراطية. ففي عدد كبير من الأنظمة القضائية، تعمل النيابات العامة ضمن إطار السلطة التنفيذية أو ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا، ما يُنتج تضاربًا بنيويًا بين وظيفتها في تطبيق القانون وضرورة تحصينها من النفوذ السياسي. ويبرز هذا التوتر بشكل خاص عندما تكون النيابة العامة معنية بالتحقيق مع مسؤولين حكوميين يمارسون سلطة إدارية مباشرة على عملها، أو حتى بملاحقتهم قضائيًا.

في هذا السياق، تُعد الضمانات الدستورية لاستقلال النيابة العامة أدوات حيوية للحماية من التدخلات السياسية في سير العدالة الجنائية. فعلى سبيل المثال، ينص القانون الأساسي في هونغ كونغ على أن وزارة العدل "تتولى إدارة الملاحقات الجنائية دون أي تدخل"، مما يُكرّس استقلال النيابة العامة كمبدأ دستوري وليس مجرد إجراء تنظيمي. وقد أكدت محكمة الاستئناف في هونغ كونغ على هذا الاستقلال باعتباره "ركيزة أساسية لسيادة القانون"، مشددة على أن اتخاذ قرارات الملاحقة أو إيقافها يجب أن يبقى ضمن صلاحيات الادعاء العام حصريًا، بمعزل عن الضغوط السياسية.

تُصبح الحاجة إلى حماية استقلال النيابة العامة أكثر إلحاحًا في القضايا ذات البعد السياسي الحساس أو التي تطول مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى. ففي مثل هذه القضايا، لا بد أن يستند المدعون العامون في قراراتهم إلى معايير الجدارة القانونية والأدلة المتاحة فقط، دون اعتبار للعواقب السياسية أو الضغوط الحكومية. ويضع هذا الدور المدعين العامين في موقع فريد ضمن الهياكل السياسية، حيث يُطلب منهم خدمة الصالح العام دون أن يخضعوا لأجندات السلطة التي تُحدد هذا الصالح عادةً.

ومع ذلك، فإن آليات المساءلة السياسية تظل جزءًا أساسيًا من النظام الديمقراطي، ولا يمكن فصلها كليًا عن عمل النيابة العامة. فالمدعون العامون يتصرفون بسلطة واسعة ويُشرفون على موارد عامة كبيرة، ما يفرض الحاجة إلى وجود رقابة ديمقراطية تضمن الاستخدام الرشيد والمسؤول لهذه السلطة. ويتمثل التحدي هنا في تصميم آليات مساءلة تُحافظ على استقلال النيابة العامة، مع ضمان خضوعها للمحاسبة، بما يُعزز ثقة الجمهور في المؤسسات العدلية.

نماذج تنظيم النيابة العامة والمساءلة
تبنّت الأنظمة القضائية حول العالم نماذج متنوعة لتحقيق توازن فعّال بين استقلال النيابة العامة والمساءلة، تعكس اختلافاتها في التقاليد الدستورية، والثقافات السياسية، والسياقات التاريخية. وتنقسم هذه النماذج عمومًا إلى فئتين رئيسيتين: نماذج المساءلة الانتخابية، ونماذج المساءلة البيروقراطية، مع اتجاه متزايد نحو المزج بين النموذجين.

يرتكز نموذج المساءلة الانتخابية، على مبدأ الرقابة الديمقراطية المباشرة، سواء من خلال انتخاب النواب العامين مباشرة من قبل المواطنين أو تعيينهم من قبل مسؤولين مُنتخبين. ويهدف هذا النموذج إلى ضمان استجابة النيابة العامة لأولويات الجمهور وقيمه، مع إتاحة ضوابط خارجية على سلطتها التقديرية من خلال دورات انتخابية منتظمة. ويؤكد أنصار هذا النموذج أن المساءلة الانتخابية تُبقي النواب العامين على تواصل مباشر مع المجتمع، في حين يرى معارضوه أنها قد تؤدي إلى تغليب اعتبارات شعبوية أو سياسية على قرارات الاتهام، بما يُقوّض استقلالية النيابة.

في المقابل، تعتمد غالبية الأنظمة الأوروبية، وغيرها من الدول، على نماذج مساءلة بيروقراطية داخلية. وتتصف هذه الأنظمة بوجود أجهزة ادعاء مركزية، ذات هياكل هرمية واضحة، وتعليمات مكتوبة تُنظّم قرارات الملاحقة، بالإضافة إلى آليات مراجعة دورية داخلية. ويلتحق المدعون العامون في هذه النماذج بجهاز بيروقراطي مهني، ويُنفذون السياسات من خلال رقابة داخلية منظمة، بدلًا من المساءلة العامة عبر صناديق الاقتراع.

يمنح النموذج البيروقراطي الأولوية للخبرة القانونية والانضباط المهني وتوحيد تطبيق المعايير القانونية، ويُوفّر حماية من الضغوط السياسية المباشرة. إلا أن هذا النموذج لا يخلو من الإشكاليات، إذ قد تُستغل السلطة الهرمية من قِبل جهات سياسية نافذة للتأثير على

السياسات المؤسسية أو قرارات كبار المسؤولين. وتُحدَّد فعالية هذا النموذج إلى حد كبير بمدى استقلال كبار مسؤولي النيابة وقوة أنظمة الحوكمة الداخلية.

وتشير الاتجاهات الراهنة إلى تقارب بين النموذجين، باعتماد أدوات بيروقراطية داخلية أكثر صرامة، إلى جانب تعزيز الرقابة العامة والشفافية. ويعكس هذا التقارب وعيًا متزايدًا بأن أيًا من النموذجين، منفردًا، لا يُقدّم حلاً كافيًا للتعقيدات المؤسسية المرتبطة بحوكمة النيابة العامة في السياقات الديمقراطية المعاصرة.

يتعين أن تُراعي إصلاحات النيابة العامة المستقبلية في سوريا التحديات المستجدة، مثل الاستقطاب السياسي، ونفوذ السلطة التنفيذية، والتطورات التكنولوجية، والقيود المالية، مع البناء على الخبرات الدولية الناجحة في مجالات الشفافية.

الأدلة التجريبية على الاستقلال والمساءلة الحكومية
تُبرز الأبحاث التجريبية الحديثة وجود أدلة قوية على أن استقلال النيابة العامة يُسهم بشكل كبير في تعزيز مساءلة الحكومة، من خلال زيادة احتمالية ملاحقة المسؤولين الحكوميين المتورطين في سلوكيات جنائية. وتُظهر بيانات مشروع العدالة العالمي وجود ارتباط إيجابي وثيق بين استقلالية النيابة العامة ونجاحها في مقاضاة المسؤولين الفاسدين، حيث بلغ معامل الارتباط بين الاستقلال والمساءلة 0.893، مما يُشير إلى علاقة متينة بين العاملين.

ويُبيّن التحليل أن هذا الاستقلال يُؤثر على وجه التحديد في قدرة المدعين العامين على التعامل مع مختلف فئات الموظفين العموميين، ويُعزّز استعدادهم لمتابعة القضايا ضد شخصيات مرتبطة سياسيًا، قد تكون بمنأى عن الملاحقة القضائية في ظروف أخرى. وتدعم هذه النتائج الطرح النظري الذي يرى في استقلال النيابة العامة آلية حيوية لضمان خضوع الجميع للقانون، دون استثناء بسبب المنصب أو النفوذ.

مع ذلك، تكشف البيانات أن استقلال النيابة العامة لا يكون فعّالًا إلا إذا اقترن بمستوى كافٍ من المساءلة. فالمدعون العامون الذين يتمتعون باستقلال مطلق دون رقابة مناسبة قد يصبحون عرضة للفساد أو الممارسات غير المهنية، ما يُقوّض قدرتهم على محاسبة المسؤولين الحكوميين على نحو فعال. وتُبرز هذه النتيجة الحاجة الماسة إلى بناء ترتيبات مؤسسية تُوازن بين الاستقلال والرقابة، لضمان نزاهة جهاز النيابة وتعزيز ثقته أمام المجتمع.

وتحمل هذه النتائج دلالات مهمة لصانعي السياسات في مجالات إصلاح المؤسسات والعدالة الجنائية. فهي تُظهر أن تعزيز استقلال النيابة العامة يُمكن أن يُحقق مكاسب كبيرة على صعيد مساءلة الدولة وسيادة القانون، لكن هذه المكاسب تبقى رهينة بتوافر آليات مساءلة مؤسسية فعّالة تضمن النزاهة وتُعزز ثقة المواطنين.

ويتعين أن تُراعي إصلاحات النيابة العامة المستقبلية في سوريا التحديات المستجدة، مثل الاستقطاب السياسي، ونفوذ السلطة التنفيذية، والتطورات التكنولوجية، والقيود المالية، مع البناء على الخبرات الدولية الناجحة في مجالات الشفافية، والمجالس المهنية، وبرامج التدريب والتطوير المؤسسي، وتوازن السلطات، وسيادة القانون في العالم المعاصر.
 

اقرأ المزيد
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية

شكَّل سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 نقطة تحوُّل جيوسياسية محورية في الشرق الأوسط، حيث أنهى هذا التحول المفاجئ، الذي لم تتوقعه القوى الإقليمية والدولية، عقودًا من الحكم الأوتوقراطي والثبات السياسي النسبي الذي اتسم به النظام السوري منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.

وفَّر هذا التحول غير المتوقع لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية. فقد تبنّت إسرائيل موقفًا عدائيًا واضحًا، متجاهلةً محاولات أحمد الشرع للانفتاح و"الاعتدال السياسي"، حيث وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس حكومة الشرع بأنَّها "تهديد وجودي"، مركِّزين على خلفيته الجهادية، ورافضين الاعتراف بتخليه عن أيديولوجيته السابقة. بل ذهبت إسرائيل إلى حدّ اعتبار حكومته متوافقة أيديولوجيًا مع حركة حماس، في مسعى واضح لتبرير خطط توسعية معدة مسبقًا.

وفي أخطر تصعيد عسكري/سياسي، فجر يوم الجمعة الموافق 2 أيار/مايو 2025، شنَّت طائرات حربية تابعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي غارة جوية استهدفت موقعًا قريبًا من القصر الرئاسي في دمشق. وعقب الهجوم، صدر بيان مشترك عن نتنياهو وكاتس، اعتبرا فيه الغارة رسالة مباشرة إلى النظام السوري، مؤكدَين رفضهما القاطع لما وصفاه بـ "تهديد الطائفة الدرزية أو إرسال قوات إلى الجنوب".

احتلال إسرائيلي دائم لأراضٍ سورية
اتجهت أنظار إسرائيل، مباشرة بعد انهيار نظام الأسد، إلى السيطرة على المنطقة العازلة التي تراقبها الأمم المتحدة. ففي 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت القوات الإسرائيلية إلى احتلال أجزاء واسعة من المنطقة المنزوعة السلاح، التي تمتد بطول يقارب 75 كيلومترًا، ويتراوح عرضها بين 10 كيلومترات في الوسط و200 متر في أقصى الجنوب. وعلى مدار خمسة عقود، شكلت هذه المنطقة حاجزًا أمنيًا محوريًا تحت إشراف قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)، مما أسهم في الحفاظ على درجة من الاستقرار الحدودي، رغم غياب معاهدة سلام رسمية بين الطرفين.

وفّر سقوط نظام الأسد لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية، وفي خطوة مدروسة تعكس تحوّلًا استراتيجيًا، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ اتفاقية فك الاشتباك لم تعد سارية، معتبرًا أنَّ الترتيبات السابقة فقدت صلاحيتها في ضوء الواقع الجديد. رافق الاحتلال الإسرائيلي عمليات تضييق كبير على مهام قوة الأمم المتحدة، حيث انخفض عدد دورياتها اليومية من 55 – 60 مهمة إلى 3 – 5 فقط. كما كشفت تقارير ميدانية عن قيام القوات الإسرائيلية بإنشاء منشآت عسكرية جديدة ووضع رموز سيادية داخل المنطقة العازلة، في انتهاك مباشر للصلاحيات الممنوحة للبعثة الأممية.

فإلى جانب السيطرة على المنطقة العازلة، عمدت إسرائيل إلى توسيع رقعة نفوذها الإقليمي لتشمل: كامل مرتفعات الجولان، التي تبلغ مساحتها نحو 1200 كيلومتر مربع، حيث عززت إسرائيل وجودها فيها رغم احتلالها المستمر منذ عام 1967، ومناطق إضافية تتجاوز مساحتها 500 كيلومتر مربع في جنوب غرب سوريا، مما يشكل توغلًا غير مسبوق داخل العمق السوري.

كما كشفت التحركات الإسرائيلية على الأرض عن نية واضحة لترسيخ الوجود العسكري طويل الأمد في المناطق السورية المحتلة حديثًا. فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية قيام إسرائيل بإنشاء عدة قواعد عسكرية جديدة، وأكّدت تقارير إذاعة الجيش الإسرائيلي أنَّ تسع قواعد أُقيمت منذ كانون الأول/ديسمبر 2024، توزعت على النحو التالي:

ويُلاحظ أنَّ هذه القواعد لا تقتصر على البنية العسكرية، بل تتضمن أيضًا منشآت سكنية وكنيسًا يهوديًا، في مؤشر على وجود خطة منهجية تهدف إلى فرض واقع ديموغرافي وسياسي جديد في المناطق المحتلة. كما تجري أعمال بناء طرق في تلك المناطق، ما يُفسَّر كجزء من جهود دعم العمليات العسكرية وتعزيز السيطرة طويلة الأمد.

تنسيق مع بعض مشايخ الطائفة الدرزية
في أعقاب سقوط نظام الأسد، كثَّفت إسرائيل مساعيها للتواصل مع بعض الشخصيات البارزة في الطائفة الدرزية داخل سوريا، متبنية خطابًا يُظهِرها كمدافع عن الأقليات في مواجهة ما وصفته بالتهديدات المحتملة من الحكومة السورية الجديدة ذات التوجه الإسلامي. وفي هذا السياق، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليمات مباشرة للجيش الإسرائيلي بضرورة توفير الحماية للتجمعات السكانية الدرزية، مترافقة مع تحذيرات واضحة بأنَّ إسرائيل ستقوم باستهداف القوات السورية في حال اقترابها من قرى محددة، كبلدة جرمانا.

تباين المواقف داخل المجتمع الدرزي
اعتمد الدروز السوريون تاريخيًا مقاربات سياسية متفاوتة، تأقلمت مع تحولات ميزان القوى، وقد تجلى هذا النمط في تباين المواقف تجاه التدخل الإسرائيلي بعد سقوط الأسد. تراوحت المواقف بين انخراط محدود وتعاون حذر من جهة، ورفض قاطع من جهة أخرى:
الانخراط الحذر: رحبت بعض الفئات داخل المجتمع الدرزي بالحماية الإسرائيلية، التي أُطلق عليها محليًا وصف "القبة الحديدية الدرزية". وقد أبدت بعض القيادات الدرزية استعدادًا لتنسيق أمني محدود مع إسرائيل، وأُنشئت تشكيلات عسكرية محلية سعت إلى الحصول على ضمانات أمنية من الجانب الإسرائيلي.

الرفض الشعبي والسياسي: في المقابل، عبّرت شرائح واسعة من الدروز عن رفضها القاطع لأي تدخل إسرائيلي. شهدت محافظة السويداء مظاهرات رفعت لافتات تؤكد على وحدة الأراضي السورية ورفض الوصاية الأجنبية. وفي آذار/مارس 2025، خرجت احتجاجات واسعة في بلدة جرمانا استنكارًا لتصريحات نتنياهو بشأن "حماية" الدروز، وردد المحتجون شعارات مثل: "نحن سوريون ولا نحتاج حماية أجنبية" و"وحدة سوريا خط أحمر"، مؤكدين تمسكهم بالسيادة الوطنية ورفضهم أي تدخل خارجي.

تداعيات التدخل الإسرائيلي على السيادة السورية والاستقرار الإقليمي
يشكل الاحتلال الإسرائيلي خرقًا واضحًا للمبادئ الجوهرية في القانون الدولي، وعلى رأسها مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، وأُعيد تأكيده في قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967. ومن خلال تجاهلها لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، التي نظمت الوضع في المنطقة العازلة طيلة خمسة عقود، فإنَّ إسرائيل تُقوِّض الأطر القانونية التي تحكم العلاقات الدولية، وتفتح المجال أمام سابقة خطيرة.

ويؤكد إنشاء قواعد عسكرية وبنية تحتية دائمة في الأراضي السورية المحتلة عزم إسرائيل على ترسيخ احتلال طويل الأمد. ومن شأن هذا التوسع أن يُخضع أجزاء واسعة من جنوب سوريا للهيمنة الأمنية الإسرائيلية، في تكرارٍ لنموذج الاحتلال الذي مارسته في جنوب لبنان بين عامي 1982 و2000.

كما أدت هذه الحملة العسكرية إلى إضعاف كبير في القدرات الدفاعية السورية. وتشير التقارير إلى أنَّ ما بين 70 % إلى 80 % من الأصول العسكرية الاستراتيجية لسوريا قد دُمّرت، بما يشمل أنظمة الدفاع الجوي والقدرات الصاروخية والبنية التحتية العسكرية التقليدية. وهو ما ينعكس سلبًا على قدرة الحكومة السورية في الدفاع عن أراضيها أو بسط سيادتها، خصوصًا في المناطق التي تشهد نزاعات مع فصائل مدعومة من أطراف خارجية.

ويشكّل التنسيق الإسرائيلي مع الطائفة الدرزية وقوات سوريا الديمقراطية، في أعقاب سقوط نظام الأسد، تحديًا مباشرًا لسلطة الدولة السورية. فمن خلال تقديم نفسها كجهة حامية للدروز، وإنشاء قنوات اتصال وتنسيق أمني مباشر معهم، تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم التوازنات الداخلية في سوريا بما يتجاوز حدود المواجهة العسكرية التقليدية. ويُتيح هذا التنسيق لإسرائيل بناء هياكل سلطة موازية تُضعف المركزية الحكومية، وتُهدد وحدة الدولة الوطنية.

تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الحياة اليومية
تُظهر شهادات سكان القرى السورية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي آثارًا مدمرة على نمط حياتهم اليومي. ففي بلدات مثل جملة وعابدين، أفاد الأهالي بأنَّ دوريات إسرائيلية قامت بإحراق مركبات عسكرية، وتنفيذ عمليات تفتيش، مع فرض مطالبات بنزع السلاح وتسجيل أسماء القيادات المحلية. كما أبلغ السكان عن حالات مصادرة مواشٍ، واحتجاز مدنيين، وفرض قيود صارمة على النشاط الزراعي، خاصة في المناطق القريبة من مواقع قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، مما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني في المنطقة.

وقد أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية، والاستحواذ القسري على الأراضي، عن موجة نزوح جديدة طالت آلاف السوريين من المناطق المتأثرة، ليلتحقوا بملايين النازحين داخليًا نتيجة الصراع الممتد منذ عام 2011. ويُشكّل هذا التهجير المستمر عبئًا إضافيًا على الموارد الإنسانية والخدمات العامة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، مما يزيد من تعقيدات جهود الإغاثة وإعادة التوطين.

مسؤولية الحكومة السورية: تشاركية سياسية كضرورة وطنية وحراك دبلوماسي وقانوني موسع
تتحمّل الحكومة السورية الجديدة مسؤولية وطنية عاجلة لتعزيز التشاركية السياسية مع الطائفة الدرزية، من خلال تبني رؤية متكاملة تضمن تمثيلهم الفاعل في مختلف مستويات صنع القرار، ابتداءً من المجالس المحلية ووصولًا إلى المناصب العليا في الدولة. كما يتطلب الأمر منحهم دورًا ملموسًا في مسارات العدالة الانتقالية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية وحمايتها.

ويجب تخصيص موارد تنموية كافية للمناطق ذات الأغلبية الدرزية، والتي عانت من التهميش والإهمال لسنوات طويلة، إلى جانب إشراك أبناء الطائفة في صياغة ميثاق وطني جديد يكفل حقوق جميع المكونات السورية على أساس المساواة والمواطنة. من شأن هذا النهج التشاركي أن يعزز من شرعية الحكومة الانتقالية داخليًا، ويقطع الطريق أمام محاولات إسرائيل استمالة بعض الفئات الدرزية وتوظيفها كأداة لتمزيق النسيج الوطني السوري. كما يُسهم في إفشال سياسة "فرّق تسد" التي تسعى إسرائيل إلى ترسيخها كأداة استراتيجية لإضعاف الدولة السورية وتقويض سيادتها.

حراك دبلوماسي واسع
تواجه الحكومة السورية الانتقالية ضرورة حتمية للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عبر تبني حراك دبلوماسي نشط ومتعدد المستويات. ويتطلب ذلك المبادرة الفورية بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي عقب الهجوم الإسرائيلي على القصر الرئاسي، مدعومة بملف قانوني متكامل يوثق سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية ومبادئ القانون الدولي. بالتوازي، يجب على سوريا طلب عقد اجتماع عاجل لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري لاستصدار موقف عربي موحد يدين العدوان ويدعم الحقوق السورية المشروعة.

كما أنَّ التحرك الدبلوماسي النشط تجاه الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا الدول ذات المواقف المستقلة نسبيًا، يشكل أولوية لاستصدار إدانة أوروبية للعدوان الإسرائيلي تتخطى بيانات القلق المعتادة. ويجب أن يترافق هذا مع حملة إعلامية منظمة تستند إلى التوثيق الدقيق للانتهاكات الإسرائيلية، وتفعيل التحالفات مع القوى الدولية المناهضة للاحتلال، واللجوء إلى المنظمات الأممية المتخصصة كمحكمة العدل الدولية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بهدف تعزيز الشرعية السورية وكشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي، وحشد الدعم الدولي لحماية السيادة السورية ووحدة أراضيها.

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف

عقب انهيار نظام المجرم بشار الأسد، كان الجزء الأكبر من السوريين يحلمون في وطن واحد موحد، تندمج فيه كل الرايات وتتحد تحت سقف الوطن، لكن الواقع كان مؤلماً بعد تكشف بعض التوجهات التي كانت تنتظر الفرصة للخروج بمشروعها الانفصالي أو الطائفي أو حتى المطالب بالاحتلال.


لم تتوحد سوريا على حلم مشترك، بل تجزأت كل فئة في رؤية مختلفة لمستقبلها. في الساحل، حيث قيل إن أهل المنطقة كانوا مترابطين، ظهر انقسام واضح. البعض طالب بالعفو عن أبنائه الذين شاركوا في آلة القمع، بينما تحركت جماعات منهم هناك لتنظيم انقلاب للفلول، غدرت بعشرات من عناصر الأمن الذين حاولوا حماية المواقع الحيوية، مما زاد الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.

في الجغرافيا السياسية الجديدة، رفع البعض مطالب غير تقليدية، كان أبرزها صوت قوي من قوى “قسد” التي طالبت بالحكم الذاتي، مركزة على بناء إدارة مستقلة تعترف بالهوية والثقافة واللغة، بعيداً عن هيمنة المركز. 


وفي مناطق أخرى، طفت مطالب غريبة على السطح، حيث سمع العالم عن جماعات كانت كل همها أن تحظى بحرية اللباس والرقص والسهر في الكازينوهات، وخشيت أن تُحرم من الخمور، في تناقض صارخ مع أوجاع الناس الحقيقية، وفي بقعة أخرى خرج البعض يطالب بالاحتلال والحماية الدولية بزعم الأقلية.

أما على الجانب الآخر من المشهد، كانت هناك أمهات ونساء فقدن آخر أمل في العثور على أبنائهن بعد فتح السجون. أمهات يشهقن وجعًا أمام المعتقلات، يطرُقْنَ الأبواب التي لا تُفتح، ويُناديْنَ أسماءً ابتلعتها الزنازين يحدقون في كل زاوية، يصرخن بأسماء لم يعد هناك من يجيب. عيون متعبة، رموشها ذابت من كثرة البكاء، لم تعد تقوى على قراءة جداول المعتقلين المتوفيين التي رُفعت للعلن، يبحثن عن أي اسم يشير إلى فلذة كبدها.

كان الأهالي يقفون في طوابير أمام دوائر الأحوال المدنية، يعيدون قراءة قوائم الموتى مرة تلو الأخرى، يمسكون بأوراقهم المرتجفة، يبحثون عن ذرة أمل تمسّك بها خيط الحقيقة، بينما في داخلهم تنهار كل محاولة للثبات.

حين تم الإعلان عن فتح السجون وتكشف وفاة آلاف المختفين قسرياً، انطلقت حملات نعي غير مسبوقة على وسائل التواصل الاجتماعي، حملات لم تكن مجرد كلمات حزينة، بل كانت صيحات وجع بلسان آلاف العائلات. صور شهداء مجهولة الهوية مع تواريخ اعتقالهم وتاريخ الوفاة التي لم تُر، تُنشر بلا توقف، كل صورة تحكي قصة تعذيب، وفاة تحت التعذيب، اختفاء بلا أثر.

على أرض الواقع، عاد الكثير من الأهالي إلى قراهم التي وجدوها مدمرة بالكامل، بيوت محطمة، شوارع غير صالحة للسير، وفي كل زاوية ذخائر غير منفجرة تنتظر زائراً أو ضحية جديدة. بين الأنقاض، حاول الأهالي إعادة بناء ما تهدم، ولكن جراح الحرب لا تُشفى بسهولة.

ومن بين هؤلاء، كان كثير من أهالي المعتقلين يقطنون في خيم مؤقتة على أطراف القرى، يتنقلون بين عتمة الخوف وأمل اللقاء، يتعرضون للسمسرة والابتزاز من قبل بعض من يستغلون محنتهم، مقابل وعد واهٍ بوصول معلومة عن أبنائهم المفقودين.

وفقًا لتقارير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، تجاوز عدد المختفين قسرياً في سوريا خلال سنوات الحرب تجاوز 112 ألفا. وفي وقت كان فيه البعض يصارع ليضمن مكاسبه السياسية والاجتماعية، كانت عائلات الضحايا تعيش في جحيم بحث دائم عن الحقيقة، تفتش في المقابر الجماعية، وتجرّب الحمض النووي، وتأمل أن تلتقط خبراً يريح قلوبها.

هكذا، تكشفت سوريا بعد سقوط الطاغية، وطنٌ لم يُفكك فقط بأنواع الطوائف أو الجماعات، بل بجرح عميق بين من يطالبون بالمكاسب ومن يطالبون بالدفن.

 

اقرأ المزيد
1 2 3 4 5

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني