مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٨ أكتوبر ٢٠٢٥
"فضل عبد الغني" يكتب: شروط حقوقية أساسية لتطبيع العلاقات السورية - الروسية

قال "فضل عبد الغني" مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في مقال نشره على موقع "تلفزيون سوريا"، إن تطبيع العلاقات بين سوريا وروسيا، بعد سنوات من التدخل العسكري غير القانوني في سوريا، يمثّل تحديات غير مسبوقة للقانون الدولي والعدالة الانتقالية؛ فمنذ 30 أيلول/سبتمبر 2015 وحتى سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، خلّف التدخل العسكري الروسي انتهاكات موثّقة غيّرت بصورة جذرية الإطار القانوني الناظم لأي علاقات ثنائية مستقبلية.

ووفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، قتلت القوات الروسية 6993 مدنياً، بينهم 2061 طفلاً و984 امرأة، وارتكبت 363 مجزرة، واستهدفت ما لا يقل عن 1262 منشأة مدنية حيوية. كما عرقلت روسيا آليات المساءلة الدولية عبر استخدام حق النقض في مجلس الأمن ثماني عشرة مرة لحماية نظام الأسد ومنع إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية. 

ووفق "عبد الغني" تُنشئ هذه الأفعال التزامات قانونية ملزمة بموجب القانون الدولي الإنساني وبالقواعد الآمرة في القانون الدولي العام، بما يتجاوز الموازنة الدبلوماسية التقليدية، ويجعل أي مقاربة للتطبيع مشروطة بالمساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبالتعويض الشامل للضحايا، وبضمانات فعّالة لعدم التكرار.

إن إيواء روسيا للأسد لا يُعدّ عقبة سياسية فحسب، بل مخالفةً لالتزاماتٍ تعاهدية ودولية، ما يجعل تسليمه للسلطات السورية المختصة شرطاً قانونياً أساسياً في أي مسار لتطبيع العلاقات.

المساءلة والالتزامات المترتبة بموجب القانون الدولي
يمثّل مبدأ المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني شرطاً تأسيسياً لأي تطبيع سوري-روسي؛ ويُرسِي القانون الدولي التزامات واضحة على الدول المسؤولة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك من خلال مسؤولية القيادة والمسؤولية الجنائية الفردية. 


وتشكل الانتهاكات الموثّقة المنسوبة إلى القوات الروسية، ومنها الاستهداف المتعمد للمدنيين، والهجمات المنهجية على المرافق الطبية والتعليمية، واستخدام أسلحة محظورة دولياً، خروقاً جسيمة لاتفاقيات جنيف تستدعي التزامات إلزامية بالتحقيق والملاحقة. 


ويتجاوز إطار المساءلة حدود الاعتراف السياسي إلى آليات ملموسة للمقاضاة، إذ يقرّر مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، الراسخ في العرف الدولي، إخضاع القادة العسكريين والسياسيين الذين خططوا أو أمروا أو أشرفوا على تلك الهجمات لإجراءات التحقيق والملاحقة. 


وينبثق هذا الالتزام من القاعدة المقررة في المادة الأولى المشتركة لاتفاقيات جنيف التي توجب على جميع الدول «احترام» الاتفاقيات و«كفالة احترامها في جميع الأحوال»، بما ينشئ التزامات مباشرة على الدولة المرتكِبة، والتزاماتٍ على الدول الأخرى بصفتها أطرافاً ثالثة، كما ينهض مبدأ «التحقيق أو التسليم» في الجرائم الأشد خطورة (aut dedere aut judicare) كمعيار إجرائي لازم لتجسيد هذه الالتزامات.

كما تُعدّ مسألة تسليم المجرم بشار الأسد محوراً في هذا الإطار؛ فوفق الفقرة (و) من المادة 1 من اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، تُستثنى من الحماية كلُّ شخصية تتوافر بشأنها أسبابٌ جدية للاشتباه في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. كما يؤكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3074 (الدورة 28 لعام 1973) أن على الدول الامتناع عن منح اللجوء لمن تتوافر أسبابٌ جدية للاعتقاد بارتكابه جريمة ضد السلم أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. وبناءً على ذلك، فإن إيواء روسيا للأسد لا يُعدّ عقبة سياسية فحسب، بل مخالفةً لالتزاماتٍ تعاهدية ودولية، ما يجعل تسليمه للسلطات السورية المختصة شرطاً قانونياً أساسياً في أي مسار لتطبيع العلاقات.

إطار للانتصاف وجبر الضرر
يمثّل الالتزام بتقديم جبرٍ كاملٍ عن الأفعال غير المشروعة دولياً مبدأً أساسياً في القانون الدولي، كرّسته المحكمة الدائمة للعدل الدولي بوضوح في قضية مصنع تشورزوف، التي قررت أن الجبر «يجب، قدر الإمكان، أن يمحو جميع عواقب الفعل غير المشروع وأن يعيد الحالة إلى ما كانت عليه على الأرجح لو لم يقع ذلك الفعل». وبالنسبة لضحايا الانتهاكات المنسوبة إلى التدخل الروسي في سوريا، ينهض من هذا المبدأ إطارٌ متعدد الأبعاد يشمل ردّ الحقوق، والتعويض، وإعادة التأهيل، والترضية، وضمانات عدم التكرار.

ينبغي أن يتناول إطار الجبر الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن العمليات العسكرية الروسية؛ ويقتضي ردّ الحقوق إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الانتهاكات، بما في ذلك إلغاء الاتفاقات القسرية وإعادة الأراضي والممتلكات المصادَرة. 

ويُعد ردّ الحقوق الشكل الأمثل للجبر متى كان تطبيقه ممكناً، غير أنّ حجم الدمار الواسع في سوريا الذي تسببت به روسيا يستلزم تدابير تعويضية مكمِّلة. ويجب أن يغطي عنصر التعويض الأضرار القابلة للتقييم المالي، بما يشمل الخسائر المادية المباشرة كتدمير الممتلكات وفقدان مصادر الدخل، والخسائر غير المادية مثل الأذى النفسي، وفقدان الفرص التعليمية، وتفكك الروابط الأسرية.

وتُعدّ تدابير إعادة التأهيل ركناً رئيساً في منظومة الجبر، إذ تستلزم توفير خدمات طبية ونفسية وقانونية واجتماعية متكاملة تكفل تعافي الضحايا واستعادة قدرتهم على الاندماج. وتؤكد المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الحق في الانتصاف والجبر أنّ لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني حقوقاً واجبة النفاذ في تعويضٍ مناسب وفعّال وسريع يتناسب مع جسامة الانتهاكات. وينشأ عن ذلك التزامٌ على روسيا بوضع برامج عملية تُقدَّم من خلالها خدمات دعم شاملة للفئات المتضررة.

ويقتضي عنصر الترضية الاعتراف الرسمي بالانتهاكات والتعبير الصريح عن الأسف وتقديم اعتذارٍ علنيّ لا لبس فيه؛ ولا يقف هذا عند حدود المجاملة الدبلوماسية، بل يُعدّ التزاماً قانونياً مترتباً على مسؤولية الدولة عن الفعل غير المشروع دولياً. 


ومن ثمّ يتعيّن على روسيا الإقرار الرسمي بالمسؤولية وتقديم اعتذارٍ علنيّ واضح عن الانتهاكات المرتكبة خلال تدخلها العسكري، لما لذلك من وظيفة رمزية وعملية معاً، إذ يثبت معاناة الضحايا ويُرسّي قاعدة واقعية لتفعيل بقية تدابير الجبر.

ويستوجب بُعدُ إعادة الإعمار في إطار الجبر مساهمةً مباشرةً من روسيا في ترميم وإعادة بناء البنية التحتية التي دمّرتها العمليات العسكرية، بما في ذلك مرافق الطاقة وشبكات النقل والمنشآت الطبية والمدارس وسائر المرافق الحيوية التي استهدفت بصورة منهجية. 

وهذا الالتزام يُعدّ فرصةً اقتصادية، والأهم، أنه مسؤوليةً قانونيةً ناشئةً عن الفعل غير المشروع دولياً، ما يفرض أن تتقدّم جهودُ الإعمار وفق نهجٍ يرتكز إلى حقوق الضحايا، ويكفل مشاركتهم الفاعلة في تحديد الأولويات وطرائق التنفيذ، بما يضمن فعالية الإجراءات واستدامتها ويحول دون تكرار الانتهاكات.

إن تسليم بشار الأسد، ورفع العوائق الدبلوماسية أمام مسارات المساءلة، وإطلاق برامج جبرٍ تتمحور حول الضحايا، تعتبر التزامات قانونية أساسية مترتبة على مسؤولية روسيا عن الأفعال غير المشروعة دولياً.

منظومة العدالة الانتقالية وضمانات عدم التكرار
يشكّل تكامل آليات العدالة الانتقالية ركناً أساسياً في أي إطار لتطبيع العلاقات السورية-الروسية. ويقتضي القانون الدولي أن تنهض ضمانات عدم التكرار بوظيفتين متلازمتين: وقائية وإصلاحية؛ بما يعزّز الأداء المؤسسي المستقبلي ويعالج في آنٍ واحدٍ الانتهاكات السابقة. 


وتستلزم هذه الضمانات إنشاء ترتيبات فعّالة تحول دون تكرار الاعتداءات على المدنيين والمرافق الحيوية، وإقرار إصلاحات قانونية ومؤسسية تكفل الامتثال لقواعد القانون الدولي الإنساني، واعتماد آليات تحقق مستقلة لمراقبة تنفيذ الالتزامات الدولية، إلى جانب تدابير ملموسة في مجالي نزع السلاح وتقليص التدخلات العسكرية المستقبلية.

وتُعدّ عمليات تقصّي الحقائق عنصراً محورياً في منظومة العدالة الانتقالية، إذ تكرّس حق الضحايا في معرفة الحقيقة بشأن الانتهاكات التي تعرّضوا لها. وقد أنشأت السلطات السورية هيئة وطنية للعدالة الانتقالية للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة، ويقتضي تعاون روسيا مع هذه الهيئة إتاحة الوصول إلى السجلات والوثائق العسكرية ذات الصلة، وتمكين الإدلاء بشهادات العسكريين الروس المشاركين في العمليات. وتستند هذه الالتزامات إلى قواعد قانون المعاهدات ومبادئ القانون الدولي الإنساني العرفي التي تُلزم الدول بالتحقيق في الانتهاكات وضمان احترام القانون الإنساني.

ويمثّل حفظ الوثائق ومواصلة التحقيق التزاماتٍ مستمرة لا يجوز إنهاؤها باتفاقات سياسية؛ فالبيانات الشاملة التي راكمتها لجنة التحقيق الدولية المستقلة والشبكة السورية لحقوق الإنسان وغيرهما على مدى أربعة عشر عاماً تُعدّ أدلة فاعلة لآليات المساءلة المستقبلية. 


ومن ثمّ ينبغي لأي إطارٍ للتطبيع أن يحمي جهود التوثيق ويعزّزها، مع ضمان إتاحة الأدلة للإجراءات القضائية الوطنية والدولية. ويشمل ذلك صون سلسلة حيازة الأدلة المادية، وحماية شهادات الشهود، والحفاظ الآمن على الأرشيف الرقمي لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني باعتبارها جزء من التاريخ والسردية الوطنية.

خاتمة
لا يمكن للسلطات السورية مقاربة تطبيع العلاقات السورية-الروسية عبر قنوات دبلوماسية تقليدية في ضوء حجم وشدة الانتهاكات الموثّقة خلال التدخل العسكري الروسي؛ ويُرسِي القانون الدولي شروطاً غير قابلة للتفاوض تسبق أي علاقة طبيعية، تتمثل في: مساءلة لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجبرٍ كامل يعالج الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تكبّدها الضحايا السوريون، وضماناتٍ قوية لعدم التكرار، ودعمٍ فعّال لآليات العدالة الانتقالية التي تضع حقوق الضحايا في صميمها. 


وتنبع هذه المتطلبات من قواعد آمرة لا يجوز التنازل عنها بتسويات سياسية أو ترتيبات دبلوماسية. ومن ثمّ فإن تسليم بشار الأسد، ورفع العوائق الدبلوماسية أمام مسارات المساءلة، وإطلاق برامج جبرٍ تتمحور حول الضحايا، تعتبر التزامات قانونية أساسية مترتبة على مسؤولية روسيا عن الأفعال غير المشروعة دولياً. وأي إطار يتجاوز هذه الشروط سيعزز الإفلات من العقاب، ويقوّض سيادة القانون، ويحرم آلاف الضحايا وعائلاتهم من العدالة.

اقرأ المزيد
١٦ أكتوبر ٢٠٢٥
زيارة إلى العدو.. لماذا أغضبت زيارة الشرع لموسكو السوريين؟

زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو لم تمرّ كحدث بروتوكولي عادي، بل أشعلت موجة من الغضب الشعبي والرفض العميق في أوساط واسعة من السوريين، خصوصًا أولئك الذين ذاقوا ويلات القصف الروسي، أو فقدوا أحبّاءهم تحت أنقاض منازلهم التي سوّاها الطيران الروسي بالأرض.

لكن، ما الذي يجعل هذه الزيارة تحديدًا تثير كل هذا الكمّ من الألم والغضب والجدل؟ ولماذا لا يكفي التبرير السياسي أو الضرورة الواقعية لطمس الذاكرة؟

حين تُصافح اليد التي قتلتك

ما جرح كثيرين لم يكن فقط مضمون الزيارة، بل طريقتها: الابتسامات، والمزاح العلني بين الشرع وبوتين. هذا المشهد بحد ذاته كان كافيًا لإثارة الغضب، كما كتب أحد النشطاء، لأن من كان على الطرف الآخر من تلك المصافحة هو الرجل الذي أمر طيرانه لعقدٍ من الزمن أن يمطر سماء سوريا بنيران الموت.

من يرى في بوتين “قاتل أطفالنا ومجرم حرب” لن يقبل أن تُعامل يداه وكأنها يد صديق أو شريك في السلام. حتى لو كانت هناك مصلحة سياسية مرجوّة من هذه العلاقة، فكان يجب أن تكون الزيارة مدروسة بمقدار الألم، ومشحونة بنبرة تليق بضحايا المجازر، هكذا وصف العديد من السوريين مشاعرهم.

سياسة؟ أم محو للذاكرة؟

يستطيع السوريون فهم الواقعية السياسية، وأن لا عدو ولا صديق أبدي، بل المصالح المتبادلة هي ما تحكم العالم، ولكن الكثير منهم ما زال إلى هذه الساعة يلملم ركام بيته الذي دمره الروس، ويجد في زواياه آثار دماء أحبابه وأهله. يقول الكثير منهم إنّه عتاب المحب لحبيبه، وكذلك هم عاتبون على الرئيس الشرع، حيث كان يجب أن تكون كلماته مدروسة وتعابير وجهه تُظهر الغضب.

بعض المبرّرين للزيارة يستندون إلى مفهوم “الواقعية السياسية”، وإلى أن الدولة السورية الجديدة مضطرة لبناء تحالفات مع قوى فاعلة في الإقليم، تمامًا كما فعلت قوى وجهات أخرى (مثل حماس) حين لجأت إلى إيران.
لكن ما لم يفهمه هؤلاء، أن الدم لا يُمحى بالابتسامات، وأن الذاكرة الوطنية لا تُمسَح باسم البراغماتية. وكما كتب أحد السوريين:

“إن كنتَ قد شتمت حماس حين صافحت قاتلًا في طهران، فلا تمدح الشرع ومصافحته مع قاتل آخر في موسكو.”

ومرة أخرى يتفهم السوريون حاجة الوطن لفتح صفحة مع الجميع، لكن هذا لن يكون على حساب ذاكرتهم وآلامهم، وليس مطلوبًا منهم أن ينسوا الموت الذي أذاقتهم إياه موسكو وطائراتها، وإن ثمن الدم السوري يجب أن يكون أثقل من كل حسابات المصالح، أو على الأقل يجب ألا يُمنح القاتل براءة مجانية على الهواء مباشرة.

واحدة من أصدق العبارات التي انتشرت على وسائل التواصل كانت: “لا تفرح ولا تهلل، الزيارة سياسة دولة، لكن واجب الشعوب أن تُبقي الوعي حيًا احترامًا لعشرات آلاف الضحايا.”

النائبة في مجلس الشعب الجديد، نور الخطيب، نشرت يوم أمس إحصائية للشبكة السورية لحقوق الإنسان حول الجرائم التي نفذتها روسيا في سوريا، وقالت:
“قتلت القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في 30 أيلول 2015 وحتى سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024 ما لا يقل عن 6993 مدنيًا، بينهم 2061 طفلًا و984 سيدة، إضافة إلى 363 مجزرة، واعتداءات على 1262 مركزًا حيويًا مدنيًا، منها 224 مدرسة و217 منشأة طبية.”

وأضافت نور: “هذه الأرقام لا يمكن تجاوزها في أي مقاربة للعلاقات بين الدولتين، لأنها تمثل ذاكرة الضحايا وحقوقهم التي لا تسقط بالتحولات السياسية، فالانفتاح الدبلوماسي لا يلغي مسؤولية التعامل الجاد مع مآسي الماضي، بل يفترض أن يكون خطوة باتجاه احترام حقوق الضحايا وضمان كرامتهم كأولوية في أي مسار سياسي جديد.”

الإعلامية السورية، صِبا ياسر مدور، عبرت استغرابها من حالة الاحتفاء المفرط والمشوه وغير المبرر التي انفجرت بين بعض السوريين حول زيارة الرئيس إلى موسكو، ونوهت أن هذه الزيارة ليست انتصاراً ولا فتحاً مبيناً وليس تسليماً منهم للأسد، هي جزء من الفروضات السياسية القاهرة في الوقت الراهن، وشعرت بالأسف أن العديد من السوريين أثبتوا افتقادهم للحساسية الإنسانية تجاه عائلات الشهداء الذين سقطوا في القصف الروسي على مدى 9 سنوات.

في الجهة الأخرى

في المقابل، ثمّة تيار آخر يطرح بمنتهى الصراحة "لم يعد لدينا رفاهية المقاطعة، وسوريا اليوم بحاجة إلى علاقات وابتسامات ومصافحات وعناق مع القوى الكبرى كي تنهض من ركام الانهيار".

هذا الخطاب لا يُنكر الجريمة، بل يضع “مصلحة البلد” و”حسابات المستقبل” أولًا. وأصحاب هذا الرأي لا يبررون جرائم بوتين، لكنهم يعتبرون أن سياسة النَفَس الطويل تتطلب مرونة وانفتاحًا، بل وربما تحالفًا مع من كانوا بالأمس خصومًا.

بلغة مغايرة، ويراها البعض واقعية، عبّر آخرون بقولهم: “روسيا عدو، نعم. لكنك لن تعيد بناء وطن من الحقد والغضب فقط. فسوريا تحتاج كل شيء ولا تملك شيئًا، لذلك يسعى الشرع لرسم شكل سياسي جديد مع روسيا مبني على تجاهل الماضي والعمل على المستقبل”.

يضيف آخرون: “ربما في عالم مثالي، لا نصافح القتلة. لكن في هذا العالم ستتعامل مع الذئاب بشكل مباشر، وأحيانًا يكون طريق الخلاص مليئًا بالمصافحات التي نكرهها.”

ويرى بعض من يبرر الزيارة أنها جاءت في مرحلة دقيقة من مسار الدولة السورية الجديدة، التي تسعى لإعادة صياغة علاقاتها الخارجية بعد عقدٍ من العزلة والصراع. فروسيا، رغم مسؤوليتها عن جزء كبير من المأساة السورية خلال حقبة النظام السابق، ما تزال لاعبًا دوليًا ذا ثقل في ملفات الإعمار والطاقة والأمن الإقليمي.

وتعتبر دمشق أن الانفتاح على موسكو خطوة ضرورية لضمان توازن في علاقاتها مع القوى الغربية والإقليمية، خصوصًا في ظل التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة.

كما يرى مراقبون أن الزيارة تحمل رسالة مزدوجة: الأولى موجهة إلى الداخل السوري لتأكيد قدرة الدولة على الانفتاح دون ارتهان، والثانية إلى الخارج لإعادة تموضع سوريا كدولة مستقلة لا تدور في فلك أي محور.

من يملك الحق في الغضب؟

هذا المسار الذي سلكته الدولة الجديدة يظل محفوفًا بالتحديات الأخلاقية والسياسية، إذ يتعين على القيادة السورية أن توازن بين مصالح الدولة وواجبها تجاه العدالة وحقوق الضحايا، حتى لا تتحول السياسة الواقعية إلى شكل جديد من التطبيع مع القتلة.

كل طرف في هذا الجدل له منطقه، لكن لا أحد يملك أن ينزع عن الناس حقهم في الغضب. من فقدَ ابنه وأحبابه في قصفٍ روسي له الحق في أن يصرخ حين يرى الابتسامات. ومن يعيش تحت خط الفقر له الحق في أن يطالب بعلاقات تُخرج البلد من مأساتها.

وهنا يطالب السوريون أن يعرف الرئيس أحمد الشرع والدولة الجديدة كيف يوازنون بين كرامة وآلام ضحايا القصف الروسي، وبين ضرورات المرحلة، ويجب ألا يُمحى من الذاكرة، وأن تُكتب للأجيال القادمة والتي بعدها وبعدها أن روسيا ستبقى عدوًا إلى يوم القيامة.

اقرأ المزيد
١٣ أكتوبر ٢٠٢٥
هل تتعارض العدالة الانتقالية مع السلم الأهلي في سوريا.. ؟

قال "فضل عبد الغني"، مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إن العلاقة بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، تمثل أحد أعقد تحديات ما بعد الصراع، ولا سيما في السياقات التي تتقاطع فيها مطالب المساءلة مع ضرورات الاستقرار وإعادة البناء الاجتماعي؛ وفي الحالة السورية، وبعد أكثر من 14 عاما من صراع اتسم بانتهاكات منهجية وتشظٍ مجتمعي، يكتسب هذا التقاطع أهمية خاصة.

وأوضح عبد الغني في مقال نشره موقع "الجزيرة نت"، أن العدالة الانتقالية هي مجموعة من العمليات والآليات التي تعالج عبرها المجتمعات إرث الانتهاكات واسعة النطاق، فيما يفهم السلم الأهلي على أنه حالة من الانسجام والتعاون تتجاوز مجرد غياب العنف. ويكشف هذا الإطار المزدوج عن تكاملات عميقة وتوترات متأصلة.

وبين أن هذا المقال يسعى إلى تحليل كيف تتقاطع هاتان المنظومتان المفاهيميتان وتتحدان، وأحيانا تتباعدان، في المشهد الانتقالي السوري، مستكشفا الأسس النظرية التي تحكم تضافرهما، ومدركا في الوقت نفسه التحديات التي تظهر عندما تلتقي ضرورات العدالة بضرورات بناء السلام.

مجالات التقارب والتكامل الزمني
ينطوي البناء المفاهيمي للعدالة الانتقالية على آليات متعددة ومترابطة لمعالجة انتهاكات الماضي بصورة جماعية وترسيخ أسس التعايش المستقبلي؛ وتشمل هذه الآليات: الملاحقات الجنائية بوصفها أداة تقليدية للمساءلة، ولجان تقصي الحقائق التي تبني سرديات مشتركة حول الانتهاكات التاريخية، وبرامج التعويضات التي تقر بمعاناة الضحايا، والإصلاحات المؤسسية التي تحول الهياكل التي مكنت من الانتهاكات المنهجية.

وتعمل كل آلية ضمن أطر زمنية وإجرائية مميزة، لكنها تتكامل ضمن نهج شامل للتحول المجتمعي. وقد صاغت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أبريل/نيسان الماضي رؤية شاملة لمسار العدالة الانتقالية في سوريا عبر خرائط طريق مفصلة تؤكد الترابط بين هذه الآليات.

في المقابل، يتجاوز مفهوم السلم الأهلي الاقتصار على وقف الأعمال العدائية إلى مقاربة متعددة الأبعاد تعمل على المستويات الفردية والمجتمعية والوطنية.

فعلى المستوى الفردي يتجلى السلم الأهلي في مسارات التعافي النفسي وإعادة الإدماج؛ وعلى المستوى المجتمعي يتبدى في إعادة بناء الثقة وترميم النسيج الاجتماعي الممزق؛ وعلى المستوى الوطني يتطلب إعادة تأسيس العقد الاجتماعي بين المواطنين ومؤسسات الدولة.

ويشدد هذا التصور الواسع على استقرار طويل الأمد يصبح معه العنف أمرا غير متصور، لا مجرد مكبوت، ويتبدى التقارب بين الإطارين عبر تقاطعات نظرية متعددة؛ فكلا النهجين يرميان إلى التحول من أوضاع العنف إلى تعايش مستدام، ويتشاركان أهداف منع العنف وتعزيز المصالحة وإرساء السلام.

ويبرز التكامل الزمني بوصفه عاملا حاسما: إذ تعالج العدالة الانتقالية المظالم التاريخية، بينما تركز آليات السلم الأهلي على بناء العلاقات المستقبلية، ويتيح هذا التآزر الزمني للمجتمعات مقاربة انتهاكات الماضي بالتوازي مع بناء القدرات اللازمة لإدارة النزاعات سلميا.

كما تعزز أوجه التآزر المؤسسية والإجرائية هذا التقارب من خلال التركيز المشترك على مشاركة المجتمع المدني والملكية المحلية والعمليات الشاملة؛ وتشير الأبحاث إلى سبع وظائف رئيسية للمجتمع المدني تتداخل بعمق مع أهداف العدالة الانتقالية: الحماية، والرصد، والمناصرة، والتنشئة الاجتماعية، والتماسك الاجتماعي، والتيسير، وتقديم الخدمات.

وتنشئ هذه التداخلات الوظيفية نقاط تكامل طبيعية تتعاضد فيها مبادرات السلم الأهلي وآليات العدالة الانتقالية وتعزز بعضها بعضا.

وعلاوة على ذلك، يقر الإطاران بأن التحول الهيكلي شرط لسلام مستدام؛ فمبادرات السلم الأهلي تركز على الوقاية من العنف عبر بناء القدرات طويلة الأمد وإحداث تحول اجتماعي تدريجي، فيما تستهدف آليات العدالة الانتقالية، وبشكل خاص الإصلاح المؤسسي، تغيير الشروط التي سمحت بوقوع انتهاكات الماضي.

ويؤدي هذا التركيز المشترك على معالجة الأسباب الجذرية بدلا من الاكتفاء بعلاج الأعراض إلى توافق جوهري بين النهجين، بما يجعل تكاملهما ليس ضرورة عملية فحسب، بل اتساقا نظريا أيضا.

تفكيك زيف ثنائية "السلام مقابل العدالة"
على الرغم من نقاط التقارب بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، تكشف العلاقة بينهما عن توترات نظرية وعملية تقتضي دراسة متأنية؛ وتتبدى أبرز صورها فيما يسميه الباحثون "معضلة السلام مقابل العدالة"، حيث قد تبدو مطالب المساءلة والملاحقة القضائية متعارضة مع مقتضيات الاستقرار العاجلة.

ويولد هذا التوتر تحديات في صناعة القرار العام، إذ يتعين على السلطات الموازنة بين ضرورات السلام الملحة واستحقاقات العدالة، بما يفضي غالبا إلى تناقضات مفترضة بين الهدفين.

وتزيد التعقيدات الزمنية والإجرائية من حدة هذا التوتر؛ فآليات العدالة الانتقالية، وبشكل خاص الملاحقات الجنائية، تستلزم عادة مددا طويلة للتحقيق والفصل، بينما تعطي مبادرات السلم الأهلي الأولوية لإجراءات تنتج استقرارا فوريا.

وقد تفضي هذه الفوارق الزمنية إلى تناقضات إجرائية ملموسة: فإجراءات الاستقرار السريعة قد تقوض ديناميات العدالة المنهجية، في حين قد تنظر إلى المسارات القضائية المطولة على أنها تزعزع ترتيبات سلام هشة.

غير أن الأدبيات المعاصرة تقوض هذا المنظور الثنائي وتعده ثنائية زائفة؛ إذ تفترض أن تجاهل الجرائم الجماعية، وعدم معالجة الأسباب الجذرية للصراع، وإغفال مطالب الضحايا بالإنصاف يبقي مخاطر تجدد العنف مرتفعة. وبناء عليه، يفهم السلام والعدالة بوصفهما هدفين متلازمين لا متنافسين، يعزز كل منهما استدامة الآخر ويحصن مخرجاته.

ويبرز المجتمع المدني بوصفه فاعلا مهما في الوساطة بين هذين الإطارين؛ فمنظماته تؤدي أدوارا متعددة تشمل حماية السكان، ورصد الانتهاكات، وتيسير الحوار على مختلف المستويات، وتسهم هذه الوظائف الوسيطة في ردم الفجوات بين آليات العدالة الرسمية ومبادرات السلام المجتمعية، بما يتيح مساحات يمكن ضمنها تحقيق الهدفين معا من دون تقويض متبادل.

ويتقدم السياق الوطني والحساسية الثقافية إلى صدارة عوامل النجاح؛ فكلا الإطارين يؤكدان على الملكية المحلية والتكيف مع الخصوصيات الاجتماعية، مع ثبات المرجعيات الكونية للسلام والعدالة، ويوفر هذا التركيز المشترك على «التوطين» أساسا بنيويا للتكامل، بما يضمن ملاءمة الحلول للبيئات المخصوصة مع الحفاظ على المبادئ العامة.

ويظهر السياق السوري على نحو خاص تحديات هذا التكامل؛ إذ يؤدي التشرذم المؤسسي، والمتجلي في تعدد اللجان المعنية بجوانب متفرقة من الملفات من دون أطر تنسيقية واضحة، إلى مخاطر تضارب اختصاصات وتكرار جهود.

كما يكشف تداخل مبادرات السلم الأهلي مع الحقول القضائية، على نحو ما بدا في بعض ممارسة لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري، كيف يمكن لسوء فهم الطبيعة التكاملية لهذين الإطارين أن يقوض هدفي العدالة والسلام معا.

فعندما تتجاوز لجان السلم الأهلي أدوارها التيسيرية إلى ممارسة صلاحيات ذات طبيعة قضائية من دون سند قانوني، فإنها تمس بمبدأ فصل السلطات وتضعف الثقة المجتمعية اللازمة للمساءلة والمصالحة.

خاتمة: التكامل كضرورة لإعادة البناء
يكشف الفحص النظري للسلم الأهلي والعدالة الانتقالية أن هذين المفهومين، بدلا من أن يشكلا نموذجين متنافسين، يجسدان أبعادا متكاملة للتعافي ما بعد الصراع تتطلب تنسيقا دقيقا لتحقيق تحول مستدام.

وتبين الحالة السورية أن السعي إلى السلم الأهلي من دون تلبية استحقاقات العدالة، أو الدفع نحو المساءلة من دون مراعاة تداعيات الاستقرار، يهدد بتقويض الهدفين معا.

وتوفر مجالات التقارب المحددة؛ (أهداف التحول المشتركة، والتكامل الزمني، والتآزر المؤسسي، والتركيز الهيكلي)، أساسا نظريا لمقاربات تكاملية تقر بأن العدالة والسلم معززان متبادلان لا نقيضان.

وأكد عبد الغني أن التوترات الناشئة بين هذين الإطارين، وخاصة «معضلة السلام مقابل العدالة» المتصورة، تعكس تناقضا أقل مما تعكس تحديات تنفيذ تحتاج إلى مناهج متقدمة تراعي الهواجس المشروعة لكلا المسارين.

ويتطلب تجاوز الثنائيات الزائفة إدراكا بأن سلاما مستداما لا يقوم على ظلم غير معالج، كما أن عدالة حقيقية لا تحقق في سياقات عدم استقرار مزمن.

وفي هذا السياق، ينهض المجتمع المدني بدور وسيط حاسم، إلى جانب التأكيد على الملكية المحلية والتكيف الثقافي، بما يتيح سبلا عملية للتعامل البناء مع هذه التوترات.

ولكي تنجح العملية الانتقالية في سوريا، يلزم أن تلهم الرؤى النظرية مقاربات عملية تحافظ على حدود مؤسسية واضحة مع ضمان التنسيق، وتحترم استقلال القضاء مع تيسير الحوار المجتمعي، وتعالج انتهاكات الماضي بالتوازي مع بناء القدرة على التعايش في المستقبل.

وعليه، فإن إدماج السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، يعتبر ضرورة عملية لمجتمعات تسعى إلى تحويل إرث العنف إلى مرتكزات لسلام دائم.

ويتطلب هذا التكامل فهما معمقا لإسهامات كل من الإطارين وحدودهما وترابطهما، مع الإقرار بأن أيا منهما لا يكفي منفردا للنهوض بالمهمة المعقدة المتمثلة في إعادة بناء المجتمع السوري بعد الصراع، وفق نص المقال.

اقرأ المزيد
١٢ أكتوبر ٢٠٢٥
بيان الهجري يكشف الرفض الداخلي له رغم محاولات شرف الدين تحويله لـ "آله" غير قابل للنقد

أثار البيان الأخير الصادر عن الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الدروز في السويداء، جدلاً واسعًا داخل الأوساط الدرزية والسورية عمومًا، بعدما تضمّن إشارات لغوية وسياسية اعتُبرت خروجًا على الثوابت الوطنية، أبرزها استبدال اسم “جبل العرب” التاريخي بمصطلح “جبل باشان” ذي الجذور التوراتية، إضافة إلى دعواته لتدويل ملف السويداء عبر مناشدة الأمم المتحدة ومجلس الأمن التدخل في شؤون المحافظة.

أثار البيان جدلًا واسعًا بين أبناء الطائفة الدرزية، بين من يرفض هذا التودّد والتقرب من إسرائيل مؤكدين أنهم سوريون أولًا وأخيرًا، وبين من يراه خطوة سياسية ضرورية لكسب دعم إسرائيل في تشكيل “دولتهم المزعومة”. وبين هذا وذاك، يبدو أن الهجري يجرّ السويداء بأكملها إلى مصيرٍ مجهول، ربما لا يدرك هو نفسه إلى أين يمضي بها، فيما يقف خلفه من يعينه على هذا المسار.

انقسام درزي متزايد

في مواجهة هذا البيان، قال المتحدث باسم حركة رجال الكرامة، باسم أبو فخر، في فيديو نشره على صفحته الشخصية على “فيسبوك”، شرح فيه المسار التاريخي لاسم السويداء، بدأ من جبل باشان حتى جبل العرب، وعلّق على الفيديو المنشور قائلًا:

“إن أبناء الجبل ما زالوا عربًا وسوريين قبل أن يكونوا دروزًا، ولم يصبحوا يهودًا أو متصهينين، وما زال سلطان الأطرش قدوتنا ومثلنا الأعلى”، وشدد أنهم أهل الأصالة وأن جبلهم اسمه جبل العرب.

وفي المقابل، كان أبو فخر واضحًا بعدائه للدولة السورية في الفيديو الذي نشره حيث وصفها بـ”سلطة الإرهاب” واتهمها بارتكاب المجازر، وعلى الرغم من هذا العداء، كان واضحًا وإن بشكل غير مباشر برفضه لتوجهات الهجري التي تدفع وترمي السويداء بحضن إسرائيل.

كلام أبو فخر فجّر غضبًا واسعًا بين العديد من أبناء الطائفة الدرزية، إذ اتهمه بعضهم بالخيانة العظمى، ووصل الأمر إلى دعوات علنية لاعتقاله أو حتى قتله. وكان واضحًا حجم الهجوم عليه بمجرد المرور على الصفحات والشخصيات الداعمة للهجري. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن شخصًا بحجم أبو فخر، وقدر مكانته داخل الطائفة، تعرّض لمثل هذا الكم من التهديد، فكيف سيكون حال أي شخصٍ عادي في السويداء لو تجرأ على قول الرأي نفسه؟

شرف الدين يؤسّس لخطاب تأليه

بالتوازي مع الجدل حول البيان، صعّد الإعلامي ماهر شرف الدين – المعروف بمواقفه المعادية للدولة السورية – من لهجته الدفاعية عن الشيخ الهجري، معتبرًا أن الأخير “رمز وجودي لا يجوز المساس به”، وأن أي نقد له هو “خيانة” للطائفة.

هذا الخطاب، الذي يخلط بين القداسة الدينية والولاء السياسي، اعتبره محللون محاولة ممنهجة لتأليه الهجري وتحويله إلى زعيم غير قابل للنقد، بما يكرّس حالة استقطاب خطيرة داخل الطائفة الدرزية، ما يعني تهديدًا مبطنًا لجميع الدروز حتى أولئك الذين يحاولون مجرد التصويب والنقد البنّاء.

خطاب شرف الدين يحمل تهديدًا لجميع من يحاول من الدروز التطاول على شخص الهجري، ويضعه في خانة الخيانة بمجرد التحدث عنه بأي شيء يمس توجهاته، وهو ما يراه الكثيرون حتى من أبناء الطائفة الدرزية محاولة لخلق “آله” أو على أقل تقدير طاغية جديد بطابع ديني.

اتفاق عمّان يكشف رفض الهجري لجميع الحلول

في أغسطس – سبتمبر 2025، تم التوصل إلى اتفاق ثلاثي في عمّان (سوريا – الأردن – الولايات المتحدة) لحل أزمة السويداء عبر خارطة طريق تشترط وحدة الأرض السورية وتمكين التمثيل المحلي وإعادة الخدمات.

إلا أن اللجنة القانونية العليا في السويداء، التي تتبع للهجري، رفضت الاتفاق معتبرة أنه يفرض وصاية خارجية وينقصه تمثيل حقيقي داخل المحافظة.

في المقابل، كانت الدولة السورية قد اعترفت في مناسبات سابقة بوجود تجاوزات ارتكبها بعض عناصرها بحق الدروز خلال الأحداث، وأكدت الحكومة مرارًا وتكرارًا أنها ستقوم بالتحقيق ومحاسبة كل من ارتكب أي انتهاكات بحق جميع الأطراف.

ورغم اعتراف الدولة بحدوث تجاوزات من بعض عناصرها، فإن الملفت أن الهجري بدوره يتجاهل الحديث عن الانتهاكات التي ارتكبتها مجموعاته المسلحة ضد أبناء البدو في المنطقة، وكأنها طرف منزه بالكامل.

وهنا نستشف أن الهجري لا يكتفي بتدمير السويداء عبر خطاباته المعادية، بل يعارض الخطط العملية والحلول التي قد تضعه في موقع تفاوض داخلي أو شراكة مع دمشق، مفضلاً أن تكون الحلول من خارج الإطار الوطني عبر إسرائيل.

وعندما يُوجه الهجري المشروع الذي يصبو إليه نحو التقارب والتودد لإسرائيل عبر تغيير تسمية الطائفة وحذف اسم المسلمين منها تارة، وتغيير اسم الجبل تارة أخرى من جبل العرب إلى جبل باشان، وتحويل أيام المظاهرات الأسبوعية في السويداء من يوم الجمعة إلى يوم السبت، يصبح واضحًا أن مشروع الهجري لم يعد يتجه لدمشق إطلاقًا، بل يرسل رسالة أسبوعية إلى تل أبيب أنه يتذلل لها طالبًا القرب منها.

وطموح الهجري بدولة مستقلة أو كيان تابع لإسرائيل غير منطقي وعملي، فالسويداء متنوعة؛ غالبيتها من الدروز، ويوجد فيها نسبة كبيرة أيضًا من البدو السنة والمسيحيين، وجميعهم من العرب، كما أن السويداء تقع في محيط سني بالكامل لا يربطها أي حدود مع إسرائيل، مما يجعل فكرة الانفصال أو الانتساب لإسرائيل فكرة غير قابلة للتطبيق عمليًا.

أصوات تطالب بالعودة إلى دمشق

لهذا السبب تبرز بوضوح بين الحين والآخر أصوات من الطائفة الدرزية تطالب الهجري بالتعقل، وبتقديم رؤى واقعية تفتح جسرًا مع دمشق وليس مع الخارج، لأن الحل الحقيقي لمشكلة السويداء لا يمر إلا عبر الدولة السورية، وليس من خلال مشاريع خارجية أو انفصالية.

الأصوات التي ترتفع بين الفينة والأخرى هي من ضمن الطائفة الدرزية نفسها، التي لا ترى بالهجري رجلًا سياسيًا أو لديه رؤية واقعية، حيث يعيش عشرات الآلاف من النازحين في مدينة السويداء، ولم يتمكن لغاية اللحظة من إيجاد أي حلول لهم لإعادتهم إلى قراهم الواقعة تحت سيطرة الدولة، كما أنه لم يتمكن من الإفراج عن مختطف واحد موجود لدى البدو، بل الدولة السورية هي من تتوسط لدى البدو لإخراجهم.

للبدو مطالب أيضًا، منها الإفراج عن أبنائهم المختطفين لدى الهجري وميليشياته والكشف عن مصير أبنائهم الذين قتلوا ودفنهم الهجري في مقابر جماعية، وايضا العودة إلى قراهم وأحيائهم، وهنا أيضًا يتجاهل الهجري أي حقوق للبدو في السويداء، حيث يريدها صافية له ولطائفته فقط دون غيرهم، متجاهلًا أن لهم أملاكًا وأراضي وعقارات ومحلات.

يرى مراقبون أن الأزمة الأخيرة كشفت عمق الانقسام داخل الطائفة الدرزية بين تيار وطني يسعى للحفاظ على موقع السويداء ضمن الدولة السورية، وتيار آخر يحاول تسويق مشروع سياسي انفصالي تحت غطاء ديني.

وتُظهر الأحداث أن بيان الشيخ الهجري لم يكن مجرّد تصريح ديني، بل وثيقة سياسية تعبّر عن تحوّل في الرؤية والتموضع، فيما يلعب ماهر شرف الدين دورًا في تغليف هذا التحوّل بخطاب تعبوي طائفي يجرّ الجبل إلى عزلة عن محيطه الوطني.

غير أن الأصوات الوطنية من داخل السويداء وخارجها ما تزال ترفض هذا المسار، متمسكة بثوابتها التاريخية وبأن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا الموحدة، مهما تعددت الأسماء أو تبدّلت الشعارات، وأن الطريق للحل يبدأ بتغيير البوصلة نحو دمشق.

اقرأ المزيد
٥ أكتوبر ٢٠٢٥
فضل عبد الغني: "العلم" الرمز الوطني الأسمى لتجسيد الهوية الوطنية في البروتوكولات والدبلوماسية

قال "فضل عبد الغني" مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، إن دبوس العلم الوطني يمثّل أكثر بكثير من مجرد قطعة زخرفية في سياق البروتوكول الحكومي والعلاقات الدبلوماسية، فبحسب الأدبيات الدبلوماسية المعاصرة، تُعدّ هذه الرموز الصغيرة أحد أهم تجليات الهوية الوطنية وأدوات البروتوكول في تفاعلات الدولة الحديثة.


وأكد الحقوقي السوري في مقال نشره موقع "تلفزيون سوريا" أن ارتداء دبوس العلم هو فعل دلالي يختزن معاني الوطنية والوحدة واحترام السيادة، وفي بنية البروتوكول الدبلوماسي المعقّدة، تطوّر دبوس العلم إلى ما يصحّ وصفه بـ«الرمز» الذي يجسّد الأمة وتاريخها وتطلعاتها، وتكتسب هذه الحمولة الرمزية أهمية خاصة في اللقاءات الثنائية، حيث يبعث العرض الدقيق للرموز الوطنية رسائل مدروسة حول طبيعة العلاقات بين الدول، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الاحترام المتبادل وتأكيد الهوية السيادية.

وفق "عبد الغني" يعكس انتقال شارات العلم من إكسسوار اختياري إلى عنصر أصيل في البروتوكول الحكومي تحوّلاً أوسع في تمثّل الدولة لرمزية الانتماء الوطني، ويُبرز المسار التاريخي لهذه الممارسة كيف تتبلور الأعراف السياسية في متطلبات دبلوماسية مُلزمة؛ إذ تزايدت توقعات المواطنين من المسؤولين إظهار الولاء الوطني عبر رموز مرئية، خصوصاً عقب محطات وطنية مفصلية تنطوي على تهديدات للأمن أو الوحدة، أو في الدول الخارجة من نزاعات مسلحة كما هو الحال في سوريا، ما ارتقى بشارة العلم من خيار شخصي إلى ضرورة وحدة وطنية.

وفي هذا الأفق، يتجاوز توصيف دبوس العلم كـ«رمز وطني» حدود العرض الاحتفالي إلى تمثيل الثقل السيادي للدولة، بالنظر إلى كون العلم ذروة التعبير عن الهوية الوطنية وسلطة الدولة، وهي منزلة تمتدّ بطبيعتها إلى صورته المصغّرة على ياقة السترة.


 وتؤكد الممارسات البروتوكولية الحديثة أسبقية العلم على سائر الشعارات والرموز، وهو مبدأ ينسحب بالتساوي على دبابيس العلم في المناسبات الرسمية؛ أسبقيةٌ ليست اعتباطية، بل تعكس مكانة العلم كأسمى رمز للدولة في النظام الدولي.

إضافة لما سبق، يجسّد إضفاء الطابع المؤسسي على استخدام الشارات تقاطعاً بين التواصل الرمزي والرسائل السياسية؛ فهذه الرموز أدوات فعّالة للتواصل قادرة على إيصال مضامين مركّبة حول الهوية الوطنية والتوافق السياسي والعلاقات الدبلوماسية. وتُظهر آثارها على الإدراك العام أنّها تعزّز المواقف السياسية وتساعد القادة على التماهي مع شرائح اجتماعية محورية. 

وبذلك تؤدي الشارة وظيفة مزدوجة داخلياً وخارجياً: ترصين الوحدة الوطنية في الداخل، وتمثيل الدولة والقيم التي تنهض عليها في الخارج، ما يرسّخ مكانتها كعنصر لا غنى عنه في إدارة الشأن العام وصناعة الدولة.

البروتوكول الدبلوماسي والمعايير الدولية لاستخدام شارات العلم
ينضبط إدماج شارات العلم في البروتوكول الدبلوماسي بقواعد آداب دقيقة تُجسِّد احترام السيادة الوطنية وتنظّم التفاعل بين الدول، وفي سياق اللقاءات الدولية، يخضع وضع الشارات وعرضها لمعايير راسخة تعكس مبادئ العمل الدبلوماسي الأوسع. ويُعدّ ارتداء الشارة على طيّة صدر السترة اليسرى، قرب القلب، إيماءة رمزية إلى الولاء الوطني، مع الالتزام بالأعراف الدولية المرعية في عرض الرموز الوطنية.

توفّر اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الإطار الناظم الذي تتحرّك ضمنه رمزية الأعلام في المحافل الدولية؛ فهي تُقرّ للبعثات الدبلوماسية بحق إظهار رموزها الوطنية، ولا سيما العلم والشعار، على المباني ووسائل النقل الرسمية، وهو منطق امتدّ عرفاً إلى الشارات الشخصية التي يرتديها الدبلوماسيون أثناء المهام الرسمية. 


كما ترسي قواعد استخدام الأعلام في المنظمات الدولية، وفي مقدّمها الأمم المتحدة، إرشادات تُشدد على صون الكرامة واللياقة البروتوكولية عند العرض. وتؤثر هذه المعايير في سلوك الممثلين الوطنيين في البيئات متعددة الأطراف، مُنشئةً لغة تواصل رمزية عابرة للحواجز اللغوية والثقافية.

وفي بروتوكولات الاجتماعات الثنائية، يسود مبدأ البروز المتساوي في عرض الرموز الوطنية، بما في ذلك الشارات الشخصية التي يعتمدها المسؤولون. ويجسّد هذا المبدأ احتراماً متبادلاً بين الدول، مع إبراز واضح لولاء كل ممثل لدولته. 


وتُيسّر هذه الممارسة التعرف البصري الفوري إلى الممثلين الوطنيين، بما يعزّز الكفاءة والوضوح الدبلوماسيين. كما أنّ شارات «العلمين المتقاطعَين»، المقدَّمة كهدايا بروتوكولية، تُظهر كيف تطورت الرمزية من تمثيل الدولة المنفردة إلى استحضار الصداقة والتعاون الثنائي.

وقد أسهم تدوين بروتوكولات الشارات لدى عدد متزايد من الدول في تكوين نسقٍ شبه موحّد للتعبير الدبلوماسي قابل للتطبيق على نطاق واسع، فأدرجت البعثات والهيئات الحكومية والمنظمات الدولية شارات العلم ضمن قواعد اللباس المعتمدة لديها، في دلالة على أهميتها المعاصرة في الممارسة الدبلوماسية. وبلغ هذا الترسّخ حدّاً أصبح معه غياب الشارة لافتاً للنظر أكثر من حضورها، بما يعكس مدى اندماجها في متطلبات العمل الدبلوماسي اليومي.

خاتمة
شهدت شارات العلم تحوّلاً ملحوظاً من مجرّد تعبير عن المشاعر الوطنية إلى عنصر مركزي في البروتوكول الحكومي والدبلوماسي، ويعكس هذا التحوّل اتساع طرائق تعبير الدول عن الهوية والسيادة والاحترام المتبادل في عالم شديد الترابط. 


وإن توصيف شارات العلم بوصفها «الرمز الوطني الأرفع» تتقدّم على سائر الشعارات يؤكد مكانتها في تمثيل الهوية الوطنية وبشكل خاص الدول الخارجة من نزاعات مسلحة. وفي تمثل سلطة الدولة، ولا سيما في الاجتماعات الثنائية حيث ينقل العرض المنضبط للرموز رسائل جوهرية حول طبيعة العلاقات، مع صون كرامة الدول وسيادتها.

ويبيّن الإطار النظري الناظم لبروتوكول الشارات أنّ تفاصيل تبدو ثانوية في ظاهرها تحمل أثقالاً رمزية عميقة، وقد أفضى تلاقي التقاليد التاريخية والقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية إلى تشكّل نسق عالمي للتواصل الرمزي يتجاوز الحدود الثقافية والسياسية. 


وتمثّل الشارات تعبيراً بصرياً عن الولاء الوطني متخطّياً عوائق اللغة، بما يُيسّر المشاركة الدبلوماسية ويعزّز الهوية الوطنية. ومع استمرار المسؤولين في مختلف المستويات في اعتماد هذه الرموز في حضورهم المهني، تظلّ شارات العلم ركناً ثابتاً في فن الحكم الحديث، وشاهداً على فعالية التواصل الرمزي في العلاقات الدولية.

 

اقرأ المزيد
٤ أكتوبر ٢٠٢٥
فضل عبد الغني: تغييب العدالة في اتفاقيات السلام… خطرٌ على الاستقرار واستدامة السلم

أوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان السيد "فضل عبد الغني"، أن العلاقة بين السلام والعدالة في تسويات ما بعد الصراع تُمثّل أحد أكثر مباحث بناء السلام المعاصر إشكاليةً؛ ففي حين قد يقتضي الوقف الفوري للأعمال العدائية تنازلاتٍ عملية، منها استبعاد آليات المساءلة، تُظهر الأدلة المتنامية أن هذا الإقصاء ينطوي على مخاطر جسيمة تهدد إمكانية ترسيخ سلامٍ مستدام. 


وبين عبد الغني في مقال نشره موقع "تلفزيون سوريا" أن التوتر بين تقليص النزاع في الأمد القصير وتحقيق الاستقرار في الأمد الطويل يتجلّى على نحوٍ أوضح عندما تُبرم اتفاقيات السلام من دون تضمينٍ مؤسسيٍّ واضحٍ لآليات العدالة.

وأكد أن استبعاد آليات العدالة من اتفاقيات السلام يُضعف بصورة جوهرية البنية المؤسسية اللازمة لاستدامة الحكم في مرحلة ما بعد الصراع. فعندما يُدمَج الجناة في مناصب الدولة من دون مساءلة؛ تتعرض شرعية النظام السياسي لخللٍ بنيوي يتجلى في مستوياتٍ متعددة؛ إذ تنشأ مفارقة يصبح فيها من قوّضوا المنظومة القانونية والسياسية أوصياء عليها. 


ولا تقف العواقب عند الرمزية، بل يمتد أثرها إلى تكريس انتهاكاتٍ سابقة وانفلاتٍ قانونيٍّ دائم، يحول دون بناء مؤسسات حوكمةٍ ذات مصداقية، ويُعدّ تقويض أسس سيادة القانون من أخطر هذه النتائج؛ فحين تُوحي تسويات السلام بأن القواعد قابلةٌ للتجاوز وأن الفاعلين الأقوياء بمنأى عن المحاسبة، تتشكل بيئة معيارية يُقبل فيها العنف كآليةٍ مشروعةٍ لحلّ النزاعات. 


ووفق كاتب المقال يتجسد هذا التحول عبر تآكل أبعاد العدالة الثلاثة: القانوني، حيث يفقد القانون وظيفته الرادعة وقدرته التنظيمية؛ والإصلاحي، عندما لا يُعتَرَف بحقوق الضحايا ولا يُعوَّضون؛ والتوزيعي، عندما تُترك الاختلالات الهيكلية التي غذّت الصراع من دون معالجة.

الإفلات من العقاب وديناميات العنف المتوارث
يُنتج الإفلات من العقاب دوراتِ عنفٍ متوارثةً تجعل فترات وقف الاقتتال مجرد هوامش زمنية بين جولات نزاعٍ جديدة. وتشير بياناتٌ إحصائيةٌ إلى أن لجان الحقيقة، حين تُنشأ فور انتهاء النزاع، تُحقق فعاليةً أعلى بنسبة 75% في منع تجدّد العنف؛ غير أن تغييبها عن اتفاقيات السلام يُفقد العملية هذه الأداة الوقائية المحورية. 


ويجري تطبيع العنف كوسيلةٍ سياسية عبر تكرار الأنماط وتصعيدها، إذ يُنتج نجاح العنف من دون تبعاتٍ نماذجَ إرشاديةً لفاعلين سياسيين لاحقين. وتفسر هذه الديناميكية إخفاق العفو الشامل المتكرر في تحقيق نتائج السلام المرجوّة، لأن غياب الردع يُبقي السلوك غير القانوني خياراً مُتاحاً بلا كلفة.

عوائق التعافي الاجتماعي وتحديات الشرعية الدولية
يقول "عبد الغني" إن حرمان الضحايا من حقوقهم عبر استبعاد آليات العدالة يُنتج مظالم موازية يستثمرها مُحرّكو الصراعات لإعادة إشعال العنف؛ فحقوق الضحايا الأساسية في الحقيقة والعدالة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار شروطٌ عملية لإعادة بناء المجتمع. 


وعندما تتجاهل اتفاقيات السلام هذه الحقوق، فإنها تُعيق تكوين ذاكرة جماعية لازمة للتعافي المجتمعي؛ إذ يفتح غياب السرديات المشتركة حول الماضي الباب أمام التلاعب السياسي بالروايات التاريخية المتنافسة، فتستبقي الجماعاتُ قراءاتٍ متناقضة لأسباب الصراع ومسؤولياته.

إن تعطيل تشكّل الذاكرة الجماعية بفعل غياب عمليات البحث عن الحقيقة يُجهض فرص تشخيص الأسباب الجذرية للنزاع ومتطلبات الإصلاح المؤسسي؛ وتوفّر لجان الحقيقة ونظيراتها منصّاتٍ مُنظّمةً لشهادات الضحايا تسهم في شفاء الأفراد وبناء الاعتراف الجمعي. 


غير أن تغييبها عن اتفاقيات السلام يُقصي هذه المساحات الحيوية لمعالجة الصدمات الاجتماعية ويحول دون صياغة توصيات للتحول المؤسسي. وعلى المنوال ذاته، فإن عدم إرساء أطرٍ فعّالةٍ للتعويضات يُكرّس تهميش الضحايا وهشاشتهم، ويُبقي قضايا العدالة التوزيعية بلا معالجة، ما يحافظ على الشروط الهيكلية التي غذّت النزاع ابتداءً.

كما يتصاعد خطرُ تآكل الشرعية الدولية في نظامٍ عالميٍّ مترابط تتطلب فيه عمليات السلام دعماً خارجيّاً واسعاً؛ فسياسات الأمم المتحدة المؤسسية المناهضة للعفو تُقيّد تقديم المساعدات التقنية والمالية لعمليات تُكرّس الإفلات من العقاب، في حين يواجه العديد من المانحين الثنائيين قيوداً قانونية تحول دون دعم اتفاقيات تستبعد آليات المساءلة. 


ويتجاوز هذا البعد الدولي نطاق الدعم المادي ليُرسّخ سوابق معيارية؛ فكل اتفاق سلام يتجاهل العدالة يُسهم في تقويض معايير المساءلة عالمياً ويُشجّع الجناة على مواصلة الانتهاكات عبر الحدود. إن إضعاف قواعد القانون الدولي بفعل التنازلات المتتالية بشأن العدالة يخلق بيئةً مُواتيةً لوقوع انتهاكات مستقبلية، ويُضعف البنية الكاملة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.

خاتمة
يُظهر تحليل المخاطر الناجمة عن تغييب آليات العدالة في اتفاقيات السلام أن التوتر المُتصوَّر بين السلام والعدالة ينطوي على سوء فهمٍ جوهري لمتطلبات التسوية المستدامة للنزاعات؛ فالأدلة تُبيّن أن الاتفاقيات الخالية من أحكام العدالة لا تُنهي النزاعات على نحوٍ دائم، بل تُفضي إلى أوضاعٍ هشّة تتسم بإبقاء المظالم بلا معالجة، واهتزاز شرعية المؤسسات، وتطبيع العنف السياسي. ويُقدّم معدّلُ تكرار النزاعات البالغ نحو 57% في الاتفاقيات التي تفتقر إلى آليات العدالة، مقارنةً بمعدلاتٍ أدنى بكثير عند تضمين المساءلة، برهاناً عملياً على ترابط السلام والعدالة.

وتكشف المخاطرُ المتعددة الأبعاد، من شرعية الحكم وسيادة القانون إلى حقوق الضحايا وتشكيل الذاكرة الجماعية والدعم الدولي، تكشف أن السلام المستدام يقتضي آلياتِ عدالةٍ هادفةً رغم تعقيدات التفاوض. وتقدّم المقارباتُ الإبداعية التي تُوازن بين متطلبات التهدئة الفورية وضرورات العدالة طويلة الأمد، مثل المساءلة المؤجّلة، والعفو المشروط المقيَّد، والنماذج الهجينة التي تجمع بين العناصر التصالحية والجزاءية، مساراتٍ تتجاوز الثنائية الزائفة بين السلام والعدالة. وتتمثل الفكرة المحورية في أن الوصول إلى سلامٍ حقيقيٍّ مستدام في سوريا وسواها يتطلب اقتران وقف الأعمال العدائية بمعالجة إرث العنف عبر آليات عدالةٍ مُصمَّمةٍ بعناية.

 

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠٢٥
تمديد حالة الطوارئ الأمريكية في سوريا: رسالة سياسية إلى فلول الأسد

في خطوة تحمل أبعادًا سياسية وقانونية، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2025 قرارًا بتمديد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالوضع في سوريا لمدة عام إضافي، مستندًا إلى قانون الطوارئ الوطنية وقانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية.

القرار نُشر رسميًا في السجل الفيدرالي الأميركي في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، ويُعد امتدادًا لحالة الطوارئ التي أعلنها ترامب للمرة الأولى عام 2019، والتي تم توسيعها في حزيران/يونيو الماضي بعد أن ألغيت حالة الطوارئ القديمة التي تعود إلى عام 2004.

البيان الرسمي للبيت الأبيض أوضح أن الوضع في سوريا ما زال يشكل تهديدًا غير عادي واستثنائيًا للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأن مرتكبي جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان وشبكات تهريب المخدرات التي نشأت خلال حقبة النظام السابق لا تزال تمثل خطرًا حقيقيًا على السلم والاستقرار الإقليمي. 

هذه الصياغة القانونية التي تبدو جافة من الخارج، تخفي وراءها إشارات سياسية واضحة تجاه مجموعة من الفاعلين على الساحة السورية، سواء من بقايا النظام السابق أو القوى المسلحة غير المنضبطة أو شبكات الجريمة المنظمة التي ازدهرت في فترة حكم الأسد.

العصا الأمريكية

في النظام القانوني الأميركي، لا يملك الرئيس صلاحيات فرض أو تعديل العقوبات خارج إطار إعلان حالة الطوارئ الوطنية. هذا يعني أن التمديد ليس مجرد إجراء بروتوكولي، بل هو في جوهره إبقاء للأداة القانونية الأساسية التي تسمح لواشنطن بالتحرك ضد أطراف تعتبرها مهددة للاستقرار، من دون الحاجة إلى تشريعات جديدة.

القرار يضمن استمرار قدرة الإدارة الأميركية على تجميد أصول وملاحقة شخصيات وفرض قيود اقتصادية وسياسية بمرونة عالية، وهو ما يمنحها مجالًا واسعًا لإدارة ملفات سوريا بما يتناسب مع تطورات الداخل والإقليم.

فلول النظام: الهدف الأكثر وضوحًا

الجزء الأكثر وضوحًا في هذا القرار يتعلق بفلول النظام السابق. النص الأميركي يربط بشكل مباشر حالة الطوارئ بالجرائم التي ارتُكبت خلال فترة حكم بشار الأسد ومن ارتبط به.

هذا الربط ليس عابرًا، بل هو تأكيد على أن واشنطن تحتفظ بحقها القانوني والسياسي في الاستمرار بملاحقة المسؤولين السابقين ورجال الأعمال الممولين وشبكات التهريب والفساد التي تشكلت في ظل النظام القديم.

بعض الموالين لرئيس النظام السابق بشار الأسد والمعارضين للدولة السورية الجديدة من بينهم قسد وميليشيات الهجري والايرانيين، سارعوا إلى الاحتفال بالقرار باعتباره خطوة ضد “الثورة” أو “سوريا الجديدة”، لكن هذا الاحتفال يعكس جهلًا عميقًا بطبيعة القرار، لأنه في الحقيقة موجه ضدهم، لا لصالحهم. الرسالة إليهم واضحة: لم يعد هناك غطاء، ولا حصانة، ولا نسيان لملفات الجرائم التي ارتكبوها.

قسد أمام واقع مختلف

القرار لا يقتصر على النظام السابق فحسب، بل يفتح الباب أيضًا أمام مقاربة جديدة تجاه قسد. فالولايات المتحدة لا تمنح هذه الميليشيات تفويضًا مطلقًا ولا حصانة سياسية دائمة، بل تبقي لنفسها هامش المناورة القانوني للتحرك ضدها إذا رأت أنها باتت تشكل تهديدًا للاستقرار أو تنتهك القوانين الدولية.

وجود حالة الطوارئ يمنح الإدارة الأميركية القدرة على إعادة تعريف علاقتها بقسد في أي لحظة، وهو ما يضع هذه القوة أمام واقع مختلف، خالٍ من الضمانات غير المشروطة التي اعتادت عليها خلال السنوات الماضية.

شبكات المخدرات في دائرة الاستهداف

إحدى أكثر الفقرات دلالة في القرار هي تلك التي تتحدث عن شبكات تهريب المخدرات التي ازدهرت خلال حقبة النظام السابق، فهذه الشبكات لم تعد مجرد ملف أمني داخلي، بل تحوّلت إلى عامل تهديد إقليمي ودولي.

وتمديد حالة الطوارئ يمنح واشنطن إمكانية ملاحقة هذه الشبكات وأموالها وتحالفاتها داخل سوريا وخارجها، بما يشمل الشركاء الإقليميين الذين يوفرون لها الغطاء أو التسهيلات.

سوريا الجديدة: المستفيد الأول

من زاوية سوريا الجديدة، يحمل هذا القرار أهمية استراتيجية لا يمكن التقليل من شأنها. فهو يميّز بوضوح بين الماضي والحاضر، ويستهدف حقبة النظام السابق دون أن يوجّه عقوباته إلى الدولة الحالية، كما يفتح الباب أمام إمكانية صياغة علاقة جديدة مستقبلًا إذا واصلت المؤسسات السورية الجديدة مسارها في إعادة بناء الدولة وترسيخ الاستقرار.

إبقاء العصا القانونية بيد واشنطن لا يعني بالضرورة عداءً لسوريا الجديدة، بل يمكن أن يُقرأ باعتباره عامل ضغط على القوى المعرقلة للتغيير، وفرصة للدولة الجديدة لتثبيت موقعها في المشهد الدولي كطرف شرعي يسعى إلى محاسبة الماضي وبناء المستقبل.

وتمديد حالة الطوارئ الأميركية ليس مجرد خبر أو حدث عابر، بل هو رسالة سياسية مشفّرة موجهة إلى عدة أطراف في آن واحد. إلى فلول النظام مفادها أنكم مستهدفون، وإلى قسد أن الغطاء الأميركي لم يعد مضمونًا، وإلى شبكات المخدرات أنكم ستبقون تحت الملاحقة والعقاب، وإلى سوريا الجديدة أن هناك فرصة حقيقية لبناء علاقة مختلفة إذا استمر مسار التغيير السياسي.

القرار يضع الجميع أمام واقع تتحكم فيه الولايات المتحدة بأدواتها، ولا يوجد أحد حتى الحكومة السورية الجديدة خارج حدودها، ويضع بشكل واضح العراقيل أمام الجميع إلا أنه بشكل أو بأخر يعبد الطريق امام سوريا الجديدة ولكن بأدوات وموافقة أمريكية.

اقرأ المزيد
٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥
رسائل "الشرع" من قمة كونكورديا: خطاب يفتح أبواب سوريا على العالم

لم تكن مشاركة الرئيس أحمد الشرع في قمة «كونكورديا» بنيويورك حدثاً بروتوكولياً عادياً، بل بدت وكأنها لحظة سياسية فارقة يطل فيها وجه سوريا الجديد على العالم، فمن على طاولة واحدة مع كبار المستثمرين والخبراء الاقتصاديين، وفي مقابلة مباشرة مع مدير الـCIA السابق ديفيد بترايوس، رسم الشرع خطوط رؤيته لسوريا ما بعد الحرب، واضعاً نفسه وقضية بلاده في قلب النقاش الدولي.

ما لفتني في خطاب الرئيس أنه جمع بين اعتراف صريح بالمآسي التي عاشها السوريون تحت نظام الأسد البائد، وبين تقديم إنجاز «تحرير سوريا بأقل الخسائر» كعنوان لفصل جديد، هذه الصراحة لم تكن مألوفة في خطابات سابقة، وهي تحمل إشارة إلى أن دمشق الجديدة تحاول بناء شرعية على أساس الشفافية والتدرج، لا على أساس الشعارات.

الشرع لم يكتفِ بتوصيف الداخل، بل أرسل رسائل مدروسة للخارج: إشادة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزالة العقوبات، ودعوة الكونغرس لاستكمالها، وتأكيد على أن المصالح اليوم متطابقة بين سوريا والغرب، كما بدا وكأنه يقول إن بوابة دمشق إلى العالم لن تمر عبر السياسة فقط، بل عبر الاستثمار والاقتصاد والتعاون الدولي، وأن على المجتمع الدولي أن يمنح سوريا «فرصة حياة» ثانية.

في الداخل، ركّز الرئيس على عناصر الأمن والعدالة: حصر السلاح بيد الدولة، لجان لتقصي الحقائق في الساحل والسويداء، والسماح بدخول لجان تحقيق دولية، هذه إشارات طمأنة ضرورية لبلد أنهكته النزاعات وأرهقته الانتهاكات، ورسالة إلى المراقبين بأن صفحة الإفلات من العقاب قد تُطوى فعلاً إذا تحوّل الكلام إلى أفعال.

حتى الملف الكردي، أحد أعقد ملفات ما بعد الحرب، حضر في الخطاب بلهجة واقعية: عرض دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري مع ضمان الحقوق، إقرار ببطء التنفيذ، ودعوة إلى حلول سلمية سريعة، وهذه اللغة أقل حدة وأكثر براغماتية مما اعتدنا سماعه، وتعكس فهماً بأن نجاح سوريا الجديدة يمر عبر إدارة تنوعها بعيداً عن المحاصصة التي رفضها الشرع علناً لصالح حكومة كفاءات.

أما في ملف إسرائيل، فقد بدا الرئيس وكأنه يختبر ردود الأفعال: تذكير بالاعتداءات واحتلال الجولان والتوغل في الأراضي السورية، مقابل تأكيد السعي إلى تجنب الحرب والتمسك بالتهدئة لإعطاء البلاد فرصة للنهوض، ثم وضع الشرط الواضح: انسحاب إسرائيل من الأراضي السورية ومعالجة المخاوف الأمنية بالمفاوضات، مع التساؤل العلني ما إذا كانت تلك المخاوف حقيقية أم مجرد أطماع توسعية. هذا الخطاب يفتح باب المفاوضات دون أن يقدم تنازلات مسبقة.

الشق الاقتصادي من التصريحات لا يقل أهمية عن السياسي، فالرئيس يراهن على قدرات وطنية لإعادة بناء الاقتصاد، لكنه يشير بوضوح إلى أن رفع العقوبات هو الشرط الأساسي للانطلاق. هنا يظهر رهان دمشق على المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية التي تحضر القمة، ورسالتها أن سوريا لم تعد مصدر تهديد بل سوقاً ناشئة تستحق الدعم.

خلاصة ما خرجتُ به من متابعة تصريحات الشرع في قمة «كونكورديا» أن سوريا تحاول إعادة تقديم نفسها للعالم: دولة تسعى للتهدئة لا للتصعيد، للعدالة لا للانتقام، وللتنمية لا للانعزال. هذه ليست مجرد شعارات؛ إنها خريطة طريق إذا ما تحققت يمكن أن تعيد رسم موقع سوريا في المنطقة والعالم. لكن التحدي الأكبر ليس في صياغة الخطط أو إلقاء الخطابات، بل في القدرة على تحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس يلمسه السوريون أولاً قبل غيرهم.

اقرأ المزيد
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع

أثار الإعلان الرسمي عن لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وفد إسرائيلي في باريس بوساطة أميركية، موجة من النقاش والجدل حول طبيعة الموقف السوري من إسرائيل. غير أن قراءة دقيقة في سياق هذا اللقاء توضح أن الحديث عن المفاوضات لا يعني تحولاً في الثوابت السورية، بل انعكاساً لتبدل قواعد الاشتباك التي فرضها العدوان الإسرائيلي خلال الأشهر الأخيرة.

الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمواقع عسكرية وحيوية داخل الأراضي السورية كسر المعادلة التقليدية التي حكمت الوضع منذ توقيع اتفاق فصل القوات عام 1974. ومع استمرار الغارات وتوسعها لتشمل بنى تحتية حساسة، وجدت دمشق نفسها أمام ضرورة البحث عن أدوات جديدة لاحتواء التصعيد، فالتفاوض عبر قنوات رسمية ووسطاء دوليين يأتي هنا كخيار دفاعي، هدفه تثبيت خطوط التهدئة القديمة، لا فتح مسار سياسي جديد.

إطار قانوني قائم

 تركيز المحادثات في باريس على إعادة تفعيل اتفاق 1974 يثبت أن دمشق لا تسعى لتغيير الواقع السياسي أو الدخول في صفقة تطبيع، بل لإحياء الإطار القانوني الذي يشكل أساس وقف إطلاق النار. لكن اللافت أن المباحثات لم تقتصر على هذا الجانب، إذ تطرقت أيضاً إلى ملف محافظة السويداء حيث تصاعدت التوترات في الأونة الأخيرة، وهنا برزت الوساطة الأميركية في طرح فكرة إنشاء ممر إنساني يسمح بوصول المساعدات إلى المجتمع الدرزي في السويداء، وعلى الرغم من صعوبة تنفيذ هذا الممر الذي سيمر عبر درعا بالتأكيد، ومن غير المعلوم كيف كان رد دمشق على هذه النقطة.

ويرى محللون أنه لقطع الطريق على فتح أي ممرات اسرائيلية للسويداء قد تستخدم لإيصال السلاح والمال لميلشيات الهجري، فإن الحل الوحيد أمام دمشق، هو إعادة فتح جميع الطرقات الى السويداء وحماية المحافظة من أي محاولات انتقامية من خارجها، وتشديد عمليات التفتيش، والتأكيد على حماية الخارجين من السويداء، والسماح لجميع أشكال التبادل التجاري مع المحافظة وخارجها، وهذا هو الحل الوحيد الذي قد يقطع الطريق على المحاولات الإسرائيلي لفتح ممرات أمنية للسويداء.

هذه المفاوضات المباشرة والإعلان الرسمي عنها، يُقرأ كمحاولة مزدوجة: من جهة تثبيت اتفاق 1974، ومن جهة أخرى معالجة البعد الإنساني والأمني المرتبط بالسويداء، بما يمنع انزلاق الوضع نحو مواجهة عسكرية أوسع قد تعصف باستقرار الجنوب السوري بأكمله.

الارتباك الإسرائيلي والانتقادات الداخلية والخارجية

في إسرائيل نفسها، برزت انتقادات لاذعة للسياسة العسكرية تجاه سوريا. فقد وصف مسؤولون في المعارضة المعارضة الاسرائيلية، استهداف وزارة الدفاع في دمشق بأنه تصعيد متهور. هذا الانتقاد، إلى جانب انقسام داخلي بين من يروّج لاستمرار الضغط العسكري ومن يحذّر من مخاطره.

ولم يقتصر الجدل داخلياً على الانقسام بين من يدعم التصعيد العسكري ومن يحذّره، حيث ضمّ ردود فعل صارخة من داخل المؤسسات الإسرائيلية. فقد وصف زعيم المعارضة يائير لابيد الغارات الأخيرة على دمشق بأنها “غير ضرورية ومتهورة”، منتقداً حكومة نتنياهو لغياب استراتيجية إقليمية واضحة:

“أعني كأننا كنا ثملين من القوة، نضرب في أي مكان في الشرق الأوسط بدون سياسة واضحة”  .

وكان البيت الأبيض قد صرح حينها ان الرئيس الأمريكي ترامب تفاجأ بالقصف الإسرائيلي على سوريا وأن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، لعب دورا في خفض التصعيد، كما انتقد المبعوث الأميركي إلى سوريا توم باراك التدخل الإسرائيلي في سوريا قائلا إنه أتى في توقيت سيء جدا.

من جهة أخرى، نبه مراقبون أميركيون متخصصون في الأمن إلى أن استهداف وزارة الدفاع في دمشق يعرض فرص التهدئة إلى خطر الانهيار، ويُعد ضربة لمساعي التهدئة الجارية. فقد أكد دانييل شابيرو من مجلس الأطلسي أن:

“الضربات على مقر وزارة الدفاع في دمشق تمثّل انتكاسة للمفاوضات غير الرسمية بين سوريا وإسرائيل”  .

الالتزام بالعباءة العربية شرط للمضي نحو السلام

سوريا لن تخرج عن العباءة العربية فيما يخص أي مسار يتعلق بالسلام مع إسرائيل، خاصة في ظل تحسن علاقاتها مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية. هذا التوجه يؤكد أن دمشق لن تتحرك نحو أي تسوية شاملة بمعزل عن أشقائها العرب، وأنها تلتزم بالموقف السعودي الواضح الذي يربط أي سلام بإقامة دولة فلسطينية وفق حل الدولتين باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق تسوية عادلة مع إسرائيل.

القادة السعوديون – وغيرهم من المحيط العربي – جددوا التمسك بموقف ثابت: لا تطبيع إلا بشرط تأسيس دولة فلسطينية مستقلة وحل الدولتين، وهذا يؤكد أن سوريا لن تخوض مفاوضات سلام منفردة، بل في إطار توافق عربي واسع.

التفاوض لمنع الانفجار

المفاوضات في السياق السوري الحالي ليست خيار ضعف ولا تمهيداً لتطبيع، بل أداة لإدارة التوازن ومنع الانفجار، وهي محاولة لتقليص هامش المناورة الإسرائيلي، وتثبيت قواعد اشتباك واضحة تعيد الملف إلى مرجعيته القانونية، بدل تركه مفتوحاً على احتمالات التصعيد.

اللقاء العلني بين دمشق وتل أبيب بوساطة أميركية لا ينبغي قراءته كتبدل استراتيجي او تنازل عن المبادئ والمسلمات، بل كتحرك تكتيكي دفاعي تفرضه التحديات الميدانية، فدمشق ما زالت تتمسك بالثوابت الوطنية، وتستخدم أدوات التفاوض ليس للتقارب مع إسرائيل، بل لتقليص مخاطر العدوان ومنع واقع عسكري أكثر خطورة.

 

اقرأ المزيد
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى

أثار فيديو إعدام أحد الأشخاص داخل مستشفى السويداء الوطني، قبل أيام، موجة واسعة من الغضب والإدانة، اجتاحت المنصات الإعلامية والحقوقية على السواء. وانهالت المواقف من شخصيات عامة، ومسؤولين رسميين، ومؤسسات حقوقية، معتبرة أن ما حدث يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون، وضربًا لقيم الدولة والمؤسسات، وإهانة للعدالة.

وهذا الغضب، على فظاعته، كان مفهومًا تمامًا، رغم عدم وضوح ملابسات الحادثة بشكل كامل حتى اللحظة. ومع ذلك، فإن ما لا خلاف عليه هو أن إذلال أفراد الطواقم الطبية أو استهدافهم، سواء ميدانيًا أو معنويًا، أمر مرفوض بالمطلق.

لكن يفترض أن تكون معايير الأخلاق والعدالة واحدة. فعندما تقع انتهاكات هنا أو هناك، يجب إدانتها جميعًا دون تمييز، وعدم الانحياز لطرف ضد آخر لمجرد القرب الفكري أو الطائفي. فالانتهاك يبقى انتهاكًا، سواء صدر من صديق أو من خصم.

اليوم، وفي مشهد لا يقل خطورة، انتشر مقطع مصور يُظهر مجموعة مسلحة تتبع لميليشيات حكمت الهجري، وهي تطلق النار مباشرة على المسجد الكبير في مدينة السويداء، ما أدى إلى تدمير أجزاء من بنائه وتخريب محتوياته، وسط شعارات طائفية فجّة. مشهد يُنذر بموجة غضب طائفي، وقد يجر وراءه تداعيات لا تُحمد عقباها.

اللافت في هذه الحادثة لم يكن فقط الاعتداء على أحد دور العبادة، بل الصمت شبه الكامل من ذات الجهات والشخصيات التي كانت الأعلى صوتًا في إدانة مشهد القتل داخل المستشفى. تلك الأصوات غابت أو تجاهلت، وكأن استباحة مسجد لا تستحق موقفًا أو إدانة، فقط لأن الفاعل هذه المرة من “جماعتها”، أو لأن الضحية لا يتوافق مع الامتداد السياسي أو الطائفي لها.

هذا الصمت الانتقائي، الذي تحكمه الهوية والانتماء والمزاج، لا يقل خطرًا عن الانتهاك ذاته. بل إنه يكرّس ثقافة أخطر، تقوم على تصنيف الضحايا وشرعنة الظلم متى ما وافق هوى البعض، وتحوّل العدالة إلى أداة انتقائية، لا قيمة لها إلا حين تناسب الانحيازات.

الاعتداء على المسجد لا يمكن فصله عن سياق التوترات الطائفية المتصاعدة في السويداء، في ظل تنامي سلطة الفصائل المسلحة، وتزايد الخطاب التحريضي والطائفي، لا سيما من شخصيات ذات تأثير واسع داخل الطائفة الدرزية، أمثال ماهر شرف الدين، الذي لم يتوقف منذ أسابيع عن ضخ خطاب عدائي صريح ضد المسلمين السنة.

وفي ظل غياب القانون، وعدم القدرة على محاسبة أي طرف متورط بانتهاكات — سواء داخل الفصائل المسلحة أو خارجها — تستمر بعض الجهات في تحميل الدولة كامل المسؤولية عن كل ما يجري، بينما تتغاضى تمامًا عن مسؤولية ميليشيات الهجري، التي ارتكبت انتهاكات موثقة ضد أبناء العشائر البدوية، من قتل وتهجير وتدمير للممتلكات.

ما يجري في السويداء هو اختبار حقيقي للنخب والمثقفين والناشطين، الذين لطالما تحدثوا عن العدالة والحياد الأخلاقي، لكن كثيرًا منهم يتراجعون عن هذه القيم عندما يكون الطرف المخطئ هو ذاته الذي يدعمونه. بل يسارع بعضهم إلى اختلاق مبررات سخيفة لأفعال لا يمكن الدفاع عنها بأي معيار أخلاقي أو قانوني.

فهل تُرفع الأصوات هذه المرة دفاعًا عن حرمة المسجد كما رُفعت سابقًا دفاعًا عن المقتول في المستشفى؟ أم أن المعايير ستبقى مزدوجة، والإدانات انتقائية، تُقاس بميزان الطائفة والانتماء لا بميزان العدالة؟

العدالة لا تتجزأ. من يرفض القتل، يجب أن يرفض أيضًا تدنيس دور العبادة. ومن يندد بغياب القانون في المستشفى، يجب أن يرفضه أيضًا حين يغيب في المسجد. أما من يختار الصمت حين لا تناسبه هوية الضحية، فلا يمكنه بعد اليوم التحدث باسم الإنسانية أو الأخلاق.

في لحظة كهذه، تبدو سوريا بأمسّ الحاجة إلى خطاب وطني نزيه، لا يستند إلى الخلفيات المذهبية ولا الاعتبارات الفصائلية، بل إلى القيم التي تُبقي المجتمعات موحدة وتحول دون سقوطها في مستنقع الكراهية والدمار.

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية

لم يكن يوم 8 ديسمبر 2024 مجرد لحظة سياسية عابرة في تاريخ سوريا، بل شكّل لحظة مفصلية أنهت عهدًا امتد لأكثر من عقد من الحرب والقمع بقيادة الإرهابي الفار بشار الأسد، وفتحت الطريق أمام إعادة تشكيل الدولة السورية على أسس جديدة قوامها السيادة والكرامة والعدالة، ومع هذا التغير التاريخي، برز سؤال جوهري: كيف ستتعامل سوريا الجديدة مع التحالفات القديمة، وعلى رأسها العلاقة المعقدة مع روسيا؟

لقد اتسمت علاقة نظام الأسد البائد مع موسكو بقدر كبير من التبعية السياسية والعسكرية، بل والاقتصادية، فالدعم الروسي العسكري في وجه الثورة السورية، وعمليات القصف التي طالت المدنيين، تركت جراحًا غائرة في ذاكرة السوريين. 

لكن، مع مجيء الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تغيّرت معادلة التعامل مع روسيا: لم تعد دمشق تتلقى الإملاءات، بل باتت تصوغ أولوياتها الوطنية بوعي واستقلال، وتسعى إلى بناء علاقات متوازنة تحفظ مصالح الشعب السوري.

وفي هذا السياق، تحمل زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو رمزية واضحة، فهي ليست امتدادًا لاتفاقات أُبرمت في عهد النظام البائد، بل بداية مراجعة شاملة لتلك الاتفاقات، فالمطلوب اليوم ليس مجرد تعديلات شكلية، بل إعادة تعريف العلاقة على أساس الاحترام الكامل للسيادة السورية، ورفض أي تبعية تُعيد إنتاج الهيمنة السابقة.
ما ورّثه الأسد لحكومته الجديدة لم يكن فقط خرابًا سياسيًا ومؤسساتيًا، بل شبكة من الالتزامات الاقتصادية الجائرة، أبرزها ديون وصفقات مشبوهة مع شركات روسية في مجالات النفط والقمح والطاقة، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة، لا بد من إعادة التفاوض على هذه الملفات بما يضمن العدالة والشفافية والمصلحة الوطنية، ويضع حدًا لاستغلال سوريا كـ"سوق تصريف" لمصالح أطراف خارجية.
إن إصرار الحكومة السورية على فتح هذه الملفات مع موسكو لا يُمثّل عداءً أو قطيعة، بل تعبيرًا عن نضج سياسي يعيد تعريف العلاقة وفق أسس الشراكة لا الوصاية. وهذا التوجه لا يقتصر على العلاقة مع روسيا فحسب، بل يشمل كافة التحالفات والعلاقات الدولية التي تنسجم مع الرؤية السورية الجديدة.
تسعى سوريا اليوم إلى الخروج من أسر "الاصطفافات الجغرافية" التي طالما كبّلتها، فليست دمشق في وارد العودة إلى محور سياسي ضد آخر، بل تعمل لبناء موقع مستقل يضع المصلحة السورية فوق كل اعتبار، إنها فرصة تاريخية لسوريا لأن تعود إلى المجتمع الدولي من موقع القوة الأخلاقية، بوصفها بلدًا خرج من تحت أنقاض الاستبداد ليبني نموذجًا جديدًا لدولة ديمقراطية مستقلة.

إعادة الإعمار في سوريا ليست مجرد مشروع عمراني أو بنية تحتية، بل اختبار سياسي لمدى قدرة الحكومة السورية على الدفاع عن استقلال قرارها. وفي هذا السياق، لن يكون هناك مكان لأي شراكة لا تعترف بسيادة الدولة السورية، فالمطلوب من الحلفاء - الروس وغيرهم - هو احترام هذه السيادة وتقديم الدعم بشروط نزيهة وعادلة، لا تنتقص من القرار الوطني.

إن سوريا الجديدة، كما تتطلع إليها غالبية السوريين، هي دولة المواطن لا دولة الحاكم، وهي سوريا التي تنتمي للعالم لا لمحور، وتبني علاقاتها وفق قواعد الاحترام المتبادل لا التبعية، وإذا كان الاجتماع في موسكو اليوم يرمز إلى شيء، فهو أن صفحة جديدة تُكتب بعقول السوريين لا بأوامر الخارج، وبيد حكومة تُعيد الاعتبار للسيادة وتعيد الشعب إلى موقع القرار.

ومما لاشك فيه فإن التحولات الجارية في سوريا ليست مجرد تغييرات في السلطة، بل هي تحوّل في البوصلة الوطنية، من حكم الفرد إلى حكم المؤسسات، ومن الاستبداد إلى سيادة القانون، ومن الانغلاق إلى الانفتاح المسؤول، وهذا هو الاختبار الحقيقي لسوريا بعد الأسد: هل تملك الإرادة لتكون دولة حرة، قادرة على ترميم جراحها، وبناء مستقبلها بيد أبنائها؟ كل المؤشرات تقول: نعم، الطريق بدأ.

اقرأ المزيد
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية

فضل عبد الغني
يمثّل الانتقال السياسي في أعقاب الصراعات المسلحة الداخلية منعطفاً حاسماً في مسار أي دولة نحو السلام المستدام والحكم الديمقراطي، وفي الحالة السورية، تكتسب هذه المرحلة الانتقالية أهمية استثنائية، نظراً لتزامنها مع تحديين مترابطين: إعادة بناء مؤسسات داخلية منهارة، وإدارة تهديدات خارجية معقدة ومتعددة الأوجه وفي مقدمتها الاحتلال والعدوان الإسرائيلي.

يجادل هذا المقال بأن نجاح سوريا في مواجهة هذه التهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية يتوقف على التعزيز المنهجي للبنى الداخلية، فالتحولات التي تُركّز على النهج التنازلي وتتجاهل العمليات التشاورية الشاملة، تقود بالضرورة إلى تفكك المؤسسات واستمرار حالة اللااستقرار.

في المقابل، تُظهر النماذج الناجحة أن المؤسسات الانتقالية التعددية، والمشاركة السياسية الواسعة، والحماية المتكاملة للحقوق، تشكّل الأسس الضرورية لتوافقات تأسيس الدولة وترسيخ ديمقراطية مستدامة، وأنّ التحوّل السياسي في سوريا لا يمكن أن يُختزل في عملية نقل للسلطة أو إصلاح مؤسسي سطحي، بل يجب أن يُفضي إلى إعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الدولة والمجتمع.

ركائز التوحيد الداخلي
ينطلق الإطار النظري لفهم التحول السياسي في سوريا من النموذج المتكامل لترسيخ الديمقراطية الذي طوّره لينز وستيبان، والذي يُحدّد خمس مجالات مترابطة لتحقيق التنمية الديمقراطية المستدامة: (المجتمع المدني، المجتمع السياسي، سيادة القانون، البيروقراطية الحكومية، الاقتصاد المؤسسي)، لا تعمل هذه المجالات كوحدات منفصلة، بل كنظم متشابكة يحدد تفاعلها الجماعي نجاح عملية الانتقال بعد الصراع.

تبرز العلاقة بين التصميم المؤسسي ومنع تكرار النزاع المسلح كعامل أساسي في نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا.

وتُظهر الدراسات المستقاة من تجارب دول ما بعد النزاع أن الهياكل المؤسسية المصممة بعناية تُشكّل أدوات فاعلة لإدارة التحديات الداخلية ومواجهة التهديدات الخارجية، كما تشير إلى أن المؤسسات القائمة على آليات صنع قرار توافقية، والمدعومة بأطر للمشاركة والمراقبة الأممية، تُسهم بشكل كبير في تقليص احتمالات تجدد الصراع، ويُعدّ هذا الاستنتاج بمنزلة نقد مباشر للنُهج التي تُغلب التغيير السريع على حساب التصميم التشاركي الشامل.

تلعب آليات اتخاذ القرار التوافقي دوراً محورياً في منع الانقسامات المجتمعية خلال الفترات الانتقالية، وتشير العديد من أدبيات الانتقال السياسي إلى أن ترتيبات تقاسم السلطة تُعزز فرص السلام عبر ثلاث آليات مترابطة:

تقديم ضمانات أمنية للفئات المتحاربة سابقاً.
تأكيد المشاركة السياسية المستقبلية لهذه الجماعات ضمن بنية الدولة.
إنشاء مؤسسات تُتيح معالجة مظالم الماضي بشكل بنّاء.
ويُسهم هذا التكامل في تحويل النزاع الصفري إلى منافسة ديمقراطية بنّاءة، مما يعزّز قدرة الجبهة الداخلية على مواجهة الضغوط الخارجية من دون اللجوء إلى استبداد جديد أو عنف متجدد.

المشاركة السياسية كبنية تحتية ديمقراطية
إن المشاركة السياسية لجميع مكوّنات المجتمع تمثل ركيزة محورية لتعزيز الجبهة الداخلية خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، هذا النموذج التشاركي يجب أن يشمل المشاركة الفعّالة في بناء المؤسسات، وصياغة السياسات، وتشكيل هياكل الحوكمة، لأن المشاركة الواسعة تؤدي أدواراً متعددة: فهي تمنح المؤسسات شرعية مجتمعية، وتفتح قنوات سلمية للتعبير عن المظالم، وتُعزز التماسك الاجتماعي الضروري لترسيخ الديمقراطية.

تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية..

تتجلى فعالية المشاركة السياسية في قدرتها على تحويل المؤسسات من هياكل مفروضة إلى تعبيرات أصيلة عن الإرادة العامة، فعندما تُهيئ المؤسسات الانتقالية بيئة شاملة للمشاركة، فإنها تولّد ما يُعرف بـ"شرعية المدخلات"، أي الشعور بأن بنية الحكم تعكس القيم والتفضيلات الجمعية، وتُعد هذه الشرعية ضرورية لضمان الالتزام بالمعايير الديمقراطية الجديدة ومنع عودة البُنى الموازية التي قد تُقوّض الدولة في مواجهة التحديات الخارجية.

كذلك، تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية، ويجب أن تُصمَّم هذه القنوات بحيث تكون متاحة لجميع فئات المجتمع، لا سيما الفئات المهمشة تاريخياً أو المتضررة من النزاع، وهنا تتبدى العلاقة التكاملية بين الشمولية المؤسسية والمشاركة الشعبية: فكل منهما يُعزّز الآخر، ويُسهم في بناء منظومة ديمقراطية مرنة قادرة على التكيّف مع الأزمات من دون الانهيار.

إطار الحقوق وحماية الأقليات
تبرز حماية حقوق الأقليات كركيزة لمنع اندلاع الصراعات وتعزيز الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، وتشير أدبيات الانتقال السياسي إلى أربع فئات أساسية من هذه الحقوق ينبغي معالجتها بشكل مباشر: الحق في الوجود، الذي يحمي الجماعات من التهجير القسري أو الإقصاء الجسدي؛ والحق في الهوية، الذي يضمن حرية التعبير الثقافي واللغوي والديني؛ والحق في عدم التمييز، الذي يُكفل المساواة أمام القانون؛ وأخيرًا، الحق في المشاركة السياسية والاقتصادية، الذي يُتيح الانخراط الفعّال في عمليات الحوكمة والتنمية.

يتجاوز تكريس هذه الحقوق في الدستور مجرد الالتزام الرمزي، إذ يُشكّل قاعدة قانونية صلبة للوقاية من تجدد الصراع.

وتبيّن التعديد من التجارب أنه عندما تُحمى حقوق الأقليات دستورياً وتُفعّل عبر النظم الانتخابية، والمؤسسات القضائية، والهياكل التعليمية قبل تصاعد التوترات، فإن احتمالية اندلاع نزاعات عنيفة تتراجع بدرجة ملحوظة.

وتكتسب هذه الوظيفة الوقائية أهمية مضاعفة في السياق السوري، حيث يُعد التعايش بين جماعات متنوعة ضمن بنية ديمقراطية موحّدة ضرورةً لا مفر منها، شرط الحفاظ في الوقت نفسه على الهويات الخاصة لهذه الجماعات.


ولا تقتصر الإمكانات التحويلية للنهج القائم على الحقوق على منع الصراعات، بل تمتد لتشمل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جذورها، وتُشدد أدبيات العدالة الانتقالية على أن تكون الأطر الحقوقية متمحورة حول الضحايا، وأن تعزّز ملكية المجتمع لعملية التحول.

يعمل هذا النهج على مستويات متعدّدة: فهو يُحوّل الضحايا من متلقين سلبيين إلى فاعلين يملكون حقوقًا؛ ويُسهِم في المصالحة عبر الاعتراف بالانتهاكات الماضية؛ ويُعيد بناء مؤسسات الدولة التي كانت سببًا أو أداة في استمرار انتهاكات الحقوق.

إن تمكين الأفراد والمجتمعات من التعبير عن ذواتهم كأصحاب حقوق يُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، ويُعزز بالتوازي شرعية النظام الديمقراطي والتماسك المجتمعي.

آليات التحول المستدام – التماسك الاجتماعي والمواطنة التعددية
يُعرَّف التماسك الاجتماعي بأنه قدرة المجتمع على ضمان رفاه جميع أفراده، مع الحد من أوجه عدم المساواة وتفادي الاستقطاب، ويتجاوز هذا المفهوم مجرد الانسجام المجتمعي السطحي، ليُشكل الركيزة الضرورية التي تُرسّخ المؤسسات الديمقراطية وتُتيح لها الازدهار.

وفي السياق السوري الانتقالي، يبرز التماسك الاجتماعي كضرورة ملحّة لإعادة بناء مجتمع ممزّق وتحويله إلى كيان سياسي موحّد قادر على الحكم الذاتي الديمقراطي.

تتطلب آليات الحد من عدم المساواة ومعالجة الاستقطاب مقاربات تشمل الجوانب الهيكلية والإجرائية للحوكمة، وتُشير الدراسات إلى أن الحد من التفاوتات يتم عبر مسارات متعددة:

أولها السياسات المعتمدة على إعادة التوزيع التي تُعالج الفجوات الاقتصادية.
ثانيها التصميمات المؤسسية الشاملة التي تضمن التمثيل العادل.
ثالثها الرمزية السياسية التي تعترف بالمظالم التاريخية وتُعزز آفاق المصالحة المستقبلية.
ينبغي أن تعمل هذه الآليات بتوازٍ لمنع تحوّل الانقسامات التي أفرزها الصراع إلى انقسامات سياسية دائمة، كما يتطلّب تفادي الاستقطاب تركيزاً على قنوات التواصل الفعالة، والتربية المدنية، وتوسيع شبكات اجتماعية عابرة للهويات الطائفية أو الأيديولوجية.

وفي هذا السياق، يبرز ترسيخ المواطنة التعددية كهدف أساسي لسياسات التماسك الاجتماعي، ويُشكّل هذا النموذج المتقدّم للانتماء السياسي صيغةً تُزاوج بين الحقوق والمسؤوليات في إطار يدمج مختلف الجماعات الهوياتية ضمن نسيج مدني موحّد.

وتتجاوز المواطنة التعددية مفهوم "التسامح" إلى الاعتراف الفعّال بالهويات المتنوعة ضمن إطار قانوني ومؤسسي جامع، وتُظهر الأدبيات أن كلًّا من الديمقراطية والتماسك الاجتماعي يعزّزان هذا النمط من المواطنة عبر آليات متداخلة تُقرّ بالتنوع، وتُبني في آنٍ واحد مشروعاً سياسياً مشتركاً.

وتفرض هذه الصيغة المؤسسية للمواطنة التعددية نفسها كضرورة خاصة في الحالة السورية، إذ تُتيح إدارة التنوع، مما يُنشئ ما يُطلق عليه المُنظرون السياسيون "الوحدة في التنوع".


التصميم الدستوري (في الحالة السورية: الإعلان الدستوري الذي يحكم سوريا لخمس سنوات)
يُعدّ تصميم الدستور في مجتمعات ما بعد النزاع فرصة نادرة لبناء رؤى مشتركة حول مستقبل الدولة، ووضع خرائط طريق ملموسة لترسيخ الديمقراطية.

وتُجمع الدراسات على أن عملية إعداد الدستور، وكذلك مضمونه، يؤثران تأثيراً جوهرياً في نتائج المرحلة الانتقالية، إذ تؤسس العمليات التشاركية لأسس أكثر متانة للحكم مقارنةً بالمسارات الفوقية أو الإقصائية، وفي السياق السوري، لا ينبغي النظر إلى وضع الدستور كمجرد إجراء قانوني، بل كفعل سياسي تخييلي يُعيد تعريف أسس التعايش في الدولة الجديدة.

تتجلّى العلاقة بين صياغة الدستور والممارسة الديمقراطية من خلال آليات متعددة، فعمليات وضع الدساتير التشاركية تعمل كـ"مدارس للديمقراطية"، تُكسب المواطنين والنخب مهارات الحوار، والتفاوض، والتسوية، والاختلاف المنتج، وهي مهارات أساسية لبناء الحكم الرشيد.

وتشير الأدبيات إلى أن فترات الانتقال غالباً ما تشهد مراجعة أو إعادة صياغة للدساتير الوطنية بما يعكس القيم الجديدة، ما يُثبت أن الصياغة التعددية للدستور تُؤثر بعمق على فرص نجاح المرحلة الانتقالية، فعندما تتضمن العملية الدستورية أصواتاً متعددة ووجهات نظر متنوعة، فإن النص الناتج يُجسّد تعقيد النسيج المجتمعي ويوفر إطاراً لإدارته سلمياً.

ويظهر دور الأطر الدستورية الشاملة في تعزيز قدرة الدولة على الاستجابة للتهديدات الخارجية من خلال بناء هياكل حوكمة موحّدة ومرنة، فالدساتير التي تُوازن بين الوحدة والتنوع، والمركزية واللامركزية، والثبات والقدرة على التكيف، تُوفر للدولة الأدوات المؤسسية اللازمة لمواجهة التحديات الخارجية من دون المساس بالمبادئ الديمقراطية.

يبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة..

وتبرز أهمية هذا التوازن في الحالة السورية، حيث تصبح الحاجة ملحّة لصياغة أحكام دستورية واضحة تتعلّق بحوكمة الطوارئ، والرقابة على قطاع الأمن والجيش، والفصل بين السلطات، بما يضمن حماية المؤسسات الديمقراطية ويُمكّن من استجابات فعالة للمخاوف الأمنية الحقيقية.

خاتمة
يُظهر استعراض الأدبيات النظرية والتجريبية دعمًا للفرضية التي تؤكد أن قدرة سوريا على التصدي للتهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية تعتمد، في جوهرها، على التعزيز المنهجي للجبهة الداخلية، وذلك من خلال مشاركة سياسية شاملة، وحماية قوية للحقوق.

فالتحولات الديمقراطية المستدامة لا تُختزل في وقف الصراع أو نقل السلطة، بل تتطلب إعادة بناء جذرية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، تقوم على إصلاح مؤسسي، وتجديد اجتماعي، وإدماج سياسي متكامل.

ويبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة: تمنح المشاركة السياسية شرعية للمؤسسات الجديدة، وتُمهّد لحلول سلمية للنزاعات، وتُحصّن حماية الحقوق مسار التحول من عودة المظالم، ويُؤسس التماسك الاجتماعي قاعدة مجتمعية صلبة لترسيخ الديمقراطية.

ويُظهر هذا التفاعل الثلاثي أن أي محاولة لترجيح عنصر على حساب آخر من شأنها إضعاف العملية برمتها، وإعادة إنتاج الهشاشة المؤسساتية والانقسامات الداخلية.


وتُعبّر الدعوة إلى تعزيز الداخل لمواجهة الخارج عن فهم متقدم لمفهوم الأمن في سياقات ما بعد النزاع. فالنماذج الأمنية التقليدية التي تُركّز على القدرات العسكرية أو السيطرة الاستبدادية أثبتت عدم جدواها في إدارة التعقيدات التي تواجه المجتمعات الانتقالية.

وتُظهر الدراسات الحديثة أن المؤسسات الديمقراطية الشاملة والمرنة تُوفّر الآليات الأنجع لمواجهة التهديدات الخارجية من دون تقويض الأسس الديمقراطية أو إثارة مقاومة داخلية، وتتحدى هذه النتيجة الافتراض الشائع بأن الديمقراطية والأمن هدفان متعارضان، كاشفةً عن تداخلهما الحيوي في مسار بناء السلام.

في السياق السوري، يعني هذا أن السبيل الأكثر فاعلية لمواجهة التهديدات الخارجية يبدأ من الداخل: ببناء مرونة ديمقراطية من خلال عمليات قد تكون شائكة لكنها ضرورية، تُؤسس لسلام مستدام وأمن طويل الأمد وكرامة إنسانية حقيقية.

ويُعدّ نجاح هذا المسار حجر الزاوية في مستقبل سوريا كدولة ديمقراطية ذات سيادة، قادرة على التعامل مع تعقيدات الإقليم، وضامنة لحقوق ورفاهية مواطنيها كافة.

اقرأ المزيد
1 2 3 4 5

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٨ أكتوبر ٢٠٢٥
"فضل عبد الغني" يكتب: شروط حقوقية أساسية لتطبيع العلاقات السورية - الروسية
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٦ أكتوبر ٢٠٢٥
زيارة إلى العدو.. لماذا أغضبت زيارة الشرع لموسكو السوريين؟
أحمد ابازيد - رئيس تحرير شبكة شام
● مقالات رأي
١٣ أكتوبر ٢٠٢٥
هل تتعارض العدالة الانتقالية مع السلم الأهلي في سوريا.. ؟
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٢ أكتوبر ٢٠٢٥
بيان الهجري يكشف الرفض الداخلي له رغم محاولات شرف الدين تحويله لـ "آله" غير قابل للنقد
فريق العمل
● مقالات رأي
٥ أكتوبر ٢٠٢٥
فضل عبد الغني: "العلم" الرمز الوطني الأسمى لتجسيد الهوية الوطنية في البروتوكولات والدبلوماسية
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٤ أكتوبر ٢٠٢٥
فضل عبد الغني: تغييب العدالة في اتفاقيات السلام… خطرٌ على الاستقرار واستدامة السلم
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٣ أكتوبر ٢٠٢٥
تمديد حالة الطوارئ الأمريكية في سوريا: رسالة سياسية إلى فلول الأسد
فريق العمل