مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة

منذ لحظة سقوط نظام بشار الأسد وصعود حكومة الرئيس أحمد الشرع، وضعت سوريا نفسها على مسار جديد قائم على استعادة السيادة وبناء شراكات إقليمية مستقلة، ومع تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران إلى مستويات غير مسبوقة، تطرح التساؤلات بحدة حول موقف دمشق: هل تنجح في تجنّب الاصطفاف؟ أم أنها ستكون مضطرة للاختيار؟.

أولًا: الواقع العسكري والأمني في الجنوب السوري

من المهم التأكيد أن الجنوب السوري، وخاصة أرياف درعا والقنيطرة خالٍ تمامًا من التواجد العسكري أو الأمني المنظم للمليشيات الإيرانية أو حزب الله، وفق ما تؤكده مصادر ميدانية متعددة.

هذا الفراغ لم يأتِ صدفة، بل هو نتيجة جهود ممنهجة بذلتها الحكومة الجديدة لتفكيك البنية التحتية للمحور الإيراني في الجنوب، وتحصين المنطقة ضد محاولات إعادة الانتشار.

ولكن، تبقى السويداء خارج هذه الحسابات، خاصة أن الكثير من قادة النظام السابق ما تزال موجودة فيها ويعملون منها على عدم استقرار الجنوب السوري وسوريا. ولكن في المقابل من الصعب جدا أن تنطلق أي عمليات تهدد اسرائيل من السويداء، لعدة أسباب منها أن هناك تنسيق بين الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي للمسلمين الموحدين الدروز وبين تل أبيب، كما أن اسرائيل صرحت مرارا وتكرارا أنها ستحمي الدروز في السويداء من أي تهديد يقع عليهم.

لذلك، أيّ مزاعم عن احتمالية رد إيراني انطلاقًا من الأراضي السورية لا تبدو واقعية في الوقت الراهن، فالرد الإيراني، إن وقع، سيكون غالبًا انطلاقًا من أراضٍ عراقية أو عبر مليشيات في لبنان، بينما تبقى سوريا بمنأى عن ذلك لأسباب تتعلق بتوازنات إقليمية دقيقة.

ثانيًا: سوريا بعد الأسد.. دولة بلا حلف أيديولوجي

بعكس ما كانت عليه في مرحلة حكم الأسد، لم تعد سوريا اليوم طرفًا في أي محور عقائدي. الحكومة الجديدة تسعى لتثبيت مفهوم “الدولة الوطنية المستقلة”، وهو ما ينعكس في تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة، من التنسيق مع واشنطن، إلى تطبيع كامل مع دول الخليج، واتفاقيات أمنية غير معلنة مع الأردن وتركيا.

هذا التموضع يضع دمشق خارج الاصطفاف الإجباري، لكنه لا يمنحها رفاهية الحياد التام. فالحرب المفتوحة بين إسرائيل وإيران ستفرض على الجميع إعادة التموضع، لا سيما على الدول المتاخمة للجبهة.

ثالثًا: الحلف الإقليمي الجديد.. وسؤال الخيارات

المؤشرات السياسية والعسكرية الأخيرة تدل على تبلور محور إقليمي جديد، تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل ودول اوروبية، ويضم دولًا خليجية أساسية، مثل السعودية والإمارات والبحرين، إضافة إلى تركيا بدرجة أقل. هذا المحور يسعى إلى تحجيم الدور الإيراني، وتأمين استقرار شرق المتوسط والخليج.

سوريا الجديدة تميل بوضوح إلى هذا المعسكر، ليس حبًا بالمصالح الإسرائيلية، بل دفاعًا عن مصالحها الذاتية: تثبيت الأمن جنوبًا، إعادة الإعمار، إعادة الارتباط بالاقتصاد العربي، وضمان الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة.

الحيادية التامة قد تكون غير مطروحة لدى دمشق في حال توسعت رقعة المعركة بين طهران وتل أبيب، وسيكون الرئيس السوري أحمد الشرع مضطرا للانحياز جانب الحلف الأمريكي الإسرائيلي، لأن الحيادية المطلقة تعني عودة العقوبات وتدمير اقتصاد سوريا المدمر، ما سيعني بالتأكيد عدم الاستقرار في سوريا وربما سيعجل ذلك بحرب أهلية وعودة سريعة لتظيم داعش، لذلك ستكون دمشق في حقل ألغام من الصعب عليها أن تتجنب بعضها.

رابعًا: التهديد الإيراني.. ضغط لا يُستهان به

رغم انهيار البنية الإيرانية في الجنوب خصوصا وسوريا عموما، لا تزال إيران تحتفظ بنفوذ في الشرق السوري (ريف دير الزور تحديدًا)، كما أن لديها خلايا سياسية ومالية يمكن تنشيطها في لحظات التوتر. وبالتالي، فإن مواجهة إقليمية شاملة قد تدفع إيران إلى استخدام أوراقها داخل الأراضي السورية، ولو بشكل غير مباشر.

الحكومة السورية تدرك ذلك، وهي تتحرك على مسارين:
 • الأول: تأمين الجبهة الداخلية سياسيًا وأمنيًا.
 • الثاني: تنسيق استخباري واسع مع أطراف إقليمية ودولية لمراقبة أي نشاط عسكري أو امني.

خامسًا: الحرب الإقليمية المحتملة.. هل يمكن تجنّبها؟

إذا تطورت المواجهة إلى حرب إقليمية، فإن حياد سوريا لن يكون ممكنًا بالكامل. لكن السيناريو الأكثر ترجيحًا، أن تسعى دمشق للقيام بدور استباقي يتمثل في:
 1. ضبط حدودها من أي نشاط عدائي قد يجرها للصراع.
 2. تأكيد موقفها الرافض لاستخدام أراضيها لأي هجوم.
 3. المشاركة في جهود الوساطة، إن توفرت، خصوصًا مع وجود قنوات اتصال مع كل من أنقرة، الرياض، وواشنطن.

سوريا الجديدة تقف أمام لحظة مفصلية في التوازنات الإقليمية. وبين تهديدات محور طهران، وفرص محور إقليمي غربي-عربي، تبدو خيارات دمشق محسوبة بدقة: لا عودة لمحور الممانعة، ولا خضوع مطلق لحلف تل أبيب. بل محاولة لتثبيت سيادة ناضجة، واستثمار التحولات لبناء مستقبل مستقر.

لكن ما لم يُحسم حتى الآن، هو: إلى أي مدى ستُمنح دمشق هذا الحيّز من الاستقلال؟ وهل سيسمح تصاعد المواجهة الكبرى بين إسرائيل وإيران ببقاء منطقة وسطى بين المحورين؟

 

اقرأ المزيد
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد

تصاعدت خلال الأيام الماضية، حدة التعليقات التي يشاركها "أيتام الأسد"، تحمل نوع من الشماتة والفرح المصطنع، ظناً منهم أن الخلافات التي ظهرت بين بعض الناشطين الأحرار والحكومة الحالية دليل على بداية انهيار العلاقة بين الطرفين أو تمهيد لانقلاب شعبي جديد، هذا التفسير السطحي والمبني على الأوهام يعكس عدم فهمهم لطبيعة العلاقة القائمة اليوم في سوريا بين القوى الثورية والمكونات الحكومية التي تمثل مرحلة ما بعد الأسد الساقط. 

الانتقادات التي وُجهت مؤخراً، سواء لمؤتمر السلم الأهلي، الذي رأى فيه بعض الناشطين تبريراً غير مقبول لعودة ضباط خدموا في عهد الأسد دون محاسبة، أو التصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها عضو اللجنة "حسن صوفان" حول المجرم "فادي صقر"، ليست دليلاً على انقسام أو انهيار، بل دليل على وعي جديد قائم على حرية التعبير، وممارسة الحق في النقد المسؤول، وهو ما لم يعرفه أيتام النظام المجرم السابق يوماً.

ومن خلال رصد منشوراتهم وتعليقاتهم التي تحمل نبرة انتصار مزيفة، وكأنهم يظنون أن أبناء الثورة تخلوا عن مبادئهم، أو أن الثورة انتهت وأنهم قد يعودون من الباب الخلفي إلى مشهد سياسي كانوا سبباً رئيسياً في تدميره.


هذا الوهم نابع من عقليتهم القديمة التي ترى في الولاء للحكومة طاعة مطلقة، وتعتبر أي نقد نوعاً من الخيانة أو التفكك، بل إن هذا ما تعوّدوا عليه في ظل حكم الأسد الإرهابي، حيث كان الولاء الأعمى هو القاعدة، والنقد يُعتبر خروجاً عن الصف ويعرض للمساءلة والملاحقة.

أما اليوم، فإن من يقود الرأي العام من الناشطين الأحرار، هم أشخاص لا يخضعون لسلطة فوق سلطة الحق، يؤيدون الخطوات التي تخدم مصلحة السوريين، سواء جاءت من الحكومة أو من غيرها، ويرفضون أي سلوك يخالف مبادئ الثورة وكرامة الشعب، الانتقاد ليس ضعفاً، بل قوة للتصحيح؛ وهو ما لا يفهمه من تربى في بيئة تقمع الصوت المخالف وتقدس الحاكم.

الحكومة الحالية، بكل ما فيها من تحديات ونقاشات، ليست فوق المساءلة، وهذا ما يدركه الثوار جيداً. لذلك فإن وجود نقاشات واختلافات علنية حول بعض القرارات أو الشخصيات ليس خللاً، بل ظاهرة صحية تعبّر عن واقع جديد يسعى لبناء دولة على أساس القانون والمساءلة، لا دولة المخابرات والتهليل الأعمى.

في النهاية، فإن ما يروج له أيتام الأسد، من أوهام حول تفكك الصف أو نهاية المشروع الثوري، لا يعدو كونه محاولة يائسة للعودة إلى مشهد لفظهم منذ سنوات. الشعب السوري، بمختلف مكوناته الثورية والمدنية، يدرك أن النقد البناء ضرورة، وأن الكرامة لا تُساوم، وأن بناء سوريا الحرة لا يعني تكرار أخطاء الماضي، بل مواجهتها وتصحيحها.

اقرأ المزيد
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني

يُجسّد دور المدعين العامين في المجتمعات الديمقراطية الحديثة مفارقة تقع في صميم الحوكمة الدستورية وسيادة القانون. يتمتع هؤلاء المدعون بسلطة تقديرية واسعة في تحديد من يُحال إلى القضاء بتهم جنائية، إلا أنهم ملزمون في الوقت ذاته بالتوفيق بين متطلبات المساءلة السياسية والاستقلال المهني.

ويعكس هذا التوتر تحديات أعمق في النظرية الديمقراطية بشأن كيفية تنظيم مؤسسات تستجيب للإرادة العامة مع بقائها محصّنة ضد التدخلات السياسية. تُظهر الدراسات الحديثة أن استقلال الادعاء العام يُعزّز من مساءلة السلطة التنفيذية من خلال تمكين ملاحقة الموظفين العموميين في قضايا الفساد وسوء استخدام السلطة، بينما تضمن آليات المساءلة خضوع المدعين العامين أنفسهم للمحاسبة أمام المؤسسات الديمقراطية. ومع ذلك، لا يزال تحقيق التوازن المثالي بين هذين البُعدين من أكثر التحديات تعقيدًا التي تواجه أنظمة العدالة الجنائية عالميًا، حيث تختلف المقاربات بحسب التقاليد الدستورية والسياقات السياسية والتاريخ المؤسسي لكل دولة.

الإطار المفاهيمي: استقلال النيابة العامة والمساءلة
يشمل مفهوم استقلال النيابة العامة أبعادًا هيكلية ووظيفية تُميّزه عن استقلال السلطة القضائية، مع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة شبه القضائية للعمل الذي تقوم به النيابة. ويُقصد باستقلال النيابة العامة ألا يُتوقع من المدعين العامين أن تترتب على أدائهم المهني عواقب سلبية، مثل العزل أو النقل أو خفض الأجور. ويركّز هذا المفهوم على العلاقة بين المدعين العامين والسلطات الحكومية، لا سيما السلطة التنفيذية التي كثيرًا ما تمارس سلطتها الإدارية على أجهزة الادعاء.

ويتجلّى هذا الاستقلال في قدرة المدعين العامين على اتخاذ قراراتهم بحرية، دون تدخل أو تأثير من السلطة التنفيذية أو موظفين عموميين، خصوصًا في القضايا التي تطول هؤلاء الأشخاص، مثل الفساد، واستغلال السلطة، وانتهاكات حقوق الإنسان. ويمتد نطاق الاستقلال ليشمل المهام الأساسية للنيابة العامة، بما في ذلك قرار تحريك الدعوى، وإجراء التحقيقات، وتقرير الاستمرار في الملاحقة القضائية أو سحب التهم.

وفي المقابل، فإن المساءلة تشير إلى وجود آليات تكفل استخدام هذه السلطة التقديرية بشكل مسؤول، وفقًا للمعايير القانونية والمهنية. وتشمل المساءلة كلاً من الضوابط البيروقراطية الداخلية وآليات الرقابة الخارجية المصممة لمنع الانحرافات في ممارسة سلطة الادعاء، مع الحفاظ على ثقة الجمهور في عدالة النظام الجنائي.

ولا ينبغي فهم العلاقة بين الاستقلال والمساءلة على أنها تعارضية، بل تكاملية. إذ إن الاستقلال من دون مساءلة قد يؤدي إلى انحرافات في أداء النيابة العامة، ويُقوّض ثقة المواطنين في حيادها، في حين أن المساءلة من دون استقلال تُفضي إلى إمكانية التلاعب السياسي بالإجراءات الجنائية. ولهذا، يتعين على أنظمة الادعاء الفعّالة أن تُقيم ترتيبات مؤسسية تضمن تحصين المدعين العامين من التدخلات السياسية، مع بقائهم في الوقت ذاته خاضعين للمساءلة المهنية والديمقراطية بشأن سلوكهم وأدائهم الوظيفي.

يعكس التوتر القائم بين استقلال النيابة العامة والمساءلة السياسية إشكالية دستورية عميقة تتصل بمبدأ فصل السلطات وبُنى الحوكمة الديمقراطية.

الأنظمة الرئاسية والنماذج التنفيذية التشريعية
تميل الأنظمة الرئاسية عادةً إلى تركيز سلطة تعيين المدعين العامين في يد السلطة التنفيذية، مع إدماج آليات رقابة تشريعية لضمان المساءلة الديمقراطية. ففي الولايات المتحدة، يُجسّد النظام الفيدرالي هذا التوجه من خلال ما يُعرف ببند التعيينات، حيث يُرشّح الرئيس المدعي العام، إلا أن تعيينه لا يُستكمل إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ. وتخدم هذه الآلية التشاركية غرضين رئيسيين: ضمان إسناد المناصب العليا لأشخاص ذوي كفاءة، وتوفير رقابة ديمقراطية على قرارات التعيين التي تتخذها السلطة التنفيذية.

تشمل هذه العملية مراجعة دقيقة من خلال جلسات استماع تعقدها اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ، حيث يُقيّم الأعضاء مؤهلات المرشحين، وتوجهاتهم القانونية، ومواقفهم السياسية. ويُبرز هذا النموذج الأميركي كيفية تحقيق التوازن في الأنظمة الرئاسية بين كفاءة الأداء التنفيذي والضوابط المؤسسية.

ويشغل النائب العام في الولايات المتحدة موقعين حيويين في آنٍ واحد: وزير العدل، ورئيس أجهزة إنفاذ القانون، ما يُضفي على هذا المنصب وزنًا دستوريًا كبيرًا. وتُنتج هذه المسؤولية المزدوجة توترات مستمرة بين واجب المساءلة السياسية أمام السلطة التنفيذية، وضرورة الحفاظ على استقلال القرار داخل جهاز النيابة العامة. ويُظهر هذا الوضع التحدي الدائم في تأمين استقلال النيابة العامة ضمن بنى تخضع، بطبيعتها، للمساءلة السياسية.

الأنظمة البرلمانية وسلطة رئيس الوزراء
في المقابل، تنتهج الأنظمة البرلمانية مسارات مختلفة في تعيين المدعين العامين، تعكس طبيعة هياكلها الدستورية واندماج السلطتين التنفيذية والتشريعية. فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، تعتمد نظام التعيين التنفيذي المباشر، حيث يُعين رئيس الوزراء المدعي العام لإنجلترا وويلز دون الحاجة إلى تصويت أو مصادقة من البرلمان. ويُجسد هذا الإجراء مبدأً برلمانيًا راسخًا مفاده أن الحكومة، بعد نيلها ثقة البرلمان، تملك صلاحية تعيين كبار المسؤولين التنفيذيين.

غير أن هذا النموذج يطرح توترات واضحة بين الأدوار السياسية والقانونية للمدعي العام، الذي يُضطلع في آنٍ واحد بمهام وزير في الحكومة ومستشار قانوني أول لها. ويمكن أن يؤدي هذا التداخل إلى تضارب في المصالح، لا سيما حين يضطر المدعي العام لاتخاذ قرارات تمس زملاءه السياسيين أو تتعلق بسياسات الحكومة ذاتها.

ويعتمد النظام البريطاني إلى حدّ كبير على الأعراف الدستورية والمهنية القانونية، بدلاً من آليات رقابية مؤسسية صارمة، لضمان استقلال النيابة العامة. وتُبرز قضايا مثل رفع دعاوى ازدراء ضد شخصيات سياسية رفيعة التحديات المترتبة على هذا الترتيب، لا سيما ما يتعلق بإمكانية وجود تعارض فعلي أو مُتصوّر في المصالح، بما يُهدد مبدأ الحياد وتحقيق العدالة.

يشغل النائب العام في الولايات المتحدة موقعين حيويين في آنٍ واحد: وزير العدل، ورئيس أجهزة إنفاذ القانون، ما يُضفي على هذا المنصب وزنًا دستوريًا كبيرًا.

التوتر الأساسي: الاستقلال مقابل الرقابة السياسية
يعكس التوتر القائم بين استقلال النيابة العامة والمساءلة السياسية إشكالية دستورية عميقة تتصل بمبدأ فصل السلطات وبُنى الحوكمة الديمقراطية. ففي عدد كبير من الأنظمة القضائية، تعمل النيابات العامة ضمن إطار السلطة التنفيذية أو ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا، ما يُنتج تضاربًا بنيويًا بين وظيفتها في تطبيق القانون وضرورة تحصينها من النفوذ السياسي. ويبرز هذا التوتر بشكل خاص عندما تكون النيابة العامة معنية بالتحقيق مع مسؤولين حكوميين يمارسون سلطة إدارية مباشرة على عملها، أو حتى بملاحقتهم قضائيًا.

في هذا السياق، تُعد الضمانات الدستورية لاستقلال النيابة العامة أدوات حيوية للحماية من التدخلات السياسية في سير العدالة الجنائية. فعلى سبيل المثال، ينص القانون الأساسي في هونغ كونغ على أن وزارة العدل "تتولى إدارة الملاحقات الجنائية دون أي تدخل"، مما يُكرّس استقلال النيابة العامة كمبدأ دستوري وليس مجرد إجراء تنظيمي. وقد أكدت محكمة الاستئناف في هونغ كونغ على هذا الاستقلال باعتباره "ركيزة أساسية لسيادة القانون"، مشددة على أن اتخاذ قرارات الملاحقة أو إيقافها يجب أن يبقى ضمن صلاحيات الادعاء العام حصريًا، بمعزل عن الضغوط السياسية.

تُصبح الحاجة إلى حماية استقلال النيابة العامة أكثر إلحاحًا في القضايا ذات البعد السياسي الحساس أو التي تطول مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى. ففي مثل هذه القضايا، لا بد أن يستند المدعون العامون في قراراتهم إلى معايير الجدارة القانونية والأدلة المتاحة فقط، دون اعتبار للعواقب السياسية أو الضغوط الحكومية. ويضع هذا الدور المدعين العامين في موقع فريد ضمن الهياكل السياسية، حيث يُطلب منهم خدمة الصالح العام دون أن يخضعوا لأجندات السلطة التي تُحدد هذا الصالح عادةً.

ومع ذلك، فإن آليات المساءلة السياسية تظل جزءًا أساسيًا من النظام الديمقراطي، ولا يمكن فصلها كليًا عن عمل النيابة العامة. فالمدعون العامون يتصرفون بسلطة واسعة ويُشرفون على موارد عامة كبيرة، ما يفرض الحاجة إلى وجود رقابة ديمقراطية تضمن الاستخدام الرشيد والمسؤول لهذه السلطة. ويتمثل التحدي هنا في تصميم آليات مساءلة تُحافظ على استقلال النيابة العامة، مع ضمان خضوعها للمحاسبة، بما يُعزز ثقة الجمهور في المؤسسات العدلية.

نماذج تنظيم النيابة العامة والمساءلة
تبنّت الأنظمة القضائية حول العالم نماذج متنوعة لتحقيق توازن فعّال بين استقلال النيابة العامة والمساءلة، تعكس اختلافاتها في التقاليد الدستورية، والثقافات السياسية، والسياقات التاريخية. وتنقسم هذه النماذج عمومًا إلى فئتين رئيسيتين: نماذج المساءلة الانتخابية، ونماذج المساءلة البيروقراطية، مع اتجاه متزايد نحو المزج بين النموذجين.

يرتكز نموذج المساءلة الانتخابية، على مبدأ الرقابة الديمقراطية المباشرة، سواء من خلال انتخاب النواب العامين مباشرة من قبل المواطنين أو تعيينهم من قبل مسؤولين مُنتخبين. ويهدف هذا النموذج إلى ضمان استجابة النيابة العامة لأولويات الجمهور وقيمه، مع إتاحة ضوابط خارجية على سلطتها التقديرية من خلال دورات انتخابية منتظمة. ويؤكد أنصار هذا النموذج أن المساءلة الانتخابية تُبقي النواب العامين على تواصل مباشر مع المجتمع، في حين يرى معارضوه أنها قد تؤدي إلى تغليب اعتبارات شعبوية أو سياسية على قرارات الاتهام، بما يُقوّض استقلالية النيابة.

في المقابل، تعتمد غالبية الأنظمة الأوروبية، وغيرها من الدول، على نماذج مساءلة بيروقراطية داخلية. وتتصف هذه الأنظمة بوجود أجهزة ادعاء مركزية، ذات هياكل هرمية واضحة، وتعليمات مكتوبة تُنظّم قرارات الملاحقة، بالإضافة إلى آليات مراجعة دورية داخلية. ويلتحق المدعون العامون في هذه النماذج بجهاز بيروقراطي مهني، ويُنفذون السياسات من خلال رقابة داخلية منظمة، بدلًا من المساءلة العامة عبر صناديق الاقتراع.

يمنح النموذج البيروقراطي الأولوية للخبرة القانونية والانضباط المهني وتوحيد تطبيق المعايير القانونية، ويُوفّر حماية من الضغوط السياسية المباشرة. إلا أن هذا النموذج لا يخلو من الإشكاليات، إذ قد تُستغل السلطة الهرمية من قِبل جهات سياسية نافذة للتأثير على

السياسات المؤسسية أو قرارات كبار المسؤولين. وتُحدَّد فعالية هذا النموذج إلى حد كبير بمدى استقلال كبار مسؤولي النيابة وقوة أنظمة الحوكمة الداخلية.

وتشير الاتجاهات الراهنة إلى تقارب بين النموذجين، باعتماد أدوات بيروقراطية داخلية أكثر صرامة، إلى جانب تعزيز الرقابة العامة والشفافية. ويعكس هذا التقارب وعيًا متزايدًا بأن أيًا من النموذجين، منفردًا، لا يُقدّم حلاً كافيًا للتعقيدات المؤسسية المرتبطة بحوكمة النيابة العامة في السياقات الديمقراطية المعاصرة.

يتعين أن تُراعي إصلاحات النيابة العامة المستقبلية في سوريا التحديات المستجدة، مثل الاستقطاب السياسي، ونفوذ السلطة التنفيذية، والتطورات التكنولوجية، والقيود المالية، مع البناء على الخبرات الدولية الناجحة في مجالات الشفافية.

الأدلة التجريبية على الاستقلال والمساءلة الحكومية
تُبرز الأبحاث التجريبية الحديثة وجود أدلة قوية على أن استقلال النيابة العامة يُسهم بشكل كبير في تعزيز مساءلة الحكومة، من خلال زيادة احتمالية ملاحقة المسؤولين الحكوميين المتورطين في سلوكيات جنائية. وتُظهر بيانات مشروع العدالة العالمي وجود ارتباط إيجابي وثيق بين استقلالية النيابة العامة ونجاحها في مقاضاة المسؤولين الفاسدين، حيث بلغ معامل الارتباط بين الاستقلال والمساءلة 0.893، مما يُشير إلى علاقة متينة بين العاملين.

ويُبيّن التحليل أن هذا الاستقلال يُؤثر على وجه التحديد في قدرة المدعين العامين على التعامل مع مختلف فئات الموظفين العموميين، ويُعزّز استعدادهم لمتابعة القضايا ضد شخصيات مرتبطة سياسيًا، قد تكون بمنأى عن الملاحقة القضائية في ظروف أخرى. وتدعم هذه النتائج الطرح النظري الذي يرى في استقلال النيابة العامة آلية حيوية لضمان خضوع الجميع للقانون، دون استثناء بسبب المنصب أو النفوذ.

مع ذلك، تكشف البيانات أن استقلال النيابة العامة لا يكون فعّالًا إلا إذا اقترن بمستوى كافٍ من المساءلة. فالمدعون العامون الذين يتمتعون باستقلال مطلق دون رقابة مناسبة قد يصبحون عرضة للفساد أو الممارسات غير المهنية، ما يُقوّض قدرتهم على محاسبة المسؤولين الحكوميين على نحو فعال. وتُبرز هذه النتيجة الحاجة الماسة إلى بناء ترتيبات مؤسسية تُوازن بين الاستقلال والرقابة، لضمان نزاهة جهاز النيابة وتعزيز ثقته أمام المجتمع.

وتحمل هذه النتائج دلالات مهمة لصانعي السياسات في مجالات إصلاح المؤسسات والعدالة الجنائية. فهي تُظهر أن تعزيز استقلال النيابة العامة يُمكن أن يُحقق مكاسب كبيرة على صعيد مساءلة الدولة وسيادة القانون، لكن هذه المكاسب تبقى رهينة بتوافر آليات مساءلة مؤسسية فعّالة تضمن النزاهة وتُعزز ثقة المواطنين.

ويتعين أن تُراعي إصلاحات النيابة العامة المستقبلية في سوريا التحديات المستجدة، مثل الاستقطاب السياسي، ونفوذ السلطة التنفيذية، والتطورات التكنولوجية، والقيود المالية، مع البناء على الخبرات الدولية الناجحة في مجالات الشفافية، والمجالس المهنية، وبرامج التدريب والتطوير المؤسسي، وتوازن السلطات، وسيادة القانون في العالم المعاصر.
 

اقرأ المزيد
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية

شكَّل سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 نقطة تحوُّل جيوسياسية محورية في الشرق الأوسط، حيث أنهى هذا التحول المفاجئ، الذي لم تتوقعه القوى الإقليمية والدولية، عقودًا من الحكم الأوتوقراطي والثبات السياسي النسبي الذي اتسم به النظام السوري منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.

وفَّر هذا التحول غير المتوقع لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية. فقد تبنّت إسرائيل موقفًا عدائيًا واضحًا، متجاهلةً محاولات أحمد الشرع للانفتاح و"الاعتدال السياسي"، حيث وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس حكومة الشرع بأنَّها "تهديد وجودي"، مركِّزين على خلفيته الجهادية، ورافضين الاعتراف بتخليه عن أيديولوجيته السابقة. بل ذهبت إسرائيل إلى حدّ اعتبار حكومته متوافقة أيديولوجيًا مع حركة حماس، في مسعى واضح لتبرير خطط توسعية معدة مسبقًا.

وفي أخطر تصعيد عسكري/سياسي، فجر يوم الجمعة الموافق 2 أيار/مايو 2025، شنَّت طائرات حربية تابعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي غارة جوية استهدفت موقعًا قريبًا من القصر الرئاسي في دمشق. وعقب الهجوم، صدر بيان مشترك عن نتنياهو وكاتس، اعتبرا فيه الغارة رسالة مباشرة إلى النظام السوري، مؤكدَين رفضهما القاطع لما وصفاه بـ "تهديد الطائفة الدرزية أو إرسال قوات إلى الجنوب".

احتلال إسرائيلي دائم لأراضٍ سورية
اتجهت أنظار إسرائيل، مباشرة بعد انهيار نظام الأسد، إلى السيطرة على المنطقة العازلة التي تراقبها الأمم المتحدة. ففي 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت القوات الإسرائيلية إلى احتلال أجزاء واسعة من المنطقة المنزوعة السلاح، التي تمتد بطول يقارب 75 كيلومترًا، ويتراوح عرضها بين 10 كيلومترات في الوسط و200 متر في أقصى الجنوب. وعلى مدار خمسة عقود، شكلت هذه المنطقة حاجزًا أمنيًا محوريًا تحت إشراف قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)، مما أسهم في الحفاظ على درجة من الاستقرار الحدودي، رغم غياب معاهدة سلام رسمية بين الطرفين.

وفّر سقوط نظام الأسد لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية، وفي خطوة مدروسة تعكس تحوّلًا استراتيجيًا، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ اتفاقية فك الاشتباك لم تعد سارية، معتبرًا أنَّ الترتيبات السابقة فقدت صلاحيتها في ضوء الواقع الجديد. رافق الاحتلال الإسرائيلي عمليات تضييق كبير على مهام قوة الأمم المتحدة، حيث انخفض عدد دورياتها اليومية من 55 – 60 مهمة إلى 3 – 5 فقط. كما كشفت تقارير ميدانية عن قيام القوات الإسرائيلية بإنشاء منشآت عسكرية جديدة ووضع رموز سيادية داخل المنطقة العازلة، في انتهاك مباشر للصلاحيات الممنوحة للبعثة الأممية.

فإلى جانب السيطرة على المنطقة العازلة، عمدت إسرائيل إلى توسيع رقعة نفوذها الإقليمي لتشمل: كامل مرتفعات الجولان، التي تبلغ مساحتها نحو 1200 كيلومتر مربع، حيث عززت إسرائيل وجودها فيها رغم احتلالها المستمر منذ عام 1967، ومناطق إضافية تتجاوز مساحتها 500 كيلومتر مربع في جنوب غرب سوريا، مما يشكل توغلًا غير مسبوق داخل العمق السوري.

كما كشفت التحركات الإسرائيلية على الأرض عن نية واضحة لترسيخ الوجود العسكري طويل الأمد في المناطق السورية المحتلة حديثًا. فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية قيام إسرائيل بإنشاء عدة قواعد عسكرية جديدة، وأكّدت تقارير إذاعة الجيش الإسرائيلي أنَّ تسع قواعد أُقيمت منذ كانون الأول/ديسمبر 2024، توزعت على النحو التالي:

ويُلاحظ أنَّ هذه القواعد لا تقتصر على البنية العسكرية، بل تتضمن أيضًا منشآت سكنية وكنيسًا يهوديًا، في مؤشر على وجود خطة منهجية تهدف إلى فرض واقع ديموغرافي وسياسي جديد في المناطق المحتلة. كما تجري أعمال بناء طرق في تلك المناطق، ما يُفسَّر كجزء من جهود دعم العمليات العسكرية وتعزيز السيطرة طويلة الأمد.

تنسيق مع بعض مشايخ الطائفة الدرزية
في أعقاب سقوط نظام الأسد، كثَّفت إسرائيل مساعيها للتواصل مع بعض الشخصيات البارزة في الطائفة الدرزية داخل سوريا، متبنية خطابًا يُظهِرها كمدافع عن الأقليات في مواجهة ما وصفته بالتهديدات المحتملة من الحكومة السورية الجديدة ذات التوجه الإسلامي. وفي هذا السياق، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليمات مباشرة للجيش الإسرائيلي بضرورة توفير الحماية للتجمعات السكانية الدرزية، مترافقة مع تحذيرات واضحة بأنَّ إسرائيل ستقوم باستهداف القوات السورية في حال اقترابها من قرى محددة، كبلدة جرمانا.

تباين المواقف داخل المجتمع الدرزي
اعتمد الدروز السوريون تاريخيًا مقاربات سياسية متفاوتة، تأقلمت مع تحولات ميزان القوى، وقد تجلى هذا النمط في تباين المواقف تجاه التدخل الإسرائيلي بعد سقوط الأسد. تراوحت المواقف بين انخراط محدود وتعاون حذر من جهة، ورفض قاطع من جهة أخرى:
الانخراط الحذر: رحبت بعض الفئات داخل المجتمع الدرزي بالحماية الإسرائيلية، التي أُطلق عليها محليًا وصف "القبة الحديدية الدرزية". وقد أبدت بعض القيادات الدرزية استعدادًا لتنسيق أمني محدود مع إسرائيل، وأُنشئت تشكيلات عسكرية محلية سعت إلى الحصول على ضمانات أمنية من الجانب الإسرائيلي.

الرفض الشعبي والسياسي: في المقابل، عبّرت شرائح واسعة من الدروز عن رفضها القاطع لأي تدخل إسرائيلي. شهدت محافظة السويداء مظاهرات رفعت لافتات تؤكد على وحدة الأراضي السورية ورفض الوصاية الأجنبية. وفي آذار/مارس 2025، خرجت احتجاجات واسعة في بلدة جرمانا استنكارًا لتصريحات نتنياهو بشأن "حماية" الدروز، وردد المحتجون شعارات مثل: "نحن سوريون ولا نحتاج حماية أجنبية" و"وحدة سوريا خط أحمر"، مؤكدين تمسكهم بالسيادة الوطنية ورفضهم أي تدخل خارجي.

تداعيات التدخل الإسرائيلي على السيادة السورية والاستقرار الإقليمي
يشكل الاحتلال الإسرائيلي خرقًا واضحًا للمبادئ الجوهرية في القانون الدولي، وعلى رأسها مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، وأُعيد تأكيده في قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967. ومن خلال تجاهلها لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، التي نظمت الوضع في المنطقة العازلة طيلة خمسة عقود، فإنَّ إسرائيل تُقوِّض الأطر القانونية التي تحكم العلاقات الدولية، وتفتح المجال أمام سابقة خطيرة.

ويؤكد إنشاء قواعد عسكرية وبنية تحتية دائمة في الأراضي السورية المحتلة عزم إسرائيل على ترسيخ احتلال طويل الأمد. ومن شأن هذا التوسع أن يُخضع أجزاء واسعة من جنوب سوريا للهيمنة الأمنية الإسرائيلية، في تكرارٍ لنموذج الاحتلال الذي مارسته في جنوب لبنان بين عامي 1982 و2000.

كما أدت هذه الحملة العسكرية إلى إضعاف كبير في القدرات الدفاعية السورية. وتشير التقارير إلى أنَّ ما بين 70 % إلى 80 % من الأصول العسكرية الاستراتيجية لسوريا قد دُمّرت، بما يشمل أنظمة الدفاع الجوي والقدرات الصاروخية والبنية التحتية العسكرية التقليدية. وهو ما ينعكس سلبًا على قدرة الحكومة السورية في الدفاع عن أراضيها أو بسط سيادتها، خصوصًا في المناطق التي تشهد نزاعات مع فصائل مدعومة من أطراف خارجية.

ويشكّل التنسيق الإسرائيلي مع الطائفة الدرزية وقوات سوريا الديمقراطية، في أعقاب سقوط نظام الأسد، تحديًا مباشرًا لسلطة الدولة السورية. فمن خلال تقديم نفسها كجهة حامية للدروز، وإنشاء قنوات اتصال وتنسيق أمني مباشر معهم، تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم التوازنات الداخلية في سوريا بما يتجاوز حدود المواجهة العسكرية التقليدية. ويُتيح هذا التنسيق لإسرائيل بناء هياكل سلطة موازية تُضعف المركزية الحكومية، وتُهدد وحدة الدولة الوطنية.

تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الحياة اليومية
تُظهر شهادات سكان القرى السورية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي آثارًا مدمرة على نمط حياتهم اليومي. ففي بلدات مثل جملة وعابدين، أفاد الأهالي بأنَّ دوريات إسرائيلية قامت بإحراق مركبات عسكرية، وتنفيذ عمليات تفتيش، مع فرض مطالبات بنزع السلاح وتسجيل أسماء القيادات المحلية. كما أبلغ السكان عن حالات مصادرة مواشٍ، واحتجاز مدنيين، وفرض قيود صارمة على النشاط الزراعي، خاصة في المناطق القريبة من مواقع قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، مما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني في المنطقة.

وقد أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية، والاستحواذ القسري على الأراضي، عن موجة نزوح جديدة طالت آلاف السوريين من المناطق المتأثرة، ليلتحقوا بملايين النازحين داخليًا نتيجة الصراع الممتد منذ عام 2011. ويُشكّل هذا التهجير المستمر عبئًا إضافيًا على الموارد الإنسانية والخدمات العامة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، مما يزيد من تعقيدات جهود الإغاثة وإعادة التوطين.

مسؤولية الحكومة السورية: تشاركية سياسية كضرورة وطنية وحراك دبلوماسي وقانوني موسع
تتحمّل الحكومة السورية الجديدة مسؤولية وطنية عاجلة لتعزيز التشاركية السياسية مع الطائفة الدرزية، من خلال تبني رؤية متكاملة تضمن تمثيلهم الفاعل في مختلف مستويات صنع القرار، ابتداءً من المجالس المحلية ووصولًا إلى المناصب العليا في الدولة. كما يتطلب الأمر منحهم دورًا ملموسًا في مسارات العدالة الانتقالية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية وحمايتها.

ويجب تخصيص موارد تنموية كافية للمناطق ذات الأغلبية الدرزية، والتي عانت من التهميش والإهمال لسنوات طويلة، إلى جانب إشراك أبناء الطائفة في صياغة ميثاق وطني جديد يكفل حقوق جميع المكونات السورية على أساس المساواة والمواطنة. من شأن هذا النهج التشاركي أن يعزز من شرعية الحكومة الانتقالية داخليًا، ويقطع الطريق أمام محاولات إسرائيل استمالة بعض الفئات الدرزية وتوظيفها كأداة لتمزيق النسيج الوطني السوري. كما يُسهم في إفشال سياسة "فرّق تسد" التي تسعى إسرائيل إلى ترسيخها كأداة استراتيجية لإضعاف الدولة السورية وتقويض سيادتها.

حراك دبلوماسي واسع
تواجه الحكومة السورية الانتقالية ضرورة حتمية للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عبر تبني حراك دبلوماسي نشط ومتعدد المستويات. ويتطلب ذلك المبادرة الفورية بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي عقب الهجوم الإسرائيلي على القصر الرئاسي، مدعومة بملف قانوني متكامل يوثق سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية ومبادئ القانون الدولي. بالتوازي، يجب على سوريا طلب عقد اجتماع عاجل لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري لاستصدار موقف عربي موحد يدين العدوان ويدعم الحقوق السورية المشروعة.

كما أنَّ التحرك الدبلوماسي النشط تجاه الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا الدول ذات المواقف المستقلة نسبيًا، يشكل أولوية لاستصدار إدانة أوروبية للعدوان الإسرائيلي تتخطى بيانات القلق المعتادة. ويجب أن يترافق هذا مع حملة إعلامية منظمة تستند إلى التوثيق الدقيق للانتهاكات الإسرائيلية، وتفعيل التحالفات مع القوى الدولية المناهضة للاحتلال، واللجوء إلى المنظمات الأممية المتخصصة كمحكمة العدل الدولية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بهدف تعزيز الشرعية السورية وكشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي، وحشد الدعم الدولي لحماية السيادة السورية ووحدة أراضيها.

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف

عقب انهيار نظام المجرم بشار الأسد، كان الجزء الأكبر من السوريين يحلمون في وطن واحد موحد، تندمج فيه كل الرايات وتتحد تحت سقف الوطن، لكن الواقع كان مؤلماً بعد تكشف بعض التوجهات التي كانت تنتظر الفرصة للخروج بمشروعها الانفصالي أو الطائفي أو حتى المطالب بالاحتلال.


لم تتوحد سوريا على حلم مشترك، بل تجزأت كل فئة في رؤية مختلفة لمستقبلها. في الساحل، حيث قيل إن أهل المنطقة كانوا مترابطين، ظهر انقسام واضح. البعض طالب بالعفو عن أبنائه الذين شاركوا في آلة القمع، بينما تحركت جماعات منهم هناك لتنظيم انقلاب للفلول، غدرت بعشرات من عناصر الأمن الذين حاولوا حماية المواقع الحيوية، مما زاد الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.

في الجغرافيا السياسية الجديدة، رفع البعض مطالب غير تقليدية، كان أبرزها صوت قوي من قوى “قسد” التي طالبت بالحكم الذاتي، مركزة على بناء إدارة مستقلة تعترف بالهوية والثقافة واللغة، بعيداً عن هيمنة المركز. 


وفي مناطق أخرى، طفت مطالب غريبة على السطح، حيث سمع العالم عن جماعات كانت كل همها أن تحظى بحرية اللباس والرقص والسهر في الكازينوهات، وخشيت أن تُحرم من الخمور، في تناقض صارخ مع أوجاع الناس الحقيقية، وفي بقعة أخرى خرج البعض يطالب بالاحتلال والحماية الدولية بزعم الأقلية.

أما على الجانب الآخر من المشهد، كانت هناك أمهات ونساء فقدن آخر أمل في العثور على أبنائهن بعد فتح السجون. أمهات يشهقن وجعًا أمام المعتقلات، يطرُقْنَ الأبواب التي لا تُفتح، ويُناديْنَ أسماءً ابتلعتها الزنازين يحدقون في كل زاوية، يصرخن بأسماء لم يعد هناك من يجيب. عيون متعبة، رموشها ذابت من كثرة البكاء، لم تعد تقوى على قراءة جداول المعتقلين المتوفيين التي رُفعت للعلن، يبحثن عن أي اسم يشير إلى فلذة كبدها.

كان الأهالي يقفون في طوابير أمام دوائر الأحوال المدنية، يعيدون قراءة قوائم الموتى مرة تلو الأخرى، يمسكون بأوراقهم المرتجفة، يبحثون عن ذرة أمل تمسّك بها خيط الحقيقة، بينما في داخلهم تنهار كل محاولة للثبات.

حين تم الإعلان عن فتح السجون وتكشف وفاة آلاف المختفين قسرياً، انطلقت حملات نعي غير مسبوقة على وسائل التواصل الاجتماعي، حملات لم تكن مجرد كلمات حزينة، بل كانت صيحات وجع بلسان آلاف العائلات. صور شهداء مجهولة الهوية مع تواريخ اعتقالهم وتاريخ الوفاة التي لم تُر، تُنشر بلا توقف، كل صورة تحكي قصة تعذيب، وفاة تحت التعذيب، اختفاء بلا أثر.

على أرض الواقع، عاد الكثير من الأهالي إلى قراهم التي وجدوها مدمرة بالكامل، بيوت محطمة، شوارع غير صالحة للسير، وفي كل زاوية ذخائر غير منفجرة تنتظر زائراً أو ضحية جديدة. بين الأنقاض، حاول الأهالي إعادة بناء ما تهدم، ولكن جراح الحرب لا تُشفى بسهولة.

ومن بين هؤلاء، كان كثير من أهالي المعتقلين يقطنون في خيم مؤقتة على أطراف القرى، يتنقلون بين عتمة الخوف وأمل اللقاء، يتعرضون للسمسرة والابتزاز من قبل بعض من يستغلون محنتهم، مقابل وعد واهٍ بوصول معلومة عن أبنائهم المفقودين.

وفقًا لتقارير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، تجاوز عدد المختفين قسرياً في سوريا خلال سنوات الحرب تجاوز 112 ألفا. وفي وقت كان فيه البعض يصارع ليضمن مكاسبه السياسية والاجتماعية، كانت عائلات الضحايا تعيش في جحيم بحث دائم عن الحقيقة، تفتش في المقابر الجماعية، وتجرّب الحمض النووي، وتأمل أن تلتقط خبراً يريح قلوبها.

هكذا، تكشفت سوريا بعد سقوط الطاغية، وطنٌ لم يُفكك فقط بأنواع الطوائف أو الجماعات، بل بجرح عميق بين من يطالبون بالمكاسب ومن يطالبون بالدفن.

 

اقرأ المزيد
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية

تطرق "فضل عبد الغني" مؤسس ومدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، في مقالين نشرا على موقع "الجزيرة نت" إلى رؤية "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، للعدالة الانتقالية في سوريا، تتميز هذه الرؤية التي صدرت عن الشبكة، بكونها نهجًا شاملًا يسعى لمعالجة جذور المشكلات التي عانت منها سوريا عبر عقود، وتحقيق تحوّل نوعي في بنية الدولة السورية ومؤسساتها.

أوضح "عبد الغني" أن يوم الأحد، 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، شهد منعطفًا تاريخيًا في المشهد السوري مع إعلان سقوط نظام بشار الأسد، وسيطرة إدارة العمليات العسكرية، متبوعًا بتعيين حكومة تسيير أعمال مؤقتة، هذا التحول جاء بعد أربعة عشر عامًا من النزاع المسلح الدموي الذي بدأ مع انطلاق الحراك الشعبي السلمي في مارس/ آذار 2011، عندما خرج السوريون مطالبين بالحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية تقوم على انتخابات حرة ونزيهة.

وبين أنه مع نهاية حقبة حكم آل الأسد التي امتدت لأكثر من نصف قرن، تواجه سوريا تحديات هائلة تتطلب إرساء أسس جديدة للعدالة والسلم الأهلي. وفي هذا السياق، تبرز العدالة الانتقالية كنهج أساسي للانتقال من مرحلة النزاع إلى مرحلة الاستقرار وبناء الدولة.

لعبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان دورًا محوريًا في توثيق الانتهاكات بشكل يومي منذ عام 2011. فقد عملت على بناء قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الحوادث، وأصدرت أكثر من 1800 تقرير وبيان، تضمنت تقارير يومية وشهرية تغطي سنوات النزاع. وقد شكلت هذه التوثيقات أساسًا متينًا يمكن الاستناد إليه في أي مسار للعدالة الانتقالية في سوريا.

وفقًا لتوثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن النزاع السوري خلّف حصيلة مروعة من الانتهاكات، تشمل:

مقتل ما لا يقل عن 234 ألف مدني، بينهم 202 ألف قتلوا على يد قوات نظام الأسد.
توثيق 181 ألف حالة اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، بينهم 160 ألف مختفٍ قسريًا على يد النظام، بينهم 3.736 طفلًا و8.014 سيدة.
وفاة ما لا يقل عن 45.336 شخصًا تحت التعذيب، بينهم 45.031 شخصًا على يد قوات النظام.
استخدام أسلحة مدمرة على نطاق واسع، بما في ذلك إلقاء 81.916 برميلًا متفجرًا، وتنفيذ 217 هجومًا بأسلحة كيميائية، و252 هجومًا بذخائر عنقودية، و51 هجومًا بأسلحة حارقة.

نزوح وتشريد نحو 13.8 مليون سوري، بينهم 6.8 ملايين نازح داخليًا وقرابة 7 ملايين لاجئ خارج البلاد.

هذه الإحصاءات المروعة تعكس حجم المأساة السورية وتبرز الحاجة الملحة لتبنّي مسار شامل للعدالة الانتقالية يعالج هذا الإرث الثقيل من الانتهاكات، ويضمن عدم تكرارها، ويمهد الطريق نحو بناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.

وهذا ما تحاول رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية في سوريا تقديمه. تتميز هذه الرؤية التي صدرت قبل أيام، بكونها نهجًا شاملًا يسعى لمعالجة جذور المشكلات التي عانت منها سوريا عبر عقود، وتحقيق تحوّل نوعي في بنية الدولة السورية ومؤسساتها.

تقترح الشبكة في رؤيتها إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية تشكل المحور الرئيسي لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية، وتتسم بالاستقلالية والشمولية والشفافية.
كما تؤكد الرؤية على ضرورة تطبيق الأركان الأربعة للعدالة الانتقالية بشكل متزامن ومتكامل، بحيث تتضافر جهود المحاسبة الجنائية مع مساعي كشف الحقيقة وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات.

وتولي الرؤية اهتمامًا خاصًا بالمشاركة المجتمعية الواسعة في مسار العدالة الانتقالية، مع التركيز على دور الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، وأهمية التعاون الدولي كداعم أساسي للعملية، مع الحفاظ على الملكية الوطنية للمسار بأكمله.

في هذا المقال قام "فضل عبد الغني" برصد عدد من هذه الجوانب التي غطتها الرؤية
1- الإطار المفاهيمي للعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية في الحالة السورية هي مجموعة من الآليات القانونية وغير القانونية التي تهدف إلى معالجة الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان التي حدثت أثناء النزاع، وخاصة تلك التي ارتكبها نظام الأسد، من أجل تحقيق العدالة للضحايا، ومحاسبة المسؤولين، وتعزيز المسار نحو سلام دائم يستند إلى القانون وحقوق الإنسان.

ترتكز العدالة الانتقالية في سوريا على أربعة أركان أساسية متكاملة: أولها؛ المحاسبة الجنائية، التي تشكل حجر الزاوية لتكريس سيادة القانون وتقويض سياسة الإفلات من العقاب، مع التركيز على محاسبة القيادات العليا المتورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

ثانيها؛ الحقيقة والمصالحة، التي تهدف إلى توثيق الانتهاكات، وتحديد مصير المفقودين والمختفين قسريًا (الذين يتجاوز عددهم 160 ألف شخص)، وتعزيز المصالحة المجتمعية.

ثالثها؛ جبر الضرر والتعويض، الذي يشمل التعويض المادي للضحايا وذويهم، وبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى.

رابعها؛ إصلاح المؤسسات، خاصة القضائية والأمنية والعسكرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات واستعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.

تُعد العدالة الانتقالية ركيزة أساسية لنجاح الانتقال السياسي في سوريا، إذ لا يمكن تحقيق استقرار مستدام دون التصدي للانتهاكات السابقة وضمان عدم تكرارها. فهي تهيئ الأرضية لنظام سياسي قائم على سيادة القانون والمساءلة، مما يعزز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، ويفتح المجال لمرحلة جديدة قائمة على التعددية والديمقراطية.

كما أنها تسهم في معالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتفكيك منظومات القمع والاستبداد التي سادت لعقود، مما يمنع انزلاق البلاد نحو دورات جديدة من العنف.

2- إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية
يقوم الإطار الدستوري والقانوني لهذه الهيئة على ركائز محددة، حيث يتولى المجلس التشريعي المُشكل بعد صدور الإعلان الدستوري مسؤولية وضع قانون تأسيسي ينظم مسار العدالة الانتقالية.

يستند هذا القانون إلى القوانين الوطنية والدولية، ويتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويتضمن فصولًا رئيسة تشمل التعريفات والمبادئ العامة، وهيكلية الهيئة، وآليات العدالة الانتقالية، وإصلاح المؤسسات.

تتألف هيكلية الهيئة من مجلس إدارة يضم خبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني والضحايا، وأمانة عامة تعمل كجهاز تنفيذي، تشمل فرقًا إدارية وقانونية، ومالية، وإعلامية، وتقنية.

كما تضم الهيئة مكاتب محلية في كافة المحافظات السورية، وقسمًا للعلاقات الدولية يتولى التنسيق مع الجهات الدولية، وقسمًا للمراقبة والتقييم.

وتتمتع الهيئة بصلاحيات واسعة تشمل استدعاء الشهود، وجمع الأدلة، والاطّلاع على الوثائق الرسمية والخاصة، والتحقيق في الانتهاكات، والطلب من القضاء إصدار أوامر توقيف، مع إلزام جميع الكيانات الحكومية بالتعاون معها.

لضمان استقلالية الهيئة، ينصّ القانون التأسيسي بوضوح على استقلالها الكامل عن السلطة التنفيذية، حمايةً لها من التدخل السياسي. كما تُخصص للهيئة ميزانية مستقلة تُقرّ من قبل السلطة التشريعية، بما يضمن عدم تبعيتها ماليًا للسلطة التنفيذية.

وعلى الرغم من استقلالها عن وزارة العدل، تعمل الهيئة في ظل النظام القضائي السوري، متولية مهام الكشف عن الحقيقة وتوثيق الانتهاكات وتعويض الضحايا، والمساهمة مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة.

فيما يتعلق بمعايير اختيار أعضاء الهيئة، تُعتمد الكفاءة والنزاهة أساسًا، حيث يجب أن يمتلك الأعضاء خبرة واسعة في مجالات حقوق الإنسان أو القانون، مع سجل نظيف من أي تورط في الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان.

كما يراعى التنوع والتمثيل، بحيث تعكس الهيئة تنوّع المجتمع السوري من حيث الجنس والعرق والدين والخلفية الجغرافية، مع ضرورة استقلال الأعضاء عن الأحزاب السياسية والفصائل المختلفة.

أما آلية التعيين، فتبدأ بتشكيل لجنة توصية تضم خبراء مستقلين وممثلين عن القضاء والمجتمع المدني والضحايا، لترشيح الأسماء المقترحة، ثم انتخاب عشرة منهم لتشكيل مجلس إدارة الهيئة، الذي يتولى بدوره تعيين واختيار فريق العمل وفق معايير الكفاءة والخبرة، مع مراعاة تمثيل الجهات المعنية بالعدالة الانتقالية وعلى رأسها الضحايا.

3- المحاسبة الجنائية
تشكل المحاسبة الجنائية حجر الزاوية في عملية العدالة الانتقالية، إذ تلعب دورًا محوريًا في تكريس سيادة القانون، وتقويض سياسة الإفلات من العقاب التي سادت خلال حكم الأسد.

وقد حدّدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نهجًا واضحًا لتحديد الأولويات في المحاسبة، يركّز على القيادات العليا من الصفَّين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن، باعتبارهم المسؤولين الرئيسين عن وضع خطط الانتهاكات والإشراف على تنفيذها.

ويمثل هذا النهج إستراتيجية واقعية للتعامل مع التحديات اللوجيستية والمالية التي تواجه عملية المحاسبة الشاملة، مع ضمان فتح المجال أمام الضحايا لرفع دعاوى قضائية ضد المسؤولين المباشرين عن معاناتهم، بغض النظر عن رتبهم أو مناصبهم.

يتطلب تحقيق المحاسبة الجنائية إطارًا قانونيًا خاصًا، نظرًا لعدم توافق القوانين المحلية السابقة مع المعايير الدولية، وافتقارها إلى أحكام واضحة لمعالجة الجرائم الكبرى.

لذا، تقترح الرؤية إنشاء لجان قانونية مختصة مؤلفة من خبراء محليين ودوليين لصياغة قوانين جنائية جديدة، تشمل تعديلات جوهرية مثل: إدراج تعريفات واضحة للجرائم الدولية كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلغاء القوانين التي توفر الحصانة للمسؤولين، تطوير تشريعات تتيح محاكمة الجرائم بأثر رجعي، وضع قوانين تحدد صلاحيات المحاكم المكلفة بالنظر في الانتهاكات الجسيمة، وضمان الحماية القانونية للضحايا والشهود.

كما تدعو الرؤية إلى التصديق على نظام روما الأساسي أو قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(3)، بما يسمح للمحكمة بالتحقيق في الجرائم المرتكبة منذ مارس/ آذار 2011.

تلعب لجان تقصي الحقائق دورًا محوريًا في جمع الأدلة الجنائية اللازمة للمحاسبة، من خلال الوصول إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية لجمع الملفات والوثائق التي تكشف عن هويات المعتقلين والمختفين قسريًا وضحايا التعذيب.

تشمل هذه المؤسسات الأفرع الأمنية والسجون، دوائر السجل المدني، المشافي العسكرية والمدنية، المحاكم والدوائر القضائية، ومراكز رعاية الأيتام، كما تقوم اللجان بتحليل البيانات، وإجراء تحقيقات ميدانية، وإعداد تقارير مفصلة تتضمن نتائج التحقيقات وتحديد المسؤولين المحتملين عن الانتهاكات، مع تقديم توصيات للإصلاح والمساءلة.

وتعتمد هذه اللجان على مبادئ الاستقلال والنزاهة والتعاون مع منظمات المجتمع المدني والشفافية والمشاركة العامة، مع الاستفادة من خبرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي وثّقت الانتهاكات.

نظرًا لفقدان القضاء السوري استقلاليته ومحدودية موارده، تقترح الرؤية تشكيل محاكم خاصة مختلطة متخصصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تتميز هذه المحاكم بكونها هيئات قضائية مؤقتة، تجمع بين العناصر الوطنية والدولية، مما يوازن بين الملكية المحلية والمعايير الدولية. يتم إنشاؤها على الأراضي السورية بواسطة النظام القضائي المحلي بالتعاون مع خبراء دوليين، وتتكون من قضاة ومحامين سوريين موثوقين وخبراء دوليين.

تعمل هذه المحاكم بشكل مستقل تمامًا عن السلطة التنفيذية، وتخضع للرقابة المدنية من قبل منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، مع العمل ضمن إطار قانوني محلي يحترم المعايير الدولية.

لملاحقة المسؤولين الفارين خارج البلاد، تقدم الرؤية مجموعة من الآليات الدولية، منها: طلب التعاون الدولي استنادًا إلى معاهدات دولية كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أو اتفاقيات تسليم المجرمين، الاستفادة من مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي تعتمده بعض الدول ويسمح لها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية حتى إذا ارتُكبت خارج أراضيها، واستخدام الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين.

تواجه هذه الآليات تحديات متعددة، أبرزها احتمالية فرار المتهمين إلى دول ترفض تسليمهم، وغياب الالتزام القانوني للدول بالتسليم في حال عدم وجود اتفاقيات، وبطء الإجراءات الدولية.

لمواجهة هذه التحديات، توصي الرؤية بتعزيز الضغوط الدولية، التفاوض على اتفاقيات ثنائية جديدة للتسليم، ممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية على الدول المؤوية للمتهمين، وتقديم أدلة قوية تدينهم أمام المحاكم الدولية.

4- الحقيقة والمصالحة
يمثل كشف الحقيقة ركنًا أساسيًا في مسار العدالة الانتقالية، كونه يساهم في معالجة إرث الانتهاكات وبناء الثقة المجتمعية، مما يمهّد الطريق نحو المصالحة الوطنية.

توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها يكتسب أهمية بارزة في السياق السوري لعدة أسباب، أبرزها: الكشف عن حقيقة الانتهاكات وآثارها المجتمعية، تحديد المسؤولين سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، رأب الصدوع المجتمعية، وبناء ذاكرة وطنية جامعة.

تتطلب هذه العملية جمع شهادات من جميع الأطراف، بمن في ذلك المتورطون في الانتهاكات، مما يساعد في فهم البنية التنظيمية للانتهاكات وبناء السرد التاريخي وتخفيف الضغط عن النظام القضائي، إضافة إلى دعم المصالحة والشفاء المجتمعي.

ولمواجهة التحديات في هذا المسار، تقترح الرؤية تطبيق نظام العفو المشروط للأفراد الذين يعترفون بمسؤوليتهم ويقدمون معلومات قيمة، وإتاحة خيارات السرية للشهادات، وتنظيم جلسات استماع عامة خاضعة لضوابط، واعتماد نهج يركز على الضحايا.

بعد سقوط النظام السابق وفتح مراكز الاحتجاز، تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن أكثر من 160.123 شخصًا لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد النظام السابق، إضافة إلى ما لا يقل عن  16.898 مختفيًا قسريًا على يد بقية أطراف النزاع.

يشكل الكشف عن مصير هؤلاء المفقودين ركيزة أساسية في مسار الحقيقة، ويستلزم تشكيل لجان متخصصة تضم خبراء في التحقيقات الجنائية، الطب الشرعي، علماء الجينات والأنثروبولوجيا، إضافة إلى ممثلين عن المنظمات الدولية المختصة مثل المؤسسة المستقلة للمفقودين (IIMP) واللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP).

تعمل هذه اللجان بالتعاون مع السلطات الوطنية، المنظمات الحقوقية، الهيئات القضائية، وروابط الضحايا وذوي المختفين قسريًا، مما يضمن شمولية العملية وفاعليتها.

تشكل المقابر الجماعية نقطة انطلاق رئيسة لعمل لجان البحث عن المفقودين، إذ تم الكشف بعد سقوط النظام عن عشرات المواقع التي تحوي رفات المختفين قسريًا الذين قتلوا تحت التعذيب.

تتضمن خطوات التعامل مع هذه المواقع: حمايتها فورًا باعتبارها مسارح جريمة، إجراء البحث الميداني المنهجي وفق بروتوكولات دولية معتمدة، جمع الأدلة الجنائية لدعم التحقيقات، توثيق البيانات بدقة، إجراء تحقيقات شاملة تستند إلى المعايير الدولية، تحديد هويات الضحايا باستخدام تقنيات متطورة كتحليل الحمض النووي، والتواصل المستمر مع ذوي الضحايا ثم تسليمهم الرفات لدفنه بطريقة لائقة.

تلعب لجان الحقيقة دورًا محوريًا في تعزيز المصالحة المجتمعية، إذ تتجاوز المحاسبة الجنائية لتشمل آليات محلية تعالج المظالم وتبني الثقة. تشرف هذه اللجان على تشكيل مجالس عرفية ولجان مصالحة في المحافظات السورية، تضم وجهاء المجتمع وشخصيات قيادية ورجال دين، وتعمل على تسوية النزاعات المحلية، إعادة الحقوق إلى أصحابها، تعزيز المصالحة المجتمعية، ضمان الاعتذار والاعتراف بالمسؤولية، نشر ثقافة السلم الأهلي، وإعادة دمج المتضررين في المجتمع.

ويمكن الاستفادة من تجارب المجتمعات العشائرية في سوريا التي طورت آليات للصلح تشمل المسامحة ودفع الدية وتقديم الاعترافات العلنية.

تشكل هذه المحاسبة المحلية نهجًا رديفًا للمحاسبة الجنائية، يشجع الجناة الأقل تورطًا على الاعتراف والمشاركة في إصلاح الأضرار، مما يعزز العدالة التصالحية ويساهم في بناء آليات مستدامة لحل النزاعات ومنع دورات جديدة من العنف الانتقامي.

خامساً: برامج جبر الضرر والتعويض
تُشكل برامج جبر الضرر والتعويض عنصرًا حيويًا في مسار العدالة الانتقالية السورية، وذلك لمعالجة الأضرار الهائلة التي خلفها النزاع والتي وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بما فيها مقتل أكثر من 234 ألف مدني، واختفاء نحو 177 ألف شخص قسريًا، ووفاة أكثر من 45 ألف شخص تحت التعذيب، وتشريد نحو 13.8 مليون سوري.

تتنوع آليات التعويض المادي للضحايا وذويهم لتشمل: منح مادية مباشرة تُصرف دفعة واحدة أو على شكل رواتب طويلة الأجل للأرامل والأيتام، خدمات تفضيلية كالرعاية الصحية والتعليم المجاني، إعادة حقوق الملكية من خلال لجان محلية متخصصة لحل النزاعات على الممتلكات، تمويل مشاريع الإسكان عبر منح أو قروض بدون فوائد، دعم إعادة التأهيل الاقتصادي للأفراد، برامج تعويضات جماعية للمجتمعات المتضررة، تعويضات لخسائر الدخل، وتأهيل البنى التحتية في المناطق المتضررة.

إلى جانب التعويضات المادية، تُولي الرؤية اهتمامًا كبيرًا لبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى، التي تساهم في تضميد جراح الضحايا والاعتراف بمعاناتهم واستعادة كرامتهم.

تشمل هذه البرامج: إعادة تأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا، تقديم الدعم القانوني لمساعدتهم في المطالبة بحقوقهم، إنشاء نصب تذكارية كبرى في المناطق الأكثر تضررًا ونصب محلية مصغرة، تخصيص أيام تذكارية وطنية مصحوبة بفعاليات عامة ومعارض، إنشاء متاحف ومراكز توثيق تعرض شهادات الضحايا والصور، تطوير أرشيفات رقمية، إطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، تنظيم فعاليات ثقافية تخلد ذكراهم، تشجيع الاعتذارات العلنية والاعتراف بالتضحيات، إدماج إرث الثورة في المناهج التعليمية، وتنظيم عمليات شاملة لإحياء الذكرى بمشاركة أسر الضحايا والمجتمع المدني.

لتنفيذ هذه البرامج، تقترح الرؤية تشكيل لجان متخصصة للتعويض وجبر الضرر، تضم ممثلين حكوميين وقضاة وحقوقيين، ممثلين عن المجتمع المدني، ممثلين عن الضحايا وذويهم، ومستشارين دوليين؛ لضمان تنفيذ العملية وفق المعايير الدولية.

تتولى هذه اللجان تحديد الفئات المستهدفة بالتعويضات، أنواع الأضرار القابلة للتعويض، وضع آليات لتقدير حجم الضرر والتعويض المناسب، تصميم هيكلية للتعويضات تشمل التعويضات الفردية والجماعية والخدماتية، وتحديد كيفية توزيع التعويضات ضمن إطار زمني محدد.

ولتحديد قيمة التعويضات بشكل عادل، يجب التعاون مع المحكمة الجنائية الخاصة والاستفادة من توصيات لجان الحقيقة، مع أهمية التشاور مع المجتمعات المتضررة، وضمان احترام كرامة الناجين، وفرض آليات رقابة صارمة تضمن نزاهة وشفافية العملية.

تواجه برامج التعويض تحديات كبرى، أبرزها نقص الموارد المالية في ظل الدمار الاقتصادي الشامل الذي خلفه النظام السابق. لمواجهة هذا التحدي، تقترح الرؤية عدة إستراتيجيات: إقامة شراكات دولية مع مؤسسات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، اعتماد آليات تمويل مبتكرة كإنشاء صندوق ائتمان خاص، الاستفادة من الأصول والأموال المصادرة من مرتكبي الانتهاكات، الحجز على أموال رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، الربط بين التعويض ومشاريع إعادة الإعمار، وتشجيع المساهمات المحلية والدولية.

كما تواجه البرامج تحديات أخرى كالتفاوت في توزيع التعويضات، والتعقيدات القانونية، والخلافات المجتمعية. لمواجهة هذه التحديات، توصي الرؤية بوضع معايير واضحة وعادلة للتعويضات، إجراء مسح شامل للأضرار، تعزيز الشفافية وإشراك الضحايا، تنويع خيارات التعويض، تطبيق نهج تدريجي ومرن، إنشاء هيئات قانونية متخصصة، وتنفيذ برامج حوار مجتمعي لتعزيز قبول عملية التعويض.


3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
في هذا المقال على "الجزيرة نت" تطرق "فضل عبد الغني" مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، إلى الأُطر العامة لرؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان بشأن العدالة الانتقالية في سوريا، بما في ذلك الخلفية التاريخية والسياسية، وركائز العدالة الانتقالية الأربعة، وهي: المحاسبة، الحقيقة والمصالحة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، نتناول في هذا الجزء الثاني بتفصيل أوسع ما تبقى من محاور هذه الرؤية.

سلّط المقال الضوء في هذا الجزء المتطلبات العملية لإصلاح مؤسسات الدولة، وبحث في أهمية الدعم والتعاون الدولي، والتحديات المحتملة التي قد تواجه هذا المسار الحيوي نحو بناء سوريا الجديدة القائمة على العدالة والكرامة وحقوق الإنسان.

سابعاً: إصلاح المؤسسات
يُشكل إصلاح المؤسسات الركن الرابع والأساسي للعدالة الانتقالية في سوريا، وهو ضمان أساسي لعدم تكرار الانتهاكات مستقبلًا. خلال عقود حكم نظام الأسد، تحولت مؤسسات الدولة الرئيسة، لا سيما القضائية والأمنية والعسكرية، من أدوات لخدمة المواطنين إلى وسائل للقمع وانتهاك الحقوق. لذا، فإن إعادة بناء هذه المؤسسات على أسس سليمة تُعد شرطًا لازمًا لاستعادة ثقة المواطنين بالدولة، وتحقيق الاستقرار المستدام.

يُعتبر إصلاح السلطة القضائيّة حجر الأساس في مسار العدالة الانتقالية، ويتطلب إعادة هيكلة شاملة تبدأ بتحرير مجلس القضاء الأعلى من هيمنة السلطة التنفيذية، عبر فصل رئاسة المجلس عن المنصب الرئاسي، وإنشاء هيئة قضائية مستقلة تتمتع بصلاحيات كاملة في إدارة شؤون القضاء.

يتطلب ذلك إعادة صياغة قانون السلطة القضائية لحظر تدخل أي جهة تنفيذية في شؤون القضاء، وضمان الاستقلال المالي والإداري للجهاز القضائي، وتفعيل دور المحكمة الدستورية العليا. كما يجب إلغاء المحاكم الاستثنائية التي استُخدمت كأدوات للقمع، وإدماج اختصاصاتها في القضاء العادي، مع ضمان تطبيق معايير المحاكمة العادلة، وتعزيز حقوق الدفاع، وتطوير آليات الاستئناف والتمييز والرقابة القضائية على تنفيذ الأحكام.

ولضمان نزاهة القضاة وكفاءتهم، يجب وضع معايير موضوعية للتعيين والترقية تستند إلى الجدارة، وتحسين الأوضاع المادية للقضاة وموظفي المحاكم، وتعزيز برامج التدريب المستمر ورقمنة العمل القضائي. وينبغي تفعيل دور نقابة المحامين وجمعيات القضاة المستقلة، والتعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لتقديم تقارير دورية عن حالة القضاء وتدريب الكوادر ومراقبة المحاكمات.

تتطلب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تحولًا جذريًا في بنيتها وفلسفتها، إذ أوجد النظام السابق أجهزة أمنية متعددة ومتداخلة الصلاحيات خضعت مباشرة لرئيس الجمهورية وتورطت في انتهاكات جسيمة. يجب أولًا تقليص عدد الأجهزة الأمنية الموازية ودمج الأجهزة ذات المهام المتشابهة، وحل التشكيلات غير الرسمية، ووضع قوانين واضحة تحدد صلاحيات كل جهاز وتضمن خضوعه للمساءلة.

من الضروري إلغاء الصلاحيات القضائية للأجهزة الأمنية، وتفكيك شبكات المخبرين، وإنشاء هيئة رقابة مدنية مستقلة، وتعزيز دور البرلمان في الإشراف على أدائها. كما يجب تغيير العقيدة الأمنية بحيث تستند إلى حماية أمن الدولة والمواطنين لا النظام الحاكم، وإلغاء ثقافة العداء للمواطنين، وتطوير برامج تدريب مستمرة على حقوق الإنسان والمهارات التقنية.

وينبغي تجريم كافة أشكال التعذيب والانتهاكات، وإنشاء قنوات مستقلة للتحقيق في شكاوى المواطنين. وفيما يتعلق بالتوظيف، يجب اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة في اختيار القيادات الأمنية، بعيدًا عن الولاءات السياسية أو الطائفية، مع تحسين الرواتب والمزايا للحد من الفساد.

يشكل دمج الفصائل المسلحة وبناء جيش وطني موحد تحديًا كبيرًا أمام الاستقرار وإعادة بناء الدولة. يجب وضع إطار سياسي وقانوني شامل يتضمن تشريعات واضحة لإعادة الهيكلة ودمج الفصائل وفق معايير مهنية، مع استبعاد المتورطين في جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة، وضمان شمولية العملية من خلال قبول الأفراد غير المتورطين من كافة الأطراف.
ويتطلب الأمر إنشاء لجنة تقييم مستقلة لتدقيق السجلات وقاعدة بيانات مركزية للفصائل المسلحة وأفرادها، مع برامج لتسوية أوضاع العناصر غير المتورطين بانتهاكات جسيمة. وينبغي تطوير برامج للتسريح وإعادة الإدماج المدني تشمل التدريب المهني، وفرص العمل، والدعم النفسي، والاجتماعي.

كما يجب إعادة توزيع القوى البشرية بشكل عادل على المناطق، وتحقيق الحياد في التشكيل العسكري، مع تعزيز الوعي بحقوق الإنسان وتحديث المناهج العسكرية وتوحيد معايير التدريب. ومن الضروري إعادة تنظيم القيادات العسكرية لتمثل جميع مكونات الشعب السوري، وإنشاء آليات شفافة للترقيات، وترسيخ ثقافة الوحدة الوطنية، مع ضبط حيازة السلاح وتدمير الأسلحة المحظورة دوليًا. لضمان الرقابة والمساءلة، يجب إنشاء هيئة رقابة مستقلة ومحاكم عسكرية مختصة وتقييم دوري للإصلاحات، مع الاستفادة من المساعدة الفنية الدولية.

يتطلب نجاح إصلاح المؤسسات تعزيز الشفافية والمساءلة على كافّة المستويات، وذلك عبر تطوير منظومة متكاملة تشمل؛ إنشاء هيئات رقابية مستقلة لكل مؤسسة، تفعيل دور البرلمان في الرقابة على أداء المؤسسات العامة، وضع مدونات سلوك ملزمة للعاملين في القطاعات الحساسة، تطوير قوانين تحمي المبلغين عن الفساد والانتهاكات، وإنشاء آليات فعالة للشكاوى مع ضمان سرعة معالجتها.

كما ينبغي إلزام المؤسسات الرسمية بنشر تقارير دورية عن أدائها ومصروفاتها، وإتاحة المعلومات للعموم وفق قانون حرية الوصول للمعلومات، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني والإعلام في الرقابة على مؤسسات الدولة. إضافة إلى ذلك، يجب تطوير نظم تقييم أداء موضوعية ودورية للمسؤولين والموظفين، وربط التعيينات والترقيات بالكفاءة والنزاهة، والاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز الشفافية والحدّ من الفساد. وعلى المستوى الثقافي، ينبغي نشر ثقافة مجتمعية تؤمن بدور الرقابة المدنية وتشجع المواطنين على المساهمة في محاسبة المؤسسات، مع تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية المتخصصة في الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.

ثامناً: الدعم والتعاون الدولي
يلعب الدعم والتعاون الدولي دورًا محوريًا في تعزيز مسار العدالة الانتقالية في سوريا، حيث يوفر المساعدات التقنية، والدعم المالي، والآليات القانونية التي تضمن محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة. يساهم هذا التعاون في دعم الضحايا وإعادة بناء المؤسسات وفق أسس عادلة، كما يمثل ضرورة ملحة نظرًا لتعقيد الحالة السورية وحجم الانتهاكات غير المسبوق وضعف الموارد المحلية. إضافة إلى ذلك، يضمن التنسيق الدولي تنفيذ آليات العدالة الانتقالية بفاعلية، ويعزز الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويساعد في بناء قدرات المؤسسات الوطنية، مما يسهم في تحقيق مصالحة وطنية مستدامة تعيد الاستقرار إلى البلاد.

تشكل الآليات الدولية المتخصصة ركائز أساسية لدعم مسار العدالة الانتقالية في سوريا. تبرز من بينها الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2016، والمكلفة بجمع الأدلة على الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي في سوريا وتحليلها وحفظها.

يمكن للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية التعاون معها من خلال تبادل الوثائق والبيانات، والاستفادة من ملفات القضايا التي أعدتها لدعم عمل المحكمة الخاصة المقترحة. كما يوفر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR) دعمًا فنيًا لبناء قدرات الفاعلين المحليين، مع إمكانية الاستفادة من خبراته في وضع أطر العدالة الانتقالية التي تركز على حقوق الضحايا.

أما اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا (COI)، التي أُنشئت في 2011، فتقدم توثيقًا وتحليلًا مستقلًا للانتهاكات، يمكن أن يدعم عمل لجان الحقيقة والمحكمة الخاصة. وتضطلع المؤسسة المستقلة للمفقودين (IIMP)، التي أُنشئت في 2023، بمعالجة قضية المفقودين في سوريا وتقديم الدعم لأسرهم، من خلال إنشاء قاعدة بيانات شاملة بالتعاون مع اللجان المحلية.

تقدم المنظمات الحقوقية الدولية دعمًا قيمًا لجهود العدالة الانتقالية في سوريا. فقد وثقت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش (HRW) ومنظمة العفو الدولية، انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا على مدار سنوات النزاع، مما يوفر أرشيفًا غنيًا يمكن استخدامه كأدلة لدعم عمل لجان الحقيقة والمحكمة الخاصة.

كما يمكن لهذه المنظمات مراقبة عمل هيئة العدالة الانتقالية، وتقديم النصح والتدريب لضمان التزامها بالمعايير الدولية. ومن جهتها، تتمتع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) بخبرة واسعة في التعامل مع قضايا المفقودين والمقابر الجماعية في سياقات معقدة، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في توسيع جهود جمع البيانات عن المفقودين، والمساهمة في الكشف عن مصيرهم باستخدام تقنيات متطورة كتحليل الحمض النووي، وتقديم الدعم النفسي لأسرهم.

يعتبر التعاون القضائي الدولي ضروريًا لتحقيق العدالة الشاملة، خاصة مع فرار العديد من المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة خارج سوريا.

تشمل آليات هذا التعاون؛ تبادل المعلومات والأدلة مع المحاكم الدولية والأجنبية التي تنظر في قضايا تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، الاستفادة من الولاية القضائية العالمية التي تتيح للدول محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن مكان ارتكابها، التصديق على نظام روما الأساسي أو قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(3)، إبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف لتسليم المطلوبين، وتدريب الكوادر القضائية المحلية على معايير المحاكمات الدولية.

لضمان فاعلية هذا التعاون، يجب إنشاء وحدة متخصصة ضمن هيئة العدالة الانتقالية للتنسيق مع الآليات الدولية، والعمل على بناء قاعدة بيانات مشتركة للانتهاكات والمتهمين، والمشاركة في شبكات التعاون الدولي لمكافحة الإفلات من العقاب.

 تاسعاً: التحديات المحتملة وسبل مواجهتها
يواجه مسار العدالة الانتقالية في سوريا تحديات متعددة الأبعاد تتطلب إستراتيجيات شاملة لمواجهتها. على المستوى السياسي والأمني، تبرز صعوبة تحقيق توافق وطني حول آليات العدالة الانتقالية في ظل الاستقطاب السياسي الحاد. كما يشكل استمرار وجود جهات مسلحة متعددة الولاءات تحديًا كبيرًا للاستقرار وتنفيذ برامج العدالة، إذ قد تقاوم هذه الجهات جهود المحاسبة الجنائية خوفًا من المساءلة.

وتُعتبر مقاومة بقايا أجهزة النظام السابق وأنصاره عائقًا أمام الإصلاح المؤسسي، خاصة في القطاعات الأمنية والقضائية. إضافة إلى ذلك، تمثل التدخلات الإقليمية والدولية المتضاربة عقبة أمام إحراز تقدم في مسار العدالة، حيث تسعى قوى خارجية لتأمين مصالحها على حساب استقلالية القرار السوري.

لمواجهة هذه التحديات، يمكن اعتماد إستراتيجيات تشمل؛ تعزيز الحوار الوطني الشامل، بناء الإجماع حول أولويات العدالة الانتقالية، تطبيق خطة متكاملة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، بناء تحالفات دولية داعمة للعدالة الانتقالية، وتفعيل آليات الحماية للضحايا والشهود.

على الصعيد الاقتصادي والمالي، تعاني سوريا من انهيار اقتصادي شامل وبنية تحتية متهالكة، مما يحدّ من الموارد المتاحة لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية. تتطلب عمليات التوثيق، المحاكمات، برامج التعويض، وإعادة الإعمار موارد مالية ضخمة قد تفوق قدرة الدولة. وتواجه سوريا صعوبة في تحديد أولويات الإنفاق بين متطلبات العدالة الانتقالية والاحتياجات الأساسية العاجلة للسكان.

كما تشكل العقوبات الدولية والقيود المفروضة على التحويلات المالية عقبات أمام تمويل مشاريع العدالة الانتقالية. لمعالجة هذه التحديات، يقترح إنشاء صندوق دولي لدعم برامج العدالة الانتقالية، إعطاء الأولوية للمشاريع ذات الأثر المزدوج في التعافي الاقتصادي وتحقيق العدالة، البحث عن مصادر تمويل بديلة كاسترداد الأصول المنهوبة ومصادرة أموال المتورطين في انتهاكات، وتطوير شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني لدعم برامج إعادة التأهيل وإعادة الدمج.

يشكل انعدام الثقة والانقسامات المجتمعية تحديًا جوهريًا أمام العدالة الانتقالية، حيث أدت سنوات النزاع إلى تعميق الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية، مما يعقد عملية المصالحة. وقد أدى فقدان الثقة بمؤسسات الدولة، خاصة الأمنية والقضائية، إلى صعوبة تقبل المواطنين أي إصلاحات تقودها هذه المؤسسات.

كما قد تسبب التباينات في فهم مفهوم العدالة بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري صراعات حول أولويات ومسارات العدالة الانتقالية. ويساهم انتشار ثقافة الانتقام والثأر الفردي في عرقلة مساعي العدالة المؤسساتية، كما يتضح من ارتفاع وتيرة العمليات الانتقامية الفردية منذ سقوط النظام.

وتُعد التأثيرات النفسية لصدمات الحرب والانتهاكات عائقًا أمام الانخراط في مسارات المصالحة. لمواجهة هذه التحديات، تُقترح إستراتيجيات منها: تصميم حملات توعية شاملة حول أهمية العدالة الانتقالية كنهج بديل عن الانتقام، ضمان تمثيل جميع المكونات المجتمعية في مؤسسات العدالة الانتقالية، تعزيز الشفافية في جميع مراحل العملية، دعم المبادرات المجتمعية للمصالحة، وتطوير برامج التعافي النفسي والاجتماعي للضحايا والمتضررين.

لتجاوز التحديات المذكورة، يمكن اعتماد إستراتيجيات متكاملة تشمل؛ تبني نهج تدريجي ومرحلي في تطبيق العدالة الانتقالية، مع التركيز في المرحلة الأولى على تلبية احتياجات الضحايا الأكثر تضررًا وبناء الثقة؛ وضع خطة وطنية شاملة للعدالة الانتقالية بمشاركة جميع الأطراف المعنية، تحدد الأهداف والآليات والأطر الزمنية؛ تعزيز الملكية الوطنية لمسار العدالة الانتقالية مع الاستفادة من الخبرات الدولية، حيث يلعب السوريون الدور الرئيسي مع دعم وإشراف دولي؛ تطوير نظام مراقبة وتقييم فعال لرصد التقدم في تنفيذ برامج العدالة الانتقالية وإجراء التعديلات اللازمة؛ وبناء قدرات المؤسسات الوطنية والمجتمع المدني في مجال العدالة الانتقالية من خلال برامج تدريبية متخصصة.

إضافة إلى ذلك، يمكن استخلاص الدروس من تجارب الدول التي مرت بظروف مشابهة، مع مراعاة خصوصية السياق السوري، وإتاحة مساحات آمنة للحوار والنقاش حول قضايا العدالة الانتقالية بين مختلف مكونات المجتمع. ويبقى الدعم الدولي ركيزة أساسية، مع ضرورة تنسيق الجهود وتوحيد الرؤى بين الجهات الداعمة، وتخصيص موارد كافية لضمان استدامة برامج العدالة الانتقالية.

الخاتمة
تمثل العدالة الانتقالية ضرورة وطنية لسوريا التي تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي بعد سقوط نظام استبدادي استمر لأكثر من نصف قرن. إنها ليست ترفًا أو خيارًا، بل هي شرط أساسي لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة التي خلّفت ملايين الضحايا والنازحين، وأحدثت دمارًا هائلًا في البنية المادية والاجتماعية للبلاد.

تكمن أهمية العدالة الانتقالية في كونها النهج الأكثر فاعلية للتعافي الشامل من آثار النزاع، وإرساء أسس راسخة لدولة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. فعبر أركانها الأربعة – المحاسبة الجنائية، الحقيقة والمصالحة، جبر الضرر والتعويض، وإصلاح المؤسسات – يمكن للعدالة الانتقالية أن تسهم في تفكيك بنى الاستبداد والقمع، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، ومنع تكرار الانتهاكات، وتحقيق المصالحة الوطنية التي تمهد الطريق نحو الاستقرار المستدام.

إن نجاح مسار العدالة الانتقالية يتطلب التزامًا جماعيًا من جميع الأطراف المعنية بتحقيق عدالة غير انتقامية، تركز على الإصلاح والتعافي بدلًا من الانتقام والثأر. يجب إدراك أن العدالة الانتقالية ليست وسيلة للتشفي من الخصوم، بل هي إطار متكامل يهدف إلى معالجة جذور النزاع وترميم النسيج الاجتماعي. هذا يستلزم نهجًا متوازنًا يجمع بين المحاسبة الضرورية للمسؤولين الرئيسين عن الانتهاكات من جهة، وتوفير فرص المصالحة والإدماج للأفراد الأقل تورطًا من جهة أخرى.

كما يتطلب الأمر مشاركة واسعة من الضحايا، المجتمع المدني، المؤسسات الوطنية، والمجتمع الدولي، في بناء رؤية مشتركة للعدالة تراعي احتياجات جميع السوريين وتطلعاتهم. فالعدالة الانتقالية ليست مسارًا يفرضه طرف على آخر، بل عملية تشاركية تستند إلى الحوار المفتوح والشفافية والشمولية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية السياق السوري وتعقيداته.

إن الرؤية التي تقدمها الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية تمثل خارطة طريق نحو سوريا المستقبل: الوطن القائم على العدالة والكرامة وسيادة القانون. هذه سوريا الجديدة التي يتطلع إليها السوريون على اختلاف مشاربهم، دولة يعيش فيها المواطنون بكرامة وأمان، تصان حقوقهم وحرياتهم، وتُحترم خياراتهم.

سوريا التي تتجاوز ماضي الاستبداد والقمع لتبني مستقبلًا يقوم على المواطنة المتساوية، المشاركة السياسية، والتعددية الثقافية. ومع أن الطريق إلى سوريا هذه طويل وشاق ومليء بالتحديات، فإن وجود إرادة وطنية صلبة وإصرار على المضي قدمًا في مسار العدالة الانتقالية يجعل هذا الهدف قابلًا للتحقيق.

وفي نهاية المطاف، فإن العدالة الانتقالية ليست نهاية المسار، بل بداية عملية تحول طويلة نحو استعادة سوريا التي يستحقها أبناؤها: سوريا العدالة، والديمقراطية، والتنمية، والسلام.

المصدر: موقع الجزيرة نت

اقرأ المزيد
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال

يحاول أيتام الأسد ومن لا يزالون أسرى خطيئة الولاء الأعمى له تشويه صورة الشعب السوري الحر، ذلك الشعب الذي سبق الجميع في الوقوف بوجه الظلم والطغيان، ورفض الخضوع للدكتاتور، وقدم في سبيل حريته وكرامته الغالي والنفيس. اليوم، يسعى هؤلاء إلى إلصاق تُهم التطبيل والتزمير بذات الشعب الذي لم يعرف الخنوع يوماً، وذلك لمجرد أنه يثني على بعض الخطوات الإيجابية التي تتخذها القيادة الجديدة.

لكن الحقيقة التي يُراد طمسها أن هذا الشعب لم يتغيّر. هو نفسه من هتف ضد الأسد المجرم في ساحات الحرية، وهو اليوم من يُشيد بالخطوة الصائبة، وينتقد الخطأ بلا خوف أو مجاملة. لا يُطبّل، بل يقول كلمة الحق. لا يُزمّر، بل يشارك في بناء وطنه، لأنه باختصار: اعتاد أن يعيش بكرامة، لا بشعارات جوفاء.

أما الفرق بين من ولد من رحم الحرية، وبين من تربى على طقوس التهليل للطغاة، فهو كالفرق بين المواطن الذي يرى الدولة مسؤولية مشتركة، فيشارك في نقدها وتطويرها، وبين التابع الذي لا يرى في الدولة إلا تمثالاً يُسبّح بحمده صباح مساء.

بين التطبيل والثناء الواعي
من المهم أن نوضح هنا: هناك فرق شاسع بين التطبيل الأعمى، وبين الثناء على المواقف الإيجابية. التطبيل هو تعطيل للعقل، وتصفيق لكل ما يُقال ويفعل دون نظر أو تحليل. أما الثناء الواعي، فهو دعم للخير، وتحفيز على الاستمرار فيه، وهو أيضاً لا يمنع النقد حين يستوجب الأمر ذلك. الشعب السوري الحر يفهم هذا الفرق جيداً، ولذلك تراه أول من ينتقد حين يخطئ المسؤول، وأول من يدعم حين يُحسن.

الشعب لا يُصفّق.. بل يراقب ويقيّم
الشعب السوري شعر بصدق نوايا الحكومة الجديدة، وبأن هناك فعلاً من يعمل لتحسين الواقع لا لبيع الأوهام. لكنه لم يرفع صور أحمد الشرع في الساحات، ولم يهتف له بالهتافات الرنانة، ولم يطبع صوره على السيارات والمحال كما اعتاد أتباع الأسد المخلوع أن يفعلوا عند كل مسؤول. بل تفاعل الشعب مع المواقف والسياسات الإيجابية، لا مع الأسماء أو الوجوه. واللافت أن هذا النهج العقلاني والواعي لم يأتِ من فراغ، بل من تجربة طويلة في رفض التقديس الأعمى لأي شخصية، مهما كانت.

ولم يكن هذا التفاعل محلياً فقط، بل حتى أحد أهم زعماء العالم من الناحية السياسية لم يتردد في الإشادة بالنهج الذي يمثّله أحمد الشرع، في مؤشر على أن هناك شيئاً جديداً ومختلفاً يُبنى في سوريا، وأن هذا النهج يُرى ويُقدّر على الساحة الدولية.

حكومة تواجه التحدي
الحكومة الحالية، رغم قصر الفترة منذ تسلمها زمام الدولة، أثبتت أنها قادرة على التعامل مع الصعوبات الكبيرة التي تعصف بالبلاد. إرادة واضحة في تحسين الوضع المعيشي، تحركات ملموسة لحل الأزمات المتراكمة التي خلفها نظام بشار الأسد المجرم على مدى عقود، ومحاولات جادة لاستعادة الدولة من براثن الخراب.

تشجيع لا تملق، دعم لا مديح
هذه الحكومة لا تحتاج التصفيق الأجوف، بل تحتاج أن تشعر بأن الشعب يقف معها عندما تسير الأمور بالاتجاه الصحيح. من حقها أن تُشكر عندما تُحسن، وأن يُعترف بإنجازاتها عندما تكون واقعية وملموسة. لكنها بحاجة إلى أكثر من ذلك: بحاجة إلى دعم حقيقي، بحاجة إلى كل عقل مبدع، وكل ذراع قادرة، وكل قلم صادق، وكل شخص يمكنه أن يُحدث فرقاً في الواقع الصعب. هي بحاجة لمن يقاتل معها لا من يهتف لها، لمن يصحح معها لا لمن يُزيّن الأخطاء، لمن يبني معها لا لمن يراقب من بعيد.

اقرأ المزيد
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين

في سياقات ما بعد النزاع، يُعترف دوليًا بأن الحق في السكن والأرض والملكية يُشكّل ركيزة أساسية لتحقيق السلام، وترسيخ العدالة الانتقالية، وضمان عودة آمنة وكريمة للاجئين والنازحين.

وتُظهر تجارب النزاعات حول العالم أن غياب حقوق ملكية واضحة وقابلة للتنفيذ يُعطل مسارات المصالحة، ويُقوّض جهود التعافي المستدام. إذ تُعد الملكية، في جوهرها، مظلةً للأمن الشخصي والاقتصادي، كما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية المجتمعية، والتماسك الاجتماعي، والثقة المدنية في مجتمعات ما بعد الحرب.

في هذا السياق الحرج، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مؤخرًا تقريرًا موسّعًا يُوثّق انتهاكات ممنهجة لحقوق السكن والأرض والملكية، ارتكبها نظام بشار الأسد، تحديدًا في محافظة درعا جنوبي سوريا. وبحسب التقرير، انتهج النظام بشكل مدروس مزيجًا من التلاعب التشريعي، والتدمير المتعمد، والتشريد القسري، والاستيلاء على ممتلكات المدنيين، كوسيلة لمعاقبة كل من شارك في انتفاضة 2011 أو أبدى تعاطفًا معها.

نُفّذت هذه السياسات تحت غطاء قانوني زائف، عبر مراسيم وتشريعات مثل القانون رقم 10 لعام 2018، والمرسوم التشريعي 66 لعام 2012، والتي لم تكن سوى أدوات لإعادة رسم الخريطة الديمغرافية والاجتماعية لسوريا، ومعاقبة المجتمعات الخارجة عن سيطرة النظام. وقد أدت هذه الانتهاكات المنهجية إلى تمزيق نسيج مجتمعات درعا، مما شكّل عقبة حقيقية أمام أي إمكانية لتحقيق سلام مستدام أو عدالة انتقالية حقيقية. كما أنها باتت تمثّل حاجزًا صلبًا يحول دون عودة مئات الآلاف من اللاجئين والنازحين، ويُبقيهم أسرى المنفى والشتات القسري.

الخلفية والسياق
شكّلت محافظة درعا حجر الأساس في التاريخ الحديث لسوريا، باعتبارها حاضنة للثورة السورية في مارس/آذار 2011، حين تحوّلت إلى ساحة احتجاجات شعبية كبرى مناهضة للنظام. طالبت هذه المظاهرات بإصلاحات ديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ووضع حد لعقود من الحكم الاستبدادي تحت سلطة نظام الأسد.

 
في 18 مارس/آذار من العام ذاته، انطلقت أول مظاهرة حاشدة في درعا، وقوبلت بقمع دموي وفوري من قبل أجهزة أمن النظام، أسفر عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين. إلا أن هذا الرد العنيف لم يُخمِد الحراك، بل غذّاه، فامتدت شرارة الاحتجاجات من درعا إلى محافظات أخرى، لتتخذ شكل حركة وطنية واسعة تطالب بالتغيير السياسي الجذري.

جاء رد النظام على هذه الانتفاضة منهجيًا ومدمرًا؛ إذ أطلق العنان لقواته العسكرية، وشنّ حملات اعتقال تعسفي، وإخفاء قسري، وتعذيب واسع النطاق. وقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان سلسلة من الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت بحق المدنيين في درعا منذ عام 2011، من بينها ما لا يقل عن 22,443 حالة قتل خارج نطاق القانون، من ضمنها 3,869 طفلًا و2,140 امرأة، بالإضافة إلى 8,706 حالات اعتقال واختفاء قسري شملت 224 طفلًا و194 امرأة. كما تم تسجيل 2,500 حالة وفاة تحت التعذيب، بينهم 19 طفلًا و4 نساء، فضلًا عن 158 هجومًا على منشآت حيوية، شملت 25 مدرسة و35 منشأة طبية.

وفي خضم هذا السجل الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان، برزت مصادرة حقوق الملكية كجزء من استراتيجية شاملة اتبعها النظام. وباستخدام أدوات تشريعية تُظهر ظاهرًا من المشروعية، أصدر الأسد سلسلة من القوانين والمراسيم التي شرعنت عمليًا الاستيلاء على ممتلكات المعارضين والنازحين، لتُستخدم هذه الأملاك لاحقًا في إعادة توزيع عقابية تخدم أهداف النظام السياسية والاجتماعية.

أقر النظام حزمة من القوانين والإجراءات التشريعية التي صُممت خصيصًا لتُضفي مظهرًا قانونيًا على عمليات نزع الملكية الجماعية، تحت ذرائع "إعادة الإعمار" و"التخطيط العمراني".

الطبيعة المنهجية لانتهاكات الملكية
منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في عام 2011، اتبع نظام الأسد سياسة منهجية لاستهداف ممتلكات المدنيين في مختلف أنحاء سوريا، مع تصاعد ملحوظ لهذه الممارسات في مناطق مثل محافظة درعا. وقد اتسم هذا النهج بالتدمير العمد، والمصادرة الواسعة، والاستيلاء المتكرر على منازل وأراضٍ وممتلكات، تعود بمعظمها إلى معارضين للنظام، أو مختفين قسريًا، أو نازحين، أو لاجئين، بل وحتى أولئك المشتبه في عدم ولائهم.

يعتمد هذا الأسلوب على سلسلة من الخطوات المنظّمة تبدأ عادةً بقصف متعمّد للأحياء السكنية باستخدام أسلحة عشوائية ومحظورة دوليًا، مثل البراميل المتفجرة، والصواريخ الموجّهة، والأسلحة الكيميائية. ونتيجةً لهذا التدمير، يُجبر السكان على النزوح القسري، ليعقب ذلك استيلاء النظام على الممتلكات المهجورة عبر المصادرة أو النهب، ما يُشكّل عقبة مباشرة أمام عودة السكان إلى ديارهم.

في صميم هذه الممارسات، أقر النظام حزمة من القوانين والإجراءات التشريعية التي صُممت خصيصًا لتُضفي مظهرًا قانونيًا على عمليات نزع الملكية الجماعية، تحت ذرائع "إعادة الإعمار" و"التخطيط العمراني". ومن أبرز هذه الأدوات القانونية:

المرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012: رُوّج له كمبادرة لإعادة التطوير الحضري في بعض أحياء دمشق، لكنه استُخدم فعليًا كوسيلة لحرمان المعارضين من ممتلكاتهم، وإعادة تخصيص العقارات ذات القيمة العالية لصالح الموالين والمستثمرين المقربين من النظام.

القانون رقم 23 لسنة 2015: منح الوحدات الإدارية صلاحية مصادرة ما يصل إلى 40% من أراضي القطاع الخاص، تحت مبررات فضفاضة تتعلق بـ"المصلحة العامة"، ما أدى إلى نزع ملكيات من دون تعويض عادل أو سُبل قانونية فعالة للطعن.
القانون رقم 10 لعام 2018: يُعد الأداة التشريعية الأخطر، وقد أثار إدانة واسعة من منظمات حقوق الإنسان. فرض هذا القانون إنشاء مناطق تطوير عمراني على مستوى البلاد، مستهدفًا بشكل خاص النازحين، من خلال مهَل زمنية تعجيزية لإثبات الملكية، وهي شروط يستحيل على كثير من الضحايا تلبيتها بسبب النزوح أو السجن، ما سهّل عمليات الاستيلاء الجماعي على ممتلكاتهم.

المرسوم رقم 140 لعام 2023: يمثل أحدث الإضافات في هذا المسار، حيث عزز من قبضة النظام على الملكيات الخاصة تحت ذريعة "إعادة الإعمار"، مما زاد من تعقيد فرص استعادة الممتلكات من قبل المجتمعات النازحة.

التأثير الإنساني: لماذا لا يستطيع اللاجئون العودة؟
لم تقتصر الانتهاكات المنهجية التي ارتكبها نظام الأسد في ملف السكن والأرض والملكية على الدمار المادي فحسب، بل أفضت إلى كارثة إنسانية معقّدة ألقت بظلالها الثقيلة على مستقبل ملايين السوريين. ويمكن رصد ثلاث وسائل رئيسية اتبعها النظام لعرقلة العودة:

التدمير المتعمد ومحو الأحياء:
استُهدفت أحياء وبلدات بأكملها في درعا بالتدمير الممنهج، من أبرزها: طريق السد، اللجين، حي النازحين، خربة غزالة، ونوى. وكما توثق صور الأقمار الصناعية وشهادات السكان، لم يكن الدمار عشوائيًا، بل طال عمدًا البنية التحتية السكنية، والمرافق التجارية، والخدمات الأساسية كالمدارس ومراكز الرعاية الصحية، مما حوّل هذه المناطق إلى بيئات غير صالحة للسكن، اقتصاديًا وماديًا، وجعل من العودة أمرًا شبه مستحيل.

العوائق القانونية والإدارية:
استغل النظام فوضى الحرب لتمرير قوانين تخدم أهدافه في الاستيلاء المنظم على الممتلكات. وبموجب هذه القوانين، مُنحت السلطات غطاءً قانونيًا لمصادرة أراضٍ ومنازل تعود لنازحين لا يملكون إمكانية تقديم وثائق ملكية، بسبب التهجير أو السجن أو اختفاء السجلات الرسمية.

الاحتلال وإعادة توزيع الممتلكات:
في مناطق واسعة، تولّت قوات النظام والميليشيات المتحالفة معه – سواء محلية أو إيرانية – احتلال الممتلكات المصادرة، أو إعادة توزيعها على موالين وشخصيات نافذة. وقد أُجريت مزادات علنية لهذه الممتلكات، في خطوة تعكس نية واضحة لإعادة تشكيل التركيبة السكانية بطريقة تحول دون عودة السكان الأصليين، وتُعقّد أي محاولة مستقبلية لاستعادة المجتمعات المُهجّرة.
يعاني النازحون من أزمات نفسية متفاقمة، ناجمة عن التهجير المتكرر، وفقدان الأمل، وانعدام الشعور بالأمان بشأن المستقبل.
التأثير على المجتمعات النازحة
لم تتوقف تداعيات انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية عند الأفراد فحسب، بل امتدت لتُخلّف آثارًا إنسانية مدمّرة على بنية المجتمعات النازحة ككل. ويمكن تلخيص أبرز هذه التأثيرات في ثلاث عواقب رئيسية:

• فقدان سبل العيش والاستقرار الاقتصادي

لم تقتصر الانتهاكات على مصادرة المنازل، بل طالت أيضًا الأراضي الزراعية والمنشآت التجارية، التي تُعد مصدر الرزق الأساسي للعديد من العائلات. فقد أدّى الاستيلاء على الأراضي الزراعية في ريف درعا، إلى جانب تدمير البنية التحتية التجارية، إلى تجريد آلاف الأسر من مصادر دخلها واستقلالها الاقتصادي. وفي ظل غياب التعويض أو بدائل اقتصادية حقيقية، وجد اللاجئون والنازحون أنفسهم عالقين في حلقة مفرغة من الفقر والتبعية، غير قادرين على بناء حياة اقتصادية مستقرة سواء داخل سوريا أو في أماكن اللجوء.

 
• تفكك المجتمع والنسيج الاجتماعي

أدى النزوح القسري إلى تمزيق عميق في النسيج الاجتماعي، فقد تشتّتت العائلات، وتقطّعت الروابط المجتمعية نتيجة للانفصال الجغرافي والاضطرار إلى الهروب من المناطق الأصلية. وأسهمت التغييرات الديمغرافية المفروضة قسرًا، الناتجة عن السيطرة على الممتلكات، في زعزعة البنى الاجتماعية التقليدية، لا سيما في درعا، التي عُرفت تاريخيًا بتماسكها القبلي والمجتمعي. هذا التفكك يزيد من الشعور بالاغتراب والانقسام، ويُضعف من فرص المصالحة الوطنية، ويجعل أي مشروع للعدالة الانتقالية أو التعافي المجتمعي أكثر تعقيدًا.

• استمرار انعدام الأمن والصدمة النفسية

يعاني النازحون من أزمات نفسية متفاقمة، ناجمة عن التهجير المتكرر، وفقدان الأمل، وانعدام الشعور بالأمان بشأن المستقبل. إن عدم القدرة على العودة، أو استعادة الممتلكات، أو إعادة بناء الحياة، يُبقي آلاف العائلات في حالة من القلق الوجودي المزمن، وصدمة ممتدة تهدد الصحة النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات على المدى الطويل.

رغم فداحة الانتهاكات التي طالت حقوق السكن والأرض والملكية في سوريا، لا سيما في محافظة درعا، فإن رد الفعل الدولي ظل متواضعًا ومجزّأ، ولم يرتقِ إلى مستوى التحدي الذي تفرضه هذه السياسات الممنهجة.

تحليل قانوني
بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، تُعد حماية حقوق السكن والأراضي والملكية عنصرًا جوهريًا في تأمين حماية المدنيين في أثناء النزاعات، وتسريع جهود التعافي وإعادة الإعمار في المراحل اللاحقة للنزاع. وتؤكد العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية عدم شرعية الاستيلاء التعسفي على الممتلكات الخاصة أو تدميرها، كما تُدين التهجير القسري بوصفه انتهاكًا جسيمًا لحقوق الإنسان.

وفي الحالة السورية، تُشكّل الممارسات التي انتهجها نظام الأسد — من تدمير ممنهج للممتلكات، ومصادرتها، وإعادة توزيعها، ولا سيما في محافظة درعا — خرقًا واضحًا لتلك المبادئ الدولية. ويقدّم توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان دليلًا دقيقًا وشاملًا يُظهر أن هذه الانتهاكات لم تكن مجرد نتائج جانبية للحرب، بل سياسة متعمدة وواسعة النطاق تهدف إلى تفريغ المجتمعات من سكانها، في مخالفة صارخة للمعايير الأساسية للقانون الدولي الإنساني.

إن استهداف الأحياء السكنية، والأراضي الزراعية، والبنى التحتية المدنية الحيوية وتدميرها لا يمكن تبريره بأي ذريعة عسكرية، بل يُعد إجراءً عقابيًا غير مشروع، يرمي إلى تهجير السكان، ومعاقبة المعارضة، وإعادة تشكيل التركيبة السكانية للبلاد. وتتطابق هذه الأفعال مع التعريف القانوني لجرائم الحرب الوارد في المادة 8(2)(أ)(رابعًا) من نظام روما الأساسي، لكونها "واسعة النطاق"، و"غير قانونية"، و"تُنفّذ بشكل تعسفي".

إلى جانب ذلك، فإن إصدار النظام السوري سلسلة من القوانين التي أُشير إليها سابقًا يوضح وجود نية ممنهجة لاستخدام التشريع كأداة لتقنين المصادرة والتهجير. وتتناقض هذه القوانين بشكل مباشر مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما تُخالف المبادئ الأساسية التي نصّت عليها مبادئ بينهيرو بشأن حماية حقوق الملكية في حالات النزاع والعودة.

علاوة على ذلك، يندرج التهجير القسري الناتج عن مصادرة وتدمير الممتلكات ضمن تعريف الجرائم ضد الإنسانية، كما ورد في المادة 7 من نظام روما الأساسي، خصوصًا عندما يُمارس بشكل ممنهج ضد جماعات يُنظر إليها كخصوم سياسيين للنظام. وتشير البيانات الميدانية بوضوح إلى أن معظم من تعرّضوا للمصادرة أو فقدان ممتلكاتهم، ينتمون إلى مجتمعات تم استهدافها على خلفية معارضتها للنظام، أو بسبب ما اعتُبر "عدم ولائها".

ردود الفعل والمسؤوليات الدولية
رغم فداحة الانتهاكات التي طالت حقوق السكن والأرض والملكية في سوريا، لا سيما في محافظة درعا، فإن رد الفعل الدولي ظل متواضعًا ومجزّأ، ولم يرتقِ إلى مستوى التحدي الذي تفرضه هذه السياسات الممنهجة. فبالرغم من إدانة العديد من وكالات الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، وحكومات غربية، لسياسات التهجير القسري والمصادرة التعسفية، إلا أن هذه الإدانات لم تُترجم إلى خطوات سياسية أو قانونية فاعلة لمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.

 
وقد أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عددًا من القرارات التي تُدين النزوح الجماعي وتدمير الممتلكات، كما سلطت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا الضوء مرارًا على التشريعات التي استخدمها النظام لترسيخ سياسات التهجير. إلا أن هذه التصريحات، على أهميتها من حيث التوثيق، بقيت من دون أثر ملموس، في ظل غياب آليات إنفاذ دولية فعالة أو أدوات ضغط حقيقية.

وتبقى جهود التوثيق والسعي إلى تحقيق العدالة الانتقالية رهينة للشلل الجيوسياسي، خاصة في ظل استخدام حلفاء النظام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ما حال دون إحالة الوضع السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية. وبهذا، حُرم آلاف الضحايا من حقهم في الانتصاف القضائي، وبقيت الانتهاكات بلا محاسبة.

لم يكن النزاع في سوريا مجرد حرب تقليدية، بل صراع متعدد الأبعاد استهدف الذاكرة والهوية والجغرافيا على حد سواء. وفي درعا، كما في مدن سورية أخرى، تحوّلت أدوات الدولة — من القانون إلى القوة العسكرية — إلى وسيلة للسيطرة والعقاب الجماعي.

ملف حقوق الملكية: أولوية ملحّة أمام الحكومة السورية الجديدة
في مرحلة ما بعد سقوط النظام، تواجه الحكومة السورية القادمة تحديًا كبيرًا يتمثل في معالجة ملف حقوق السكن والأرض والملكية، سواء في محافظة درعا أو في سائر المناطق المتضررة. وتُعد هذه القضية مدخلًا أساسيًا لأي مشروع للعدالة الانتقالية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن.

ينبغي أن تبدأ هذه المعالجة بإلغاء جميع القوانين والمراسيم التي شرعنت الاستيلاء على ممتلكات المواطنين، وعلى رأسها: القانون رقم 10 لعام 2018، والمرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012، والقانون رقم 23 لعام 2015، والمرسوم رقم 140 لعام 2023، وغيرها من الأدوات القانونية التي شكّلت الإطار التشريعي لسياسات المصادرة والتهجير.

ويجب أن يُستبدل هذا الإطار بمنظومة قانونية جديدة، تكفل استرداد الحقوق أو التعويض عنها من خلال آليات قضائية فعالة تتسم بالشفافية والاستقلالية، وتراعي شمول النازحين داخليًا واللاجئين في الخارج ممن فقدوا ملكياتهم في ظل النظام السابق.

كما ينبغي أن تتضمن خطة الحكومة إنشاء هيئة محلية مستقلة، تتولى مراجعة ملفات المصادرة، والتحقيق فيها، وتحديد المسؤولين عنها، تمهيدًا لإنصاف المتضررين ومحاسبة الجناة. ويمكن لتلك الهيئة التعاون مع منظمات دولية متخصصة، أو الاستفادة من تجارب دول مرّت بمسارات مشابهة، بهدف تطوير آليات ملائمة لتسوية النزاعات العقارية ما بعد الحرب، مع مراعاة التعقيدات القانونية والديمغرافية الخاصة بالسياق السوري.

وأخيرًا، يجب أن تُبدي الحكومة التزامًا وطنيًا يتجاوز الإصلاح القانوني، ليشمل العمل الجاد على ترميم النسيج الاجتماعي المفكك، وضمان التماسك المجتمعي، من خلال مبادرات محلية للعدالة المجتمعية، وتعزيز الثقة بين الدولة والمواطن، وتهيئة البيئة السياسية والإدارية اللازمة لعودة آمنة وكريمة للمهجّرين قسرًا إلى مدنهم وبلداتهم.

خاتمة
لم يكن النزاع في سوريا مجرد حرب تقليدية، بل صراع متعدد الأبعاد استهدف الذاكرة والهوية والجغرافيا على حد سواء. وفي درعا، كما في مدن سورية أخرى، تحوّلت أدوات الدولة — من القانون إلى القوة العسكرية — إلى وسيلة للسيطرة والعقاب الجماعي، عبر استخدام السكن والأرض والملكية كوسائل لاقتلاع من حلموا بالتغيير، وإبقائهم في دائرة النفي القسري.

وعليه، فإن هذه الوقائع تمثّل نداءً واضحًا للمجتمع الدولي، ولأي حكومة سورية قادمة، بضرورة الاعتراف بأن حق العودة لا يكتمل من دون استعادة الحق في الملكية. فلا عدالة ممكنة من دون محاسبة حقيقية واسترداد للحقوق. وحتى يتحقق ذلك، ستبقى عودة لاجئي ونازحي محافظة درعا حلمًا مؤجلًا، محفوفًا بالتعقيدات، في حين نأملها عودة كريمة وآمنة كما يستحقون.

المصدر: تلفزيون سوريا

اقرأ المزيد
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة

ستة أشهر مضت على سقوط نظام بشار الأسد، ومنذ ذلك الحين، تبذل الأطراف السورية من رأس الهرم في السلطة الجديدة بقيادة الرئيس "الشرع" ووزير الخارجية "الشيباني" جهوداً جبارة، إضافة لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية على رأسها "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، لإقناع الدول الغربية بأن أسباب العقوبات المفروضة على سوريا قد زالت بسقوط الديكتاتور، وأن الوقت حان لرفع تلك العقوبات.

هذه الجهود التي استطاعت خلال فترة زمنية قياسية، تحقيق تقدم كبير على مستويات عدة في عدة دول غربية اقتنعت بضرورة تخفيف العقوبات، واستقبلت الوفود السورية، وزارت دمشق، تكللت أخيراً بالوصول للعثرة الأكبر أمام إعادة بناء الدولة وهي "العقوبات الأمريكية" المفروضة على سوريا، ليس منذ 2011 فحسب، بل منذ عهد حافظ الأسد.

هذا الإنجاز خطوة تاريخية تُسجل لصالح السياسة المتزنة التي اتبعتها السلطة السورية الجديدة برئاسة "الشرع"، والعمل الدؤوب اليومي لوزير الخارجية "الشيباني" الذي طالما طالب برفع العقوبات في كل المحافل الدولية وأكد على ضرورة وأهمية هذه الخطوة، إضافة لمساعي الدول الصديقة ممثلة بـ "تركيا - قطر - السعودية" التي ساعدت في تذليل لكل العقبات الدولية للوصول لهذه المرحلة.

لاشك أن العقوبات الغربية "الأوربية والأمريكية" إضافة للعزلة العربية، كان لها الأثر الكبير والبالغ في تقويض سلطة نظام الأسد، وساهمت في إضعافه اقتصادياً وسياسياً وعلى مستويات عدة، رغم انعكاسها المباشر على الشعب السوري، بسبب تعنت الأسد في ممارسة القتل والاستبداد ورفضه كل الطروحات والحلول لوقف جرائمه وتهديده المنطقة بأسرها عبر تهريب المخدرات، علاوة عن إطلاق يد ميليشيات إيران التي شكلت تهديد لدول المنطقة.

ومع سقوط نظام بشار الأسد، ووقف تهريب المخدرات وإلزام انسحاب ميليشيات إيران وتقويض أذرعها، بات من الضروري إسقاط تلك العقوبات، كونها لم تكن يوماً موجهة ضد نهضة سوريا أو الشعب السوري، وإنما هي مرتبطة بنظام حكم استبد في سوريا لعقود طويلة، ومارس القتل والانتهاكات والجرائم الجسيمة، وهذا كان الهدف منذ اليوم الأول لسقوط الأسد، فكان بيان "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" عقب سقوط نظام الأسد بأقل من أسبوع، يطالب صراحة برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا.

وقالت الشبكة في تقريرها إن العقوبات التي فرضت على نظام الأسد كانت بسبب الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبها منذ آذار 2011، وبسبب فشل مجلس الأمن الدولي في وقفها فرضت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول عقوبات اقتصادية وسياسية كتعويض عن هذا الفشل وكأداة لمحاسبة النظام، والضغط على نظام الأسد لتغيير سلوكه الإجرامي، ولدفعه للقبول بحل سياسي.

وأضافت الشَّبكة التي دعمت استخدام العقوبات كأداة ضد نظام الأسد، أن التحول الكبير في المشهد السوري مع سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، فإنَّ العقوبات قد فقدت مبررها كوسيلة للردع والعقوبة، والتغيير السياسي، وأكدت حينها أن استمرار العقوبات، في ظل غياب النظام السابق، قد يؤدي إلى تحولها من أداة للمساءلة إلى عائق أمام جهود التعافي السوري.


وأكدت الشبكة الحقوقية أن الإبقاء على العقوبات الاقتصادية يهدد بتقويض الجهود الإنسانية، ويعيق تدفق الموارد الحيوية، مما يزيد من تعقيد مهام المنظمات المحلية والدولية في تقديم المساعدات وإعادة الإعمار. كما يمثل استمرار العقوبات عقبة رئيسة أمام عودة اللاجئين والنازحين، ويعرقل جهود الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني، والشركات الخاصة، وذلك بفعل القيود المفروضة على المعاملات المالية والتجارية، والتي تحول دون تأمين المواد الأساسية أو تحويل الأموال اللازمة لدعم المتضررين.

هذا الإنجاز التاريخي بالوصول لإسقاط العقوبات الأمريكية مع إعلان الرئيس "ترامب" رفعها وإشادته بالسلطة الجديدة في سوريا، ورغبته في بناء علاقات قوية مع دمشق عقب لقاء الرئيس "الشرع" يعتبر بداية النهضة في سوريا الحرة، وبداية المعركة الحقيقية للبناء، عقب معركة سياسية كانت مميزة وموضع إشادة كبيرة محلياً ودولياً، في وقت كان يسعى أذناب الأسد وبعض القوى الأخرى للإبقاء على تلك العقوبات واستخدامها كسلاح ضد إرادة الشعب السوري في التغيير وإسقاط الطغاة والمشاريع الانفصالية والطائفية.

اقرأ المزيد
١٣ مايو ٢٠٢٥
"الترقيع السياسي": من خياطة الثياب إلى تطريز المواقف

منذ أن كنا أطفالاً، كنا نسمع كلمة "الترقيع" في سياق بسيط: عندما يتمزق جزء من قطعة لباس، يُصلَح برقعة ليبقى صالحاً للاستعمال، وإن كان لا يعود كما كان. ومع مرور الوقت، لم تعد الملابس المرقعة دليل فقر أو عوز، بل أصبحت في بعض الحالات موضة يتباهى بها البعض.

لكن مفهوم "الترقيع" لم يبقَ حبيس عالم الألبسة. لقد تسلل إلى المواقف والآراء، خاصة في القضايا المصيرية. ففي المعجم، يعني "الترقيع" إصلاح التمزق بإضافة رقعة، أي معالجة موضعية لا تُعيد الشيء إلى أصله. لكن الاستخدام المجازي للكلمة تطور، ليصف محاولات التراجع غير الكاملة، أو التبريرات المؤقتة لتفادي الإحراج أو المحاسبة. وغالباً ما يُستخدم لوصف من يبدّل رأيه بعد انكشاف الحقائق، دون اعتراف صريح بخطئه.

ترقيع المواقف في زمن الثورة
في سورية، منذ اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد في آذار/مارس 2011، ظهرت هذه الظاهرة بأوضح صورها. فقد انقسم الناس إلى ثلاثة أصناف: من وإلى النظام وكرّس نفسه لتلميعه والدفاع عن جرائمه؛ من عارض ودفع الثمن غالياً من حريته وحياته وراحته؛ من اختار الصمت أو الحياد، ولو ظاهرياً.

الصنف الأول - من الموالين - ظل لسنوات يمجّد الأسد، باعتقاد أن بقاءه أبديّ، حتى فجّر الشعب السوري هذه "الأسطورة". عندها وجد كثير منهم أنفسهم في موقف محرج، فبدؤوا "الترقيع" لمواقفهم السابقة، بتبريرات من قبيل: "ما كنا نعرف بسجن صيدنايا". هذه العبارة تحديداً استخدمتها الممثلة سوزان نجم الدين، وشادي حلوة وغيرهم، كمحاولة لدرء اللوم عن أنفسهم.

وقد توالت التبريرات: "كنا خايفين"، "ما كان بإيدنا"، "ضللونا بالإعلام"… لكنها مبررات لا تكفي لمسح تاريخ من التواطؤ أو التبرير المباشر لجرائم لا يمكن تجاهلها. الخوف مفهوم في بعض السياقات، لكنه لا يجب أن يُستخدم ذريعة للصمت أمام القتل، أو لتبرير الاستبداد. ففي أحلك الظروف تُختبر المبادئ، وتُعرف معادن الناس.

التبديل لا الاعتراف
ما يلفت النظر أن كثيراً من هؤلاء "المرقعين" لم يتراجعوا بدافع ندم حقيقي، بل لأن اتجاه الرياح تغيّر. فاختاروا تبديل الموقف كما يُبدّل القميص، دون أي اعتراف بدورهم في نشر الوهم، أو اعتذار للضحايا الذين سقطوا بصمتهم أو مشاركتهم في بروباغندا النظام.

لقد أصبح الترقيع السياسي وسيلة لتبييض ماضٍ لا يُمحى بالكلمات، بل نوعاً من الكذب المقنّع، وتزويراً لذاكرة جماعية. حين يدّعي البعض أنهم كانوا مغيبين أو ضحايا تضليل، وهم في الحقيقة كانوا جزءاً من ماكينة التشويه، فإنهم لا يسعون للحق بقدر ما يهربون من المحاسبة.

حتى أن الترقيع ظهر ضمن وجهات النظر على المواضيع التي تُحظى بأهمي، فحين انتشرت قصة "خطف ميرا"، سارع كثيرون إلى تصديق الرواية وتبنّيها دون تحقق، فانهالت المنشورات الغاضبة التي تهاجم الحكومة وتدين وضع إدلب، معتبرين ما حدث دليلاً دامغاً على الفوضى والانهيار الأمني. 


لكن ما إن كُشف لاحقاً أن القصة ليست سوى "هروب حب" لا علاقة لها بالاختطاف، حتى وجد أولئك أنفسهم في موقف محرج، فبدأ بعضهم بمحاولات ترقيع الموقف، تارة عبر التذرع بأن "النية كانت سليمة"، وتارة أخرى عبر تحويل اللوم على الإعلام أو على "الجهات التي لفّقت الرواية"، متناسين أنهم كانوا جزءاً من تضخيم الحدث دون تثبت. هذا المشهد يعكس أزمة في التعامل مع المعلومات، حيث تغلب العاطفة على التريث والعقل، وحيث يصبح "الترقيع" بديلاً عن الاعتراف بالخطأ.

لا مستقبل بلا مواجهة
مواجهة هذا "الترقيع" ليست بهدف الانتقام، بل بهدف تثبيت الحقائق، ومحاسبة أخلاقية لكل من ساهم، بصمته أو دعمه، في صناعة الألم السوري. لا يمكن بناء مستقبل سليم على رقعٍ وخيوط كاذبة، بل على الصدق، والاعتراف، والجرأة في مواجهة الذات، والاعتراف لا يُنقص من الكرامة، بل يمنحها. أما الترقيع، فمهما بدا أنيقاً، يبقى دليلاً على تمزقٍ لم يُعالج كما يجب.

اقرأ المزيد
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية

لا يمكن فهم المشهد في السويداء اليوم بمعزل عن تناقضات الهوية السياسية للطائفة الدرزية التي تسيطر على المحافظة، وهي تناقضات تتجلى بوضوح في ممارساتها ومواقفها إزاء محيطها المحلي والوطني. فبينما يُطالب الدروز بحقهم كأغلبية في السويداء بفرض رؤيتهم وإدارتهم الكاملة للمحافظة، نراهم في الوقت نفسه يرفضون أن يخضعوا لحكم الأغلبية الوطنية السورية ذات الغالبية السنية، ويصرّون على خصوصية سياسية وأمنية تميزهم عن بقية المكونات السورية.

هذا التناقض، الذي برز أكثر بعد سقوط نظام بشار الأسد وولادة الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، يطرح إشكالية حقيقية في بناء دولة سورية موحدة على أسس عادلة ومتكافئة.

الأغلبية الدرزية في السويداء: الحاكم المطلق داخل المحافظة

تاريخيًا، كان جبل العرب (السويداء) يشكل معقلًا للطائفة الدرزية، وتحوّل مع الوقت إلى ما يشبه الكيان المغلق سياسيًا واجتماعيًا. ومع أن الدروز تعايشوا لسنوات مع المكونات الأخرى في المحافظة – بدو سنة ومسيحيين – إلا أن الخطاب السائد ظل يضع الدروز في موقع “الزعامة” الطبيعية للمحافظة.

هذا ظهر جليًا مؤخرًا في طريقة التفاوض مع حكومة دمشق الجديدة. فعندما جلس وفد من مشايخ العقل والقيادات العسكرية المحلية على طاولة الحوار مع مسؤولي الحكومة، لم يظهر أي تمثيل فعلي للمكونين الآخرين في المحافظة. وكأن مصير المحافظة برمتها محصور فقط بإرادة الطائفة الدرزية. لا بل الأكثر من ذلك، أن الدروز يعتبرون أن من حقهم وحدهم رسم مستقبل السويداء أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، دون الالتفات إلى رأي البدو السنة أو المسيحيين الذين يشكلون أقل من 10% من سكان المحافظة.

بين نار الفعل وردّ الفعل: هل تمضي السويداء نحو الانفجار؟

يبرز هذا التفرد أيضًا في التعامل الأمني. عندما اندلعت الاشتباكات مساء أمس بين قريتي الدارة السنية والثعلة الدرزية، حيث تعرضت الأخيرة لقصف بقذائف الهاون مجهول المصدر، لتقوم بالرد باستهداف قرية الدارة بقذائف الهاون والرشاشات الثقيلة ما تسبب بحالة هلع بين السكان وحركة نزوح واسعة باتجاه محافظة درعا.

هذه المواجهة رفعت الستار عن طائفية الميليشيات التي كانت وما زالت ترى نفسها حامية السويداء بينما في الحقيقة أنها لا تحمي سوى مصالحها وليس حتى طائفتها، إذ أن الكثير من أبناء الطائفة الدرزية يقفون مع الدولة السورية.

ففي مثل الحالة التي وقعت يوم أمس في السويداء تظهر عقلية الطائفية لدى الميليشيات الدرزية التي تتبع بمعظمها الشيخ حكمت الهجري، التي ترى أن حكمها للسويداء حق حصري ومشروع، وتعتمد إقصاء البدو السنة والمسيحيين اللذَين هما مكونان أساسيان للمحافظة، وهو ما يكشف أيضًا أن قرار المواجهة أو التهدئة بيد القيادات الدرزية فقط، فيما لم تُؤخذ مصالح الأقلية بالاعتبار في أي قرار مصيري يتعلق بالمحافظة.

وفي خضم الاشتباكات ونزوح أهالي قرية الدارة، تعرض مقام ديني درزي في قرية الصورة الكبيرة للحرق والتخريب على يد مجهولين يعتقد أنهم عناصر غير منضبطة ضمن فصائل وزارة الدفاع التي سيطرت على القرية مؤخرًا، وهو فعل مدان بلا شك، أجّج غضب الدروز ودفع بعض المتطرفين إلى محاولة الرد بحرق مساجد والاعتداء على بدو السنة في السويداء. لكن العقلاء داخل الطائفة حالوا دون الانزلاق إلى هذه الكارثة، في موقف يحسب لهم رغم سخونة الموقف.

من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن مخاوف الدروز مشروعة جزئيًا، في ظل وجود عناصر متشددة داخل الفصائل التي تمثل الحكومة الجديدة. هؤلاء لا يخفون عداءهم الطائفي، بل يحملون خطابًا متشددًا حتى ضد مخالفيهم من السنة أنفسهم. ومع ذلك، فإن الرد الطائفي ليس هو الطريق الآمن، بل بوابة لمزيد من الانهيار.

الأغلبية السنية في سوريا: مرفوضة كحاكمة وطنية

في المقابل، حين ننتقل إلى المستوى الوطني، نلاحظ أن الدروز في السويداء يرفضون رفضًا قاطعًا أن تخضع مناطقهم لحكم الأغلبية السنية في سوريا. ويُنظر إلى أي محاولة لبسط سلطة الحكومة المركزية على السويداء كتهديد مباشر للهوية والخصوصية الدرزية.

هذا الموقف عبّر عنه بوضوح الزعيم الروحي الشيخ حكمت الهجري في تصريحاته الأخيرة التي وصف فيها حكومة أحمد الشرع بأنها “متطرفة ومطلوبة للعدالة الدولية”، رافضًا أي وفاق معها. كما تتكرر المطالبات بدرزية منفصلة إداريًا عن بقية الدولة، أو على الأقل بإطار لا مركزي يضمن للدروز سلطة ذاتية على مناطقهم.

إشكالية التناقض: حق الأغلبية أم ازدواجية في المواقف؟

اللافت هنا أن الطائفة الدرزية تطالب بتطبيق مبدأ الأغلبية حين تكون هي الأغلبية (في السويداء)، لكنها ترفض المبدأ نفسه حين تكون أقلية (في سوريا). وهذه إشكالية شائعة في الفكر الطائفي عبر التاريخ، حيث يتحول مبدأ الأغلبية إلى أداة ظرفية تُستخدم متى خدمت المصالح الطائفية، وتُرفض عندما تتعارض معها.

يمكن فهم هذا السلوك في ضوء مخاوف تاريخية للدروز، الذين كانوا دائمًا أقلية تعيش في قلق وجودي من محيطها الأكبر. ومع أن هذه المخاوف قد تبدو مبررة أحيانًا بفعل تجارب سابقة من القمع أو التهميش، إلا أن الإصرار على مبدأ “الخصوصية المطلقة” يعزز الانعزال ويقوض فكرة المواطنة المتساوية.

المخاطر المستقبلية: نحو صدام أم مصالحة وطنية؟

إذا استمر هذا التناقض في إدارة العلاقات داخل السويداء ومع الدولة السورية، فسيُعمق الشرخ بين مكونات المحافظة نفسها من جهة، وبين السويداء والدولة المركزية من جهة أخرى. ويعني هذا أن فرص الانفجار الطائفي ستظل قائمة، خصوصًا إذا استمرت الأطراف الإقليمية مثل إسرائيل وإيران في الاستثمار في هذه الفجوة لمصالحها.

إسرائيل التي دخلت على الخط بتوجيه ضربات قالت إنها لحماية الدروز، لكنها، كما دائمًا، تسعى لتعميق عزلة الطائفة وجعلها رهينة “حمايتها”، وهو رهان مكلف لن يجلب الأمن طويل الأمد.

الخلاصة أن ما يجري اليوم في السويداء يضع الطائفة كلها أمام مفترق مصيري: إما بناء شراكة حقيقية تعيد التوازن بين مكونات المحافظة وعموم سوريا وتجنبها الانفجار، أو الانجرار وراء أوهام الحماية الخارجية والخطابات الطائفية، التي لا تجلب سوى الدمار.

كما قلتَ بدقة: حتى لو وعدتهم إسرائيل بالحماية، فلن يجدوا الأمن ما دام محيطهم كله يشعر بالخذلان والطائفية. اللحظة حرجة، والطريق الآمن يبدأ من الداخل، لا الخارج.

الحل الوحيد يكمن في إعادة تعريف العقد الاجتماعي داخل السويداء أولًا، بحيث يتم الاعتراف بحقوق كل المكونات، وبناء إطار تمثيلي حقيقي لا يحتكر القرار. وفي الوقت نفسه، يجب على الطائفة الدرزية أن تعيد النظر في موقفها من الدولة، وتنتقل من موقع الرفض المطلق إلى موقع الشراكة المتكافئة، انطلاقًا من مبدأ أن لا أمن لأي طائفة من دون أمن كل السوريين.

في النهاية، قد يكون السؤال الأهم: هل السويداء مستعدة للتخلي عن هواجسها القديمة لصالح مستقبل سوري موحد؟ أم أنها ستظل عالقة في ازدواجية مواقفها، لتجد نفسها يومًا ما تدفع ثمن هذه الازدواجية وحدها؟

اقرأ المزيد
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا

في لحظةٍ باتت فيها عيون آلاف الناجين من جرائم نظام الأسد ترنو إلى بارقة أملٍ في عهدٍ جديد، تُفاجئنا بعض المنصّات الإعلامية باستضافة شخصياتٍ عُرفت بولائها للنظام وتبريرها للانتهاكات التي أدمت قلوب الضحايا على مدار سنواتٍ طويلة. هذا المشهد يشكل استفزازًا لمشاعر المكلومين، ويحمل في طيّاته تهديدًا حقيقيًا للسلم الأهلي؛ إذ قد يدفع ببعض الضحايا نحو الانتقام في ظل غياب إجراءاتٍ عادلة تمنحهم الإنصاف المنشود.

ولعلّ القضية المحورية التي نستحضرها هنا هي ضرورة معالجة ظاهرة استضافة هؤلاء الداعمين والمبررين لجرائم النظام في البرامج الحوارية أو المنصّات الثقافية، خاصةً بعد انهيار سلطة نظام الأسد الاستبدادية وبدء مرحلةٍ جديدة يُفترض أن تُمهِّد الطريق للعدالة الانتقالية.

إنَّ التهاون مع تبرير الجرائم والعنف الذي طال شرائح واسعة من المجتمع، لا يؤدّي سوى إلى تعميق الانقسامات وإبطاء مسار العدالة المنشودة. لقد بات مطلوبًا أكثر من أي وقتٍ مضى توخّي الحذر في اختيار الضيوف، وتحمّل مسؤولية مهنية وأخلاقية تضمن احترام كرامة الضحايا، وترسم معالم مستقبلٍ أكثر عدلًا وتوازنًا.

على مدى سنواتٍ طوال، شهدت سوريا انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان على يد نظام الأسد، بما في ذلك الإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون، وبحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان كان نظام الأسد وحلفاؤه مسؤولين عما يقارب 90% من تلك الانتهاكات الموثّقة.

وفي ضوء هذا الواقع الأليم، تبرز أهمية العدالة الانتقالية التي تُعرَف بمجموعة من الآليات والتدابير الرامية إلى تحقيق المحاسبة، والكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي، بما يضمن عدم تكرار هذه الفظائع.

ولأنّ الإعلام يشكّل أحد الأعمدة الرئيسة في مرحلتَي النزاع وما بعد النزاع، فإنّ دوره لا يقتصر على التغطية الإخبارية؛ بل يتعدّى ذلك إلى كونه أداةً محوريةً إما في تهدئة الرأي العام ورأب الصدع الاجتماعي، أو في إعادة إنتاج سردياتٍ تبرِّر الجرائم وتُهيّئ المناخ لبروز أحقادٍ جديدة.

من هنا، يصبح التعامل المسؤول من قبل المنصّات الإعلامية ركيزةً أساسيةً لإنصاف الضحايا، وتعزيز المسار الانتقالي نحو دولةٍ تحترم حقوق الإنسان وتوفّر ضماناتٍ حقيقيةً لعدم العودة إلى دائرة الانتهاكات.

تكمن الإشكالية المركزية في أنّ العملية الانتقالية لا ينبغي أن تقتصر على ملاحقة الجناة المباشرين الذين ارتكبوا أبشع الانتهاكات بحقّ المدنيين، بل يجب أن تمتدّ لتشمل أولئك الذين دعموا وشرعنوا هذه الانتهاكات، سواء كان ذلك دعمًا ماديًّا أو سياسيًّا أو إعلاميًّا.

إنّ تبرير الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ليس مجرّد "رأيٍ مخالف"، يمكن التعامل معه باستخفاف؛ فهو انخراطٌ فعليٌ في إعادة إنتاج السرديات التي تجرّد الضحايا من إنسانيتهم وتضفي شرعيةً وهميةً على مظالمهم.

من هذا المنطلق، يصبح السكوت عن هؤلاء أو دعوتهم للظهور الإعلامي دون محاسبةٍ واضحة إمعانًا في التغاضي عن الآلام التي عانى منها الملايين، ويرسل رسالةً خاطئة إلى المجتمع تفيد بأنّ مجرد تغيير قمة الهرم السلطوي كافٍ للوصول إلى العدالة، بينما تبقى الشبكات الداعمة في منأى عن المساءلة.

على الصعيد النفسي والاجتماعي، إنّ استضافة الشخصيات المبرِّرة للجرائم تشكّل استفزازًا مباشرًا لمشاعر ملايين الضحايا وذويهم، ما قد يولّد موجةً جديدة من الغضب وعدم الثقة في أي عملية انتقالية، ويفتح الباب أمام احتمالاتٍ خطيرة من العنف الانتقامي.

فحينما يرى الناجي أنّ من برّر قتله أو تعذيبه في السابق ما زال يُمنح منصّةً للترويج لخطابه، فإنّ ذلك يُضعف ثقته في صدقية مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام على السواء، ويقوّض فرص إرساء بيئةٍ مُهيّأةٍ للمصالحة.

ذلك أنّ انتقال المجتمعات من حقبة الاستبداد إلى مرحلة العدالة لا ينحصر في معاقبة المتورطين المباشرين فقط، بل يستلزم تفكيك المنظومات الثقافية والفكرية التي سمحت بتمرير الانتهاكات وتبريرها أمام الرأي العام.

أما فيما يتصل بالسلم الأهلي، فإنّ غضّ الطرف عن هذه الشريحة، وتبرير وجودها في الفضاء العام دون أي اعتذارٍ فعلي أو إسهامٍ حقيقي في جبر الضرر، يرسّخ لدى الضحايا شعورًا بالظلم ويغذّي مشاعر الانتقام التي قد تهدّد بنسف التعايش المجتمعي برمّته.

فالعدالة الانتقالية، كما تستلزم كشفًا للحقيقة واعترافًا علنيًّا بالمسؤولية، تنشد أيضًا إعادة ترميم النسيج الاجتماعي عبر خطواتٍ ملموسة تمنح الناجين الإحساس بأنّ كرامتهم قد استُعيدت وأنّ المجتمع بأسره يقف في صفّ الحقيقة، لا في صفّ النافذين والمبرّرين الذين كانوا جزءًا لا يتجزأ من منظومة القمع.

وفي هذا الإطار، فإنّ تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب، بأبعاده القانونية والأخلاقية والاجتماعية، هو صمّام الأمان الذي يضمن احتواء شعور الضحايا بالمرارة والإحباط، ويمهّد الطريق أمام مرحلةٍ سياسية ومجتمعية تحترم حقوق الإنسان في العمق، بدل أن تكتفي بتغيير أسماء القادة أو رموزهم.


الحجج والدلائل الداعمة


1- الركائز القانونية

    حدود حرية التعبير وجرائم التبرير: إنَّ الأصل في القانون الدولي لحقوق الإنسان أنَّ لكلِّ إنسان حقًّا في حرية الرأي والتعبير، وفق ما تنصّ عليه المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

بيد أنّ هذه المادة نفسها تقرُّ بإمكان فرض قيودٍ محدّدة على هذا الحق، شريطة أن تكون تلك القيود ضروريةً ومتناسبة وتحمي المصالح العامة، لا سيّما في حالات التحريض على العنف أو تبرير الجرائم الدولية.

وبالتالي، فإنّ تبرير الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب لا يمكن اعتباره يندرج ضمن الحريات المحميّة؛ بل هو انتهاكٌ يزيد من إيلام الضحايا ويهدّد السلم المجتمعي.

    سوابق دولية في تجريم التمجيد أو الإنكار: شهدت بعض التجارب الأوروبية قوانين صارمة تجرّم إنكار الجرائم المرتبطة بالأنظمة الشمولية، وهذه الخطوات التشريعية تستند إلى قناعة مفادها أنّ عدم التصدي لإنكار أو تمجيد الجرائم الجسيمة يخلق بيئةً خصبة لإعادة إنتاج العنف والقمع. وعليه، قد تكون هذه النماذج القانونية مصدر إلهامٍ لحالةٍ سورية انتقالية، بهدف صوغ نصوصٍ تشريعية تُجرّم تمجيد أو تبرير الأعمال الوحشية التي ارتكبها نظام الأسد.

2- الركائز الأخلاقية والاجتماعية

    احترام كرامة الضحايا وحفظ السلم المجتمعي: تعدّ حماية كرامة الضحايا مبدأً أخلاقيًّا وإنسانيًّا لا يقبل التنازل، فضلًا عن كونها أداةً حاسمةً في استعادة الثقة داخل المجتمع. إذ يشعر الناجون أنَّ معاناتهم يتم الاعتراف بها وتقديرها، ما يساهم في تهدئة الغضب الداخلي لديهم ويمنع أي ميولٍ انتقامية. فعدم اتخاذ أي إجراءات قانونية أو أخلاقية ضدّ من يبرّرون الجرائم يعني، ضمنيًّا، إباحة الاعتداء على إنسانية الضحايا مجدّدًا.

    أهمية جبر الضرر المعنوي مبكّرًا: قد يستغرق تأسيس محاكم العدالة الانتقالية أو لجان الحقيقة والتحقيق وقتًا طويلًا، بيد أنّ الضحايا لا يستطيعون الانتظار لسنوات وهم يشاهدون مجرمي الأمس وداعميهم يتجوّلون في الفضاء العام دون أدنى شعورٍ بالمسؤولية.

ولهذا، تصبح خطوات الاعتذار العلني والتعويض المادي والمعنوي، ورد الحقوق إلى أصحابها، إجراءاتٍ أساسيةً تُنفَّذ بشكلٍ مبكّر، بحيث تشكّل اعترافًا صريحًا بوقوع الجريمة وتحمّلًا للجزء الأكبر من أعبائها الأخلاقية.

إنّ هذه الخطوات هي ركيزة السلم الأهلي، وتُعبّد الطريق نحو مستقبلٍ أكثر استقرارًا، عبر بعث رسالةٍ واضحة بأنَّ زمن الإفلات من العقاب وتمجيد الانتهاكات قد ولّى.


الرد على الاعتراضات


"عدم العلم"

يدّعي بعض الموالين لنظام الأسد أنّهم لم يكونوا على درايةٍ كاملةٍ بحجم الممارسات القمعية، أو أنّهم صدّقوا الدعاية الرسمية التي تنكر وقوع انتهاكاتٍ ممنهجة. غير أنّ هذا الادعاء بالجهل لا يعفي من المسؤولية الأخلاقية أو القانونية، خصوصًا بعد توافُر وثائق وشهادات وأدلة واسعة توثّق تلك الجرائم.

في إطار العدالة الانتقالية، يترتّب على الأفراد الذين دعموا النظام أو برّروا جرائمه واجب مراجعة الذات وتثقيفها، بدل الاستمرار في إنكار الحقائق. فمن غير المقبول أنّ تبرُز حجّة "عدم المعرفة" بعد سقوط نظام الأسد، في وقتٍ باتت المعلومات الموثوقة متاحةً للجميع. إنّ الاعتراف بالتقصير والجهل في السابق، إن أُرفق بتحمُّل العواقب والمسؤوليات الآن، قد يُشكّل خطوةً إيجابية على طريق استعادة ثقة المجتمع.


خطاب الانتقام

يمثّل الخوف من الانتقام أحد الهواجس المتكررة لدى الداعمين السابقين للنظام، كما قد يكون دافعًا للضحايا أنفسهم إذا ما استمر تجاهل مطالبهم. إلا أنّ التجربة التاريخية تُبيّن أنّ غياب المساءلة يؤدي في النهاية إلى تفاقم نزعة الثأر ويُغذّي دوراتٍ جديدةً من العنف.

على النقيض، فإنّ مساءلة المبرِّرين والجناة المباشرين، وما يصاحب ذلك من إجراءاتٍ تصالحية كالمصارحة والاعتذار والتعويض، يمكن أن تقطع الطريق على نزعة الانتقام، وتعزّز مناخ الثقة بين مختلف فئات المجتمع.

بهذا المعنى، يصبح التزام العدالة الانتقالية – بأبعادها القانونية والأخلاقية – الضامن الأهمّ لاستقرار مجتمعي يضع حدًّا لدوائر العنف، وينتقل بالشعب من مرحلة الصراع إلى طور التعافي وبناء الدولة على أسسٍ عادلةٍ وشاملة.


التوصيات والمقترحات العملية


1- للحكومة المستقبلية

    تشريعات واضحة وصارمة: من الضروري سنّ قوانين تُجرّم صراحةً إنكار أو تبرير جرائم نظام الأسد، بحيث توفّر تلك النصوص غطاءً قانونيًّا لمحاسبة كل من ينخرط في تبرير أعمالٍ ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. قد يستفيد واضعو التشريعات من التجارب المقارنة، لتأطير النصوص بما يراعي الخصوصية السورية.
    إدراج جرائم النظام في المناهج والبرامج الإعلامية: لا يكفي سنُّ القوانين دون توفير الوعي المجتمعي. لذا، ينبغي تضمين الجرائم والفظائع التي ارتكبها النظام في مناهج التعليم المدرسية والجامعية، وذلك لضمان ألا تتكرّر مآسي الماضي. كما يجدر بالبرامج الإعلامية الرسمية التركيز على توثيق تلك الانتهاكات، مع تسليط الضوء على شهادات الضحايا وذويهم حتى يكون الرأي العام على درايةٍ حقيقية بما حصل.
    توفير آليات تنفيذية: لضمان ألا تبقى هذه التوصيات في حيّز النظريات، يجب إنشاء هيئة أو لجنة حكومية تُعنى بمراقبة تنفيذ القوانين المتعلقة بتجريم التبرير، وتتولّى تنسيق الجهود مع الجهاز القضائي لملاحقة المخالفين. فضلًا عن ذلك، يمكن لهذه الهيئة العمل على تطوير سياساتٍ تربوية وثقافية تساهم في نشر ثقافة حقوق الإنسان والمساءلة.

2- للإعلام

وضع معايير أخلاقية ومهنية: تُعتبَر وسائل الإعلام مرآة المجتمع وصانعة الرأي العام؛ وعليه، لا يجوز لها منح منبرٍ لمروجين لخطابٍ يشرعن العنف أو يهوّن من خطورة الجرائم الموثّقة.

يجب وضع ميثاق شرف إعلامي يرفض استضافة أي شخصيةٍ تبرّر الجرائم الدولية مثل التي ارتكبها نظام الأسد، ويُلزم المؤسسات بالتحقق المسبق من محتوى الضيف وأرشيفه وتصريحاته السابقة.

إنتاج محتوى توعوي وتثقيفي: الإعلام قادرٌ على إحداث فرقٍ ملموس في عملية بناء الذاكرة الجماعية. فمن واجب المؤسّسات الإعلامية توظيف تقارير توثيقية وأفلامٍ وثائقية وبرامج حوارية تشرح جذور الانتهاكات بحق الشعب السوري، وتبيّن آثارها المدمّرة على النسيج الاجتماعي. مثل هذا المحتوى يُسهم في ترسيخ ثقافة المحاسبة والتعاطف مع الضحايا.

عدم تحوّل حرية التعبير إلى بابٍ للإفلات من المحاسبة: ينبغي للمؤسسات الإعلامية إدراك الخط الفاصل بين حرية الرأي، وبين الدعاية المضللة التي تبرر الجريمة. إنّ الالتزام بالموضوعية في المعالجة الصحفية يقتضي إظهار الحقائق من مصادر موثوقة والتصدي لنشر الأكاذيب، أو أي تضليلٍ يستبيح معاناة الضحايا.


3- للداعمين أو المبررين

    إعادة الممتلكات المنهوبة : إذا كانت هناك أملاكٌ أو مواردُ استولى عليها الداعمون أثناء حقبة نظام الأسد، فيجب أن تُعاد هذه الممتلكات إلى أصحابها الشرعيين فورًا، بما يشكّل بدايةً للاعتراف بأضرارٍ مادية واضحة.
    الاعتذار والتعويض: من الضروري توجيه اعتذارٍ علني ومكتوب ومصوّر، يقرّ صراحةً بالمسؤولية الأخلاقية عن دعم نظامٍ مارس الجرائم بحق مواطنيه، على أن يتضمّن خطةً لتعويض الضحايا ماليًّا ومعنويًّا. ويُعدّ هذا التعويض جزءًا من جبر الضرر المبكّر الذي يعزز الشعور بالإنصاف قبل انتظار المسارات القضائية المطوّلة.
    عدم تكرار الفعل والابتعاد عن المناصب العامة: إنّ تحمُّل المسؤولية لا يتوقف عند الاعتراف العلني، بل يستلزم الالتزام العملي بعدم شغل أي مناصب قيادية في المستقبل، فلا يمكن لشخصٍ برّر القتل أو التصفية أن يتولى شأنًا عامًا دون المرور بمحاسبةٍ حقيقية.
    الامتناع عن الظهور الإعلامي: قبل القيام بهذه الخطوات البنّاءة من الاعتذار وإعادة الممتلكات وتعويض الضحايا، يجب الامتناع تمامًا عن الظهور الإعلامي، إذ لا يعقل أن يُمنح المبرّرون منصةً جديدةً لتعزيز سردياتهم المؤذية من دون أي إشارةٍ إلى الندم أو تحمّل مسؤولياتهم الأدبية والقانونية.

الخاتمة

في ضوء ما سبق، يتبيّن أنَّ إقصاء الخطاب الذي يبرِّر جرائم نظام الأسد ليس مجرّد مطلبٍ عاطفيٍّ يحاكي آلام الضحايا، بل هو عنصرٌ جوهري في أي عملية عدالة انتقالية تهدف إلى ضمان عدم تكرار المآسي الماضية وبناء مستقبلٍ أكثر استقرارًا.

فكلّما سُمح للأصوات المبرِّرة بالظهور وتوظيف المنصات الإعلامية لتبرئة الجلاد أو الاستخفاف بجرائمه، زاد خطر إحياء مناخ القمع، وتعميق مشاعر الانتقام لدى من عانوا وذاقوا ويلات النظام.

ولهذا، فإنّني أدعو القرّاء وشرائح الرأي العام إلى تكثيف الضغط على المؤسسات الحكومية والإعلامية المستقلة العربية والأجنبية كي تتبنّى هذه الإجراءات والتوصيات على نحوٍ جاد؛ فإصدار تشريعاتٍ رادعة واستحداث ضوابطٍ مهنيةٍ صارمة في المشهد الإعلامي، تدابير لا بدّ منها لإرساء ثقافة المساءلة، واسترداد ثقة الجمهور بدور وقدرة الإعلام في مناصرة حقوقهم والدفاع عنها.

إنّ تفعيل هذه الخطوات يضمن بناء أرضيةٍ حقوقية لدور الإعلام المحوري في تحقيق العدالة والمحاسبة، حيث تُمحى ثقافة إفلات المجرمين والداعمين من العقاب، وتُزرع بديلًا منها ثقافة الانفتاح على الحقيقة والمصالحة عبر خطواتٍ عملية، ويصبح مبدأ العدالة حجر الزاوية في إدارة الشأن العام، وينمو وعيٌ مجتمعي راسخٌ بقيم حقوق الإنسان.

وفي مثل هذه الأجواء فقط يمكن للسوريين أن يخطوا بثباتٍ نحو طيّ صفحة الاستبداد وتأمين مستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة. 

اقرأ المزيد
1 2 3 4 5

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل
● مقالات رأي
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
فضل عبد الغني مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى