صورة
صورة
● مقالات رأي ١٨ أكتوبر ٢٠٢٥

"فضل عبد الغني" يكتب: شروط حقوقية أساسية لتطبيع العلاقات السورية - الروسية

قال "فضل عبد الغني" مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في مقال نشره على موقع "تلفزيون سوريا"، إن تطبيع العلاقات بين سوريا وروسيا، بعد سنوات من التدخل العسكري غير القانوني في سوريا، يمثّل تحديات غير مسبوقة للقانون الدولي والعدالة الانتقالية؛ فمنذ 30 أيلول/سبتمبر 2015 وحتى سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، خلّف التدخل العسكري الروسي انتهاكات موثّقة غيّرت بصورة جذرية الإطار القانوني الناظم لأي علاقات ثنائية مستقبلية.

ووفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، قتلت القوات الروسية 6993 مدنياً، بينهم 2061 طفلاً و984 امرأة، وارتكبت 363 مجزرة، واستهدفت ما لا يقل عن 1262 منشأة مدنية حيوية. كما عرقلت روسيا آليات المساءلة الدولية عبر استخدام حق النقض في مجلس الأمن ثماني عشرة مرة لحماية نظام الأسد ومنع إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية. 

ووفق "عبد الغني" تُنشئ هذه الأفعال التزامات قانونية ملزمة بموجب القانون الدولي الإنساني وبالقواعد الآمرة في القانون الدولي العام، بما يتجاوز الموازنة الدبلوماسية التقليدية، ويجعل أي مقاربة للتطبيع مشروطة بالمساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبالتعويض الشامل للضحايا، وبضمانات فعّالة لعدم التكرار.

إن إيواء روسيا للأسد لا يُعدّ عقبة سياسية فحسب، بل مخالفةً لالتزاماتٍ تعاهدية ودولية، ما يجعل تسليمه للسلطات السورية المختصة شرطاً قانونياً أساسياً في أي مسار لتطبيع العلاقات.

المساءلة والالتزامات المترتبة بموجب القانون الدولي
يمثّل مبدأ المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني شرطاً تأسيسياً لأي تطبيع سوري-روسي؛ ويُرسِي القانون الدولي التزامات واضحة على الدول المسؤولة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك من خلال مسؤولية القيادة والمسؤولية الجنائية الفردية. 


وتشكل الانتهاكات الموثّقة المنسوبة إلى القوات الروسية، ومنها الاستهداف المتعمد للمدنيين، والهجمات المنهجية على المرافق الطبية والتعليمية، واستخدام أسلحة محظورة دولياً، خروقاً جسيمة لاتفاقيات جنيف تستدعي التزامات إلزامية بالتحقيق والملاحقة. 


ويتجاوز إطار المساءلة حدود الاعتراف السياسي إلى آليات ملموسة للمقاضاة، إذ يقرّر مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، الراسخ في العرف الدولي، إخضاع القادة العسكريين والسياسيين الذين خططوا أو أمروا أو أشرفوا على تلك الهجمات لإجراءات التحقيق والملاحقة. 


وينبثق هذا الالتزام من القاعدة المقررة في المادة الأولى المشتركة لاتفاقيات جنيف التي توجب على جميع الدول «احترام» الاتفاقيات و«كفالة احترامها في جميع الأحوال»، بما ينشئ التزامات مباشرة على الدولة المرتكِبة، والتزاماتٍ على الدول الأخرى بصفتها أطرافاً ثالثة، كما ينهض مبدأ «التحقيق أو التسليم» في الجرائم الأشد خطورة (aut dedere aut judicare) كمعيار إجرائي لازم لتجسيد هذه الالتزامات.

كما تُعدّ مسألة تسليم المجرم بشار الأسد محوراً في هذا الإطار؛ فوفق الفقرة (و) من المادة 1 من اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، تُستثنى من الحماية كلُّ شخصية تتوافر بشأنها أسبابٌ جدية للاشتباه في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. كما يؤكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3074 (الدورة 28 لعام 1973) أن على الدول الامتناع عن منح اللجوء لمن تتوافر أسبابٌ جدية للاعتقاد بارتكابه جريمة ضد السلم أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. وبناءً على ذلك، فإن إيواء روسيا للأسد لا يُعدّ عقبة سياسية فحسب، بل مخالفةً لالتزاماتٍ تعاهدية ودولية، ما يجعل تسليمه للسلطات السورية المختصة شرطاً قانونياً أساسياً في أي مسار لتطبيع العلاقات.

إطار للانتصاف وجبر الضرر
يمثّل الالتزام بتقديم جبرٍ كاملٍ عن الأفعال غير المشروعة دولياً مبدأً أساسياً في القانون الدولي، كرّسته المحكمة الدائمة للعدل الدولي بوضوح في قضية مصنع تشورزوف، التي قررت أن الجبر «يجب، قدر الإمكان، أن يمحو جميع عواقب الفعل غير المشروع وأن يعيد الحالة إلى ما كانت عليه على الأرجح لو لم يقع ذلك الفعل». وبالنسبة لضحايا الانتهاكات المنسوبة إلى التدخل الروسي في سوريا، ينهض من هذا المبدأ إطارٌ متعدد الأبعاد يشمل ردّ الحقوق، والتعويض، وإعادة التأهيل، والترضية، وضمانات عدم التكرار.

ينبغي أن يتناول إطار الجبر الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن العمليات العسكرية الروسية؛ ويقتضي ردّ الحقوق إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الانتهاكات، بما في ذلك إلغاء الاتفاقات القسرية وإعادة الأراضي والممتلكات المصادَرة. 

ويُعد ردّ الحقوق الشكل الأمثل للجبر متى كان تطبيقه ممكناً، غير أنّ حجم الدمار الواسع في سوريا الذي تسببت به روسيا يستلزم تدابير تعويضية مكمِّلة. ويجب أن يغطي عنصر التعويض الأضرار القابلة للتقييم المالي، بما يشمل الخسائر المادية المباشرة كتدمير الممتلكات وفقدان مصادر الدخل، والخسائر غير المادية مثل الأذى النفسي، وفقدان الفرص التعليمية، وتفكك الروابط الأسرية.

وتُعدّ تدابير إعادة التأهيل ركناً رئيساً في منظومة الجبر، إذ تستلزم توفير خدمات طبية ونفسية وقانونية واجتماعية متكاملة تكفل تعافي الضحايا واستعادة قدرتهم على الاندماج. وتؤكد المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الحق في الانتصاف والجبر أنّ لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني حقوقاً واجبة النفاذ في تعويضٍ مناسب وفعّال وسريع يتناسب مع جسامة الانتهاكات. وينشأ عن ذلك التزامٌ على روسيا بوضع برامج عملية تُقدَّم من خلالها خدمات دعم شاملة للفئات المتضررة.

ويقتضي عنصر الترضية الاعتراف الرسمي بالانتهاكات والتعبير الصريح عن الأسف وتقديم اعتذارٍ علنيّ لا لبس فيه؛ ولا يقف هذا عند حدود المجاملة الدبلوماسية، بل يُعدّ التزاماً قانونياً مترتباً على مسؤولية الدولة عن الفعل غير المشروع دولياً. 


ومن ثمّ يتعيّن على روسيا الإقرار الرسمي بالمسؤولية وتقديم اعتذارٍ علنيّ واضح عن الانتهاكات المرتكبة خلال تدخلها العسكري، لما لذلك من وظيفة رمزية وعملية معاً، إذ يثبت معاناة الضحايا ويُرسّي قاعدة واقعية لتفعيل بقية تدابير الجبر.

ويستوجب بُعدُ إعادة الإعمار في إطار الجبر مساهمةً مباشرةً من روسيا في ترميم وإعادة بناء البنية التحتية التي دمّرتها العمليات العسكرية، بما في ذلك مرافق الطاقة وشبكات النقل والمنشآت الطبية والمدارس وسائر المرافق الحيوية التي استهدفت بصورة منهجية. 

وهذا الالتزام يُعدّ فرصةً اقتصادية، والأهم، أنه مسؤوليةً قانونيةً ناشئةً عن الفعل غير المشروع دولياً، ما يفرض أن تتقدّم جهودُ الإعمار وفق نهجٍ يرتكز إلى حقوق الضحايا، ويكفل مشاركتهم الفاعلة في تحديد الأولويات وطرائق التنفيذ، بما يضمن فعالية الإجراءات واستدامتها ويحول دون تكرار الانتهاكات.

إن تسليم بشار الأسد، ورفع العوائق الدبلوماسية أمام مسارات المساءلة، وإطلاق برامج جبرٍ تتمحور حول الضحايا، تعتبر التزامات قانونية أساسية مترتبة على مسؤولية روسيا عن الأفعال غير المشروعة دولياً.

منظومة العدالة الانتقالية وضمانات عدم التكرار
يشكّل تكامل آليات العدالة الانتقالية ركناً أساسياً في أي إطار لتطبيع العلاقات السورية-الروسية. ويقتضي القانون الدولي أن تنهض ضمانات عدم التكرار بوظيفتين متلازمتين: وقائية وإصلاحية؛ بما يعزّز الأداء المؤسسي المستقبلي ويعالج في آنٍ واحدٍ الانتهاكات السابقة. 


وتستلزم هذه الضمانات إنشاء ترتيبات فعّالة تحول دون تكرار الاعتداءات على المدنيين والمرافق الحيوية، وإقرار إصلاحات قانونية ومؤسسية تكفل الامتثال لقواعد القانون الدولي الإنساني، واعتماد آليات تحقق مستقلة لمراقبة تنفيذ الالتزامات الدولية، إلى جانب تدابير ملموسة في مجالي نزع السلاح وتقليص التدخلات العسكرية المستقبلية.

وتُعدّ عمليات تقصّي الحقائق عنصراً محورياً في منظومة العدالة الانتقالية، إذ تكرّس حق الضحايا في معرفة الحقيقة بشأن الانتهاكات التي تعرّضوا لها. وقد أنشأت السلطات السورية هيئة وطنية للعدالة الانتقالية للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة، ويقتضي تعاون روسيا مع هذه الهيئة إتاحة الوصول إلى السجلات والوثائق العسكرية ذات الصلة، وتمكين الإدلاء بشهادات العسكريين الروس المشاركين في العمليات. وتستند هذه الالتزامات إلى قواعد قانون المعاهدات ومبادئ القانون الدولي الإنساني العرفي التي تُلزم الدول بالتحقيق في الانتهاكات وضمان احترام القانون الإنساني.

ويمثّل حفظ الوثائق ومواصلة التحقيق التزاماتٍ مستمرة لا يجوز إنهاؤها باتفاقات سياسية؛ فالبيانات الشاملة التي راكمتها لجنة التحقيق الدولية المستقلة والشبكة السورية لحقوق الإنسان وغيرهما على مدى أربعة عشر عاماً تُعدّ أدلة فاعلة لآليات المساءلة المستقبلية. 


ومن ثمّ ينبغي لأي إطارٍ للتطبيع أن يحمي جهود التوثيق ويعزّزها، مع ضمان إتاحة الأدلة للإجراءات القضائية الوطنية والدولية. ويشمل ذلك صون سلسلة حيازة الأدلة المادية، وحماية شهادات الشهود، والحفاظ الآمن على الأرشيف الرقمي لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني باعتبارها جزء من التاريخ والسردية الوطنية.

خاتمة
لا يمكن للسلطات السورية مقاربة تطبيع العلاقات السورية-الروسية عبر قنوات دبلوماسية تقليدية في ضوء حجم وشدة الانتهاكات الموثّقة خلال التدخل العسكري الروسي؛ ويُرسِي القانون الدولي شروطاً غير قابلة للتفاوض تسبق أي علاقة طبيعية، تتمثل في: مساءلة لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجبرٍ كامل يعالج الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تكبّدها الضحايا السوريون، وضماناتٍ قوية لعدم التكرار، ودعمٍ فعّال لآليات العدالة الانتقالية التي تضع حقوق الضحايا في صميمها. 


وتنبع هذه المتطلبات من قواعد آمرة لا يجوز التنازل عنها بتسويات سياسية أو ترتيبات دبلوماسية. ومن ثمّ فإن تسليم بشار الأسد، ورفع العوائق الدبلوماسية أمام مسارات المساءلة، وإطلاق برامج جبرٍ تتمحور حول الضحايا، تعتبر التزامات قانونية أساسية مترتبة على مسؤولية روسيا عن الأفعال غير المشروعة دولياً. وأي إطار يتجاوز هذه الشروط سيعزز الإفلات من العقاب، ويقوّض سيادة القانون، ويحرم آلاف الضحايا وعائلاتهم من العدالة.

المصدر: تلفزيون سوريا الكاتب: فضل عبد الغني
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ