
رسائل "الشرع" من قمة كونكورديا: خطاب يفتح أبواب سوريا على العالم
لم تكن مشاركة الرئيس أحمد الشرع في قمة «كونكورديا» بنيويورك حدثاً بروتوكولياً عادياً، بل بدت وكأنها لحظة سياسية فارقة يطل فيها وجه سوريا الجديد على العالم، فمن على طاولة واحدة مع كبار المستثمرين والخبراء الاقتصاديين، وفي مقابلة مباشرة مع مدير الـCIA السابق ديفيد بترايوس، رسم الشرع خطوط رؤيته لسوريا ما بعد الحرب، واضعاً نفسه وقضية بلاده في قلب النقاش الدولي.
ما لفتني في خطاب الرئيس أنه جمع بين اعتراف صريح بالمآسي التي عاشها السوريون تحت نظام الأسد البائد، وبين تقديم إنجاز «تحرير سوريا بأقل الخسائر» كعنوان لفصل جديد، هذه الصراحة لم تكن مألوفة في خطابات سابقة، وهي تحمل إشارة إلى أن دمشق الجديدة تحاول بناء شرعية على أساس الشفافية والتدرج، لا على أساس الشعارات.
الشرع لم يكتفِ بتوصيف الداخل، بل أرسل رسائل مدروسة للخارج: إشادة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزالة العقوبات، ودعوة الكونغرس لاستكمالها، وتأكيد على أن المصالح اليوم متطابقة بين سوريا والغرب، كما بدا وكأنه يقول إن بوابة دمشق إلى العالم لن تمر عبر السياسة فقط، بل عبر الاستثمار والاقتصاد والتعاون الدولي، وأن على المجتمع الدولي أن يمنح سوريا «فرصة حياة» ثانية.
في الداخل، ركّز الرئيس على عناصر الأمن والعدالة: حصر السلاح بيد الدولة، لجان لتقصي الحقائق في الساحل والسويداء، والسماح بدخول لجان تحقيق دولية، هذه إشارات طمأنة ضرورية لبلد أنهكته النزاعات وأرهقته الانتهاكات، ورسالة إلى المراقبين بأن صفحة الإفلات من العقاب قد تُطوى فعلاً إذا تحوّل الكلام إلى أفعال.
حتى الملف الكردي، أحد أعقد ملفات ما بعد الحرب، حضر في الخطاب بلهجة واقعية: عرض دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري مع ضمان الحقوق، إقرار ببطء التنفيذ، ودعوة إلى حلول سلمية سريعة، وهذه اللغة أقل حدة وأكثر براغماتية مما اعتدنا سماعه، وتعكس فهماً بأن نجاح سوريا الجديدة يمر عبر إدارة تنوعها بعيداً عن المحاصصة التي رفضها الشرع علناً لصالح حكومة كفاءات.
أما في ملف إسرائيل، فقد بدا الرئيس وكأنه يختبر ردود الأفعال: تذكير بالاعتداءات واحتلال الجولان والتوغل في الأراضي السورية، مقابل تأكيد السعي إلى تجنب الحرب والتمسك بالتهدئة لإعطاء البلاد فرصة للنهوض، ثم وضع الشرط الواضح: انسحاب إسرائيل من الأراضي السورية ومعالجة المخاوف الأمنية بالمفاوضات، مع التساؤل العلني ما إذا كانت تلك المخاوف حقيقية أم مجرد أطماع توسعية. هذا الخطاب يفتح باب المفاوضات دون أن يقدم تنازلات مسبقة.
الشق الاقتصادي من التصريحات لا يقل أهمية عن السياسي، فالرئيس يراهن على قدرات وطنية لإعادة بناء الاقتصاد، لكنه يشير بوضوح إلى أن رفع العقوبات هو الشرط الأساسي للانطلاق. هنا يظهر رهان دمشق على المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية التي تحضر القمة، ورسالتها أن سوريا لم تعد مصدر تهديد بل سوقاً ناشئة تستحق الدعم.
خلاصة ما خرجتُ به من متابعة تصريحات الشرع في قمة «كونكورديا» أن سوريا تحاول إعادة تقديم نفسها للعالم: دولة تسعى للتهدئة لا للتصعيد، للعدالة لا للانتقام، وللتنمية لا للانعزال. هذه ليست مجرد شعارات؛ إنها خريطة طريق إذا ما تحققت يمكن أن تعيد رسم موقع سوريا في المنطقة والعالم. لكن التحدي الأكبر ليس في صياغة الخطط أو إلقاء الخطابات، بل في القدرة على تحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس يلمسه السوريون أولاً قبل غيرهم.