"أنا استخبارات ولاك".. حادثة اختبار مبكر لهيبة القانون في مرحلة ما بعد الأسد
لم يكن مقطع الفيديو الذي انتشر خلال الأيام الماضية على منصات التواصل الاجتماعي في سوريا مجرد مشهد عابر، بل كان كاشفاً لحساسية مرحلة تُحاول فيها البلاد إعادة بناء معنى الدولة والقانون والاحترام المتبادل.
فقد ظهر رجل يقود سيارة في أحد شوارع دمشق وهو يخاطب شرطي مرور بكلمات متعالية قائلاً: "أنا استخبارات ولاك"، جملة قصيرة، لكنها حملت أثقال تاريخ طويل من التسلط والاستقواء الذي عرفه السوريون خلال عقود حكم النظام البائد.
المشهد كان كفيلاً بإثارة موجة واسعة من ردود الفعل لأن السوريين الذين دفعوا دمائهم طيلة سنوات من القهر والتشرد لن يقبلوا العودة ولو خطوة إلى الوراء حيث دولة الاستبداد والاستقواء على الضعفاء وفرض سلطة الأمن المتعالية على الشعب.
ومما يؤكد وعي السوريين، تحول الفيديو إلى مساحة نقاش مفتوح حول قيم الدولة، واحترام المؤسسات، وحدود الصلاحيات، والحق في المساواة أمام القانون، ورأى عدد كبير من السوريين الذين تداولوا المقطع أن ما حدث ليس مجرد تجاوز فردي من شخص ادعى الانتماء إلى جهاز أمني، بل هو تذكير حي بممارسات ظلت لسنوات إحدى أدوات القمع وترسيخ الخوف.
لم يجد كثيرون صعوبة في ربط الواقعة بعبارات مألوفة من مرحلة النظام البائد، مثل: "ما بتعرف مين أنا" و "نحن الدولة"، كان هذا الأسلوب انعكاساً لمنظومة كاملة عملت على وضع الأجهزة الأمنية فوق القانون، وعلى جعل بعض أفرادها يشعرون أنهم غير قابلين للمحاسبة، واليوم، حين تعود هذه اللغة للظهور ولو في مشهد واحد، فإن رد الفعل الشعبي يحمل قدراً من الحساسية والرفض الطبيعي، لأنه يلامس جرحاً لم يلتئم بعد.
ومن جانب آخر، أثنى آلاف السوريين على سلوك شرطي المرور الذي ضبط نفسه وتعامل مع الموقف بقدر عالٍ من الهدوء والمهنية، ما اعتُبر مثالاً لسلوك رجل الدولة الذي لا ينجرّ إلى الاستفزاز ولا يسمح للانفعال بأن يحكم تصرفاته.
وفي سياق الرد الرسمي، وبعد انتشار الفيديو، أعلنت وزارة الداخلية أنها أوقفت المعتدي فوراً وأحالته إلى القضاء، ليتم اتخاذ الإجراءات اللازمة بحقّه، ودعت إلى تعزيز ثقافة احترام رجل المرور والالتزام بالقانون، مؤكدة أن "لا أحد فوق القانون تحت أي ظرف"، وهذا ماينشده السوريون جميعاً ويطمحون لتطبيه فعلياً وعلى الجميع.
بهذا الموقف، بدا واضحاً أن مؤسسات الدولة تحاول إرسال رسالة مباشرة مفادها أن السلوكيات التي ترمز إلى مرحلة الاستبداد ليست موضع تساهل، وأن القانون هو الإطار الناظم للجميع مهما كانت صفته أو ادعاؤه.
تكمن أهمية الحادثة في أنها فتحت نقاشاً ضرورياً: كيف تُبنى دولة القانون؟ وكيف تُستعاد الثقة بين المواطن ومؤسسات الأمن والشرطة؟، والإجابة لا تكمن فقط في العقوبات القانونية، بل أيضاً في: تعزيز مكانة شرطي المرور كعنصر مدني مسؤول عن حماية السلامة العامة لا مجرد "مُنظِّم سير".
كذلك بمواجهة ثقافة الاستعلاء بكل أشكالها، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو أمنية، وإعادة تعريف الانتماء للمؤسسات الأمنية على أنه خدمة عامة لا امتيازاً فوق المجتمع، فما أثاره هذا الفيديو لم يكن مجرد موجة غضب عابرة، بل خطوة إضافية في مسار طويل لإعادة تشكيل علاقة السوريين مع الدولة.
واليوم، يتفق كثيرون على أن سوريا الجديدة لن تُبنى ما لم يكن القانون هو المرجعية المطلقة، والمساواة مبدأ لا يُستثنى منه أحد، وإذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذه الواقعة، فهو أن التحول الحقيقي يبدأ من التفاصيل الصغيرة… من كلمة تُقال، أو سلوك يُرفض، أو شرطي مرور يؤدي واجبه باحترام.. فيُعيد تعريف معنى الدولة.