خطاب الهجري بين لغة الحسم ومؤشرات القلق الداخلي
خطاب الهجري بين لغة الحسم ومؤشرات القلق الداخلي
● مقالات رأي ١٩ ديسمبر ٢٠٢٥

خطاب الهجري بين لغة الحسم ومؤشرات القلق الداخلي

يحمل البيان الأخير الصادر عن الشيخ حكمت سلمان الهجري مزيجًا لافتًا من لغة الحسم والتهديد من جهة، ومحاولات التثبيت والضبط الداخلي من جهة أخرى، في خطاب يبدو موجّهًا إلى أكثر من جمهور، لكنه يركّز بشكل واضح على البيئة الداخلية في محافظة السويداء.

فعلى المستوى الظاهري، يتبنى الخطاب نبرة عالية السقف، تقوم على مفردات مثل “الاستقلال”، و”تقرير المصير”، و”الدفاع عن الوجود”، وهي مفردات تُستخدم عادة في سياقات الصراع الوجودي أو المواجهة مع أخطار خارجية كبرى.

غير أن التدقيق في بنية الخطاب وتسلسل أفكاره يكشف أن القسم الأكبر منه موجّه لضبط السلوك الداخلي أكثر من كونه رسالة ردع للخصوم الخارجيين.

مركزية “القيادة” وضبط الاختلاف

من أبرز سمات البيان الإلحاح المتكرر على مفاهيم مثل توحيد التوجه، والثقة بالقيادة، ورفض أي مسار مغاير لما يُقدَّم على أنه “إرادة الأهل”. هذا النوع من اللغة لا يكتفي بالدعوة إلى وحدة الصف، بل يتجاوزها إلى رسم حدود صارمة لما هو مقبول وغير مقبول داخل الجماعة.

ويلاحظ أن الخطاب لا يفتح مجالًا واضحًا للاختلاف أو النقاش الداخلي، بل يقدّم التمايز في الرأي بوصفه تهديدًا محتملًا، ما يوحي بوجود قلق من تراجع الانضباط أو من بروز أصوات لا تتماشى مع الخط السياسي المطروح.

غموض الاتهام واتساع دائرته

يستخدم البيان مفردات شديدة مثل “الخيانة”، و”الظلام”، و”الإرهاب”، من دون تقديم تعريف دقيق أو محدد لهذه المصطلحات. هذا الغموض يجعل الاتهام مفتوحًا على تأويلات متعددة، ويمنح الخطاب قدرة واسعة على إدراج فئات مختلفة ضمن خانة العداء، سواء كانوا معارضين سياسيين، أو منتقدين، أو حتى متحفظين.

في الخطاب السياسي، غالبًا ما يُستخدم هذا الأسلوب عندما تسعى القيادة إلى خلق حالة ردع داخلي، حيث يصبح الخوف من الوصم أقوى من الرغبة في التعبير أو الاعتراض.

وفي هذا السياق، يرى معارضون للهجري أن خطابه لا يقتصر على التحذير اللفظي، بل يتقاطع مع واقع أمني تُتَّهم فيه مجموعات مسلحة محسوبة عليه بفرض توجهاتها بالقوة، عبر الترهيب وإسكات أي صوت مخالف. ويقول هؤلاء إن مساحة الاعتراض داخل السويداء باتت شديدة الضيق، إذ يُنظر إلى أي نقد، حتى لو جاء بدافع التصويب أو التحذير من الانزلاق، بوصفه تهديدًا يجب إخماده.

ووفق شهادات محلية، فإن هذا المناخ القائم على التخويف أسهم في إخراس أصوات معارضة، عبر التهديد أو الاستهداف المباشر، ما عمّق منسوب الخوف الداخلي ورسّخ منطق القوة بدل الحوار.


سحب الشرعية الاجتماعية

اللافت أيضًا استخدام عبارات تشير إلى نزع الانتماء عن بعض الأفراد، من خلال توصيفهم بأنهم “غير جديرين” بالمجتمع أو بالهوية الجماعية. هذه اللغة لا تتوقف عند حدود النقد السياسي، بل تمس البنية الاجتماعية ذاتها، إذ تحوّل الانتماء من رابطة جامعة إلى أداة ضبط وعقاب.

وفي مجتمعات تقوم على الروابط التقليدية والدينية، يحمل هذا النوع من الخطاب وزنًا كبيرًا، لأنه لا يعاقب الفرد سياسيًا فحسب، بل يعزله رمزيًا واجتماعيًا.

القلق الداخلي وانعكاسه في الوقائع الميدانية

ولا يمكن فصل نبرة القلق التي تطغى على خطاب الهجري عن التطورات الأمنية والاجتماعية التي شهدتها محافظة السويداء مؤخرًا. فقد تزامن البيان مع سلسلة أحداث داخلية دامية، شملت حوادث إطلاق نار أودت بحياة مدنيين، وعمليات قتل طالت شخصيات دينية واجتماعية معروفة، إضافة إلى تقارير عن اعتقالات وتصفيات في سياق خلافات داخلية.

كما برزت شهادات محلية تتحدث عن تهجير قسري وتضييق على عائلات ومجموعات بعينها، وسط تصاعد الاتهامات لمجموعات مسلحة بفرض واقع أمني بالقوة. هذه الوقائع، بما تحمله من صدمة اجتماعية وتوتر داخلي، تفسّر إلى حد كبير تركيز الخطاب على مفردات مثل “الانضباط”، و”عدم المزاودة”، و”من خاننا ليس منا”.

وفي السياق نفسه، تتقاطع نبرة التحذير التي استخدمها الهجري في حديثه عن سرقة المساعدات مع شكاوى متكررة من أهالي السويداء وناشطين محليين، تحدثوا عن عدم وصول المساعدات الحكومية أو المقدّمة من منظمات دولية إلى مستحقيها.

ووفق هذه الشهادات، تُتَّهم مجموعات مسلحة موالية للهجري بالاستيلاء على تلك المساعدات وإعادة توزيعها على مقربين منها، أو طرحها للبيع في البسطات والمحلات التجارية.

ويعكس هذا الملف تحديدًا أحد أوجه التصدّع الداخلي، حيث يتحول الخلل المعيشي إلى عامل إضافي لتآكل الثقة، ويضعف قدرة الخطاب التحذيري على إقناع الشارع، حتى عندما يتضمن إدانة صريحة لهذه الممارسات.

ويبدو أن هذه اللغة لا تأتي في سياق مواجهة تهديد خارجي فحسب، بل تعكس محاولة لاحتواء حالة تشقق داخلي آخذة في الاتساع، وإعادة ضبط المشهد الاجتماعي، ومنع انتقال الاعتراض من الهامش إلى العلن.

هواجس الخارج وحدود الرهان الإقليمي

يمكن قراءة خطاب الهجري بوصفه محاولة لإعادة رسم خطوط الولاء والشرعية داخل مجتمع يعيش توترًا سياسيًا واجتماعيًا متصاعدًا. فبينما يرفع البيان شعارات كبرى تتعلق بالسيادة وتقرير المصير، فإن لغته وتفاصيله تشير إلى انشغال واضح بإدارة الداخل، وضبط الاختلاف، ومنع تآكل النفوذ أو تشكل مسارات بديلة.

وفي هذا السياق، يبدو الخطاب انعكاسًا لمرحلة حساسة تختلط فيها مخاوف الانقسام الداخلي مع هواجس خارجية لا تقل حضورًا في صياغة البيان.

إذ يلفت مراقبون إلى أن الإشادة العلنية التي خصّ بها الهجري إسرائيل، حكومةً وشعبًا، لا يمكن قراءتها بمعزل عن قلق متزايد من فقدان الغطاء أو الدعم الإقليمي، أو من احتمال الاستغناء عنه في حال تغيّر موازين المصالح.

ويشير هؤلاء إلى أن هذا الشكر العلني، بصيغته المباشرة، يوحي بمحاولة تثبيت موقع أو تجديد رسالة ولاء في لحظة يشعر فيها صاحب الخطاب بأن أوراقه باتت مكشوفة، خاصة مع تصاعد الاتهامات الداخلية بالفساد، وبتورط مجموعات مسلحة محسوبة عليه في انتهاكات طالت المدنيين وملفات المساعدات.

وفي ظل هذا المشهد، تتشابك مخاوف الهجري من الداخل مع مخاوفه من الخارج، سواء من عودة نفوذ الحكومة السورية أو من تبدّل حسابات الأطراف الإقليمية، ما يفسّر سعي الخطاب إلى مخاطبة أكثر من جهة في آن واحد، بلغة تجمع بين التهديد في الداخل والتودد في الخارج.

 

الكاتب: أحمد ابازيد - رئيس تحرير شبكة شام
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ