لم تكن دراستي الجامعية مجرد سنوات من الكتب والمقررات، بل كانت ملحمة شخصية، خضتُ فيها معركة بقاء للحلم وسط رماد الحرب. لم أكن طالبة فحسب، بل كنت شاهدة على زمنٍ تنزف فيه الأحلام وتتشبث فيه الكرامة بخيط رفيع من الأمل.
كانت نقطة التحول في عامي الثاني، حين خرجت مدينة إدلب عن سيطرة النظام. شعرتُ يومها وكأن المدينة تنفست الصعداء عني، وكأن سجنًا فُتح ببطء. لكن لحظة النشوة لم تكتمل، إذ أصبحت جامعتي بعيدة، شبه مستحيلة. لم أستسلم، حملتُ أختي وقلقي، وذهبنا إلى جامعة حماة الخاضعة للنظام.
الرحلة التي بدأت بالأمل انتهت على حاجز عسكري حيث وقعنا في فخ الإهانة والذل. ادّعى الجنود أن الحافلة تحوي متفجرات. تفتيش، شتائم، وضربٌ لشاب فقط لإذلاله. لم أُصب جسديًا، لكن كرامتي ضُربت في صميمها. وعدتُ يومها بقرار واحد: لا علم يُطلب على حساب الكرامة.
مرّت شهور وأنا أراقب أحلامي تتآكل بصمت. لكنني لم أنسَ الطريق. حين فُتحت لي فرصة لمتابعة الدراسة في إدلب، قفزتُ إليها دون تردد. لا شيء كان سهلاً. كل شيء من حولنا كان يدفعنا للانسحاب: القصف، المخاوف، الأصوات المثبطة: "شو هالدراسة؟"، "ما إلها قيمة!". لكنني كنت أتابع الطريق بابتسامة عنيدة، لأنني ما كنت أبحث عن شهادة، بل عن نفسي التي تركتها ذات يوم على مقعد خشبي في قاعة باردة.
كانت السماء تمطر نارًا، والطائرات لا تغيب، والمقاعد تفرغ أحيانًا من أصحابها إلى الأبد. لن أنسى ذاك اليوم الذي استُشهد فيه شاب من أبناء حارتي، زميل مقاعد وحلم مشترك. سقط بيننا، على عتبة الحياة، بينما صرخات أهله تشقّ صدر السماء. والدته ناحت على جثته: "ما لحقت أفرح فيه!". لم يكن مشهدًا عابرًا، بل جرحًا مفتوحًا في ذاكرة لا تنسى.
ورغم كل ذلك، أكملتُ. وتخرجت بمعدل 80%. تحت القصف، فوق الخوف، بجانب الشموع. وبعد التخرج، حظيتُ بفرصة عمل محترمة، شعرتُ معها أن كل خطوة في طريقي المثقل لم تذهب سدى. كان ذلك العمل بداية جديدة في حياة تشبه الحلم وسط ركام الواقع.
لقد اخترت أن أمشي هذا الطريق، رغم الأشواك. لم يكن سهلاً، لكنه كان طريقي… وأنا مشيتُه حتى النهاية.
على مدار سنوات حكمه، اعتقلَ نظام الأسد آلاف السوريين انتقاماً من مشاركتهم في الثورة المعارضة له، وزجَّ بهم في معتقلات يغيبُ عنها الحدّ الأدنى من المعايير الإنسانية. في تلك الزنازين المظلمة، عانى المعتقلون من أقسى أنواع التعذيب والإهمال، حتى فارقَ كثير منهم الحياة دون محاكمة أو معرفة ذويهم بمصيرهم. وبينما أُفرج عن بعضهم قبل سقوط النظام، وخرج آخرون بعد التحرير.
لكن الخروج من السجن لم يكن نهاية المعاناة، يعتقدُ البعض أن معاناة المعتقل تنتهي بمجرد فتح أبواب السجن وإطلاق سراحه، وكأن الحرية تطوي ما مضى من صفحات العذاب التي عاشها خلال سنواتٍ اقتطعتها القضبان من عمره.
إلا أن الواقع مختلف تماماً؛ إذ يواجه الناجي من الاعتقال سلسلة متواصلة من التحديات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ويحتاج إلى جهد كبير لاستعادة توازنه والاندماج مجدداً في حياته الطبيعية. في هذا التقرير، نستعرض بعضاً من هذه الصعوبات، استناداً إلى شهادات ميدانية جمعناها من أصحاب التجربة أنفسهم ومن ذويهم.
الندوب النفسية والآثار الجسدية
غالباً ما يعاني الناجون من الاعتقال من استمرار استرجاعهم للأحداث الصادمة التي تعرضوا لها داخل السجن، مثل التجويع، والضرب، والإهانة، وغيرها من أساليب القمع التي اعتاد النظام السوري استخدامها ضد المساجين.
وقد أفادَ عدد من المعتقلين السابقين بأنهم يرون كوابيس متكررة تجسد مشاهد مشابهة لما عاشوه، مما يعكس استمرار تأثير الصدمة النفسية حتى بعد الإفراج عنهم. ويُعد الشعور الدائم بالخوف، واضطرابات النوم، والقلق والتوتر من الأعراض الشائعة لما يُعرف بـ"اضطراب ما بعد الصدمة"، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالات وفق ما تؤكده الدراسات النفسية.
ولا تتوقف آثار الاعتقال عند الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى الجسد الذي ناله نصيب وافر من العذاب، مخلفًا إعاقات دائمة ومزمنة لدى كثير من المعتقلين. فالتعذيب القاسي داخل السجون تسبّب بإصابات بالغة لعدد من المعتقلين، وصل بعضها إلى إعاقات دائمة، وفقًا لما أكدته تقارير صادرة عن منظمات حقوقية دولية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى جانب توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وقد أشارت هذه المصادر إلى أن عدداً من المعتقلين تعرّضوا لإصابات جسدية خطيرة، شملت حالات بتر أطراف نتيجة الضرب المبرح أو الإهمال الطبي، بالإضافة إلى شلل جزئي أو كامل بسبب الصعق بالكهرباء أو إصابات في العمود الفقري. كما وثّقت التقارير فقدان بعض المعتقلين لحاسة البصر أو السمع، إلى جانب إصابة آخرين بأمراض مزمنة أو فشل في بعض الأعضاء نتيجة الحرمان من العلاج وسوء ظروف الاحتجاز.
أعباء اقتصادية وتحولات اجتماعية
وإلى جانب الجوانب النفسية والجسدية، يواجه المعتقلون المحررون تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة، تُثقل كاهلهم وتُعيق اندماجهم في الحياة الطبيعية. إذ أن معتقلون اصطدموا بواقع اقتصادي متردٍ، لا سيما في ظل اضطراره لإعادة بناء حياته من الصفر.
وفي كثير من الحالات، لا يمتلك ذوه القدرة المادية الكافية لتأمين احتياجاته اليومية أو دعمه في تجاوز المرحلة الانتقالية بعد خروجه من السجن. كما أن السنوات التي قضاها في الاعتقال قد حرمته من فرص التعليم أو العمل، ما يقلل من إمكانية اندماجه مجددًا في سوق العمل ويزيد من صعوبة تأمين مصدر دخل ثابت.
كما صُدم عدد من الناجين من الاعتقال بالتغيرات الجذرية التي طرأت على أوضاع أسرهم خلال فترة احتجازهم، بعضها كان مأساوياً؛ إذ فقد بعضهم أحد الوالدين أو أحد أفراد الأسرة دون أن تتاح لهم فرصة الوداع أو حتى معرفة التفاصيل.
ولم تتوقف الصدمة عند هذا الحد، فقد عانوا أيضاً من آثار الحرب المدمرة، خصوصاً في المناطق التي تعرضت لقصف أو اجتياح من قبل قوات النظام، والتي سُجّلت فيها حالات انتقام جماعي من السكان بسبب مواقفهم المعارضة. وجد كثير من الناجين أنفسهم أمام مشهد قاسٍ: منازل مدمّرة، أراضٍ محروقة، وأشجار مقطوعة، ليتبدد ما تبقى من ملامح الطفولة والانتماء.
تُظهر قصص المعتقلين الناجين من سجون النظام السوري أن الخروج من السجن لم يكن نهاية رحلة المعاناة، بل بداية فصل جديد من التحديات التي لا تقل قسوة عمّا سبق. فالألم النفسي، والضرر الجسدي، والضياع الاقتصادي، والانهيار الاجتماعي، جميعها تلتقي لتشكّل واقعًا معقّدًا يحتاج إلى استجابة شاملة من قبل المؤسسات الحقوقية والإنسانية والمجتمعية.
واليوم، بعد أن كُشف جانب من الحقيقة، تبقى العدالة والمساءلة، إلى جانب برامج الدعم وإعادة التأهيل، ضرورات لا بد منها لتمكين الناجين من استعادة حياتهم وكرامتهم، ولضمان ألا تتكرر هذه المأساة في مستقبل سوريا.
لا تكاد جراح الغياب تندمل في قلوب السوريين حتى تعيدهم قصة مؤلمة إلى واجهة الألم، مذكّرة ببشاعة ما ارتكبته سنوات القمع والاعتقال. وفي قلب هذه المأساة تقف السيدة أم علاء، التي تعيش وحيدة في منزل يفتقر لأدنى مقومات الحياة، بلا أبواب أو نوافذ أو حتى مكان مخصص لقضاء الحاجة، وتعاني وضعاً صحياً يتطلب عملية جراحية تبلغ كلفتها 5000 دولار لا تقوى على توفيرها.
وسط هذا الحرمان، تبقى حسرتها الأكبر على ابنها علاء، الذي اُعتقل قبل 14 عاماً وهو في العشرين من عمره. تقول أم علاء في لقاء إعلامي: "لو كان حياً لكان عمره الآن 34 عاماً"، قبل أن تغرق في موجة بكاء، وهي تتحسر على مصيره المجهول وعلى الحال الذي وصلت إليه، مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن معاناة ابنها وآلاف غيره من المختفين قسرياً.
دعوات متجددة للمحاسبة
أم علاء ليست حالة استثنائية؛ بل هي واحدة من مئات الأمهات السوريات اللواتي يرفعن أصواتهن يومياً مطالبات الحكومة السورية الجديدة بتطبيق العدالة ومحاسبة كل المتورطين في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت خلال حكم النظام السابق.
فبعد سقوط الرئيس المخلوع وفتح السجون، اصطدمت العديد من العائلات بواقع مرير، حيث غاب أثر الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرياً. وبحسب تصريحات فضل عبد الغني، رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن عدد المختفين قسرياً الذين لم يُعثر لهم على أثر حتى بعد التحرير تجاوز 112 ألف شخص.
فقدان السند في رحلة العودة
مع انطلاق قوافل العودة إلى القرى والمدن المحررة، تجد كثير من الأمهات أنفسهن في مواجهة صادمة مع واقع فقدان السند، خاصة من لا معيل لهن.
تروي أم عبدو (65 عاماً)، النازحة من ريف حماة: "يا حسرة علينا.. أنجبنا الأولاد ليكونوا عوناً لنا عندما نهرم، لكننا فقدناهم على قيد الحياة. كلما احتجت لتركيب جرة غاز أو إصلاح عطل، يشتعل الحنين إلى ابني محمد الذي مات خلف قضبان بشار الأسد".
العودة إلى الأماكن والذكريات المؤلمة
في موازاة ذلك، تعبر أمهات عن خوفهن من العودة إلى قراهن الأصلية، خشية أن توقظ كل زاوية ذكرى مؤلمة. تقول الحاجة آمنة (70 عاماً)، النازحة من ريف إدلب الجنوبي: "في كل مرة أشتاق لابني عبد الله، الذي اُعتقل قبل 12 عاماً، ألوم نفسي وأتساءل: لو أنني منعته من السفر إلى دمشق للدراسة، هل كنت أنقذته؟ ثم أعود لأستسلم لقضاء الله".
أمهات رحلن قبل معرفة مصير أبنائهن
ولم يمهل القدر بعض الأمهات فرصة معرفة مصير أبنائهن، كما حدث مع أم كرمو، التي توفيت قبل أيام قليلة من تحرير المنطقة، دون أن تعرف شيئاً عن ابنها المعتقل منذ أكثر من 13 عاماً، وسط سلسلة طويلة من الإشاعات وابتزاز السماسرة.
انتظار العدالة رغم الألم
وترفض كثير من الأمهات تصديق أن أبناءهن قضوا تحت التعذيب، طالما لم يسلّمن جثامينهم أو يُقم لهن وداع لائق أو قبر يحمل أسماءهم، واليوم، تقف أمهات المختفين قسرياً موحدات خلف مطلب العدالة، مطالبات بتطبيق المحاسبة الحازمة ومعاقبة المجرمين حتى لا تذهب دماء أحبتهن هدراً.
الغربة داء لا دواء له إلا بالعودة إلى أرض الوطن. تغمض عينيك عن كل ما هو جميل حولك، ويقتادك الحنين كل يوم إلى عوالم الذكريات، ينهش داخلك، ويثقل عقلك بالتفكير، فمنذ أن راودتني فكرة الهجرة إلى تركيا، كنت أدرك تماماً حجم الألم الذي سأعيشه بعيداً عن مسقط رأسي، وكيف ستصبح حياتي مجرد أيام خاوية تمضي ببطء قاتل.
ابني لم يحتمل ألم الغربة
لم أتخيل أن ابني "صلاح" سيكون أول من تضيق روحه بفراق قريتنا كفر سجنة. تحولت حياته إلى سلسلة من الشكوى والحنين، وكان طلبه الوحيد هو العودة، مهما كانت التضحيات.
هربنا إلى مدينة أورفا عبر طرق التهريب، لكن الغربة خنقته، وغدا كل همّي أن أصبّره ريثما تهدأ الأوضاع. ومع ذلك، كانت ملامحه تفضح حزنه العميق، وكان يقضي ساعاته بالتواصل مع أصدقائه الذين بقوا في سوريا، يعدهم بعودته القريبة.
وصلنا إلى تركيا في آذار عام 2017، وكان صلاح في الثانية عشرة من عمره. في العام التالي، تمكنّا من زيارة سوريا بإجازة عيد الأضحى. لا أنسى فرحته العارمة عندما اقترب موعد السفر. أمضى صلاح أيامه متنقلاً بين الحقول والبيوت، يزور الأصدقاء والأقارب، ولم يمكث في منزلنا سوى للنوم. قال لي حينها: "لم أشعر بسعادة كهذه من قبل".
المرض المفاجئ والوصية المؤلمة
لكن مع انتهاء الإجازة، اضطررنا للعودة إلى تركيا. رفض صلاح العودة بشدة وبكى، لكن والده تمكن من إقناعه بالعودة مؤقتاً، مقابل وعدي له بأننا سنرجع إلى قريتنا قريباً.
بعد أسابيع من عودتنا، أصيب صلاح بمرض مفاجئ؛ ارتفعت حرارته وخارت قواه. في البداية ظننته مرضاً عابراً، لكن حالته ساءت سريعاً. وفي مساء أحد الأيام، قال لي بصوت واهن: "أمانة برقبتك يا أمي... إذا متت، تدفنيني بالضيعة".
أسعفته إلى المشفى، وهناك تلقينا صدمة بعد الفحوصات: القلب والكبد والدماغ بحالة سيئة. لم أستوعب ما قاله الأطباء إلا بمساعدة أحد الزوار الذي ترجم لي المأساة.
بقي صلاح في قسم العناية المركزة. في المساء، تلقيت اتصالاً من المشفى، وأخبروني أن ابني قد فارق الحياة.. ومرت أكثر من ست سنوات ونصف على ذلك اليوم المشؤوم، لكن وجع الفقد ما زال حاضراً في قلبي، وكأن اللحظة لم تمر.
تنفيذ الوصية مهما كان الثمن
رغم محاولات العائلة وبعض رجال الدين إقناعي بدفن صلاح في أورفا، لم أتردد لحظة في تنفيذ وصيته. ساعدني قريبي في إنهاء إجراءات نقل الجثمان، وتم السماح لنا بالبقاء عدة أيام في سوريا.
وصلنا إلى القرية مع أذان المغرب. استقبلنا الأهالي والأقارب بحزن بالغ. دخل صلاح منزلنا لآخر مرة ليلقي عليه الأحبة نظرة الوداع، ثم حُمل على الأكتاف إلى مقبرة القرية ليرقد هناك حيث أراد.
رغم أن تنفيذ وصيته حرمني طويلاً من زيارة قبره متى شئت، إلا أنني شعرت بالرضا أنني كنت وفية لرغبته الأخيرة.
العودة المرتقبة إلى الوطن
اليوم، وبعد تحرير سوريا من النظام، أرتب أموري للعودة مع عائلتي إلى الوطن، يتقد شوقي لزيارة قبر صلاح، الذي طالما حُرمت من رؤيته حتى خلال زياراتي القصيرة أثناء العيد، حين كانت قريتنا ترزح تحت سيطرة الأسد... الآن وقد أزيح الكابوس، أحمل قلبي المثقل بالذكريات، وأتهيأ للقاء صلاح الذي سبقنا إلى تراب الوطن.
كم هو محظوظ من عاش في بلدٍ لم تطرق الحرب بابه. منذ طفولتي، كنتُ أرسم ملامح مستقبل بسيط: أكمل دراستي، أحصل على وظيفة، أشتري منزلاً وسيارة، وربما أفتتح مشروعاً صغيراً. لم يخطر في بالي يوماً أن تلك الأحلام البسيطة ستصبح من ضروب المستحيل.
بدايات الحرب.. وانكسار الطموح
في آذار/مارس 2011، كنتُ طالباً في الصف العاشر عندما بدأت الثورة السورية. عاماً بعد آخر، تصاعدت الأحداث واشتد القصف على قريتنا في ريف إدلب الجنوبي. مع حلول عامي الدراسي الثالث عشر، أُغلقت المدارس بسبب الغارات الجوية، ولم تكن لدي القدرة المالية على الالتحاق بدورات خاصة كما فعل كثيرون. فُرضت إدلب كمركز لتقديم الامتحانات، لكنها كانت تحت سيطرة النظام، فلم أتمكن من الذهاب.
حينها، اتخذت قراراً صعباً: تعليق دراستي والدخول إلى سوق العمل. مارست أعمالاً زراعية وتاجرت بالدراجات النارية. وخلال عام واحد، ادخرت مبلغاً جيداً دفعني للتفكير بالسفر إلى تركيا.
الهجرة والعمل في إسطنبول
دخلت تركيا بطريقة غير نظامية عام 2015، واستقر بي الحال في إسطنبول، حيث عملت في معمل حديد. لم أتوانَ عن قبول أي فرصة عمل إضافي، فكنت أعمل لساعات طويلة، وأرسل المال شهرياً لعائلتي في إدلب. لكن الضغط الجسدي كان كبيراً، وتسبب لي بآلام متكررة في الظهر تجاهلتها طويلاً حتى سقطت عاجزاً عن الحركة.
بعد رحلة علاج قصيرة، عدت إلى قريتي في إدلب، حيث منحني والدي قطعة أرض صغيرة بمساحة دونمين. بدأت ببناء منزلٍ حلمت به طويلاً. بيت بسيط من غرفتين وصالون ومرافق، محاط بأشجار الليمون والبرتقال والزيتون والرمان والتين.
لحظة الانهيار.. الفرح المؤجل إلى أجل غير معلوم
في نيسان/أبريل 2019، انتهيت من بناء المنزل، جهزته بالأبواب والنوافذ، وطلبت من والدتي أن تبحث لي عن عروس. لم أنم فيه ليلة واحدة. لم أرتشف القهوة على شرفته، ولا شعرت بدفء جدرانه. بعدها بأيام، بدأت حملة عسكرية عنيفة على ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، فأُجبرنا على النزوح.
أصر الأقارب على نزع الأبواب والنوافذ لحمايتها من السرقة، لكنني رفضت. لم أتوقع أن يغيبني النزوح لأكثر من خمس سنوات. كنت أظنها أياماً قليلة ونعود.
حين عدت... لم أجد شيئاً
بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت بالعودة مع بعض الأصدقاء للاطمئنان على المنزل. كنت أحمل أملاً صغيراً في أن يكون قد نجا. لكنني وجدته ركاماً. لا جدران، لا سقف، لا أثر للأشجار. دُمرت أحلامي، ذبلت أوراق الأشجار كما ذبلت فرحتي.
جلستُ أمام الدمار أتأمل ذكرياتي، تذكرت كل لحظة عمل وكل قرش ادخرته وكل أمل علّقته في ذلك البناء الصغير. أنفقت عليه ما يقارب ستة آلاف دولار من عرق غربتي، واليوم لم يتبقَ منه سوى الحطام.
ختاماً... لست وحدي من خسر
لم تكن خسارتي فريدة. مئات الآلاف فقدوا أعزاء، وهُدمت بيوتهم، وتقطعت أوصالهم. كل سوري عاش فصلاً من الألم. أما أنا، فقد عاهدت نفسي أن أعود مجدداً، وسأبني بيتاً آخر، وربما يكون أجمل من الأول. لأن الحياة، برغم كل ما مررنا به، يجب أن تُستعاد.
لم تكن العودة إلى سوريا بعد سنوات من التهجير والنزوح مجرد لحظة فرح مكتملة، بل حملت معها جراحاً مؤجلة وأوجاعاً طغت على بهجة الرجوع. أم محمد، المقيمة منذ ثماني سنوات في مدينة أورفا التركية، تقف على أعتاب الرجوع إلى حلب وهي تجر خلفها غصة الفراق. بناتها الثلاث لن يعدن معها، فقد فرّقتهن الحياة الزوجية في المهجر؛ الكبرى ارتبطت بشاب من دمشق، والوسطى من درعا، أما الصغرى فقد تزوجت من حمصي، ليبقى الوطن الأم بعيداً عن جمعة العائلة المنتظرة.
الرجوع المنتظر.. بنكهة الخسارة
تحقيق حلم العودة إلى الديار بعد تحرير دمشق في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وسقوط نظام الأسد، بدا كأنّه انتصار طال انتظاره. لكنه لم يأتِ خالياً من الثمن. خلال سنوات النزوح، تغيّرت الخارطة الاجتماعية للعائلات السورية، فتفرّق شملها بسبب ظروف الزواج أو الهجرة أو اللجوء، وباتت العودة محفوفة بالمفارقات، حيث يغادر البعض ومعهم الشوق، ويترك آخرون خلفهم الأحبة والذكريات.
أبو نصر، البالغ من العمر 65 عاماً من ريف حماة الشمالي، يستعد للعودة إلى قريته من أحد مخيمات حربنوش، مثقلاً بمشاعر مختلطة. يقول: "لدي خمس بنات وثلاثة أولاد. الشباب تزوجوا قبل النزوح وبقوا معنا، أما البنات فقد خطبتهن لرجال من مناطق مختلفة خلال التهجير. وسأعود إلى قريتي من دونهن، لكن هذه سنة الحياة".
أزواج من مناطق أخرى.. وقرار مفروض بالفراق
عشرات الشابات وجدن أنفسهن بعد الزواج في مواجهة قرار صعب: البقاء مع أزواجهن في مواطنهم، أو العودة إلى أسرهن. ريماس، شابة من ريف معرة النعمان، تزوجت قبل عامين من شاب دمشقي التقته في مدينة عفرين. تقول: "أنجبت طفلة، وزوجي غاب عن أهله منذ عام 2013، وما إن تحررت دمشق حتى قرر الرجوع والاستقرار هناك، وسأبتعد عن عائلتي لأرافقه، وهذا ما يؤلمني".
ذكريات اللجوء.. وصداقات لا تُنسى
رغم قسوة التهجير، حملت سنين النزوح لحظات إنسانية لا تُنسى، حيث امتزجت العادات بين النازحين من مختلف المحافظات، ونشأت صداقات راسخة. رندة، التي عادت إلى حمص بعد أن عاشت في مخيم كفرلوسين، تروي: "تألمنا معاً، وعشنا على أمل العودة. الآن افترقنا، وودعنا بعضنا بدموع صادقة، كأننا نترك قطعة من روحنا في كل خيمة وكل زقاق".
العودة بلا معتقلين ولا أموات
العودة إلى الديار ازدادت قسوة على العائلات التي فُقد أحد أفرادها في سجون الأسد، أو مات خلال رحلة النزوح. أم مصطفى، من ريف إدلب، تقيم في السعودية، وتقول بحرقة: "طوال سنوات الغربة، كانت أمنيات الناس ترفقني بجملة "عقبال ما ترجعي وتستقبلي حسن أخوكي"، لكن بعد التحرير، علمنا بوفاته. الآن نعود إلى القرية، لكن بدونه... ووجعنا مضاعف".
حلم العودة.. واقع مشوب بالغصة
عودة السوريين إلى بلادهم بعد أكثر من عقد على التهجير، وإن كانت انتصاراً في ظاهرها، إلا أنها محمّلة بالغصص، فليس الجميع استطاعوا اصطحاب من يحبون، ولا كل العائلات اجتمعت من جديد. فما بين من قُدر له الموت، أو الاختفاء، أو الاستقرار في مكان بعيد، تبقى العودة ناقصة... لكنها بداية جديدة لكتابة فصل مختلف من الحلم السوري.
في مشهد يختزل وجع الذاكرة السورية، وقف "أبو محمد" بصمتٍ مهيب أمام قبرَي جدته وشقيقه في مقبرة مشهد روحين شمالي إدلب، يتأمل المكان كما لو كان يهمس لغياب لا يُجاب. يعود إليه مرارًا، وكأن الفراق لم يُستوعب بعد. فبعد أن قرر العودة إلى قريته في ريف إدلب الجنوبي، باتت زيارته لهذه القبور أشبه بوداع أخير، إذ يدرك أن انشغالات الحياة والمسافة ستجعل لقاءه بالمكان نادرًا.
فراق القبور... وجع يتجدد مع العودة
تحقق حلم آلاف النازحين بالعودة إلى قراهم بعد سنوات من التهجير القسري في عهد النظام السابق، عقب سقوط الأسد وفراره في ديسمبر 2024. وبينما يعيش العائدون لحظة طالما انتظروها، إلا أن شعورًا موازياً بالمرارة يخالط فرحتهم: فراق قبور الأحبة الذين وُوروا الثرى بعيدًا عن مسقط الرأس، في مخيمات النزوح أو بلاد اللجوء، تاركين وراءهم شواهد حنين لا تُنقل.
ندم لا يموت: "تركتها هنا.. ولم أُدفن معها"
يروي سمير، وهو شاب نازح من ريف إدلب يقيم في مدينة كهرمان مرعش التركية، قصته التي تسكنها الندامة: "زوجتي توفيت تحت الأنقاض خلال الزلزال. رفضت إرسال جثمانها إلى سوريا، ودفنتها هنا لأبقى قربها. اليوم مع الحديث عن العودة، لا أستطيع تقبّل فكرة أني سأبتعد عنها للأبد. لا يمكنني حتى التفكير بنقل الجثمان. الأمر يفوق قدرتي".
موت بلا وداع... وغصة في قلوب الأمهات
أمّا من فقدوا أبناءهم دون أن يتمكنوا من دفنهم أو معرفة مصيرهم، فيعيشون قلقًا بلا نهاية. منار، شابة من ريف حماة، تقول إن شقيقها اختفى مع بدايات الثورة: "اعتقلوه ولم نعرف أي شيء عنه حتى بعد فتح السجون، لا وثيقة وفاة، لا جثمان، لا اسم. أمي لا تزال تنتظره... تدعو له وكأنه سيعود غدًا".
نقل الجثامين... وصية تُنجز بعد التحرير
في المقابل، أصرّ بعض العائدين على تنفيذ وصايا ذويهم. أبو عمار من ريف إدلب، قرر نقل جثمان والده من كفرلوسين إلى قريته الأصلية بعد التحرير. يقول: "أمي كانت تزور قبره كل خميس، والمسافة ستتعبها، ووصيته كانت أن يُدفن في القرية، واليوم نحقق له ما تمنى".
رموز غابت في المهجر... وجثامين تنتظر العودة
لا يقتصر الحنين على الأقارب فحسب، بل يشمل أيضًا رموزًا وطنية وثورية ارتبطت بذاكرة السوريين. عبد الباسط الساروت، الذي أحبته الثورة واحتضنته الجماهير، دُفن في الدانا لأن مدينته حمص كانت تحت قبضة النظام آنذاك. وكذلك مي سكاف وفدوى سليمان، اللتان نفيتا وماتتا في المنافي، دون أن تعودا إلى الوطن الذي حلمتا به حرًا.
النهاية: وطنٌ يُستعاد... وأحبة يُفارقون
تجسّد هذه القصص مشاعر متشابكة يعيشها السوريون العائدون، بين بهجة العودة إلى الوطن، ووجع ترك قبور الأحبة خلفهم. إنها حكاية ألم ووعد لم يكتمل، وتذكير بأن للغربة وجوهًا متعددة، أخطرها تلك التي تُدفن في القلب، لا في القبر.
لا تزال الذاكرة السورية ترزح تحت وطأة 14 عاماً من الألم والدمار، وسط سلسلة من المآسي التي خلفها النظام السابق، إذ لم يكتفِ بالقصف والاعتقال، بل امتدت جرائمه إلى مصادرة الأرواح، وتشتيت العائلات، وسلب أدنى مقومات الأمان. ومن بين آلاف القصص التي حُفرت في وجدان السوريين، تبرز اليوم شهادتان تمثلان جرحاً مفتوحاً لم يندمل بعد.
القديمي.. مصير مجهول خلف أحد الحواجز
محمود علي القديمي، رب أسرة من مدينة الرحيبة، كان يعيش حياة بسيطة ويعمل في قطاع البناء ليؤمّن لقمة العيش لأطفاله الخمسة. في عام 2013، وبينما كان عائداً من دمشق إلى مدينته، تم توقيفه عند حاجز القطيفة التابع لقوات النظام، وهناك اختفى دون أن يُعرف مصيره حتى اللحظة.
ما زاد من فداحة المصاب، أن السيارة التي كانت تقله عادت إلى المدينة بدونه، لتتلقى عائلته الخبر المروّع: محمود اعتُقل ونُقل إلى جهة مجهولة. ومنذ ذلك الحين، دخلت العائلة في دوامة طويلة من الانتظار والبحث، بين إشاعات متضاربة ووعود كاذبة من سماسرة استغلوا محنتهم، ليتبين لاحقاً أنهم ضحايا نصب واحتيال.
على مدار أكثر من عشر سنوات، واجهت العائلة واقعاً قاسياً، واضطرت الزوجة لتولي المسؤولية كاملة. كبر الأبناء على أمل لقاء الأب، وواصل الابن الأكبر تعليمه في المجال الطبي، بينما تظل الأسرة معلقة بخيط أمل لا ينقطع رغم طول الانتظار.
نورس هندي.. من حلم الزفاف إلى الموت في فرع فلسطين
في قصة أخرى لا تقل وجعاً، يتجسد مصير الشاب نورس هندي، المعروف بلقب "أبو سعيد"، المولود عام 1986، والذي كان يستعد للزواج في صيف عام 2013. بعد أن درس في المعهد الزراعي والتحق بمعهد الضيافة الجوية، اختار مغادرة سوريا إلى الأردن عام 2012، رافضاً أداء الخدمة العسكرية ضمن جيش النظام خوفاً من التورط في الجرائم ضد المدنيين.
في حزيران 2013، قرر نورس زيارة سوريا في إجازة قصيرة. إلا أن رحلته تحوّلت إلى مأساة بعد أن تم اعتقاله عند معبر نصيب الحدودي، ليتم اقتياده إلى فرع فلسطين سيئ السمعة. وهناك، انقطعت أخباره تماماً، حتى تلقت عائلته في 16 كانون الثاني 2014 برقية من الشرطة العسكرية تبلغهم بوفاته "نتيجة ضيق تنفس وتوقف مفاجئ في القلب" – صيغة اعتاد النظام استخدامها لتغطية جرائم التعذيب.
كان من المقرر أن يُزف نورس إلى عروسه في 7 تموز 2013، لكن بدلاً من حفل الزفاف، تلقّت العائلة خاتم الخطوبة وجواز سفره فقط، فيما اختفى هاتفه المحمول وجهاز الكمبيوتر والمبلغ المالي الذي كان بحوزته.
صرخات تطالب بالعدالة
بين غياب القديمي ومقتل نورس، تظل العائلات السورية تطلق نداءاتها للحكومة الجديدة بضرورة ملاحقة الجناة، وكشف مصير المفقودين، وإنصاف من أُهدرت حياتهم على يد آلة القمع، التي لم ترحم لا كباراً ولا صغاراً، ولا حتى من كانت فرحتهم على الأبواب.
ففي ذاكرة السوريين، مثل هذه القصص ليست استثناءً، بل هي نموذج لألم جماعي يصرّ المجتمع السوري اليوم على توثيقه ومواجهته بالحقيقة والعدالة.
في بلد علمونا فيه منذ الصغر أن السجون تُفتح في وجه الخارجين على القانون، لم يتوقع السوريون أن تكون الزنازين مصير أطفالهم وأحبائهم، لا لذنب اقترفوه، سوى أنهم كانوا أبناء لثورة طالبت بالحرية. سجون نظام الأسد لم تكن يوماً أدوات قانون، بل تحوّلت إلى أقبية موت تخنق صوت الحقيقة، ووسيلة لإرهاب كل من حلم بوطن بلا قمع.
ومع كل يوم يمضي، تتكشف المزيد من الحكايات المؤلمة، يسردها من نجا، وينقلها من بقي على أمل اللقاء بمن لم يعد. فيما يعيش أهالي المعتقلين والمغيبين حياة منكسرة لا يُرممها الزمن، يطاردهم سؤال واحد: "ماذا حلّ بأحبائنا خلف تلك الجدران؟".
أميرة أبو زيد... أنثى من نور اقتادها الظلام
لم تكن أميرة أبو زيد سوى فتاة سورية عادية تحمل ملامح الطيبة والانتماء، لكنها اختطفت من شوارع دمشق بتاريخ 8 شباط/فبراير 2013، وتحديداً من منطقة دف الشوك. ومنذ ذلك اليوم، لا أثر لها، ولا خبر.
صورتها لا توحي بشيء من التطرف أو حتى الهمس السياسي، وجهٌ من وجوه آلاف السيدات السوريات اللواتي لم يعرفن في حياتهن سوى البساطة وحب الحياة. لكنها اختفت في زمنٍ يُرمى فيه الأبرياء في المعتقلات، بينما يسرح القتلة والفاسدون في الأرض. وحده النظام حينذاك من حوّل البراءة إلى تهمة، والوجود إلى خطر، والأنوثة إلى ذريعة.
من حمص... شهادة أبّ قُصفت أحلامه
في بابا عمرو، أحد أحياء مدينة حمص، يخرج صوت أحمد حماد الحلبي محمّلاً بالحسرة، باحثاً عن حقه وكرامته التي سُلبت ذات يوم. فقد اعتقل النظام السوري السابق أفراداً من عائلته، وذاق مرارة استشهاد ابنه الأكبر في سجن صيدنايا سيئ الصيت، ذلك المعتقل الذي أصبح عنواناً للإبادة المنظمة.
"ابني مريض قلب، أجرى عملية مفتوحة قبل اعتقاله، وكان بعيداً عن السياسة والعمل العام"، يقول الحلبي، مؤكداً أن الاعتقال لم يكن إلا تنكيلاً. أما زوجته، فقد نالت نصيبها من العذاب، حيث تعرضت لتعذيب وحشي تسبب بشلل دائم، قبل أن تُنقل إلى صيدنايا. وفي مشهد لا يقلّ قسوة، اعتُقلت ابنته، وكان عمرها حينها 15 عاماً، ووجهت لها تهماً "جاهزة" أبرزها تمويل الإرهاب والعمل الإعلامي ضمن مشفى ميداني!
يختم الحلبي شهادته بغضب: "من تسبّبوا باعتقالنا ونفذوا هذه الجرائم ما يزالون أحراراً، يعيشون بلا مساءلة. نطالب بمحاسبتهم".
زوجة تسمع آخر كلمات زوجها: "طمشوني"
القصة التي ما زالت تُروى بمرارة هي ما حدث مع معتز أسمر، الذي كان في الأربعين من عمره حين اعتُقل عام 2013. في مكالمة هاتفية أخيرة مع زوجته هيفاء عرقسوسي، قال لها: "طمشوني"، ثم انقطع الاتصال للأبد. المكان كان حاجز "بيجوا" في ريف دمشق، والسبب؟ لا سبب.
أسمر لم يكن ناشطاً ولا منخرطاً في أي عمل سياسي، ولم يشغل منصباً حكومياً. كان مواطناً عادياً. لكن في ظل نظام لا يعترف بالبراءة ولا بالحياد، تحوّلت حياته إلى رقم على لائحة مجهولي المصير، وسط آلاف الملفات التي أُغلقت بلا إجابة.
انتظار لا ينتهي... وأمل لا يموت
في سوريا، ما بعد سقوط النظام، لا تزال أبواب السجون تُفتح، ولا تزال الأسر تبحث في الوجوه الخارجة عن أحبتها. لا أثر في السجلات، ولا أسماء في قوائم الموتى، وكأنهم لم يكونوا.
عشرات الآلاف من المعتقلين لا يزال مصيرهم مجهولاً، وأسرهم تحيا على فتات الأمل. "ربما يظهر"، "ربما خرج"، "ربما نُقل"... هي العبارات التي يرددها كل أب وأم وأخ وزوجة، بينما السنين تمضي ببطء، حاملة في طياتها كل وجع الانتظار.
إنّ ما حدث في سوريا من تغييب قسري ممنهج لم يكن عرضياً، بل سياسة دولة، شاركت فيها الأجهزة الأمنية، والقضاء، بل وأحياناً الإعلام. لكن الثورة التي بدأت بحثاً عن الكرامة، ستظل تلاحق قاتلي الحلم حتى تضعهم أمام العدالة. فلا أحد ينسى صوت ابنته الصغيرة، أو آثار دموع أم على باب سجن، أو آخر مكالمة قال فيها معتقل: "طمشوني".
رغم الفرحة التي عمّت قلوب السوريين يوم التحرير في 8 كانون الأول 2024، ظلّت هذه الفرحة منقوصة في بيوت كثيرة، لم يعُد إليها معتقلوها، ولم يُغلق فيها جرح الغياب. وفي مقدّمتها بيت عائلة محمد مروان الشماع، الذي لا يزال مصيره مجهولاً بين خبر وفاته عام 2015، ورجل ضائع شوهد في حي السادات يردّد اسمه... وكأن الذاكرة لا تحتفظ إلا بالوجع.
ذاكرة غائبة ومصير معلق
محمد الشماع، من مواليد دمشق عام 1985، عاش حياة طبيعية كملايين السوريين قبل أن يُنتزع من عائلته في عام 2013 خلال حملة أمنية شنّها نظام الأسد على أحياء العاصمة. جرى اعتقاله على يد عناصر المخابرات الجوية، ومنذ ذلك الوقت دخل في عداد المفقودين.
بعد عامين من الانتظار والقلق، ورد لعائلته من جهات أمنية خبر وفاته في المعتقل. لم يُسلّم الجثمان، ولم تصدر وثيقة وفاة رسمية، فبقيت العائلة تتأرجح بين الألم والأمل، عاجزة عن تصديق النهاية دون دليل.
يوم التحرير.. و"الشماع" في فم تائه
في لحظةٍ لم تكن في الحسبان، ومع انهيار قبضة النظام، ظهرت بارقة أمل. ففي يوم سقوط الأسد، رصد سكان حي السادات رجلاً هائماً، فاقداً للذاكرة، لا يذكر سوى كلمة واحدة: "الشماع". كان يردّدها بتكرار وذهول، وكأنها ما تبقى من هوية سُرقت منه تحت التعذيب والإخفاء.
أخبره سكان الحي بأن العائلة لم تعد تقيم هناك، فرحل بصمت، وتاه مجدداً في شوارع لم تعد تعرف أبناءها. ومنذ تلك اللحظة، فُقد أثره مرة أخرى، لتعود التساؤلات والاحتمالات إلى ذاكرة عائلةٍ لم تنسَ يوماً ابنها المختفي.
نداء إنساني من عائلة الشماع
عائلة الشماع ناشدت من جديد، كل من يمتلك معلومة، أو شاهد الرجل الذي ظهر يوم التحرير، أن يتوجه إلى مختار حي السادات أو أقرب مركز شرطة. هي لا تطلب سوى خيط، إشـارة، تفصيل صغير قد يفتح باب الحقيقة.
تعيش العائلة اليوم بين خبر اعتقال في 2013، وخبر وفاة في 2015، وظهور رجل مجهول في 2024 يشبه ابنهم. وبين كل تلك السنوات، لا يزال الرجاء قائماً بأن يكون محمد على قيد الحياة، بانتظار أن يفتح باباً أو يُعرف بصوت.
غياب يُثقل قلوب آلاف الأسر السورية
قصة الشماع ليست استثناء. هي واحدة من عشرات آلاف القصص لعائلات لم تنصفها الأيام ولا الحقائق. فمع كل فتح لسجن أو تسريب قائمة، تتهافت العيون على الأسماء بحثاً عن مفقود. بعض العائلات تزور الناجين أملاً بسماع رواية عن أبنائها، وآخرون يتشبثون بأي تفصيل قد يعيد إليهم خيط الأمل.
ويبقى مطلب هذه العائلات واحداً: الحقيقة، والمحاسبة لكل من ارتكب جريمة الإخفاء القسري، ومنع الأمهات من معرفة مصير أبنائهن لعقد كامل. فليس هناك جرح أعمق من الغياب، ولا عزاء إلا بكشف مصير من غيّبتهم الزنازين.
تواصل عائلات المعتقلين في سوريا البحث عن مصير أبنائها المغيبين قسرياً، ممن لم يُفرج عنهم بعد تحرير البلاد في 8 كانون الثاني/يناير 2024، ولم ترد أسماؤهم ضمن قوائم الوفيات المسربة من معتقلات النظام المخلوع. وفي هذا السياق، نشرت "زمان الوصل" اليوم الثلاثاء، 15 نيسان/أبريل، عبر صفحتها الرسمية على "فيسبوك"، قصة مأساوية تروي مصير أحد أبناء مدينة اللاذقية، الشاب صدام نذير موسى، الذي اختُزلت حياته في ورقة واحدة صادرة عن أجهزة النظام.
وبحسب الرواية المنشورة، اعتُقل صدام موسى في 14 تموز/يوليو 2012، أثناء مروره في منطقة جسر الثورة وسط العاصمة دمشق، على يد عناصر فرع الخطيب التابع لإدارة أمن الدولة. وتشير معلومات العائلة إلى أن الحملة الأمنية التي طالت صدام كانت تحت إشراف العميد حافظ مخلوف، أحد أبرز قادة أجهزة النظام آنذاك.
ورقة واحدة ثم اختفاء تام
بعد مرور شهرين فقط على اعتقاله، تسلّمت العائلة شهادة وفاة رسمية صادرة بنفس تاريخ الاعتقال، دون أي تفاصيل إضافية. لم يُسلم لهم جثمانه، ولم توضح الوثيقة سبب الوفاة أو مكانها. مجرد ورقة رسمية واحدة اختصر بها النظام السابق حياة شاب، يرجّح أنه أُعدم ميدانياً أو قضى تحت التعذيب، كما حدث مع آلاف المعتقلين.
مصير صدام، الذي كان يعيش حياة طبيعية بين أهله وأصدقائه، تحول إلى رقم مجهول في سجل طويل من ضحايا التعذيب والاختفاء القسري. حتى اليوم، لم يظهر اسمه في قوائم الموتى التي تم الكشف عنها، ولم تتسلم عائلته رفاته، ولا تتوفر أية معلومات موثقة حول مكان دفنه.
نداء أب.. ووجع لا ينتهي
وفي سياق متصل، نشرت "زمان الوصل" قبل أيام نداء استغاثة مؤثر وجهه والد الشاب محمد الحمصي، المعتقل لدى عناصر الأمن العسكري في حلب منذ 6 آب/أغسطس 2024. محمد، البالغ من العمر 21 عاماً، طالب جامعي من مواليد دمشق، انقطعت أخباره كلياً منذ لحظة اعتقاله.
وفي مناشدته، قال والده: "إذا في أي اسم، أي وثيقة، أي مكان دفن، تساعدني أعرف مصير ابني، أرجو المساعدة"، في مشهد يلخص معاناة آلاف العائلات السورية التي لا تزال تنتظر خبراً أو أثراً عن أبنائها المغيبين.
أكثر من 112 ألف معتقل لا يُعرف مصيرهم
وعقب فتح السجون عقب سقوط النظام، خرج رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في لقاء مع تلفزيون سوريا، حيث اعتذر لأهالي المعتقلين الذين لم يُعثر على ذويهم، ولم يتمالك نفسه وانهمرت دموعه على الهواء مباشرة. ووفقاً لما قاله، لا يزال هناك أكثر من 112 ألف معتقل مختفٍ قسرياً، يُرجّح أن أغلبيتهم قد تمّت تصفيتهم داخل أقبية النظام.
قصة صدام موسى ليست استثناء، بل واحدة من آلاف المآسي التي لا تزال مفتوحة في ذاكرة السوريين، والتي تنتظر العدالة والإنصاف.
ينشغلُ الناس الآن بالحديث عن امتحان الشهادتين (الثانوية العامة والتاسع الأساسية)، وعن مواعيد الامتحان وبرنامج الفحص وآخر موعد للتسجيل. بينما أنا أعود 12 عاماً إلى الخلف، واستذكرُ سنة البكالوريا الخاصة بي، وكيف مرّتْ عليّ في ظل الحرب.
منذ أن كنت بصف التاسع وأنا أطمح لأن أصبح صيدلانية، لذلك بدأت الدراسة بشكل جدي، وتحسين نفسي في جميع المواد، فكنت أدرس حتى في أوقات الفراغ والعطل الصيفية، وبدأت من هذه المرحلة أحضر نفسي لامتحان الشهادة الثانوية العامة وأربط جميع تفاصيل حياتي به، وأحلم بأجواء الهدوء والتركيز، والالتزام بالدوام المدرسي طوال السنة، لم أتخيل أن الحرب ستندلع بالبلاد وسوف تتسبب بدمار أحلامنا. في صفي العاشر اندلعت الثورة، وفي الحادي عشر والبكالوريا اشتدت أوزار الحرب.
فقد الأحبة وأصوات الموت
خلال سنة البكالوريا، استشهدَ اثنين من أعمامي في معارك مع فصائل المعارضة ضد نظام الأسد، الأول في ٱب عام 2012، والأخر بعده بأربعة شهور، وعمي الثالث كان معتقلاً في سجون الأسد ولا أحد يعلم عنه أي شي، كان الشعور بالحزن والعجز يسيطر على والدي، ووالدتي تنهار بمجرد سماع صوت الطائرة. لا تفارق رحلات النزوح ذاكرتي في ذلك الوقت، كنا نترك منازلنا وقرانا ونختبئ في القرى الآمنة هرباً من قصف طائرات الأسد، ونجلس مع أقاربنا في مكان واحد بالكاد يسع لنا. فأمضي وقتي بالاعتناء بإخوتي الصغار ومساعدة أمي في إطعامهم وتنظيفهم. وما إن أنتهي أنشغل بتنظيف الأطباق والكؤوس في المطبخ التي كل ساعة تملأه بسبب كثرة عدد الأفراد في البيت.
كم كنت أتمنى أن تسنح لي الفرصة بأن أدرس، فكنت أنتظر الجميع حتى ينام وأفتح الكتب وأدرس قليلاً. حتى عندما عدت إلى القرية، لم يفسح لي المجال بأن أدرس بشكل جيد. أذكر ذات مرة قررت الدراسة على سطح المنزل، كان الجو دافئاً، وأنا أقرأ بصوت عالي وأتجول براحتي في أرجاء المكان، ظهرتْ طائرة في السماء وصارت تقصف. من شدة خوفي نزلت بسرعة على الدرج، فانزلقت عليه واُصيبت رجلي برضوض وجروح في رأسي ويديّ.
ملاذ تحت الأرض
لم يعد الناس يأمن على حياتهم في قريتنا، فحفروا مغارات تحت الأرض، وصاروا يمضون ليلهم ونهارهم فيها. وأنا أنتظر العائلة حتى تنام وأدرس، وأحيانا أدرس حول الشجر، فمغارتُنا حفرناها في منطقة الأراضي الزراعية، التي رٱها والدي أكثر أمان. لكن ما إن كنت أسمع أصوات القصف والطيران وما تتركه من أخبار فقد وقتل ودماء، أفقد الرغبة بالدراسة، ولا استوعب أي شيء أدرسه.
توقفتْ الحياة تقريباً في القرية مع ازدياد حدة القصف، المدارس كانت تفتح قليلاً ثم تغلق، ويتم إيقاف الدوام بشكل نهائي عند النزوح والقصف، لم أُحظى بجو الهدوء الذي كنت أحلم به، ولا بالدوام المدرسي المطلوب. مع اشتداد القصف وشموله جميع القرى نزحنا باتجاه مخيمات الشمال، أمضيت فيها ثلاثة أشهر، ثم عدنا إلى القرية، واقترب موعد الفحص، وأن لم أدرس المنهاج سوى دراسة بسيطة.
الحرب تحطم الأحلام
في ذلك الحين كان مكان التقديم في إدلب، التي كانت خاضعة لسيطرة قوات الأسد، سافرتُ إلى هناك كي أخضع للفحص، فلاحظتُ أن أغلب زملائي امتنعوا عن التقديم لهذا العام، وأجلوه للعام الذي يليه على أمل أن تتحسن الظروف. مع كل اختبار كنت أخضع له، كان يزداد شعوري بالإحباط، فكانت دموعي تجيب ورقة الأسئلة قبلي، فأنا لم أُحضر بشكل جيد، وعدة أسئلة لم أكن أعرفها، كنت أضع أجوبتي وأغادر. الامتحان الأفضل لي كان في مادة الإنجليزي التي أجبتها بشكل ممتاز، فأنا كنت قوية في هذه المادة منذ الصف الثامن.
انهيت امتحاني ثم عدت إلى القرية، وبعد فترة قريبة صدرت النتائج، نجحت لكن لم أجمع النقاط التي تؤهلني لفرع الصيدلة، كانت علامتي متوسطة وجيدة، لكن في اللغة الإنجليزية أحرزت علامة ممتازة، فقررت دراسة هذا الفرع، وعدم إعادة البكالوريا من أجل الصيدلة، لفقداني القدرة على تقديم البكالوريا في ظروف مماثلة للتي عشتها. أنا الٱن أعمل بشهادتي مع منظمة إنسانية وسوف أسعى لخدمة بلدي بها خاصة أن الحرب انتهت والحياة بدأت أمامنا نحن السوريين.