من يكتب رواية السقوط؟ معركة “ردع العدوان” بين وهم التوجيه الدولي وحقيقة القرار السوري
من يكتب رواية السقوط؟ معركة “ردع العدوان” بين وهم التوجيه الدولي وحقيقة القرار السوري
● مقالات رأي ١ ديسمبر ٢٠٢٥

من يكتب رواية السقوط؟ معركة “ردع العدوان” بين وهم التوجيه الدولي وحقيقة القرار السوري

لم يكد يمضي يوم على سقوط نظام بشار الأسد حتى بدأت الروايات والأسئلة تتزاحم حول ما جرى، كيف سقط الأسد؟ ومن أسقطه؟ وكيف سقط بهذه السرعة؟ وأين روسيا وايران وحزب الله والميليشيات الايرانية والعراقية؟ كل هذه الاسئلة والروايات، هي محاولات للتشكيك بقدرة السوريين على أخذ قراراتهم بأيديهم.

وكأن الذاكرة السورية ذاتها أصبحت ساحة معركة موازية للمعركة التي دارت على الأرض، وبينما تتوالى محاولات تفسير الحدث عبر عيون الخارج، أو ربطه بإرادات عابرة للحدود، توجد رواية سورية واحد أكثر التصاقاً بالواقع وأكثر قرباً من نبض الأرض: معركة “ردع العدوان” لم تكن قراراً دولياً، ولا ثمرة صفقة إقليمية، ولا نتيجة ضوءٍ أخضر أميركي أو رغبةٍ تركية طارئة، بل كانت حصيلة تراكم داخلي بدأ منذ اللحظة التي أدرك فيها السوريون أن بقاءهم كثورة وفصائل وجماعات مسلّحة لا يعني إلا خسارة جديدة في كل جولة.

على طرف السرديتين يقف سؤال واحد يحمل في جوفه معنى أكبر بكثير من السياسة: من يملك حق سرد قصة السقوط؟ هل هو الخارج الذي فوجئ بالوتيرة، أم الداخل الذي خطّط وصبر وأعاد ترتيب صفوفه بعيداً عن ضوء الكاميرات؟

السؤال نفسه هو ما يعيد تشكيل النقاش اليوم، وهو ما يفرض إعادة قراءة ما جرى خلال الأسابيع والاشهر والسنوات التي سبقت معركة “ردع العدوان” والأيام الأحد عشر التي تلتها، ليس كأحداث متفرقة، بل كمسار واحد يؤكّد أن القرار الذي غيّر مصير سوريا لم يصدر من أيّ عاصمة خارج حدودها.

الرواية التي وُلدت في الخارج: لماذا يسهل نسبُ السقوط إلى قرار دولي؟

لم يكن مفاجئاً أن تخرج أصوات دولية – بينها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب – لتتحدث عن دور الدول، وأن تُنسب المعركة إلى تفاهمات لا مصدر لها إلا التصريحات المتأخرة. فالرواية الجاهزة التي تقول إن “أردوغان هو من أسقط الأسد”، أو أن الانهيار لم يتم إلا بتفاهمات من فوق، تجد دائماً جمهوراً يفضل تفسير الأحداث الكبيرة عبر إرادة القوى الكبرى لا إرادة الناس.

يعود هذا الميل إلى ثلاثة أسباب رئيسية تداخلت لحظة سقوط النظام: غياب المعلومات الدقيقة في الأيام الأولى للعملية، وصدمات الانهيار السريع التي جعلت كثيرين عاجزين عن فهم كيف يمكن لمنظومة أمنية حكمت سوريا نصف قرن أن تتداعى بهذه السرعة، ثم رغبة بعض القوى الدولية في إظهار نفسها وكأنها صاحبة القرار، لا جمهور المقاتلين على الجبهات.

لكن أي قراءة جادة تحاول المرور عبر طبقات الحدث تدرك أن هذه السردية – مهما اكتسبت زخماً إعلامياً – لا تصمد أمام الوقائع. فالمواقف التركية والأميركية والروسية، منذ لحظة التخطيط وحتى اللحظة الأخيرة من تنفيذ العملية، تشير إلى مشهد مختلف تماماً عما يُشاع. فتركيا لم تكن في صفّ العملية حين بدأت، وأميركا التزمت الحياد الصامت، وروسيا تراجعت تحت ضغط الميدان لا تحت ضغط مفاوضات خلف الستار. وحين تتراكم هذه العناصر في صورة واحدة، يصبح من الصعب الدفاع عن فكرة أن السقوط جاء بقرار دولي.

تحرير حلب: اللحظة التي بدّلت مزاج المنطقة

لم يكن تحرير حلب مجرد انتصار ميداني يفتح الطريق جنوباً، بل كان نقطة انعطاف إقليمية أعادت رسم حسابات العواصم المحيطة بسوريا. فبعد دخول قوات “ردع العدوان” إلى المدينة واستقرارها فيها، بدأت أنقرة تتحرك بسرعة غير معهودة باتجاه موسكو وطهران، محاولةً احتواء الصدمة ومنع انفلات الموقف نحو مواجهة إقليمية مفتوحة.

توجه وزير الخارجية هاكان فيدان لممارسة ضغوط صريحة على الطرفين: أولاً لوقف أي تفكير بالتصعيد الجوي، وثانياً لتحييدهما عن خطّ المعركة التي كانت تتقدم بسرعة لم يتوقعها أحد. هذا التحرّك التركي كان حاسماً في تسريع الانهيار، لكنه لم يكن يوماً سبباً رئيساً فيه؛ فأنقرة لم تصنع اللحظة، بل لاحقتها. التحوّل التركي كان استجابة لواقع جديد صنعته الإرادة السورية على الأرض، لا مقدمة له.

وهنا تكتسب رواية أسعد الشيباني، وزير الخارجية السوري، أهمية خاصة. ففي مقابلته مع مجلة «المجلة» شرح كيف بدأ تفكيك العقدة الروسية. يروي الشيباني أن قنوات التواصل مع موسكو لم تُفتَح تحت ضغط تركي، بل بقرار سوري صريح جاء من داخل غرفة العمليات ومن رؤية سياسية نضجت خلال سنوات.

ويؤكد أن قيادة ردع العدوان، كانت قد وصلت إلى قناعة واضحة: تحييد روسيا لا يكون عبر الاصطدام، بل عبر وضعها أمام الحقيقة التي لم تستطع طمسها بعد تحرير حلب—أن النظام الذي حاربوا من أجله يتداعى، وأن الدفاع عنه بات عبئاً سياسياً وعسكرياً لا مكسباً استراتيجياً.

ما فعله الأتراك بعد تحرير حلب كان أشبه بإزاحة الضباب عن المشهد، لكنه لم يكن ما رسم الخطوط الأولى فيه، ومن يقرأ ما يقوله الشيباني في المقابلة يدرك أن التحوّل الأكبر حدث حين التقت الرؤية السورية الجديدة مع لحظة إدراك روسية متأخرة بأن القصف لم يعد مجدياً، وأن الحفاظ على مواقع النفوذ يتطلب صياغة علاقة مع القوة الجديدة، لا حماية نظام لم يعد يملك حتى القدرة على إدارة معركة دفاع واحدة.

وكشف الشيباني أنّه لم يتحدث مع قادة عسكريين روس عاديين، بل مع شخصية رفيعة جدًا، وقال إنّ اللقاء كان مباشرًا في معبر باب الهوى،، وذكر أنّ وسيطًا أعلمهم بعد إصدار بيان سياسي من غرفة عمليات ردع العدوان أنّ الرئيس فلاديمير بوتين نفسه قرأ البيان وأُعجب به، مما دلّهم على أنّ الرسالة وصلت.

وقال الشيباني للمجلة إنه بدأ حديثه مع الوفد الروسي من موقع وطني لا من موقع المنتصر، وقال لهم: «نحن الشعب السوري اخترنا التغيير. تحالفكم مع النظام كان خطأ، ويمكن تصحيح الخطأ. شراكتكم يجب أن تكون مع دولة لا مع عصابة». 

وقال إنه خاطبهم بسؤال رمزي: «كم مرة ستعيدون حلب للنظام؟ أعطيتموه إياها عام 2016، وخسرتم سمعتكم، ثم تخلّى هو عنها». وأشار إلى أنّ المنطقة كانت مهيأة لتفهم هذا الطرح العقلاني.

وهكذا، وجدت روسيا نفسها أمام معادلة جديدة: واقع ميداني فرضته “ردع العدوان”، وموقف تركي جديد يرغب بالتغيير، ورؤية سورية سياسية مختلفة جذرياً عمّا عرفته موسكو خلال سنوات الحرب.

لا غرابة إذن أن تتسارع الأحداث بعد ذلك. فحين بدأ الروس يسحبون قواتهم وأوقفوا دعمهم الجوي، كان الضباط السوريون التابعون للنظام يدركون أن اللحظة انتهت، وأن تماسك منظومتهم صار وهماً.

وأكثر ما يدحض السردية التي تقول إن إسقاط الأسد جاء بتوجيه دولي هو الموقف التركي قبل المعركة. فأنقرة لم تكن مؤيدة للعملية حين كانت تُعدّ في غرف القيادة شمال البلاد. على العكس تماماً، كانت تتخوف من انتصار جديد وحاسم لنظام الأسد وهزيمة جديدة للفصائل، يطلق موجة نزوح جديدة ويفتح الباب أمام فوضى حدودية لا يمكن ضبطها، حيث حاولت تركيا الضغط لوقف ردع العدوان.

لكن ما إن تحررت حلب وسقطت غرف قيادة الأسد والإمداد للنظام حتى تغيّر المشهد السياسي. حينها فقط أدركت أنقرة أن الثورة السورية تنتصر وتتقدم، وأن النظام يتفكك من الداخل بسرعة تفوق أي تقدير سابق. الموقف التركي لم يقُد العملية؛ لقد لحق بها، فحين كان الداخل السوري وحده يرسم خط النهاية، كان الخارج يحاول فقط مواكبتها، لا قيادتها.

أما الولايات المتحدة فقد بقيت في زاوية المشهد: تراقب، تحلل، تصدر بيانات عامة حول حماية المدنيين، لكنها لم تدخل بأي مستوى من مستويات الضغط أو الإسناد. لم تفتح واشنطن أجواء، ولم ترسل مستشارين، والسؤال البديهي هنا: إذا كانت أميركا تملك القدرة والإرادة لإسقاط النظام، لماذا لم تدفع بهذا المسار عام 2013 حين كان النظام أضعف وأقل قدرة على المقاومة؟

جواب هذا السؤال وحده يكفي لسحب البساط من سردية “القرار الدولي”.


القرار الذي وُلد في الداخل: أربع سنوات صنعت ما لم تصنعه العواصم

لنفهم كيف تحوّل السوريون من موقع الدفاع في 2020 إلى بوصلة تقرير مصيرهم في نهاية 2024، لا بد من العودة إلى تلك السنوات التي عملت فيها الفصائل بصمت، وأعادت خلالها بناء نفسها من جديد. كانت الهزيمة الثقيلة في إدلب نقطة الصفر لهذا التحوّل، اللحظة التي واجه فيها القادة العسكريون والسياسيون واقعاً يقول إن استمرار الفصائلية يعني انتهاء الثورة فعلياً حتى لو ظلت موجودة شكلياً.

منذ ذلك الوقت بدأ تفكيك النموذج القديم واستبداله بمنظومة أكثر تماسكاً: مركز قيادة موحّد في إدلب، كليات عسكرية وشرطية، تفويض ميداني لقادة المحاور، توحيد القرار الاستراتيجي تحت مظلة واحدة، وتأسيس شبكة اتصالات مؤمّنة قادرة على إدارة جبهات تمتد من ريف اللاذقية غرباً إلى أطراف حماة جنوباً.

لم يكن هذا عملاً تقنياً فحسب، بل كان شرطاً وجودياً لإطلاق أي عملية لاحقاً. فالمعركة لم تكن لتُخاض بجيش موزّع بين غرف عمليات متعددة، ولا بخطاب سياسي متناقض، ولا بقدرة لوجستية وصحية هشّة.

في الوقت نفسه كانت السماء تُعاد كتابتها. لم تستطع الثورة امتلاك سلاح جو، لكنها امتلكت ما يكفي لتغيير قواعد الاشتباك: “الشاهين”، تلك الطائرة الصغيرة محلية الصنع التي بدأت كأداة استطلاع ثم تطورت إلى منصة ضرب دقيقة. ومع توسّع بنك الأهداف الاستخبارية، وتكامل الاستطلاع الجوي مع وحدات الرصد الأرضية، اكتسبت القوى الثورية للمرة الأولى منذ سنوات القدرة على التأثير في مسار المعركة من السماء، ولو بحدود إمكانياتها.

هذه البنية – بكل تفاصيلها التقنية والتنظيمية – لم تولد من دعم خارجي. جاءت حصيلة عمل محلي، داخل غرف ضيقة، وتحت ضغط نقص الموارد، وبعقلية تتجه نحو فكرة الدولة لا فكرة الفصيل. ولذلك، عندما أُعلنت “ردع العدوان”، لم تنطلق من فراغ؛ كانت ذروة لمسار طويل كان بوسعه أن يتعثر مرات عديدة، لكنه ظل يتقدم نحو لحظة الحسم.

تفاهمات سرعت إنهيار نظام الأسد

كان الانهيار العسكري للنظام يتسارع على الجبهات، لكن ما لم يكن مرئياً للعلن في ذلك الوقت هو أن قيادة “ردع العدوان” كانت تخوض معركة موازية على جبهة أخرى: جبهة تفكيك إرادة القتال داخل صفوف النظام نفسه. فمع كل كيلومتر كانت القوات تتقدمه على الأرض، كانت قنوات الاتصال السرية تنفتح مع ضباط وقادة ألوية في جيش الأسد، في محاولة لحقن الدم وتحويل الهزيمة العسكرية المحتومة إلى انهيار بلا معارك عبثية.

لم تكن هذه الاتصالات جزءاً من صفقة دولية أو امتداداً لضغوط خارجية، بل قراراً داخلياً صيغ في غرف العمليات، هدفه تحييد خطوط الدفاع قبل الوصول إليها، وتخيير الضباط بالاستسلام او الموت، وإعطائهم فرصة للنجاة من معركة يعرف الجميع أنها خاسرة.

كثيرون استجابوا. وسلّم قادة ألوية مواقعهم دون طلقة، وفتحت بعض المراكز أبوابها قبل وصول وحدات التحرير إليها بساعات، ولعب هذا المسار دوراً حاسماً؛ فالجبهات التي كان يفترض أن تكون “خطوط الصدّ” لحماية نظام الأسد، تهاوت خلال ساعات لأن من كان ينبغي أن يقاتل فيها اختار الانسحاب خوفا من الموت أو بعد التفاهم مع غرفة عمليات ردع العدوان، وذلك بعدما تلقّى ضمانات واضحة بالأمان.

وكثيرون من جنود النظام وضباطه أيضا رفضوا التسليم والاستسلام، فكان مصيرهم الموت تحت جحافل الثوار وطائرات الشاهين، وضربات المقاتيلن الذي أتوا من كل حدب وصوب، حيث كان تقدمهم سريعا على كل الجبهات، خاصة أن الجانب النفسي لدى المقاتلين في الطرفين لعب دورا اسياسيا في حسم الكثير من المعارك.

هنا تحديداً تسارعت وتيرة الانهيار، ليس بفعل تفوق ميداني فقط، بل لأن قيادة “ردع العدوان” أدركت أن إسقاط النظام لا يكون دائماً بكثافة النيران، بل أحياناً بالسياسة والإقناع، ومع امتداد هذا المسار عبر الجبهات، تحوّل انهيار قوات الأسد من ظاهرة موضعية إلى تسلسل متتابع، ساهم بشكل مباشر في تقليص كلفة المعركة البشرية وفتح الطريق أمام سقوط النظام بوقت أقصر مما توقعه حتى أقرب خصومه.

ذاكرة الحق… وسردية تحاول أن تستعيد مكانها

بعد عام على سقوط النظام، ما زال الصراع يدور بين سرديتين: سردية تحاول نسب الحدث إلى الخارج، وسردية أخرى تقول إن ما جرى كان لحظة الانتصار السوري الأولى التي تمت بقرار سوري وإرادة سورية، وجاءت نتيجة أعوام من البناء الداخلي، والتخطيط الطويل، والعمل المؤسساتي الذي لم يكن مرئياً إلا لمن عاش في تلك الجبهات.

الرواية التي تربط السقوط بقرار دولي تبدو سهلة ومريحة؛ فهي تختصر تعقيد اللحظة، وتمنح القوى الكبرى دوراً متخيلاً اعتادت أن تنسبه لنفسها. لكنها، في وجه الحقيقة، لا تقوم على وقائع، فالمعركة التي انطلقت من إدلب، وتوسعت نحو حلب وحماة وحمص والجنوب، ووصلت إلى قلب دمشق، لم تُكتب في واشنطن ولا في أنقرة. كُتبت على خطوط النار، وفي غرف العمليات التي أُعيد بناؤها حجراً فوق حجر.

ولعل الدرس الأكبر الذي تبقى معركة “ردع العدوان” تقدمّه اليوم هو أن القرار السوري – حين تتراكم أدواته وتتوحد قيادته – قادر على أن يغيّر المعادلات التي تبدو ثابتة. أما الروايات الأخرى  لن يغيّر من حقيقة أن السوريين، لأول مرة منذ عقود، استطاعوا استعادة زمام المبادرة دون انتظار إشارة من أحد، وأن ما سقط في تلك الأيام الأحد عشر لم يكن نظاماً فحسب، بل الفكرة التي تقول إن سوريا لا تتحرك إلا حين يقرر الآخرون ذلك.

الكاتب: أحمد ابازيد - رئيس تحرير شبكة شام
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ