تقارير تقارير ميدانية تقارير اقتصادية تقارير خاصة
٩ مايو ٢٠٢٥
سوريا المكلومة: حكايات الفقد التي لا تنتهي

في إحدى اللحظات التي لا تُنسى، ظهر زوجان مسنّان من داريا في لقاء تلفزيوني مع قناة الجزيرة، يرويان بحرقة واحدة من أبشع مآسي الحرب السورية. فقدا عشرة من أبنائهما دفعة واحدة في الحرب التي هزّت بلادهم. على شاشة التلفزيون، ظهرت الأم بعيون دامعة وصوت متهدّج، بينما تحكي عن ابنها "أحمد"، الذي كان عريساً جديداً لم يمضِ على زواجه سوى 15 يوماً، عندما تم اعتقاله وقتله أمام ناظريها.

قصتهما ليست حالة فردية، بل هي مرآة لمئات الآلاف من القصص التي عاشها السوريون خلال سنوات الحرب. فكلما استمعنا إلى هذه الشهادات المؤلمة، كلما بدأنا نرى مدى عمق الفقد الذي لا يمكن وصفه، ذلك الفقد الذي يبتلع الأمهات والآباء في موجة من الحزن والدمار لا يمكنهم الهروب منها.

تسبّب نظام بشار الأسد في خلق مئات الآلاف من القصص المشابهة، في معظم المحافظات السورية، حتى بات الفقد طقساً مألوفاً في كل بيت. لم تسلم عائلة من وجع الخسارة، وامتلأت الذاكرة السورية بمشاهد مؤلمة من وداعات مفاجئة ومقابر جماعية ومنازل خالية من أصحابها. 


عائلات بأكملها فقدت أبناءها بسبب القصف، أو الاعتقال، أو الإخفاء القسري، أو التعذيب داخل المعتقلات. هذه الانتهاكات، التي ارتُكبت بحق المدنيين، لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل تحوّلت إلى جزء من التاريخ الشخصي والجمعي لشعب لم يعرف الأمان لسنوات.

وفي إدلب، لم تكن الحاجة أم عبدو استثناءً. فقد خسرت ستة من أبنائها في مراحل مختلفة من الحرب. كان الأول قد قُنص في الأيام الأولى لدخول قوات النظام إلى المدينة، ليُحمل جثمانه إلى المنزل جثة هامدة. 

وبعد ذلك، استُشهد اثنان آخران أثناء معركة تحرير مدينة حارم، فدفنتهما في مقبرة معرة مصرين. أما الرابع، فقد شارك في معركة تحرير إدلب، لكنه قُتل ولم تتمكن من رؤية جثته أو توديعه أو حتى دفنه. ورغم هذا الكمّ من الفقد، أصرّ ابناها المتبقيان على مواصلة القتال، فلحقا بإخوتهما، واحداً تلو الآخر.

وكم شاهدنا من أمهات وآباء يعانقون جثامين أبنائهم الذين ارتقوا تحت قصف النظام السوري، حتى بات هذا المشهد المؤلم يتكرّر في تفاصيل حياتنا اليومية؛ على منصات التواصل الاجتماعي، وفي أروقة الواقع السوري، من إدلب إلى حماة، مروراً بحلب ومناطق أخرى مزّقتها الحرب. صور الحزن صارت مألوفة، والألم أصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية.

وفي ريف إدلب، كانت "أم عمر" مثالاً آخر على هذه الفاجعة المتكررة. فقدت اثنين من أبنائها؛ أولهما كان من بين الشباب الذين حملوا السلاح ضمن الفصائل المعارضة بعد أن ضاقت بهم انتهاكات الأسد، والثاني اعتُقل في بدايات الثورة، ولم تعرف مصيره إلا بعد سنوات، حين عثرت العائلة على اسمه ضمن قوائم المتوفّين في المعتقلات بعد تحرير المنطقة.

أما "أم محمد" من ريف حماة، فقد خسرت ثلاثة من أبنائها. الابن الأكبر قُتل عام 2016 أثناء مشاركته في معركة ضد قوات النظام. أما ابنها الآخر، فاستُشهد في أواخر نيسان عام 2019 إثر قصف عنيف خلال الحملة العسكرية على ريفي إدلب وحماة. وفي عام 2021، فقدت ابنتها بانفجار لغم أرضي أثناء عودتها من مدينة حماة إلى قريتهم.


قصة الزوجين المسنين اللذين فقدا عشرة من أبنائهما تجسد فقط جزءًا من المأساة التي يعيشها ملايين السوريين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب. قصصهم، التي انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت شهادات حية على الألم الذي عايشه السوريون. من قصف وغارات، إلى اعتقالات وقتل عشوائي، الحرب السورية تركت عائلات بأكملها في حالة من التشتت والفقد، ولم تترك لهم سوى الذكريات المدمرة والصور التي تُعبر عن حزنهم العميق.

اقرأ المزيد
٨ مايو ٢٠٢٥
ذاكرة الغياب: حين يُعتقل الأبناء وتبقى الأمهات في العتمة

في سوريا، غرقت أمهات في وجع مستمر رافقه انتظار امتدَ لسنوات عدة، وجوههن تحمل تجاعيد الصبر لا الزمن، وعيونهن تلمع كلما سُمع صوت باب يُفتح أو هاتف يرن، لعلّه يحمل خبراً عن فلذات أكبادهن المعتقلين أو المفقودين. تلك النساء لسن مجرد أمهات، بل شهيدات أحياء للوجع السوري. في صمت كل واحدة منهن قصة، وفي صبرهن مقاومة، وفي عيونهن سؤال لا إجابة له: أين أبناؤنا؟

"أريد ابني"
من بينهن، تقف أم محمود، الحاجة السبعينية من ريف إدلب، شاهدةً على ألم ممتد أحد عشر عاماً، بعد أن اعتُقل ابنها "محمود" في دمشق عام 2013. قبل اعتقاله، دار بينهما حديث بسيط، مثل آلاف الأحاديث التي تحصل بين أم وابنها، عتب خفيف، قلق عادي، لكنها الآن تتذكر كل كلمة، وتتمنى لو أن الزمن عاد. قال لها محمود: "شغلة يومين وبرجع". لكن تلك "اليومين" تمددت إلى أحد عشر عاماً من الترقب، والخوف، والانتظار، واللا يقين.

سعت العائلة في كل اتجاه، دفعت أموالاً، وناشدت وسطاء، وسمعت عشرات الروايات المرعبة: "مريض"، "في فرع لا يدخله الجن الأزرق"، "انتقل إلى سجن سري". ولم يكن هناك أي جواب مؤكد، فقط غياب طويل، وقلق لا يهدأ. أم محمود صارت أماً لأحفاده الثلاثة، صارت حائط الأمان لهم، وصار قلبها موزعاً بين رعايتهم وخوفها عليهم من أن يصيبهم ما أصاب والدهم. كانت تعدهم أن والدهم سيعود، وتعد نفسها. "يمكن بكرا..."، هذا ما كانت تهمس به كل ليلة، قبل أن تطفئ النور وتترك الباب موارباً، فقط قليلاً، ربما…

كسرت القضبان ولم يعد
وفي عام 2024، حين بدأت تُفتح بعض السجون، بعد هبوط المجرم الأسد إلى الهاوية، عادت شرارة الأمل، وتجمّع الناس حول بوابات صيدنايا، وراقبوا الصفحات والمجموعات. حتى جاء ذلك اليوم... يوم صرخت ابنة شقيقه، فصمتت الجدة، لأنها علمت. كان اسم محمود بين قوائم الموتى. بلا جسد، بلا قبر، بلا وداع. هذا المشهد الذي عاشته أم محمود، هو مشهد متكرر في البيوت السورية، من إدلب إلى الزبداني، ومن درعا إلى دير الزور.

مشهد مكرر في كل أرجاء سوريا
في الزبداني، ما زالت أم وسيم تفتح النافذة كل مساء. لا تضع ضوءاً، ولا تترك علامة، لكنها تجلس هناك طويلاً، تتخيله عائداً دون موعد، يمشي وحده في الطريق الصامت، ويصل إلى الباب كما كان يفعل. أكثر من عشر سنوات مرّت، وما زالت تنتظر. وفي حماة، كانت أم نزار تتلقى أخباراً متضاربة عن ابنها، تصدق التي تشير إلى أنه حي، وتكذب ما يتنافى مع ما تتمناه، وذهبت سنة وتبعتها أخرى، وهي تذبل لتسقط كأوراق الشجر في فصل الخريف، عند فتح السجون وعدم العثور إليه، لتعلم أنه فارق عالمها دون أن تراه أو تودعه فلا يكون لحظة أخيرة بينهما.

وفي درعا، تعيش أم عمار على أملٍ لا يخفت. لم ترَ ابنها منذ سنين، ولا تعرف إن كان في الحياة أم تحت التراب. وكل ما سنحت لها الفرصة كانت توزّع طعاماً على الجيران والغرباء، وتقول: 'إذا كان عايش، يمكن دعوة توصل، وإذا مات، فهي صدقة على روحه

الانتظار كسلاح
النظام السوري لم يكتفِ بالسجن والتعذيب. بل جعل من الانتظار ذاته أداة تعذيب نفسي للأمهات والعائلات. سنوات من الغموض، من الشائعات، من صفقات الابتزاز والاحتيال، من الأكاذيب الرسمية. يُستخدم الإخفاء القسري كورقة ضغط وسلاح ضد أهالي المعتقلين، حتى تتحوّل الأم إلى كائن معلق، لا تعرف إن كانت تبكي أم تأمل. لكن رغم كل هذا، بقيت الأمهات شامخات. يبنين البيوت على أمل عودة الغائبين، ويربين أحفاداً على أسماء آبائهم الذين لم يعودوا. في كل بيت صورة معلّقة، ورسالة لم تُكمل.

أم محمود ليست وحدها... لكنها أيضاً وحدها
قصة أم محمود ليست قصة خاصة. هي واحدة من آلاف، لكنها تكثّف الوجع السوري كله. وجهها المتجعد، صمتها الطويل، وصورتها وهي تضم صورة ابنها وتهمس: "سامحني يا ابني"، تختصر كل ما لا تستطيع السياسة قوله، وكل ما تتجاهله العدالة، وكل ما لم يُكتب بعد. في كل صلاة، تهمس الأمهات بأسماء أبنائهن، ثم ترفع أيديهن بالدعاء على من كان السبب. يسمين بشار الأسد باسمه، ويصفنه بـ'المجرم' دون تردد. تقول إحداهن: 'ما في سجدة إلا وبدعي عليه، هو وكل مين شارك بخطف ولادنا'. وسط الحزن الطويل، لا ينسين أن العدالة حق، وأن من ارتكب الجرائم سيُحاسب، ولو بعد حين، ولو ظنّ أن الوقت نسي.

اقرأ المزيد
٧ مايو ٢٠٢٥
شهادات نسائية من ظلمة الزنازين: حين تتحول المعاناة إلى وثيقة

لم تكن السجون السورية في السنوات الماضية حكراً على الرجال، ففي خضم الثورة، كانت النساء أيضاً هناك في الزنازين المظلمة، تحت رحمة الجلادين، يتقاسمن الألم والعزلة والظلم، لكن المفاجئ – أو ربما المعجزة – أن بعض هؤلاء النسوة، ممن خضن تجربة الاعتقال السياسي بأقسى أشكاله، لم يُكسرن، بل خرجن من خلف القضبان محمّلات بشيء أثمن من الحرية: الحقيقة.

داخل جدران السجون، لم تكن المعاناة فقط في فقدان الحرية أو التعذيب الجسدي، بل في تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد: أم تضع مولودها، فتاة في مقتبل العمر تُحرَم من حلمها بالدراسة، امرأة مسنّة تُسأل عن ذنب ابنها. في الزنازين السورية، كانت النساء يعشن تجربة مركّبة من القهر، لا تنتهي بخروجهن، بل تبدأ بعدها رحلة أخرى: الترميم، الشهادة، والتوثيق.

عدد من الناجيات قرّرن كسر الصمت، وتحويل تجربتهن إلى شهادة حية على ما جرى خلف القضبان. بين هؤلاء كانت سحر زعتور، التي وثّقت لاحقاً مشاهد من الانتهاكات ضد النساء في المعتقلات، منها وجود أمهات مع أطفالهن، ونساء مسنات، وحتى حالات ولادة جرت داخل الزنازين. شهادتها، كسواها من شهادات معتقلات سابقات، تضع الضوء على واقع ما تزال كثيرات يعشنه في الظل.

كما سعت الفنانة سمر كوكش، وهي واحدة من الناجيات، إلى فضح ممارسات المجرم بشار الأسد، وقالت بإحدى اللقاءات الإعلامية أن قواته التي تجردت من الإنسانية والضمير، كانوا يودعون المعتقلات بمشافي الأمراض النفسية، مشيرة إلى أنها جلست مع واحدة من بينهن ولم يبدو عليها أنها تعاني من تلك الأمراض.

العمل الإعلامي كان أحد المسارات التي لجأت إليها بعض الناجيات، لا لمجرد نقل ما جرى معهن، بل للتعبير عن وجع جماعي ومُغيب. شاركن في توثيق قصص الاعتقال، التهجير، والتهميش، وساهمن في إنتاج تقارير وأفلام ومواد مكتوبة أعادت للذاكرة جزءًا مما حاول النظام دفنه في الأقبية.

بعض الناجيات لم تسنح لهن الفرصة بأن يعملن في ذلك المجال، لكن سعين لروي قصصهن عبر وسائل الإعلام لتقديم المزيد من الأدلة على إجرام الأسد، وفضحه أكثر على رؤوس الأسد، لعل الصوت يصل إلى الجهات المعنية وكل متورط ينكشف وينال ما يستحقه من العقاب.

هذه التجارب تؤكد أن الحكاية النسوية في الثورة السورية لا تقتصر على التضحيات فحسب، بل تمتد إلى الفعل، والمشاركة، وصناعة الرواية البديلة. من بين الركام، خرجت أصوات نسائية صلبة، تقول إن الذاكرة لا تُكتب بالحبر فقط، بل بالدموع، والصبر، والإصرار على أن يُروى ما كان مخطّطاً له أن يُمحى.
في النهاية، تبقى شهادة واحدة صادقة، كفيلة بفضح جريمة صمت عنها كثيرون. ومن بين ظلمة الزنازين، وُلدت عدسة الحقيقة.

اقرأ المزيد
٦ مايو ٢٠٢٥
قلوب أحرقتها الحرب.. خسرتُ خطيبي بسبب المجرم بشار

قبل ثمانية سنوات، في قريتنا الصغيرة، كان هناك شاب مختلف. لم يكن بيني وبينه حديث، لكن حضوره كان واضحاً. كان محترماً، متديّناً، خلوقاً. ومع الوقت، بدأت أُعجب به بصمت، دون أن أُخبر أحداً. وفي يوم، جاء وتقدّم لخطبتي بشكل رسمي. شعرت أنني محظوظة؛ ففيه من صفات الرجولة والصدق ما يطمئن القلب. وافق أهلي، وتمت قراءة الفاتحة.

كانت المناسبة بسيطة، بلا احتفال ولا زينة، احتراماً لأهالي القرية الذين لا يزالون يدفنون أبناءهم، وبسبب واقع الحرب التي جعلت الفرح يبدو شيئاً غريباً. مرت عشرة أيام فقط بعد قراءة الفاتحة، وكنا نعيش أجمل لحظات الأمل، نتحدث عن البيت، عن تفاصيل الزواج، عن كيف سنبدأ وسط هذه الفوضى... ثم وقعت الغارة. 


طائرة حربية قصفت منتصف القرية. لم تكن هناك اشتباكات، ولا مواقع عسكرية، فقط بيوت ومارة ومحالّ. كان في محلّه الصغير، حين سقط الصاروخ. استُشهد في مكانه.

وصلني الخبر وأنا مع صديقاتي في مدينة إدلب كنا ندرس في الجامعة حينها، لم أبكِ كثيراً. لم أصرخ. فقط شعرت أن شيئًا داخلي توقف عن الحياة. بالبداية لم أستوعب فقبلها بيوم واحد كنت أتحدث معه عن طريق الواتساب ونخطط لحفلة عقد القران، عدت فوراً إلى قريتنا. 


استقبلت العزاء بوجه هادئ، لكن قلبي كان محطماً، كم تمنيت أن يكون كابوساً وسوف أصحي منه بأي لحظة، لكنها كانت حقيقة مرة. بقيت أيام العزاء كما هي، ثم انتظرت حتى انتهت الفترة، وجمعت كل شيء: الخاتم، الهدايا، المصوغات. ثم أعدت الأغراض لأمه، لأنها لم تعد من حقي، كي لا يزيد ألمي عندما أراها.

حين سلّمتها لها، انهارت. لم تبكِ كثيراً في العزاء، لكنها حين رأت أغراضه، انفجرت. لم تتحمّل أن تلمس شيئًا من بقاياه. كانت تردّد: "كان حلم عمري شوفه عريس"، غادرت على الفور قبل أن أنهار أنا الأخرى، ثم عشت بعده سنتين في فراغ صامت. كنت أدرّس الأطفال، أساعد أمي، أُشغل نفسي بدراستي، وأهرب من الليل حين يبدأ كل شيء في داخلي بالضجيج.

ثم جاء شاب آخر، طيب ومحترم، وتزوجته. لم أُظهر له أي تفاصيل من الماضي، احتراماً له. لم أُخبره، وهو لم يسأل لأنه كان يعلم أنني كنت مخطوبة سابقاً. صمت متبادل فيه كثير من التقدير. لم يكن بديلاً، لكنه كان بداية جديدة.

الحرب لم تسرق فقط بيوتاً أو أحلاماً. لقد سرقت قلوباً ذاقت الألم، وانكسرت ولم تعد كما كانت. كل واحد خسر شيئاً. البعض عوّض، والبعض تجاوز، لكن بعض الخسارات تبقى كظلّ لا يغادر. بعد ثماني سنوات، اسمه ما زال في قلبي. ليس كجرح، بل كأثر. لم يعد وجعاً حياً، لكنه صار ذكرى صامتة، لا تزول.

كم أتمنى أنا وغيري رؤية المجرم بشار الأسد على أعواد المشانق، وتنتفض من وجهه ملامح الرعب والخوف، ذلك الكأس الذي لطالما شرب منه السوريين بسببه، ربما أشعر بالرضى بأن حق خطيبي السابق لم يذهب سدى.

اقرأ المزيد
٥ مايو ٢٠٢٥
نساء تحررن من سجون الأسد: حرية جسدية فيما لاتزال الندوب النفسية

فرحنا جميعاً بخروج المعتقلين من السجون بعد تحرير سوريا من قبضة الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2024. إلا أن سلسلة من العقبات تنتظرهم في طريق بناء حياة جديدة بعد زوال القضبان. وغالباً ما تكون هذه الصعوبات أشد وطأة على النساء مقارنةً بالرجال، خصوصاً في مجتمع تحكمه عادات وتقاليد قد تكون مجحفة بحق المرأة. في هذا التقرير، سنسلّط الضوء على بعض هذه العقبات، استناداً إلى قصص واقعية عايشناها، وأخرى رصدناها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

الوصمة الاجتماعية
تأتي الوصمة الاجتماعية في مقدمة المشاكل التي تواجهها الناجية، إذ ينظر إليها البعض كمصدر 'عار' أو 'عيب'، خاصة في المجتمعات المحافظة. وقد تتعرض للنبذ من قِبل العائلة أو المجتمع، حيث اشتكت بعض المعتقلات من هجر أزواجهن لهن بعد الخروج من السجن. كما تُوضَع النساء في مواقف محرجة وتُوجَّه إليهن أسئلة مزعجة، مثل: 'هل حدث لك شيء في السجن؟'، 'هل تعرّضتِ للاغتصاب؟'، وغيرها من العبارات الجارحة التي تُسبّب إحراجاً وألماً نفسياً للناجية.

يشكّل خطف الفتيات أو دخولهن السجن، أو حتى التحقيق معهن، مشكلة كبيرة لدى العائلات، تجعلهم عرضةً للشائعات التي قد تسيء إلى سمعتهم وتعكر صفو حياتهم. تحكي مرام (اسم مستعار)، وهي سيدة في الأربعين من عمرها، عن تجربتها، قائلة: "دخلت السجن وأنا في الخامسة عشرة من عمري بسبب قضية، وخرجت منه ولم أكن متزوجة آنذاك، ولم أتعرض للاغتصاب أو لأي انتهاك جنسي. لاحقًا تزوجت وأنجبت أربعة أولاد، أصبحوا اليوم بطولي. مرّ على تلك الحادثة أكثر من عشر سنوات، ومع ذلك لا يزال الناس يتحدثون عني بسوء. كان الله في عون النساء"

ويلازم المعتقلات اللواتي تعرّضن للتعذيب أو العنف الجنسي شعورٌ دائم بالذنب أو العار. بعضهن تجرأن وكشفن عن تلك الانتهاكات، وتحدثن عنها على الهواء مباشرةً لفضح الأسد وقواته وتسليط الضوء على جرائمهم، بينما لجأت أخريات إلى الصمت خوفًا من كلام الناس ونظراتهم القاسية التي لا ترحم.

الفقر والأثر النفسي
عانت ناجيات أيضاً من الفقر وسوء الأوضاع المادية، إذ لا يملكن مصدرًا ثابتاً للدخل، في ظل معاناة أسرهن من مشاكل اقتصادية متفاقمة. ويُضاف إلى ذلك صعوبة إيجاد فرص عمل، نتيجة الغياب الطويل عن سوق العمل، وضعف الإلمام بمتطلبات التوظيف والإجراءات اللازمة. علاوةً على ذلك، تواجه سوريا عمومًا أزمات اقتصادية حادّة، تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى معالجتها.

الأسد كان يودع معتقلات في مشافي للأمراض النفسية
وإلى جانب هذه التحديات، تلاحق المعتقلات ذكريات مؤلمة تبقى حاضرة في أذهانهن، مسببةً لهن حالات من القلق والتوتر، تُعرف بالصدمة النفسية (PTSD). فقد تعاني الناجية من كوابيس، أو نوبات هلع، أو فقدان الثقة بالآخرين، خاصةً إذا كان سبب اعتقالها تقريراً كتبه أحد المعارف أو الأقارب، كما حصل مع العديد من المعتقلين.

خرجت بعض الناجيات من المعتقل بوضع صحي صعب نتيجة ظروف الاحتجاز السيئة والإهمال الطبي المتعمَّد من قِبل نظام الأسد، كعقوبة على اتخاذهن مواقف مناهضة لرئيس النظام المجرم بشار الأسد. وفي لقاء إعلامي، كشفت الفنانة السورية سمر كوكش، التي ذاقت مرارة الاعتقال في سجون الأسد، عن تفاصيل صادمة شاهدتها خلال فترة احتجازها؛ إذ كان النظام يخفي النساء في أماكن احتجاز غير مصنّفة رسمياً كسجون، ثم يُنقلن لاحقاً إلى مستشفيات للأمراض النفسية.

قالت كوكش خلال ذلك اللقاء إنها كانت معتقلة في سجن عدرا، وشاهدت السجّانين يجلبون فتيات ويدّعون أنهن مصابات باضطرابات عقلية، فيتم إيداعهن في السجن مؤقتًا قبل نقلهن إلى مستشفيات الصحة النفسية. وأشارت إلى أنها جلست مع إحدى هؤلاء الفتيات، وكانت تبدو بصحة عقلية جيدة، لكنها تعرضت للتعذيب.

فقدان للذاكرة والهوية
كما شاهدنا مقاطع مصوّرة توثق لحظات خروج معتقلين ومعتقلات من السجون، وظهرت في بعضها حالات صادمة؛ إذ بدا بعض الأشخاص فاقدين للذاكرة نتيجة ما عانوه خلال فترة الاعتقال، فيما بدا آخرون غير قادرين على الاستيعاب، أو على التواصل بشكل سليم مع من حولهم. لذلك، لجأ ناشطون إلى تصويرهم ونشر الصور والمقاطع أملاً في أن تصل إلى أهاليهم ويتم التعرف عليهم

وتبقى الناجيات في وضع يستدعي دعماً نفسياً ومادياً مستمراً، بالإضافة إلى الاحتواء من قِبل العائلة والأصدقاء، كي يتمكنّ من تجاوز التجربة القاسية التي مررن بها. فمن حق كل سيدة أن تعود إلى حياتها الطبيعية، وتمارس حقوقها كاملة دون خوف أو خجل، بعيدًا عن الظلم، والانتقادات، والمظاهر السلبية التي يفرضها المجتمع. إن المعتقلين والمعتقلات ضحايا واجهوا الاعتقال بسبب مواقفهم السياسية ومشاركتهم في انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد، وهم يستحقون الدعم لا الوصمة.

اقرأ المزيد
٣ مايو ٢٠٢٥
البيوت عادت... لكن من يملأها؟".. قصص الأمهات السوريّات بين "الأطلال والذكريات"

تقف أم عبده أمام منزلها المدمَّر، تحدِّق في تفاصيله، ثم تتنقّل بين أرجائه وهي تسترجع صورته الجميلة كما كان قبل أن يصبح ضحيةً لقصف الطيران قبل سنوات، ثم فريسةً لجيش "التعفيش" الأسدي. تتمنى لو أنها مخطئة، وأن هذا ليس منزلها، لكن الموقع والتفاصيل المتقاطعة بين شكله القديم والحالي، يثبتان الحقيقة المرّة. تتحوْقَل، وتُلقي بنظراتها على منازل الجيران والأقارب المحيطة، التي لم تكن أوفر حظاً.

تقول أم عبده (55 عامًا) من ريف حماة: "دمار المنازل كسَر ظهورنا، لكن هذا يمكن تجاوزه مع الوقت، ويمكننا إعادة بنائها، ربما بشكل أفضل مما كانت عليه. لكن ماذا عن الأبناء والأحبة الذين خطفتهم الحرب منا؟ لقد فقدت ثلاثة من أولادي؛ أحدهم قُتل خلال اشتباكات اندلعت بين فصائل قبل أحد عشر عاماً، وآخر قضى في حادث سير في بدايات النزوح من القرية قبل خمس سنوات وسبعة أشهر، ولحق به شقيقه بعد واحد وعشرين يوماً فقط. ثم تُوفي زوجي بعدهم، وكأن قلبي لا يزال يُنتزع قطعةً قطعة".

وتتابع بصوت يغلبه الحزن: "قبل أن أعود، كان مجرّد التفكير بالرجوع إلى الحارة والمنزل من دونهم يضيق صدري، وتُظلم الدنيا في عيني. سأراهم في كل تفصيل، في كل لحظة تمرّ بي. في ساحة الحارة حيث اعتادوا أن يتجمعوا مع أصدقائهم، في الأرض عندما كنا نعمل معًا وتملأ ضحكاتهم المكان، على"على مائدة الطعام التي باتت تفتقد وجودهم، وأصبحت أماكنهم الفارغة تذكّرني دومًا بأن شيئًا كبيرًا ينقص هذا البيت."

ليست أم عبده وحدها من تعيش شعور الفقد واللوعة بسبب ما خلّفته الحرب من ظروف قاسية، فكل سوري أصابته خسارة ما، باختلاف أشكالها. عدد الضحايا يُقدَّر بالآلاف، سواء في السجون أو تحت القصف أو خلال محاولات الهجرة غير الشرعية، ناهيك عن وقائع الاعتقال، والدمار، والسرقة، والتخريب، وعمليات "التعفيش".


لم يكن التخلّص من حكم آل الأسد أمراً سهلاً، خصوصًا أن هذا الحكم امتد لعقود طويلة وتحالف مع الروس والإيرانيين. ومع ذلك، سقط في 8 كانون الأول/ديسمبر من عام 2024. لكن جراح السوريين لم تندمل بعد، فذاكرتهم ما زالت مثقلة بالآلام والأحداث المروّعة التي يصعب نسيانها، وقد فُتحت تلك الجراح مجددًا مع العودة إلى الديار، حيث الغياب الواضح لأفراد العائلة يُعيد المأساة إلى الواجهة.


تخشى أم محمد العودة إلى منزلها في ريف إدلب الجنوبي، إذ تحاول قدر الإمكان الهروب من ذكرى وفاة ابنها الذي قُتل في قصف جوي قبل نحو سبع سنوات، حين بدأت الحملة العسكرية على مناطق ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، وبدأ جيش النظام بالتقدّم.

تقول السيدة الخمسينية: "نزحنا من القرية في الأيام الأولى للحملة، بينما أصرّ أولادنا الشباب على البقاء لحماية المنازل من السرقة، ودعم المقاتلين على الجبهات. لم نتمكن من إجبارهم على المغادرة. مع تصاعد القصف، كان الشبان يختبئون في كهوف قمنا بحفرها تحت الأرض لتوفير الحد الأدنى من الأمان".

وتتابع أم محمد: "كان ابني في منزل أحد الجيران يسهر مع اثنين من أصدقائه عندما استهدفت الطائرات الحي بالغارات. سقط صاروخ على المنزل فقُتل ابني على الفور، وأُصيب أحد أصدقائه إصابة بالغة في العمود الفقري أفقدته القدرة على الحركة، أما الثالث فقد نجا بإصابات طفيفة لأنه كان في المطبخ يعدّ الشاي وقت الضربة".
 
تغيّرت حياة تلك المرأة بشكل كبير بعد فقدان ابنها، حتى أن أبناءها الآخرين باتوا يتجنّبون ذكر اسمه أمامها، كي لا تنفجر بالبكاء. بل أصبحوا يبتعدون عن كل ما يرتبط به: طعام كان يفضّله، ملابس كان يرتديها، ذكريات تجمعهم به، وحتى المناسبات التي كان يشاركهم فيها. فمجرد أن يخطر على بالها، تنخرط في نوبة بكاء حادة، وقد ترفض تناول الطعام لساعات طويلة. "كيف يمكن أن تنسى ما حدث، وهي تمرّ يومياً أمام المنزل الذي فقدته فيه؟"، تقول منار، ابنتها، التي كانت حاضرة معنا أثناء اللقاء مع والدتها.

ولدى مناقشة الآثار النفسية والاجتماعية لتلك الذكريات على الأمهات، تحدثنا مع براء الجمعة مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، وقال: "في السياق السوري، لا يمكن اختزال الذاكرة بمجرد اضطراب نفسي ناجم عن الصراع؛ بل إنها تمثل شاهداً حيّاً على انتهاك القيم الإنسانية، وجمراً تحت الرماد يُهدّد بالاشتعال كلما اصطدم خطاب النسيان القسري بجرحٍ لم يُعترف به.


بالنسبة للأمهات السوريات، تتداخل الذكريات مع غياب العدالة لتشكّل "ألماً مركّباً": ألم الفقد ذاته، وألم الغياب التام للاعتراف المجتمعي والدولي بضحاياهن. ومع استمرار غياب آليات المساءلة الفعلية، تتحوّل الذكريات إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية ضد الإقصاء، وتُعزز شعوراً بالاغتراب، خاصة في البيئات التي يُفرض فيها خطاب "المصالحة" قسراً دون محاسبة.

وأضاف: "التأثيرات اليومية لا تنفصل عن بنية المعاناة المستمرة، حيث تظل مظاهر الفقر والتهميش والعنف البنيوي متجذرة في تفاصيل الحياة، ففي العلاقات الأسرية: يظهر توتر دائم في ديناميكيات الأمومة، يتجسد في حساسية مفرطة تجاه الأبناء الناجين، كرد فعل على فقدان السيطرة خلال فترات الحرب، ما يضع الأمهات في صراع داخلي بين الحماية والخوف من التكرار.وفي الجسد: تتجلّى آثار الظلم في صيغ جسدية؛ آلام مزمنة، اضطرابات في النوم، وشكاوى صحية متكررة لا تجد تفسيراً طبياً واضحًا، ما يشير إلى وجود علاقة عميقة بين المعاناة النفسية والتجسيد الجسدي للصدمات".

وذكر الجمعة أن الدعم الفعّال للنسوة لا يُختزل في جلسات علاج فردية، بل يتطلّب مقاربة شاملة تعترف بالذاكرة كحق إنساني، وبالمعاناة كقضية نظامية لا كخلل في الدماغ أو العاطفة.على مستوى السياسات: يجب تعزيز المبادرات المجتمعية التي تُمكِّن النساء من إعادة تشكيل سردياتهن بأنفسهن. التوثيق المحلي، والأرشيفات المجتمعية، ومشاريع التمكين التي تدمج بين سبل العيش ومساحات الحكي، تساهم في ترميم الكرامة قبل استهداف "الصحة النفسية".

وتابع: "على مستوى الممارسة النفسية الاجتماعية: من الضروري تبنّي أدوات تُعيد تعريف الهوية بعيدًا عن دور "الضحية"، مثل تقنيات السرد الجماعي والتدخلات القائمة على استعادة المعنى. كما يُعدّ الدمج بين الدعم النفسي والتحرك المجتمعي وسيلة فعّالة لتحويل الألم الفردي إلى طاقة جماعية للضغط والتغيير. 


وعلى مستوى الخطاب الإعلامي والأكاديمي: ينبغي استبدال مفردات مثل "الضحايا" بـ"الناجيات" أو بدائل أخرى ملائمة، مع الالتفات إلى توثيق قصص الصمود اليومي، بما يعكس القوة والتكيّف، لا الألم فقط.

 

اقرأ المزيد
٣ مايو ٢٠٢٥
المرأة العاملة في سوريا: صراع يومي بين الواجبات والضغوط

تقفُ نورا في المطبخ تُعدّ السندويشات لأطفالها الثلاثة، تنظر إلى ساعتها وتحاول الإسراع كي تلبسهم ملابسهم قبل الذهاب إلى المدرسة، وسط جو يعجّ بالطلبات:"أمي، مشطي لي شعري"، "أنا جائع"، "لا أريد الذهاب اليوم!". ليقاطعهم صوت زوجها: "أين قهوتي؟ هل كويتِ البنطال؟ أريد الذهاب إلى العمل".

تحاولُ نورا إنجاز المهام بسرعة، وبعد الانتهاء منها ترتدي ملابس عملها، تتناول قطعة خبز مع الجبن على عجل، ثم تنطلق.

اعتادتْ نورا، وهي سيدة في منتصف الثلاثينات، وتعملُ في مهنة التدريس، على هذا النمط من الحياة منذ أن قررت العمل لمساعدة زوجها في تغطية نفقات المنزل. لكن رغم ذلك، تمضي يومها تركض بين المجلى والغسالة، والتنظيف وإطعام الأطفال، بالإضافة إلى واجباتها الزوجية. كثيراً ما تفكر بترك العمل لتخفيف العبء عن نفسها، لكن الظروف المادية الصعبة التي تمرُّ بها الأسرة وحاجتهم إلى دخلها يجعلها تتراجع عن القرار.

عشرات السوريات معيلات لأسرهن
نورا واحدة من عشرات النساء في سوريا اللواتي يحملن على عاتقهن مسؤوليات مضاعفة، في العمل داخل المنزل كأمهات وزوجات وربّات بيوت، وخارجه في وظائف متعددة سواء في المنظمات، أو المشافي، أو المدارس، أو الأعمال الزراعية، أو المصانع، أو البيع المتنقل، وغيرها من فرص العمل المتاحة للنساء.


لكن ثقل هذه المسؤوليات، وقساوة الظروف التي تحاول النساء التوفيق بينها، يجعلهن عرضة لصعوبات نفسية، صحية، واجتماعية، سنتناول بعضها استناداً إلى شهادات جمعناها خلال إعداد هذا التقرير.

غياب عن الجمعات العائلية 
تشتكي بعض النساء من عدم تمكنهن من حضور التجمعات العائلية المحببة، فغالباً ما يكون لديهن التزامات مثل تحضير طعام اليوم التالي، أو إنهاء مهام العمل المتراكمة في المنزل. كما أن بعضهن يتعرضن للاتهام بالتقصير في الواجبات الاجتماعية كزيارة الأقارب أو الجيران، بينما تحاول كثيرات استغلال أوقات الفراغ أو العطل في العناية بالمنزل أو الأطفال، أو على الأقل نيل قسط من الراحة.

تقول فاطمة (30 عامًا)، مقيمة في ريف إدلب الشمالي وتعمل في إحدى المنظمات الإنسانية في مجال المراقبة والتقييم: "في البداية كنت أنزعج من عتاب الجارات والأخوات والصديقات بسبب تقصيري في زيارتهن، لكنني اعتدت الأمر لاحقًا. فأنا أعمل من لحظة استيقاظي حتى المساء، وأسعى لإنجاز المهام المترتبة عليّ. 


حتى يوم العطلة أخصصه للحالات الطارئة كزيارة مريض أو تهنئة بمناسبة لا يمكن تجاهلها. وإن لم توجد مناسبة، أقضيه في ترتيب المنزل. فالعمر ينتهي، لكن عمل البيت لا ينتهي".

تعب جسدي وإرهاق 
وتعرضتْ نساء أخريات لتعب جسدي شديد نتيجة كثرة الأعمال اليومية الملقاة على عاتقهن. ووفقاً لسيدات تحدثنا معهن، تجلّى هذا التعب في آلام بالظهر، والركبتين، واليدين، والرقبة، خصوصًا لدى من يعملن في الزراعة، مثل الحصاد، وتنظيف الأراضي من الأعشاب الضارة، وقطاف الثمار، واقتلاع البطاطا، وجمعها في أكياس. 


ولا تقتصر الآلام على العاملات في الزراعة، فالمعلمات أيضاً يعانين من الوقوف لساعات طويلة أثناء الشرح والتنقل بين الطلاب. وبشكل عام، لكل مهنة نوعها الخاص من الإرهاق الجسدي، والذي يتضاعف عند الجمع بين العمل داخل المنزل وخارجه.

تعلق أم محمود (45 عامًا) من ريف حماة، وأم لخمسة أبناء:"خلال العمل في الأرض، نضطر للاستيقاظ قبل بزوغ الفجر. أشعر أحياناً وكأن ظهري سينكسر، لكن لا خيار أمامي، فلا يكفي دخل زوجي من عمله في مكبس الحجارة لتلبية متطلبات الأسرة. أتعب كثيراً، وأشعر بآلام في أنحاء مختلفة من جسدي، وعندما أعجز عن التحمل، أضطر للبقاء في المنزل حتى أتحسن، ثم أعود للعمل من جديد".

ضرورات العمل 
وتعيش كثير من النساء تحت ضغط نفسي ناتج عن تراكُم المهام والمسؤوليات، مما يؤدي إلى شعور دائم بالقلق والتوتر والتفكير الزائد، وقد يصل الأمر إلى اضطرابات في النوم. ومع ذلك، لا يستطعن التخلي عن أحد العملين، فالمنزل واجب مفروض عليهن حسب العادات والتقاليد، والعمل الخارجي أصبح ضرورة ملحّة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وصعوبة تأمين أبسط مقومات المعيشة.

بل إن بعض النساء اضطررن لتحمّل مسؤولية الأسرة كاملة، خاصة في ظل ظروف الحرب، التي أودت بحياة بعض الأزواج، وأدت إلى اعتقال البعض الآخر، مما أجبر النساء على لعب دوري الأب والأم في آنٍ واحد.

تحكي سلمى (42 عامًا) من ريف دمشق:"اعتُقل زوجي في بدايات الثورة، ثم انقطعت أخباره كلياً. قررت ألا أستسلم، وأن أقوم بواجباتي تجاه الأسرة بالكامل. ساعدتني عائلتي قليلاً، لكن ذلك لم يكن كافياً، فاضطررت للعمل. وبعد تهجيرنا إلى إدلب، التحقت بدورات تدريبية في الدعم النفسي، وتمكنت من الحصول على وظيفة براتب جيد. وبعد تحرير السجون، لم نعثر على زوجي، ويُرجّح أنه استُشهد".

وتواصل سيدات سوريات على متابعة مهامهن يومياً، صابرات على التحديات الجسدية والنفسية التي يواجهنها بصبر وقوة لا توصف، لأنهن العمود الفقري لأسرهن، مجسدات مثالاً حقيقياً للصمود في وجه الظروف القاسية.

اقرأ المزيد
١ مايو ٢٠٢٥
رحلة كرامة في زمن النار: شهادة طالبة من إدلب على مقاعد الخطر

لم تكن دراستي الجامعية مجرد سنوات من الكتب والمقررات، بل كانت ملحمة شخصية، خضتُ فيها معركة بقاء للحلم وسط رماد الحرب. لم أكن طالبة فحسب، بل كنت شاهدة على زمنٍ تنزف فيه الأحلام وتتشبث فيه الكرامة بخيط رفيع من الأمل.

كانت نقطة التحول في عامي الثاني، حين خرجت مدينة إدلب عن سيطرة النظام. شعرتُ يومها وكأن المدينة تنفست الصعداء عني، وكأن سجنًا فُتح ببطء. لكن لحظة النشوة لم تكتمل، إذ أصبحت جامعتي بعيدة، شبه مستحيلة. لم أستسلم، حملتُ أختي وقلقي، وذهبنا إلى جامعة حماة الخاضعة للنظام. 


الرحلة التي بدأت بالأمل انتهت على حاجز عسكري حيث وقعنا في فخ الإهانة والذل. ادّعى الجنود أن الحافلة تحوي متفجرات. تفتيش، شتائم، وضربٌ لشاب فقط لإذلاله. لم أُصب جسديًا، لكن كرامتي ضُربت في صميمها. وعدتُ يومها بقرار واحد: لا علم يُطلب على حساب الكرامة.

مرّت شهور وأنا أراقب أحلامي تتآكل بصمت. لكنني لم أنسَ الطريق. حين فُتحت لي فرصة لمتابعة الدراسة في إدلب، قفزتُ إليها دون تردد. لا شيء كان سهلاً. كل شيء من حولنا كان يدفعنا للانسحاب: القصف، المخاوف، الأصوات المثبطة: "شو هالدراسة؟"، "ما إلها قيمة!". لكنني كنت أتابع الطريق بابتسامة عنيدة، لأنني ما كنت أبحث عن شهادة، بل عن نفسي التي تركتها ذات يوم على مقعد خشبي في قاعة باردة.

كانت السماء تمطر نارًا، والطائرات لا تغيب، والمقاعد تفرغ أحيانًا من أصحابها إلى الأبد. لن أنسى ذاك اليوم الذي استُشهد فيه شاب من أبناء حارتي، زميل مقاعد وحلم مشترك. سقط بيننا، على عتبة الحياة، بينما صرخات أهله تشقّ صدر السماء. والدته ناحت على جثته: "ما لحقت أفرح فيه!". لم يكن مشهدًا عابرًا، بل جرحًا مفتوحًا في ذاكرة لا تنسى.

ورغم كل ذلك، أكملتُ. وتخرجت بمعدل 80%. تحت القصف، فوق الخوف، بجانب الشموع. وبعد التخرج، حظيتُ بفرصة عمل محترمة، شعرتُ معها أن كل خطوة في طريقي المثقل لم تذهب سدى. كان ذلك العمل بداية جديدة في حياة تشبه الحلم وسط ركام الواقع.

لقد اخترت أن أمشي هذا الطريق، رغم الأشواك. لم يكن سهلاً، لكنه كان طريقي… وأنا مشيتُه حتى النهاية.

اقرأ المزيد
١ مايو ٢٠٢٥
من خلف القضبان إلى واقع جديد: معاناة المعتقلين لا تنتهي بالحرية

على مدار سنوات حكمه، اعتقلَ نظام الأسد آلاف السوريين انتقاماً من مشاركتهم في الثورة المعارضة له، وزجَّ بهم في معتقلات يغيبُ عنها الحدّ الأدنى من المعايير الإنسانية. في تلك الزنازين المظلمة، عانى المعتقلون من أقسى أنواع التعذيب والإهمال، حتى فارقَ كثير منهم الحياة دون محاكمة أو معرفة ذويهم بمصيرهم. وبينما أُفرج عن بعضهم قبل سقوط النظام، وخرج آخرون بعد التحرير.

لكن الخروج من السجن لم يكن نهاية المعاناة، يعتقدُ البعض أن معاناة المعتقل تنتهي بمجرد فتح أبواب السجن وإطلاق سراحه، وكأن الحرية تطوي ما مضى من صفحات العذاب التي عاشها خلال سنواتٍ اقتطعتها القضبان من عمره.


إلا أن الواقع مختلف تماماً؛ إذ يواجه الناجي من الاعتقال سلسلة متواصلة من التحديات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ويحتاج إلى جهد كبير لاستعادة توازنه والاندماج مجدداً في حياته الطبيعية. في هذا التقرير، نستعرض بعضاً من هذه الصعوبات، استناداً إلى شهادات ميدانية جمعناها من أصحاب التجربة أنفسهم ومن ذويهم.

الندوب النفسية والآثار الجسدية
غالباً ما يعاني الناجون من الاعتقال من استمرار استرجاعهم للأحداث الصادمة التي تعرضوا لها داخل السجن، مثل التجويع، والضرب، والإهانة، وغيرها من أساليب القمع التي اعتاد النظام السوري استخدامها ضد المساجين. 


وقد أفادَ عدد من المعتقلين السابقين بأنهم يرون كوابيس متكررة تجسد مشاهد مشابهة لما عاشوه، مما يعكس استمرار تأثير الصدمة النفسية حتى بعد الإفراج عنهم. ويُعد الشعور الدائم بالخوف، واضطرابات النوم، والقلق والتوتر من الأعراض الشائعة لما يُعرف بـ"اضطراب ما بعد الصدمة"، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالات وفق ما تؤكده الدراسات النفسية.

ولا تتوقف آثار الاعتقال عند الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى الجسد الذي ناله نصيب وافر من العذاب، مخلفًا إعاقات دائمة ومزمنة لدى كثير من المعتقلين. فالتعذيب القاسي داخل السجون تسبّب بإصابات بالغة لعدد من المعتقلين، وصل بعضها إلى إعاقات دائمة، وفقًا لما أكدته تقارير صادرة عن منظمات حقوقية دولية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى جانب توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان. 


وقد أشارت هذه المصادر إلى أن عدداً من المعتقلين تعرّضوا لإصابات جسدية خطيرة، شملت حالات بتر أطراف نتيجة الضرب المبرح أو الإهمال الطبي، بالإضافة إلى شلل جزئي أو كامل بسبب الصعق بالكهرباء أو إصابات في العمود الفقري. كما وثّقت التقارير فقدان بعض المعتقلين لحاسة البصر أو السمع، إلى جانب إصابة آخرين بأمراض مزمنة أو فشل في بعض الأعضاء نتيجة الحرمان من العلاج وسوء ظروف الاحتجاز.

أعباء اقتصادية وتحولات اجتماعية
وإلى جانب الجوانب النفسية والجسدية، يواجه المعتقلون المحررون تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة، تُثقل كاهلهم وتُعيق اندماجهم في الحياة الطبيعية. إذ أن معتقلون اصطدموا بواقع اقتصادي متردٍ، لا سيما في ظل اضطراره لإعادة بناء حياته من الصفر. 


وفي كثير من الحالات، لا يمتلك ذوه القدرة المادية الكافية لتأمين احتياجاته اليومية أو دعمه في تجاوز المرحلة الانتقالية بعد خروجه من السجن. كما أن السنوات التي قضاها في الاعتقال قد حرمته من فرص التعليم أو العمل، ما يقلل من إمكانية اندماجه مجددًا في سوق العمل ويزيد من صعوبة تأمين مصدر دخل ثابت.

كما صُدم عدد من الناجين من الاعتقال بالتغيرات الجذرية التي طرأت على أوضاع أسرهم خلال فترة احتجازهم، بعضها كان مأساوياً؛ إذ فقد بعضهم أحد الوالدين أو أحد أفراد الأسرة دون أن تتاح لهم فرصة الوداع أو حتى معرفة التفاصيل. 


ولم تتوقف الصدمة عند هذا الحد، فقد عانوا أيضاً من آثار الحرب المدمرة، خصوصاً في المناطق التي تعرضت لقصف أو اجتياح من قبل قوات النظام، والتي سُجّلت فيها حالات انتقام جماعي من السكان بسبب مواقفهم المعارضة. وجد كثير من الناجين أنفسهم أمام مشهد قاسٍ: منازل مدمّرة، أراضٍ محروقة، وأشجار مقطوعة، ليتبدد ما تبقى من ملامح الطفولة والانتماء.

تُظهر قصص المعتقلين الناجين من سجون النظام السوري أن الخروج من السجن لم يكن نهاية رحلة المعاناة، بل بداية فصل جديد من التحديات التي لا تقل قسوة عمّا سبق. فالألم النفسي، والضرر الجسدي، والضياع الاقتصادي، والانهيار الاجتماعي، جميعها تلتقي لتشكّل واقعًا معقّدًا يحتاج إلى استجابة شاملة من قبل المؤسسات الحقوقية والإنسانية والمجتمعية. 


واليوم، بعد أن كُشف جانب من الحقيقة، تبقى العدالة والمساءلة، إلى جانب برامج الدعم وإعادة التأهيل، ضرورات لا بد منها لتمكين الناجين من استعادة حياتهم وكرامتهم، ولضمان ألا تتكرر هذه المأساة في مستقبل سوريا.

اقرأ المزيد
٢٩ أبريل ٢٠٢٥
بين فقدان السند وتأنيب الضمير.. أمهات المختفين قسرياً يروين مرارة الغياب الطويل

لا تكاد جراح الغياب تندمل في قلوب السوريين حتى تعيدهم قصة مؤلمة إلى واجهة الألم، مذكّرة ببشاعة ما ارتكبته سنوات القمع والاعتقال. وفي قلب هذه المأساة تقف السيدة أم علاء، التي تعيش وحيدة في منزل يفتقر لأدنى مقومات الحياة، بلا أبواب أو نوافذ أو حتى مكان مخصص لقضاء الحاجة، وتعاني وضعاً صحياً يتطلب عملية جراحية تبلغ كلفتها 5000 دولار لا تقوى على توفيرها.

وسط هذا الحرمان، تبقى حسرتها الأكبر على ابنها علاء، الذي اُعتقل قبل 14 عاماً وهو في العشرين من عمره. تقول أم علاء في لقاء إعلامي: "لو كان حياً لكان عمره الآن 34 عاماً"، قبل أن تغرق في موجة بكاء، وهي تتحسر على مصيره المجهول وعلى الحال الذي وصلت إليه، مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن معاناة ابنها وآلاف غيره من المختفين قسرياً.

دعوات متجددة للمحاسبة
أم علاء ليست حالة استثنائية؛ بل هي واحدة من مئات الأمهات السوريات اللواتي يرفعن أصواتهن يومياً مطالبات الحكومة السورية الجديدة بتطبيق العدالة ومحاسبة كل المتورطين في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت خلال حكم النظام السابق.  
فبعد سقوط الرئيس المخلوع وفتح السجون، اصطدمت العديد من العائلات بواقع مرير، حيث غاب أثر الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرياً. وبحسب تصريحات فضل عبد الغني، رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن عدد المختفين قسرياً الذين لم يُعثر لهم على أثر حتى بعد التحرير تجاوز 112 ألف شخص.

 فقدان السند في رحلة العودة
مع انطلاق قوافل العودة إلى القرى والمدن المحررة، تجد كثير من الأمهات أنفسهن في مواجهة صادمة مع واقع فقدان السند، خاصة من لا معيل لهن.  
تروي أم عبدو (65 عاماً)، النازحة من ريف حماة: "يا حسرة علينا.. أنجبنا الأولاد ليكونوا عوناً لنا عندما نهرم، لكننا فقدناهم على قيد الحياة. كلما احتجت لتركيب جرة غاز أو إصلاح عطل، يشتعل الحنين إلى ابني محمد الذي مات خلف قضبان بشار الأسد".

العودة إلى الأماكن والذكريات المؤلمة
في موازاة ذلك، تعبر أمهات عن خوفهن من العودة إلى قراهن الأصلية، خشية أن توقظ كل زاوية ذكرى مؤلمة. تقول الحاجة آمنة (70 عاماً)، النازحة من ريف إدلب الجنوبي: "في كل مرة أشتاق لابني عبد الله، الذي اُعتقل قبل 12 عاماً، ألوم نفسي وأتساءل: لو أنني منعته من السفر إلى دمشق للدراسة، هل كنت أنقذته؟ ثم أعود لأستسلم لقضاء الله".

أمهات رحلن قبل معرفة مصير أبنائهن
ولم يمهل القدر بعض الأمهات فرصة معرفة مصير أبنائهن، كما حدث مع أم كرمو، التي توفيت قبل أيام قليلة من تحرير المنطقة، دون أن تعرف شيئاً عن ابنها المعتقل منذ أكثر من 13 عاماً، وسط سلسلة طويلة من الإشاعات وابتزاز السماسرة.

انتظار العدالة رغم الألم
وترفض كثير من الأمهات تصديق أن أبناءهن قضوا تحت التعذيب، طالما لم يسلّمن جثامينهم أو يُقم لهن وداع لائق أو قبر يحمل أسماءهم، واليوم، تقف أمهات المختفين قسرياً موحدات خلف مطلب العدالة، مطالبات بتطبيق المحاسبة الحازمة ومعاقبة المجرمين حتى لا تذهب دماء أحبتهن هدراً.

 

اقرأ المزيد
٢٨ أبريل ٢٠٢٥
عن لوعة الفقد ومرارة الغربة.. هربت بابني من الموت فأرهقته الغربة

الغربة داء لا دواء له إلا بالعودة إلى أرض الوطن. تغمض عينيك عن كل ما هو جميل حولك، ويقتادك الحنين كل يوم إلى عوالم الذكريات، ينهش داخلك، ويثقل عقلك بالتفكير، فمنذ أن راودتني فكرة الهجرة إلى تركيا، كنت أدرك تماماً حجم الألم الذي سأعيشه بعيداً عن مسقط رأسي، وكيف ستصبح حياتي مجرد أيام خاوية تمضي ببطء قاتل.

 ابني لم يحتمل ألم الغربة
لم أتخيل أن ابني "صلاح" سيكون أول من تضيق روحه بفراق قريتنا كفر سجنة. تحولت حياته إلى سلسلة من الشكوى والحنين، وكان طلبه الوحيد هو العودة، مهما كانت التضحيات.  
هربنا إلى مدينة أورفا عبر طرق التهريب، لكن الغربة خنقته، وغدا كل همّي أن أصبّره ريثما تهدأ الأوضاع. ومع ذلك، كانت ملامحه تفضح حزنه العميق، وكان يقضي ساعاته بالتواصل مع أصدقائه الذين بقوا في سوريا، يعدهم بعودته القريبة.

وصلنا إلى تركيا في آذار عام 2017، وكان صلاح في الثانية عشرة من عمره. في العام التالي، تمكنّا من زيارة سوريا بإجازة عيد الأضحى. لا أنسى فرحته العارمة عندما اقترب موعد السفر. أمضى صلاح أيامه متنقلاً بين الحقول والبيوت، يزور الأصدقاء والأقارب، ولم يمكث في منزلنا سوى للنوم. قال لي حينها: "لم أشعر بسعادة كهذه من قبل".

 المرض المفاجئ والوصية المؤلمة
لكن مع انتهاء الإجازة، اضطررنا للعودة إلى تركيا. رفض صلاح العودة بشدة وبكى، لكن والده تمكن من إقناعه بالعودة مؤقتاً، مقابل وعدي له بأننا سنرجع إلى قريتنا قريباً.  
بعد أسابيع من عودتنا، أصيب صلاح بمرض مفاجئ؛ ارتفعت حرارته وخارت قواه. في البداية ظننته مرضاً عابراً، لكن حالته ساءت سريعاً. وفي مساء أحد الأيام، قال لي بصوت واهن: "أمانة برقبتك يا أمي... إذا متت، تدفنيني بالضيعة".  
أسعفته إلى المشفى، وهناك تلقينا صدمة بعد الفحوصات: القلب والكبد والدماغ بحالة سيئة. لم أستوعب ما قاله الأطباء إلا بمساعدة أحد الزوار الذي ترجم لي المأساة.

بقي صلاح في قسم العناية المركزة. في المساء، تلقيت اتصالاً من المشفى، وأخبروني أن ابني قد فارق الحياة.. ومرت أكثر من ست سنوات ونصف على ذلك اليوم المشؤوم، لكن وجع الفقد ما زال حاضراً في قلبي، وكأن اللحظة لم تمر.

تنفيذ الوصية مهما كان الثمن
رغم محاولات العائلة وبعض رجال الدين إقناعي بدفن صلاح في أورفا، لم أتردد لحظة في تنفيذ وصيته. ساعدني قريبي في إنهاء إجراءات نقل الجثمان، وتم السماح لنا بالبقاء عدة أيام في سوريا.  
وصلنا إلى القرية مع أذان المغرب. استقبلنا الأهالي والأقارب بحزن بالغ. دخل صلاح منزلنا لآخر مرة ليلقي عليه الأحبة نظرة الوداع، ثم حُمل على الأكتاف إلى مقبرة القرية ليرقد هناك حيث أراد.

رغم أن تنفيذ وصيته حرمني طويلاً من زيارة قبره متى شئت، إلا أنني شعرت بالرضا أنني كنت وفية لرغبته الأخيرة.

العودة المرتقبة إلى الوطن
اليوم، وبعد تحرير سوريا من النظام، أرتب أموري للعودة مع عائلتي إلى الوطن، يتقد شوقي لزيارة قبر صلاح، الذي طالما حُرمت من رؤيته حتى خلال زياراتي القصيرة أثناء العيد، حين كانت قريتنا ترزح تحت سيطرة الأسد... الآن وقد أزيح الكابوس، أحمل قلبي المثقل بالذكريات، وأتهيأ للقاء صلاح الذي سبقنا إلى تراب الوطن.

 

اقرأ المزيد
٢٥ أبريل ٢٠٢٥
ما جنيته في سنوات أضاعه الأسد في لحظة.. شهادة عن "منزل المستقبل" الذي تحول إلى ركام

كم هو محظوظ من عاش في بلدٍ لم تطرق الحرب بابه. منذ طفولتي، كنتُ أرسم ملامح مستقبل بسيط: أكمل دراستي، أحصل على وظيفة، أشتري منزلاً وسيارة، وربما أفتتح مشروعاً صغيراً. لم يخطر في بالي يوماً أن تلك الأحلام البسيطة ستصبح من ضروب المستحيل.

بدايات الحرب.. وانكسار الطموح
في آذار/مارس 2011، كنتُ طالباً في الصف العاشر عندما بدأت الثورة السورية. عاماً بعد آخر، تصاعدت الأحداث واشتد القصف على قريتنا في ريف إدلب الجنوبي. مع حلول عامي الدراسي الثالث عشر، أُغلقت المدارس بسبب الغارات الجوية، ولم تكن لدي القدرة المالية على الالتحاق بدورات خاصة كما فعل كثيرون. فُرضت إدلب كمركز لتقديم الامتحانات، لكنها كانت تحت سيطرة النظام، فلم أتمكن من الذهاب.

حينها، اتخذت قراراً صعباً: تعليق دراستي والدخول إلى سوق العمل. مارست أعمالاً زراعية وتاجرت بالدراجات النارية. وخلال عام واحد، ادخرت مبلغاً جيداً دفعني للتفكير بالسفر إلى تركيا.

 الهجرة والعمل في إسطنبول
دخلت تركيا بطريقة غير نظامية عام 2015، واستقر بي الحال في إسطنبول، حيث عملت في معمل حديد. لم أتوانَ عن قبول أي فرصة عمل إضافي، فكنت أعمل لساعات طويلة، وأرسل المال شهرياً لعائلتي في إدلب. لكن الضغط الجسدي كان كبيراً، وتسبب لي بآلام متكررة في الظهر تجاهلتها طويلاً حتى سقطت عاجزاً عن الحركة.

بعد رحلة علاج قصيرة، عدت إلى قريتي في إدلب، حيث منحني والدي قطعة أرض صغيرة بمساحة دونمين. بدأت ببناء منزلٍ حلمت به طويلاً. بيت بسيط من غرفتين وصالون ومرافق، محاط بأشجار الليمون والبرتقال والزيتون والرمان والتين.

لحظة الانهيار.. الفرح المؤجل إلى أجل غير معلوم
في نيسان/أبريل 2019، انتهيت من بناء المنزل، جهزته بالأبواب والنوافذ، وطلبت من والدتي أن تبحث لي عن عروس. لم أنم فيه ليلة واحدة. لم أرتشف القهوة على شرفته، ولا شعرت بدفء جدرانه. بعدها بأيام، بدأت حملة عسكرية عنيفة على ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، فأُجبرنا على النزوح.

أصر الأقارب على نزع الأبواب والنوافذ لحمايتها من السرقة، لكنني رفضت. لم أتوقع أن يغيبني النزوح لأكثر من خمس سنوات. كنت أظنها أياماً قليلة ونعود.

حين عدت... لم أجد شيئاً
بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت بالعودة مع بعض الأصدقاء للاطمئنان على المنزل. كنت أحمل أملاً صغيراً في أن يكون قد نجا. لكنني وجدته ركاماً. لا جدران، لا سقف، لا أثر للأشجار. دُمرت أحلامي، ذبلت أوراق الأشجار كما ذبلت فرحتي.

جلستُ أمام الدمار أتأمل ذكرياتي، تذكرت كل لحظة عمل وكل قرش ادخرته وكل أمل علّقته في ذلك البناء الصغير. أنفقت عليه ما يقارب ستة آلاف دولار من عرق غربتي، واليوم لم يتبقَ منه سوى الحطام.

ختاماً... لست وحدي من خسر
لم تكن خسارتي فريدة. مئات الآلاف فقدوا أعزاء، وهُدمت بيوتهم، وتقطعت أوصالهم. كل سوري عاش فصلاً من الألم. أما أنا، فقد عاهدت نفسي أن أعود مجدداً، وسأبني بيتاً آخر، وربما يكون أجمل من الأول. لأن الحياة، برغم كل ما مررنا به، يجب أن تُستعاد.

اقرأ المزيد
1 2 3 4 5

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل
● مقالات رأي
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان