
العنوسة في سوريا... جرح صامت خلّفته الحرب
في قلب مجتمع أنهكته الحرب، برزت ظاهرة تأخر الزواج كأحد الأوجاع الصامتة التي قلّما تجد من يصغي لها. لم تكن هذه الظاهرة حديثة الولادة، لكنها تضخّمت على وقع النزوح، والموت، والانهيار الاقتصادي، حتى باتت واحدة من أبرز التحديات التي تواجه المرأة السورية ما بعد 2011.
وجوه خلف الجدران
روعة، امرأة سورية تجاوزت الخامسة والثلاثين، تقول بمرارة: "كلما حضرت زفافًا، ورأيت السعادة في وجه العروس، شعرت بالحسرة. لم يكن لي نصيب بهذه الفرحة… الشباب اليوم يبحثون عن فتيات أصغر، والواقع لا يرحم".
تصريحات روعة تعكس همًّا مشتركًا تعيشه آلاف النساء السوريات، ممن تأخرت فرصهن في الزواج لا لعيب فيهن، بل لأن الحرب أغلقت أبوابًا كثيرة: فقدان المعيل، النزوح، الفقر، وأحكام اجتماعية قاسية.
أولويات الحرب... وآثارها الاجتماعية
الحرب لم تفتك بالجغرافيا فقط، بل طالت بنية الأسرة والمجتمع. آلاف الشباب السوريين قُتلوا، أو اختفوا في المعتقلات، أو هاجروا دون عودة. ومع تقلّص عدد الرجال القادرين على الزواج، وتفاقم الأزمة المعيشية، تحوّل الزواج إلى "رفاهية مؤجلة".
سلمى (43 عاماً) من ريف إدلب، تحكي: "كنت أؤجّل زواجي لرعاية والديّ المرضى... بعد وفاتهما، وجدت نفسي وحيدة في الأربعين. إخوتي عادوا لحياتهم، أما أنا فلا أعلم إن كان أحد سيطرق بابي بعد اليوم".
النزوح... حرمان من الخيارات
علا أبو أكرم (36 عاماً) عاشت عشر سنوات في مخيم أعزاز: "والدي رفض تزويجي طوال فترة النزوح… كان ينتظر العودة. اليوم عدنا، لكني أخشى أن تكون الفرصة قد ضاعت".
تعكس قصة علا وجهًا آخر من معاناة النساء في النزوح، حيث حُرمن من بناء حياة مستقرة بحجّة الظروف المؤقتة، ليتحول المؤقت إلى دائم، وينقضي العمر في الانتظار.
أعباء نفسية مضاعفة
وراء كل قصة عنوسة، حالة من القلق، الحزن، والخوف من المجهول. كثير من النساء تحدثن عن مشاعر عزلة، ومرارة، وغيرة مكتومة من صديقاتهن اللواتي يعشن حياة أسرية. وفي دراسة ميدانية بعنوان "الواقع النفسي للمرأة اللاجئة"، تبيّن أن غياب الدعم العاطفي، والضغوط العائلية والمادية، تركت آثارًا سلبية على الصحة النفسية للنساء، خاصة في المخيمات.
وصمة اجتماعية… وظلم مزدوج
رغم أن تأخر الزواج ليس خطأ فرديًا، إلا أن المرأة وحدها تُحمّل تبعاته في مجتمع تقليدي، لا يزال ينظر للزواج كمؤشر أساسي على النجاح والاستقرار.
تقول سلمى:"العنوسة ليست فقط حالة اجتماعية، بل شعور بالإقصاء. كأن القطار مضى عنك، ولن يعود".
نحو وعي اجتماعي جديد
الزواج لا يجب أن يكون معيارًا لاكتمال المرأة، لكن التعامل مع تأخره يتطلب تفكيكًا للوصمة، وإعادة تعريف لمفهوم الشراكة، بعيدًا عن العمر والجغرافيا، وقريبًا من القيم الإنسانية.
ما بين القصف، النزوح، والأحكام المسبقة، تقف آلاف النساء السوريات على مفترق طرق، وقد سرقت الحرب من أعمارهن ما لا يعوّض. إنهن لا يحتجن شفقة، بل فرصة عادلة للحياة، والحب، والاستقرار.