عودة الأهالي إلى سوريا بعد سقوط الأسد: بين الحلم المكسور والمحاسبة المنتظرة
عودة الأهالي إلى سوريا بعد سقوط الأسد: بين الحلم المكسور والمحاسبة المنتظرة
● تقارير إنسانية ٤ يونيو ٢٠٢٥

عودة الأهالي إلى سوريا بعد سقوط الأسد: بين الحلم المكسور والمحاسبة المنتظرة

في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2024، طُويت صفحة مظلمة من تاريخ سوريا بهروب بشار الأسد وعائلته إلى موسكو، بعد سنوات من القمع والدمار والقتل، ومع هذا الحدث المفصلي، بدأ السوريون بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها قسراً، هرباً من الموت والاعتقال، وعادت الحياة إلى الطرقات، لكنها لم تعد كما كانت، بل وسط ركام وأنقاض تروي فصولاً دامية من القهر والتدمير الممنهج.

فما إن وطئت أقدام الأهالي أرضهم حتى اصطدموا بواقع موجع: بيوت مهدّمة، شوارع خاوية، وممتلكات منهوبة أو محترقة. كان المشهد صادماً، لا يمتّ بصلة إلى ما احتفظت به الذاكرة من صور وذكريات. تلك البلدات والقرى التي كانت تنبض بالحياة والطمأنينة تحوّلت إلى رماد.

"عدتُ إلى بيتي بعد ست سنوات من النزوح، فلم أجد سوى الركام... حتى الباب سُرق، لكنني قلت في نفسي: من هنا سأبدأ من جديد"، يقول أبو حسام عندما كان يجلس قرب خيمة نصبها فوق أنقاض منزله في ريف حماة.

قبل الحرب، كانت هذه القرى والمدن عامرة بالأهل والأحبة، مليئة بالحركة والمواسم والاحتفالات. لكل منزل قصة، ولكل زاوية ذكرى. يتذكّر الأهالي الأسواق في الأعياد، أصوات المآذن وقت الغروب، وروائح الخبز الطازج التي تعبق في الصباح. لم يتخيّل أحد أن طلب الحرية سيقود إلى كل هذا الخراب.

تسرد سلمى، من ريف إدلب، وهي تتفقد بقايا منزلها الذي دُمّر كليا: "كان في بيتنا شجرة تين زرعها والدي بيده، وكنت أتنافس مع أختي لقطف أولى الثمار في كل موسم... عدت اليوم فلم أجد لا الشجرة ولا البيت، ولكن رائحة الأرض لا تزال كما هي".

إلى جانب هذه الذكريات الجميلة، لا تغيب عن الذاكرة صور الرعب التي عاشها الناس خلال الحرب. القصف العشوائي، البراميل المتفجّرة، الليالي الطويلة في الأقبية، الخوف من الاعتقال، وانقطاع الأخبار عن الأحبة. كل ذلك ترك أثراً عميقاً في النفوس.

تقول أم باسل، عادت مؤخراً إلى قريتها في ريف حلب، والتي فقدت زوجها وأحد أبنائها تحت القصف: "في إحدى الليالي كنا مختبئين في القبو، وأنا أضم أولادي الأربعة إلى صدري. وقع الانفجار قريباً جداً، حتى شعرنا أن الموت قد حلّ علينا. لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة ما حييت".

ورغم فداحة الفاجعة، لم يستسلم الأهالي. بل شرع كل منهم في محاولة ترتيب حياته من جديد، وفق الإمكانات المتاحة. البعض أقام خياماً على أنقاض منزله، وآخرون بدأوا بترميم غرفة صغيرة أو حائط قائم، والبعض الآخر أعاد فتح محله وسط الخراب، كأنما يقول للحياة: نحن هنا باقون.

"لن يعيد إعمار بلادنا أحدٌ سوانا، وإن بقينا ننتظر فسوف يضيع كل شيء. بدأت مع شقيقي بتنظيف الحي، ونحاول إعادة المياه، شيئاً فشيئاً سنعود إلى الحياة" هكذا علق سامي، شاب عاد من لبنان إلى كفرنبل مدينته.

الدمار لم يلغِ انتمائهم، ولم تُضعفهم سنوات النزوح والتشريد. ومع توافر الأدلة والوثائق التي تثبت حجم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام البائد، يصرّ الأهالي على أن المحاسبة أمر لا بد منه، ليس انتقاماً، بل إحقاقاً للحق، ومنعا لتكرار المأساة. تقول أم مازن، التي فقدت زوجها وابنها تحت القصف، وعادت لتسكن خيمة فوق منزلها المهدّم: "ما حدث لنا لا يمكن السكوت عنه... نريد أن نعرف من دمّر، ومن قتل، ومن يجب أن يُحاسب".

إن عودة السوريين اليوم ليست مجرد حركة سكانية، بل فعل صمود ومقاومة. إنهم يعيدون بناء ذاكرتهم من بين الأنقاض، ويسترجعون أرضهم التي وُلدوا وعاشوا فيها. سوريا لم تُخلق لتبقى تحت الركام، وشعبها لم يُقدّر له أن يُنسى أو يُقصى. من قلب المحنة تولد الإرادة، ومن وسط الركام ينهض الأمل. وسوريا، أخيراً، بدأت تخطو طريق العودة، خطوة خطوة.

 

الكاتب: سيرين المصطفى
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ