مفارقة العودة المنقوصة: وطن يُستعاد وأسرة تبقى معلّقة خلف الحدود
إن شكوى الأدواء في الجسد السوري مالها حصر ولا انتهاء، وكل عضو فيه طاله من الظلم والفساد وقهر الاستبداد على امتداد السنوات التي عصفت به، إلى أن جاء حدث التحرير بسيل أفراحه العارم ليصبّه على هذا الشعب، بيد أن الصعوبات قدر محتوم على الإنسان السوري يرافقه أينما كان موقعه الجغرافيّ، إذ تبدّى سؤال طارئ في كل بيت سوري “متى العودة؟”، ولأن فعل العودة ليس إجراءً بسيطًا أو خيارًا مُرفّهًا يُقاس بعبور الحدود، تلك التي لا تزال تلقي بويلاتها على السوريين بين أوضاع لم تُسوَّى وشمل لم يكتمل، يبقى الاستقرار هدفًا صعبًا لم تُصِبه حتى سهام التحرير.
من السفر إجبارًا إلى السفر اضطرارًا.. عائلات مرهونة
بعد التحرير وزوال الظرف الأمني العصيب المتمثل بسقوط نظام الأسد الذي لطالما أجبر السوريين منذ عقود على الهجرة واللجوء والنزوح، صار المحدد الناظم لحركة العائلة هو العامل الاقتصادي، وبصرف النظر عن وجهة محددة فإن الواقع الاقتصادي المقروء في شتّى بلاد التواجد السوري مرتبك، فضلًا عن الأوضاع القانونية المتذبذبة عقب زوال النظام البائد. وكان لكل ذلك دور في تقسيم العوائل إلى (مكانين)، ربّ أسرة يتحرك مع الفرصة الأصلح وعائلة تثبت مؤقتًا في مكانها الحالي بلا يقين زمني.
إن هذا الشكل الحالي من التباعد الأسريّ ليس جديدًا على كثير من السوريين في حين أنه كذلك على بعضهم الآخر. وفي تحديدي للفظ مكانين وليس بلدين غاية، حيث إن من يشغلون مناصب في الحكومة الجديدة أنفسهم يمرّون بالظرف عينه داخل سوريا، ممن حملهم دورهم على التواجد في محافظة وترك عوائلهم في محافظة أخرى.
عوائل شكّلها المنفى
سنوات أمضى فيها السوريون أعمارهم أفرادًا وعائلات يحاولون بناء سكن ومستقرّ لهم متعالين على كل العوائق والتحديات التي أحاطت بهم في منافيهم، لتقطع لحظة التحرير دابر محاولاتهم بنداءٍ عاطفي وأخلاقي عنوانه “العودة للمشاركة في البناء”، وتضعهم في حلٍّ من أمرهم ما بين آمال في بدايات جديدة تعتريها مخاوف ومجازفات كثيرة على أرض وطنهم، وبين ضمان معيشة جزئيّ وانتماء اضطراريّ على أراضٍ كانت يومًا ما أوطانًا بديلة لهم وبدأت تضطرب من تحت أقدامهم.
فهل يضحّون بمكتسباتهم ويختارون العودة على تبعاتها؟ أم يُكملون الاغتراب المعلّق حتى انقضاء المنفعة؟
هنا برز ما يُسمّى بالزيارات الاستطلاعية والعودة غير الكاملة، متمثلة بربّ الأسرة أو فرد ينوب عن العائلة، فيكون العين الفاحصة والمقدّرة لقرار الانتقال الكامل لباقي أفراد العائلة من عدمه. وغالبًا ما يحول دون هذا الانتقال المكتمل الظرف التعليمي للأبناء ومشاكل التأقلم في حين العودة، أو عدم القدرة على تأمين مكان إقامة بسبب غلاء الإيجارات مقارنة بالدخل القليل الذي لا يتناسب مع المصاريف الأخرى، أو الظرف الأمني المتقلّب نسبيًّا، أو غير ذلك مما يتعلق بانتظار استكمال وثائق رسمية كتحصيل جنسيات دول اللجوء أو استصدار إقامات لحرية التنقل الدائم.
حنين مؤجّل وواقع معجّل
بقدر عمق ارتباط السوريين بوطنهم واجتماعهم على ذاكرة واحدة بقدر ما حُرموا طويلًا من رفاهية التعبير عنه والتغنّي به، حتى إن منهم من تناساه حتى نسيه تمامًا، لكن ذلك لم يمنعهم من تعميق جذوره في فروعهم حتى يُورق في أبنائهم، فتجدهم في أحلك الظروف وأبعدها عن الممكن يحكون لهم عنه رغم أنهم يستوطنون غيره، واليوم بعد أن استعاد السوريون وطنهم بات تأجيل العواطف أمرًا ثقيلًا عليهم.
إضافة إلى ثقل انقسام العائلة الواحدة بين محطتين، محطة عمل الأب المعيل ومحطة استقرار باقي العائلة، وبين كليهما مسافات يقطعها الانتظار، تاركًا وراءه الأطفال يقاسون تواتر غياب الأب الطويل عنهم، وأبًا تعبره الوحشة ويعتاد الانفراد.
فضلًا عن الأعباء الإضافية على الزوجات بين دوري الأم والأب، وتجلّي شكل جديد للعلاقات الزوجية أشبه بالعلاقة عن بُعد.
هل نعيد إنتاج منطق الهجرة بعد التحرير؟
بين شعور الذنب لدى المسافر وشعور الانتظار لدى العائلة، متى يكون الاجتماع؟
كيف يُفاضل الإنسان بين رغبته في العودة والمساهمة في إعادة البناء وبين السفر؟
وفي غربة البلد الواحد كيف تتحسن الأوضاع وتوائم الفرص ظروف أصحابها؟
أسئلة كثيرة تشغل أذهان السوريين بلا أفق واضح وبسيناريوهات لا تنتهي، وبكلفة غياب ممتدة أصلًا.
تخبرني إحدى معارفي عن نيتهم الانتقال إلى سوريا كعائلة (أب وأم وطفلان) بسبب ظرف العمل الصعب في تركيا، حيث يبقى أحدهم في مدينة والآخر في مدينة أخرى.
وتذكر لي أخرى عن سفر زوجها الدوري مرة كل شهر منذ التحرير لتصفية أعماله بعد تراجع أعداد السوريين الملحوظ وتهيئة أوضاعهم في سوريا للانتقال واستقبال مولودهم الأول هناك.
إحدى العوائل تواجه إلى جانب مشكلة ظرف العمل مشكلة تدريس أبنائها في الجامعات السورية وما يتبع ذلك من إجراءات.
إعادة توطيد مفهوم الحياة المشتركة
ربما هذا نذير إفاقة جماعية حقيقية يخبرنا أن أكثر ما يحتاجه السوريون بعد توالي نكباتهم أن يلتقطوا أنفاسهم معًا، كعائلات طوتها سنوات الفراق الطويلة، وكجماعات مزقها تلاطم الأدلجة، إن الانطلاق من هذا المفهوم من كل بيت سوري باعتباره خط الدفاع الأول عن سوريا الحرة الجديدة لهو التزام صارم بمعنى الانتماء على الأرض الواحدة، وغرس لتجديد معنى التعايش بين أبناء سوريا جميعهم على تنوع خلفياتهم ومعتقداتهم.