
في كل زاوية حكاية فَقْد... أمهات الشهداء لا يغادرهن الغياب
في خضمّ أفراح النصر وعودة الحياة إلى وجه الوطن، وبين أصوات الفرح التي تعلو احتفالاً بانتهاء حقبة القمع وبداية مرحلة جديدة للسوريين بسقوط الطاغية بشار الأسد، تقف مشاهد أخرى، صامتة، لكنها أكثر وقعاً وعمقاً. فبينما ينشغل الناس برسم ملامح الغد، هناك أمهات تنحني قلوبهن بصمت، وتسكن ملامحهن حكاية فقد لا يندمل.
أمهات الشهداء، أولئك النسوة اللواتي حملن في قلوبهن جراحاً لا يراها سواهن، ولم تبرأ بمرور الأيام. في زوايا من المدن والبيوت السورية، يجلسن بصمت تام، يراقبن الحياة من خلف ستار الذكريات، يمضين في حياتهن اليومية ويقمن بواجباتهن الأسرية والاجتماعية من باب الواجب فقط، لا عن رغبة أو اندفاع، بل كي تستمر العائلة ولكي تسير أمور البيت كما يجب.
لا ينكرن فرحة التحرر ولا يتجاهلن بشائر الأمل، لكن داخل كل واحدة منهن حزن ثقيل لا تقدر على رفعه الأيام ولا يخفّفه تغير الحال. كل لحظة فرح تمرّ، تذكرهن بمن غاب. في كل مناسبة وطنية، في كل عيد، في كل خبر مفرح، هناك زاوية خالية في الذاكرة، في البيت، على المائدة، في الطريق. أبناؤهن الشهداء، الذين ارتقوا في ساحات القتال أو تحت أنقاض القصف، أو غابوا خلف القضبان دون عودة، ظلوا حضوراً دائماً في تفاصيل الحياة. الحنين لا يهدأ، والفقد لا يتضاءل.
مرت السنوات، وتغيّر الكثير، لكن شعور الألم بقي متجذراً في صدورهن. تتغير البلاد، تذوب الحدود القديمة، تُلغى العقوبات، تُفتح أبواب الحياة أمام الأجيال الجديدة، لكن في قلب الأم، الزمن متوقف عند لحظة الرحيل. لا تعيش الأمهات الماضي فقط، بل يحملنه معهن في كل يوم، في كل ركن من البيت، في كل صوت يشبه صوت من رحل.
كثيرات منهن أُنهكن، خارت قواهن، وذبلت ملامحهن من الحزن المكبوت، من المرض الذي استقر في الجسد نتيجة القهر، من الوحدة التي لا يملؤها أحد. حتى ابتساماتهن أصبحت ثقيلة، كأنها تؤدي مجاملة، لا شعوراً. ملامح الوجوه باتت شاهدة على وجعٍ لا يُنسى، وحركة الأجساد تثقلها ذاكرة لم تتعب من التذكير.
ورغم كل هذا، فإن ما تركه الشهداء في قلوب أمهاتهم، وفي ذاكرة الوطن، ليس مجرد غياب، بل حضور بطولي محفور في الضمير. هؤلاء الأمهات لم يخترن هذا الطريق، لكنهن سرن فيه بصلابة مؤلمة، بصمت يوازي البطولة. في زمن الحروب، لا تكون الجبهات فقط حيث يتساقط الرصاص، بل في بيوت تنتظر، وتبكي، وتفتقد.
إن تكريم الشهداء لا يكتمل دون تقدير أمهاتهم، فكل واحدة منهن هي ذاكرة وطن، ورمز لفقدٍ عظيم، وصبر نبيل لا يُنسى. أمهات الشهداء لسن مجرد شخصيات في خلفية المشهد، بل هنّ جزء أساسي من حكاية البلاد. ووسط كل تطور سياسي أو إنجاز وطني، يبقين شاهداً حيّاً على الثمن الباهظ الذي دُفع، وعلى وجعٍ لا يعالجه الزمن، بل يرافقهن حتى النهاية.