قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
● مقالات رأي ٥ يونيو ٢٠٢٥

قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية

شكَّل سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 نقطة تحوُّل جيوسياسية محورية في الشرق الأوسط، حيث أنهى هذا التحول المفاجئ، الذي لم تتوقعه القوى الإقليمية والدولية، عقودًا من الحكم الأوتوقراطي والثبات السياسي النسبي الذي اتسم به النظام السوري منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.

وفَّر هذا التحول غير المتوقع لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية. فقد تبنّت إسرائيل موقفًا عدائيًا واضحًا، متجاهلةً محاولات أحمد الشرع للانفتاح و"الاعتدال السياسي"، حيث وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس حكومة الشرع بأنَّها "تهديد وجودي"، مركِّزين على خلفيته الجهادية، ورافضين الاعتراف بتخليه عن أيديولوجيته السابقة. بل ذهبت إسرائيل إلى حدّ اعتبار حكومته متوافقة أيديولوجيًا مع حركة حماس، في مسعى واضح لتبرير خطط توسعية معدة مسبقًا.

وفي أخطر تصعيد عسكري/سياسي، فجر يوم الجمعة الموافق 2 أيار/مايو 2025، شنَّت طائرات حربية تابعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي غارة جوية استهدفت موقعًا قريبًا من القصر الرئاسي في دمشق. وعقب الهجوم، صدر بيان مشترك عن نتنياهو وكاتس، اعتبرا فيه الغارة رسالة مباشرة إلى النظام السوري، مؤكدَين رفضهما القاطع لما وصفاه بـ "تهديد الطائفة الدرزية أو إرسال قوات إلى الجنوب".

احتلال إسرائيلي دائم لأراضٍ سورية
اتجهت أنظار إسرائيل، مباشرة بعد انهيار نظام الأسد، إلى السيطرة على المنطقة العازلة التي تراقبها الأمم المتحدة. ففي 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت القوات الإسرائيلية إلى احتلال أجزاء واسعة من المنطقة المنزوعة السلاح، التي تمتد بطول يقارب 75 كيلومترًا، ويتراوح عرضها بين 10 كيلومترات في الوسط و200 متر في أقصى الجنوب. وعلى مدار خمسة عقود، شكلت هذه المنطقة حاجزًا أمنيًا محوريًا تحت إشراف قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)، مما أسهم في الحفاظ على درجة من الاستقرار الحدودي، رغم غياب معاهدة سلام رسمية بين الطرفين.

وفّر سقوط نظام الأسد لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بما يتماشى مع رؤيتها الأمنية والسياسية، وفي خطوة مدروسة تعكس تحوّلًا استراتيجيًا، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ اتفاقية فك الاشتباك لم تعد سارية، معتبرًا أنَّ الترتيبات السابقة فقدت صلاحيتها في ضوء الواقع الجديد. رافق الاحتلال الإسرائيلي عمليات تضييق كبير على مهام قوة الأمم المتحدة، حيث انخفض عدد دورياتها اليومية من 55 – 60 مهمة إلى 3 – 5 فقط. كما كشفت تقارير ميدانية عن قيام القوات الإسرائيلية بإنشاء منشآت عسكرية جديدة ووضع رموز سيادية داخل المنطقة العازلة، في انتهاك مباشر للصلاحيات الممنوحة للبعثة الأممية.

فإلى جانب السيطرة على المنطقة العازلة، عمدت إسرائيل إلى توسيع رقعة نفوذها الإقليمي لتشمل: كامل مرتفعات الجولان، التي تبلغ مساحتها نحو 1200 كيلومتر مربع، حيث عززت إسرائيل وجودها فيها رغم احتلالها المستمر منذ عام 1967، ومناطق إضافية تتجاوز مساحتها 500 كيلومتر مربع في جنوب غرب سوريا، مما يشكل توغلًا غير مسبوق داخل العمق السوري.

كما كشفت التحركات الإسرائيلية على الأرض عن نية واضحة لترسيخ الوجود العسكري طويل الأمد في المناطق السورية المحتلة حديثًا. فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية قيام إسرائيل بإنشاء عدة قواعد عسكرية جديدة، وأكّدت تقارير إذاعة الجيش الإسرائيلي أنَّ تسع قواعد أُقيمت منذ كانون الأول/ديسمبر 2024، توزعت على النحو التالي:

ويُلاحظ أنَّ هذه القواعد لا تقتصر على البنية العسكرية، بل تتضمن أيضًا منشآت سكنية وكنيسًا يهوديًا، في مؤشر على وجود خطة منهجية تهدف إلى فرض واقع ديموغرافي وسياسي جديد في المناطق المحتلة. كما تجري أعمال بناء طرق في تلك المناطق، ما يُفسَّر كجزء من جهود دعم العمليات العسكرية وتعزيز السيطرة طويلة الأمد.

تنسيق مع بعض مشايخ الطائفة الدرزية
في أعقاب سقوط نظام الأسد، كثَّفت إسرائيل مساعيها للتواصل مع بعض الشخصيات البارزة في الطائفة الدرزية داخل سوريا، متبنية خطابًا يُظهِرها كمدافع عن الأقليات في مواجهة ما وصفته بالتهديدات المحتملة من الحكومة السورية الجديدة ذات التوجه الإسلامي. وفي هذا السياق، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليمات مباشرة للجيش الإسرائيلي بضرورة توفير الحماية للتجمعات السكانية الدرزية، مترافقة مع تحذيرات واضحة بأنَّ إسرائيل ستقوم باستهداف القوات السورية في حال اقترابها من قرى محددة، كبلدة جرمانا.

تباين المواقف داخل المجتمع الدرزي
اعتمد الدروز السوريون تاريخيًا مقاربات سياسية متفاوتة، تأقلمت مع تحولات ميزان القوى، وقد تجلى هذا النمط في تباين المواقف تجاه التدخل الإسرائيلي بعد سقوط الأسد. تراوحت المواقف بين انخراط محدود وتعاون حذر من جهة، ورفض قاطع من جهة أخرى:
الانخراط الحذر: رحبت بعض الفئات داخل المجتمع الدرزي بالحماية الإسرائيلية، التي أُطلق عليها محليًا وصف "القبة الحديدية الدرزية". وقد أبدت بعض القيادات الدرزية استعدادًا لتنسيق أمني محدود مع إسرائيل، وأُنشئت تشكيلات عسكرية محلية سعت إلى الحصول على ضمانات أمنية من الجانب الإسرائيلي.

الرفض الشعبي والسياسي: في المقابل، عبّرت شرائح واسعة من الدروز عن رفضها القاطع لأي تدخل إسرائيلي. شهدت محافظة السويداء مظاهرات رفعت لافتات تؤكد على وحدة الأراضي السورية ورفض الوصاية الأجنبية. وفي آذار/مارس 2025، خرجت احتجاجات واسعة في بلدة جرمانا استنكارًا لتصريحات نتنياهو بشأن "حماية" الدروز، وردد المحتجون شعارات مثل: "نحن سوريون ولا نحتاج حماية أجنبية" و"وحدة سوريا خط أحمر"، مؤكدين تمسكهم بالسيادة الوطنية ورفضهم أي تدخل خارجي.

تداعيات التدخل الإسرائيلي على السيادة السورية والاستقرار الإقليمي
يشكل الاحتلال الإسرائيلي خرقًا واضحًا للمبادئ الجوهرية في القانون الدولي، وعلى رأسها مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، وأُعيد تأكيده في قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967. ومن خلال تجاهلها لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، التي نظمت الوضع في المنطقة العازلة طيلة خمسة عقود، فإنَّ إسرائيل تُقوِّض الأطر القانونية التي تحكم العلاقات الدولية، وتفتح المجال أمام سابقة خطيرة.

ويؤكد إنشاء قواعد عسكرية وبنية تحتية دائمة في الأراضي السورية المحتلة عزم إسرائيل على ترسيخ احتلال طويل الأمد. ومن شأن هذا التوسع أن يُخضع أجزاء واسعة من جنوب سوريا للهيمنة الأمنية الإسرائيلية، في تكرارٍ لنموذج الاحتلال الذي مارسته في جنوب لبنان بين عامي 1982 و2000.

كما أدت هذه الحملة العسكرية إلى إضعاف كبير في القدرات الدفاعية السورية. وتشير التقارير إلى أنَّ ما بين 70 % إلى 80 % من الأصول العسكرية الاستراتيجية لسوريا قد دُمّرت، بما يشمل أنظمة الدفاع الجوي والقدرات الصاروخية والبنية التحتية العسكرية التقليدية. وهو ما ينعكس سلبًا على قدرة الحكومة السورية في الدفاع عن أراضيها أو بسط سيادتها، خصوصًا في المناطق التي تشهد نزاعات مع فصائل مدعومة من أطراف خارجية.

ويشكّل التنسيق الإسرائيلي مع الطائفة الدرزية وقوات سوريا الديمقراطية، في أعقاب سقوط نظام الأسد، تحديًا مباشرًا لسلطة الدولة السورية. فمن خلال تقديم نفسها كجهة حامية للدروز، وإنشاء قنوات اتصال وتنسيق أمني مباشر معهم، تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم التوازنات الداخلية في سوريا بما يتجاوز حدود المواجهة العسكرية التقليدية. ويُتيح هذا التنسيق لإسرائيل بناء هياكل سلطة موازية تُضعف المركزية الحكومية، وتُهدد وحدة الدولة الوطنية.

تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الحياة اليومية
تُظهر شهادات سكان القرى السورية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي آثارًا مدمرة على نمط حياتهم اليومي. ففي بلدات مثل جملة وعابدين، أفاد الأهالي بأنَّ دوريات إسرائيلية قامت بإحراق مركبات عسكرية، وتنفيذ عمليات تفتيش، مع فرض مطالبات بنزع السلاح وتسجيل أسماء القيادات المحلية. كما أبلغ السكان عن حالات مصادرة مواشٍ، واحتجاز مدنيين، وفرض قيود صارمة على النشاط الزراعي، خاصة في المناطق القريبة من مواقع قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، مما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني في المنطقة.

وقد أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية، والاستحواذ القسري على الأراضي، عن موجة نزوح جديدة طالت آلاف السوريين من المناطق المتأثرة، ليلتحقوا بملايين النازحين داخليًا نتيجة الصراع الممتد منذ عام 2011. ويُشكّل هذا التهجير المستمر عبئًا إضافيًا على الموارد الإنسانية والخدمات العامة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، مما يزيد من تعقيدات جهود الإغاثة وإعادة التوطين.

مسؤولية الحكومة السورية: تشاركية سياسية كضرورة وطنية وحراك دبلوماسي وقانوني موسع
تتحمّل الحكومة السورية الجديدة مسؤولية وطنية عاجلة لتعزيز التشاركية السياسية مع الطائفة الدرزية، من خلال تبني رؤية متكاملة تضمن تمثيلهم الفاعل في مختلف مستويات صنع القرار، ابتداءً من المجالس المحلية ووصولًا إلى المناصب العليا في الدولة. كما يتطلب الأمر منحهم دورًا ملموسًا في مسارات العدالة الانتقالية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية وحمايتها.

ويجب تخصيص موارد تنموية كافية للمناطق ذات الأغلبية الدرزية، والتي عانت من التهميش والإهمال لسنوات طويلة، إلى جانب إشراك أبناء الطائفة في صياغة ميثاق وطني جديد يكفل حقوق جميع المكونات السورية على أساس المساواة والمواطنة. من شأن هذا النهج التشاركي أن يعزز من شرعية الحكومة الانتقالية داخليًا، ويقطع الطريق أمام محاولات إسرائيل استمالة بعض الفئات الدرزية وتوظيفها كأداة لتمزيق النسيج الوطني السوري. كما يُسهم في إفشال سياسة "فرّق تسد" التي تسعى إسرائيل إلى ترسيخها كأداة استراتيجية لإضعاف الدولة السورية وتقويض سيادتها.

حراك دبلوماسي واسع
تواجه الحكومة السورية الانتقالية ضرورة حتمية للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عبر تبني حراك دبلوماسي نشط ومتعدد المستويات. ويتطلب ذلك المبادرة الفورية بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي عقب الهجوم الإسرائيلي على القصر الرئاسي، مدعومة بملف قانوني متكامل يوثق سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية ومبادئ القانون الدولي. بالتوازي، يجب على سوريا طلب عقد اجتماع عاجل لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري لاستصدار موقف عربي موحد يدين العدوان ويدعم الحقوق السورية المشروعة.

كما أنَّ التحرك الدبلوماسي النشط تجاه الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا الدول ذات المواقف المستقلة نسبيًا، يشكل أولوية لاستصدار إدانة أوروبية للعدوان الإسرائيلي تتخطى بيانات القلق المعتادة. ويجب أن يترافق هذا مع حملة إعلامية منظمة تستند إلى التوثيق الدقيق للانتهاكات الإسرائيلية، وتفعيل التحالفات مع القوى الدولية المناهضة للاحتلال، واللجوء إلى المنظمات الأممية المتخصصة كمحكمة العدل الدولية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بهدف تعزيز الشرعية السورية وكشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي، وحشد الدعم الدولي لحماية السيادة السورية ووحدة أراضيها.

المصدر: الترا صوت الكاتب: فضل عبد الغني مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ