
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
منذ لحظة سقوط نظام بشار الأسد وصعود حكومة الرئيس أحمد الشرع، وضعت سوريا نفسها على مسار جديد قائم على استعادة السيادة وبناء شراكات إقليمية مستقلة، ومع تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران إلى مستويات غير مسبوقة، تطرح التساؤلات بحدة حول موقف دمشق: هل تنجح في تجنّب الاصطفاف؟ أم أنها ستكون مضطرة للاختيار؟.
أولًا: الواقع العسكري والأمني في الجنوب السوري
من المهم التأكيد أن الجنوب السوري، وخاصة أرياف درعا والقنيطرة خالٍ تمامًا من التواجد العسكري أو الأمني المنظم للمليشيات الإيرانية أو حزب الله، وفق ما تؤكده مصادر ميدانية متعددة.
هذا الفراغ لم يأتِ صدفة، بل هو نتيجة جهود ممنهجة بذلتها الحكومة الجديدة لتفكيك البنية التحتية للمحور الإيراني في الجنوب، وتحصين المنطقة ضد محاولات إعادة الانتشار.
ولكن، تبقى السويداء خارج هذه الحسابات، خاصة أن الكثير من قادة النظام السابق ما تزال موجودة فيها ويعملون منها على عدم استقرار الجنوب السوري وسوريا. ولكن في المقابل من الصعب جدا أن تنطلق أي عمليات تهدد اسرائيل من السويداء، لعدة أسباب منها أن هناك تنسيق بين الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي للمسلمين الموحدين الدروز وبين تل أبيب، كما أن اسرائيل صرحت مرارا وتكرارا أنها ستحمي الدروز في السويداء من أي تهديد يقع عليهم.
لذلك، أيّ مزاعم عن احتمالية رد إيراني انطلاقًا من الأراضي السورية لا تبدو واقعية في الوقت الراهن، فالرد الإيراني، إن وقع، سيكون غالبًا انطلاقًا من أراضٍ عراقية أو عبر مليشيات في لبنان، بينما تبقى سوريا بمنأى عن ذلك لأسباب تتعلق بتوازنات إقليمية دقيقة.
ثانيًا: سوريا بعد الأسد.. دولة بلا حلف أيديولوجي
بعكس ما كانت عليه في مرحلة حكم الأسد، لم تعد سوريا اليوم طرفًا في أي محور عقائدي. الحكومة الجديدة تسعى لتثبيت مفهوم “الدولة الوطنية المستقلة”، وهو ما ينعكس في تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة، من التنسيق مع واشنطن، إلى تطبيع كامل مع دول الخليج، واتفاقيات أمنية غير معلنة مع الأردن وتركيا.
هذا التموضع يضع دمشق خارج الاصطفاف الإجباري، لكنه لا يمنحها رفاهية الحياد التام. فالحرب المفتوحة بين إسرائيل وإيران ستفرض على الجميع إعادة التموضع، لا سيما على الدول المتاخمة للجبهة.
ثالثًا: الحلف الإقليمي الجديد.. وسؤال الخيارات
المؤشرات السياسية والعسكرية الأخيرة تدل على تبلور محور إقليمي جديد، تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل ودول اوروبية، ويضم دولًا خليجية أساسية، مثل السعودية والإمارات والبحرين، إضافة إلى تركيا بدرجة أقل. هذا المحور يسعى إلى تحجيم الدور الإيراني، وتأمين استقرار شرق المتوسط والخليج.
سوريا الجديدة تميل بوضوح إلى هذا المعسكر، ليس حبًا بالمصالح الإسرائيلية، بل دفاعًا عن مصالحها الذاتية: تثبيت الأمن جنوبًا، إعادة الإعمار، إعادة الارتباط بالاقتصاد العربي، وضمان الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة.
الحيادية التامة قد تكون غير مطروحة لدى دمشق في حال توسعت رقعة المعركة بين طهران وتل أبيب، وسيكون الرئيس السوري أحمد الشرع مضطرا للانحياز جانب الحلف الأمريكي الإسرائيلي، لأن الحيادية المطلقة تعني عودة العقوبات وتدمير اقتصاد سوريا المدمر، ما سيعني بالتأكيد عدم الاستقرار في سوريا وربما سيعجل ذلك بحرب أهلية وعودة سريعة لتظيم داعش، لذلك ستكون دمشق في حقل ألغام من الصعب عليها أن تتجنب بعضها.
رابعًا: التهديد الإيراني.. ضغط لا يُستهان به
رغم انهيار البنية الإيرانية في الجنوب خصوصا وسوريا عموما، لا تزال إيران تحتفظ بنفوذ في الشرق السوري (ريف دير الزور تحديدًا)، كما أن لديها خلايا سياسية ومالية يمكن تنشيطها في لحظات التوتر. وبالتالي، فإن مواجهة إقليمية شاملة قد تدفع إيران إلى استخدام أوراقها داخل الأراضي السورية، ولو بشكل غير مباشر.
الحكومة السورية تدرك ذلك، وهي تتحرك على مسارين:
• الأول: تأمين الجبهة الداخلية سياسيًا وأمنيًا.
• الثاني: تنسيق استخباري واسع مع أطراف إقليمية ودولية لمراقبة أي نشاط عسكري أو امني.
خامسًا: الحرب الإقليمية المحتملة.. هل يمكن تجنّبها؟
إذا تطورت المواجهة إلى حرب إقليمية، فإن حياد سوريا لن يكون ممكنًا بالكامل. لكن السيناريو الأكثر ترجيحًا، أن تسعى دمشق للقيام بدور استباقي يتمثل في:
1. ضبط حدودها من أي نشاط عدائي قد يجرها للصراع.
2. تأكيد موقفها الرافض لاستخدام أراضيها لأي هجوم.
3. المشاركة في جهود الوساطة، إن توفرت، خصوصًا مع وجود قنوات اتصال مع كل من أنقرة، الرياض، وواشنطن.
سوريا الجديدة تقف أمام لحظة مفصلية في التوازنات الإقليمية. وبين تهديدات محور طهران، وفرص محور إقليمي غربي-عربي، تبدو خيارات دمشق محسوبة بدقة: لا عودة لمحور الممانعة، ولا خضوع مطلق لحلف تل أبيب. بل محاولة لتثبيت سيادة ناضجة، واستثمار التحولات لبناء مستقبل مستقر.
لكن ما لم يُحسم حتى الآن، هو: إلى أي مدى ستُمنح دمشق هذا الحيّز من الاستقلال؟ وهل سيسمح تصاعد المواجهة الكبرى بين إسرائيل وإيران ببقاء منطقة وسطى بين المحورين؟