لا يزال الاتفاق النووي مع إيران يثير الكثير من المناقشات على الصعيدين السياسي والأكاديمي، حتى بات تناوله يشكل بنداً أساسياً ونقطة لا يمكن تجاوزها عند التعرض لما يسمى «بدبلوماسية نزع السلاح» التي تعتبر التفاوض مع الجانب الإيراني حول طموحاته النووية أحد أمثلتها.
كانت النقاشات محتدمة منذ البداية لاختلاف وجهات النظر بين الرافضين والداعمين، لكن الأمر ازداد تعقيداً بعد ظهور الآثار الجيوبوليتيكية للاتفاق من جهة، وبعد التغيرات التي ظهرت على الصعيدين الدولي والإقليمي من جهة أخرى. من ناحية، تغيرت السياسة الأمريكية من اتباع استراتيجية لدعم إيران وخلق شراكة معها على مستوى الاقتصاد والتجارة ومحاربة الإرهاب، في زمن الرئيس باراك أوباما، إلى منحى مغاير تماماً عبر استراتيجية تهدف لاحتواء إيران وعزلها بعد اتهامها برعاية ودعم الإرهاب.
أما إقليمياً، فقد تغير الوضع، ولم يعد الكثير من دول الجوار القريب أو البعيد لإيران يرى فيها تهديداً وشيكاً أو عدواً على المدى القريب، ما سمح للبعض ببدء صفحة تعاون جديدة جعلت النظام الإيراني يشعر بأنه لم يعد معزولاً، بل إنه لم يعد قابلاً للعزل.
لفهم هذه المناقشات المحتدمة منذ أعوام داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية الغربية، يجب أن نعلم أن الاتفاق النووي لم يكن يستهدف فقط تجميد المساعي النووية لطهران لمدى عشر سنوات، بل كان يبشّر كذلك بضمان تحسن السلوك الإيراني، مقابل التطبيع الكامل وإعادة فتح الأسواق، ما يؤدي إلى قبول البلد الذي عانى لعقود من الحصار والمقاطعة، ضمن المنظومة الاقتصادية الدولية.
كانت النظرية التي تبناها الرئيس السابق وفريق عمله، تقول إنه ما لم ينجح المجتمع الدولي في الوصول إليه بطريق الاستهداف والعداء، قد ينجح في التحصل عليه عن طريق الضغوط الناعمة والاحتواء.
هذه النظرية، ورغم أنه عكف عليها لفيف من الخبراء الاستراتيجيين، كانت تبدو لكثيرين غيرهم ساذجة، على اعتبار أنه من الصعب جداً على نظام الولي الفقيه أن يتخلى عن مشروعه المبني على التمدد وتوسيع النفوذ والتغلغل أكثر في الجوار.
رغم ذلك فإن الدعاية لهذا الاتفاق ولنظريته المؤسسة لم تتوقف، حتى بعد تزايد الخروقات من قبل الجانب الإيراني، الذي لم يمنعه الاتفاق من التوسع في تصدير المقاتلين إلى الحلبة السورية، كما لم يمنعه من الاستمرار في تجريب الأسلحة الصاروخية الرادعة والممنوعة. رغم كل ذلك، إلا أن الإدارة الأمريكية السابقة كانت تتبنى إنجاح هذا الاتفاق كأولوية لها، محاولة إقناع الآخرين بخدمته للأمن والسلم. ومع أنه لا توجد حتى الآن أي إشارة على تحسن سلوك الطرف الإيراني، وهو الأمر الذي كان يمثل الغاية الأهم من الاتفاق، إلا أن الكثير من الداعمين ما زالوا عند رأيهم بأنه يمثل نجاحاً دبلوماسياً يجب عدم التفريط فيه.
هذا الإصرار فرض تساؤلاً حول ما يعنيه تحسن السلوك الإيراني. بالتأكيد فإن المقصود ليس الانسحاب من سوريا ولا تجفيف المنابع الاقتصادية والدعم الممنوح لحزب الله اللبناني، أو لمجموعة الحوثي اليمنية، كما أنه ليس مقصوداً بأي حال التيقن من توقف أو تأجيل المشروع النووي، لأن كل ذلك ببساطة لم يحدث. إذن، ما الذي يعنيه الداعمون لإيران بحديثهم عن «تحسن السلوك»؟
من أجل إجابة هذا السؤال ربما تجدر بنا قراءة المقالات الغربية التي كتبها متحمسون نافذون لهذا الاتفاق، وهي مهمة من أجل الاطلاع على وجهة النظر الأخرى المساندة. على رأس أولئك مثلاً وزير الخارجية السابق جون كيري الذي نشر مقالاً في «الواشنطن بوست» بتاريخ 29 سبتمبر الماضي، يدافع فيه عن الاتفاق ويحذّر من عواقب الانسحاب منه، وهو مقال شبيه بالمقال الذي تشارك في كتابته فيليب غوردون وريتشارد نيفيو، والذي نشر في وقت سابق في مجلة «ذا أتلانتك» تحت عنوان: «الصفقة الأسوأ التي لم تكن كذلك أبداً!».
في بحثتنا عن المقصود بتحسن السلوك يتوجب علينا تذكر حقيقة أن الدول إنما تتحرك وفق ما يحقق مصلحتها الذاتية المتمثلة بشكل خاص في نطاقي الأمن والاقتصاد. بهذا التبسيط يصبح من الواضح تحقق تحسن السلوك الإيراني بحسب منظور الغرب البراغماتي. فمن الناحية الأمنية تحرص إيران على التوقف عن تهديد أي مصلحة غربية، بما في ذلك ضمان ألا يشكّل ذراعها حزب الله المتمدد سورياً أي تهديد على الكيان الصهيوني.
أما اقتصادياً، فإن انفتاح السوق الإيراني على الشركاء الغربيين بعد عقود من العزلة، يوفر بلا شك مصلحة مهمة لأوروبا، القارة التي باتت تعاني من الشيخوخة، والتي بدأ الركود الاقتصادي يتسرب إلى الكثير من مفاصلها حتى وصل الأمر حد التشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي نفسه كمؤسسة.
استخدام مفردة «الصفقة» شائع في الأدبيات الغربية. الحقيقة أن كلا الطرفين كان ينتظر الفوائد الاقتصادية والتجارية. الطرف الإيراني الذي كانت خياراته الاقتصادية في السابق محدودة، والذي استنزف نفسه من خلال تدخلاته العسكرية الخارجية ودعمه غير المحدود للمجموعات الفوضوية في أكثر من مكان، والطرف الغربي الذي كان يتلهف لدخول السوق الفارسي.
كان الاتفاق بالنسبة لإيران مصلحة وطنية تقدم طوق النجاة لاقتصاد أنهكه الانفاق العسكري وأضعفه تهاوي أسعار النفط. كانت صفقة مربحة تحصل بموجبها إيران بشكل فوري على 400 مليون دولار، بخلاف تحرير مبالغ مجمدة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. كل هذا بلا مقابل، سوى حديث إعلامي وتعهدات لفظية بتحسن السلوك واحترام الجوار، وهو ما تعلن طهران في كل مناسبة التزامها به.
«الصفقة» كانت تؤدي باختصار إلى إنعاش الاقتصادين الإيراني والأوروبي. حماس الأوروبيين وفرحهم بالاتفاق كان يظهر في السرعة التي بدأت فيها الوفود من مختلف البلدان بالتوافد على طهران، كما ظهر في الحفاوة التي استقبل بها الرئيس روحاني في العواصم الأوروبية.
لم يكن أحد يتحدث عن المعنى السياسي لتحسن السلوك في هذه اللقاءات. كان الحديث يدور في غالبه عن الإلغاء التام والوشيك للحظر التجاري على إيران، ما يمكنها من شراء الذهب والمعادن الثمينة وصيانة الطائرات المدنية في الخارج من جهة، ويجعلها تتابع أنشطة صناعة السيارات والمواد البتروكيميائية التي تملك فيها بعض الخبرة من جهة أخرى.
لم يكن من المطروح أن يشرع أي مسؤول غربي في الضغط على طهران وتهديدها بإلغاء الاتفاق، إذا ما واصلت مشاريعها الفوضوية في المنطقة، وذلك ببساطة لأنه في هذه الحالة فإن الخسارة لن تكون فقط من نصيب الجانب الإيراني ولكنها ستكون كذلك خسارة فادحة للجانب الأوروبي، الذي بدأ بعض رجال أعماله مشاريع فيها تتجاوز قيمتها ملايين الدولارات. هذا هو ما جعل الاتفاقية تبدو كصفقة مضمونها أن تسلّم طهران مفاتيح اقتصادها للغربيين، وتمنحهم وضعاً مريحاً للتبادل التجاري والاستثمار، مقابل غض النظر عن تجاوزاتها وعبثها في أركان المنطقة. هذا «الربط الاقتصادي» كان ناجحاً في تحييد مواقف الكثير من الدول الأوروبية التي ما تزال رافضة لعودة إيران لمربع الحظر والعقوبات، وهو ما ظهر في عجز الولايات المتحدة عن تنفيذ تهديداتها بمراجعة الاتفاق واكتفائها بفرض عقوبات أحادية محدودة.
أكثر من ذلك فإن طهران تتابع بجد محاولات تطبيق استراتيجية الربط الاقتصادي هذه على الحالة الأمريكية عبر إقناع الكثير من رجال الأعمال والمستثمرين الأمريكيين بجدوى الشراكة مع إيران وسوقها الخصب، وبالفعل فقد أصبحت لديها مجموعة ضغط لا يستهان بها، مكونة من شخصيات نافذة تدعمها بشكل كبير. ربما يكون هذا هو أحد الصعوبات التي تواجه استراتيجية ترامب لصد إيران.
فاجأ السيد سعد الحريري العالم بأسره، وليس الشعب اللبناني وحده، بإعلان استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، منطلقاً من «مبادئ ثورة الأرز العظيمة»، ومشدداً على أن البلد يعيش «أجواء شبيهة» بتلك التي سادت قبيل اغتيال أبيه رفيق الحريري، وملمحاً إلى أنه لمس «ما يحاك في الخفاء» لاستهداف حياته.
المفاجأة الثانية تمثلت في الهجوم العنيف الذي شنّه السيد الحريري على إيران، التي «ما تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار والخراب»، دافعها في هذا «حقد دفين على الأمة العربية، و»رغبة جامحة في تدميرها والسيطرة عليها». وهذه لغة هجومية جديدة، طارئة تماماً على ما اعتاد السيد الحريري استخدامه في الحديث عن إيران، ونفوذها في لبنان. لكنها، من ناحية ثانية، ترقى إلى مستوى إعلان القطيعة، إذا قُرئت جيداً المفردات التي اختارها لتوصيف حزب الله اللبناني، والذي لا يكتفي بوضع يده في يد إيران، و«يعلن صراحة ولاءه لها»، بل إنه «الذراع الإيرانية، ليس في لبنان فحسب، بل وفي البلدان العربية».
المفاجأة الثالثة كانت أن السيد الحريري لم يعلن استقالته من السراي الكبير، وعبر التلفزة الحكومية أو حتى فضائية «المستقبل» مثلاً، بل أعلنها من العاصمة السعودية الرياض، وعبر فضائية سعودية. وهذا يلقي بظلال الشك المشروع على مصداقية انطلاقه من المصلحة اللبنانية أولاً، ويبرر ربط استقالته بأجندات خارجية، وسعودية على وجه التحديد. هذا مع العلم أن الذاكرة القريبة للشعب اللبناني تسجِّل انخراطه في مشروع تسوية مع حزب الله، أتاحت انتخاب ميشيل عون لرئاسة الجمهورية. كذلك ليس بعيداً في الزمان خيار انفتاحه على النظام السوري، رغم كلّ المعطيات الجدية التي تشير إلى تورّط رأس هذا النظام، شخصياً، في اغتيال رفيق الحريري.
في المقابل، ليست أقل مدعاة للمفاجأة إطلالة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، للتعقيب مباشرة على استقالة رئيس الحكومة، واستغفال الشعب اللبناني حول تفاصيل كثيرة، لعلّ أكثرها إثارة للسخرية استنكاره أن تُعلن الاستقالة من الخارج، وكأن الحزب ليس مخفراً إيرانياً في لبنان، يدين بالتابعية العلنية للولي الفقيه في طهران! كذلك بدت إهانة بليغة للشعب اللبناني أن يتحدث السيد نصر الله عن حرصه على السلم الأهلي في لبنان، هو الذي تكفّل حزبه بتعريض هذا السلم للأخطار الجسيمة مراراً، ولم يشيّد دولة داخل الدولة أو فوقها فحسب، بل عمد إلى «تأديب» جيش الدولة ومؤسساتها خلال «غزوة بيروت» الشهيرة، في أيار (مايو) 2008.
وإذْ يستنكر التدخل الخارجي في شؤون لبنان، فإن نصر الله لن يثير سوى استهجان اللبنانيين الذين يعرفون مقدار تدخّل إيران في شؤون لبنان، أو قتال حزب الله إلى جانب نظام الأسد في مشارق سوريا ومغاربها. وأما ذاك الذي يستوجب الاستهجان حقاً، فإنه تأكيد «سيد المقاومة» على أن إسرائيل لن تشنّ حرباً على لبنان. إذْ، بالفعل، لماذا ستفعل إذا كان ما تبقى من «مقاومة» لم يعد أكثر من ميليشيا تقوم بمهامّ إسرائيل، في داخل سوريا!
وبين استقالة الحريري واستغفال نصر الله، يظلّ الشعب اللبناني رهين المحبسين، بافتراض أن القادم لن يكون أدهى!
بعد نحو سنة، اتخذ رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري القرار المنتظر والطبيعي؛ مغادرة حكومة «حزب الله» الخفية.
الحريري شكّل حكومته في ديسمبر (كانون الأول) 2016، وقدمّت حكومته بعض المنجزات الطيبة داخلياً مثل إقرار الميزانية، ومحاولات معالجة أزمة اللاجئين السوريين، والأهم سعيه الظاهر للحفاظ على السلم والحياد اللبناني.
غير أن صلف إيران، وتعنت تابعها اللبناني «حزب الله»، وتضخم الفاتورة الإنسانية للمأساة السورية، و«حزب الله» ضالع في الجريمة السورية مثل غيره، والتهاب المواجهة بين العرب وإيران، خصوصاً السعودية التي تحارب العصابات الحوثية الخمينية في اليمن، والفجور الإعلامي لحزب الله ضد السعودية ودول التحالف العربي، لا بدّ لكل هذا من رادع.
بعد هذا كله، لم يسع الحريري إلا الاستقالة، وقد شبّه الحريري الابن، الحالَ اليوم بالمرحلة التي سبقت اغتيال الوالد رفيق، وقال: «لمستُ ما يحاك سراً لاستهداف حياتي»، وفي خطابه الذي ألقاه معلناً استقالته أشار الحريري إلى أن «لإيران رغبة جامحة في تدمير العالم العربي»، متوعداً بأن «أيدي إيران في المنطقة ستُقطع».
وقال بالعربي الفصيح: «حزب الله فرض أمراً واقعاً في لبنان بقوة السلاح».
موقفٌ قال عنه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إنه خطوة صحيحة، مستغرباً كيف تأخرت الاستقالة لأنه: «لا يمكن لأحد يحترم نفسه أن يبقى في الحكومة».
هذا الإجراء المفاجئ من سعد الحريري أربك الحسبة الإيرانية، خصوصاً أن مستشار المرشد خامنئي الموثوق، علي ولايتي، كان في بيروت قبل أيام يحتفل بالهيمنة الإيرانية على لبنان والنصر في سوريا، كما قال، والمضحك المبكي أن المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، قال وهو مغتاظ من استقالة الحريري، إن ولايتي قال من لبنان إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية حريصة على «وحدة واستقلال لبنان»!
تدخلات وعبث إيران بالدول العربية ليست سراً ولا تحليلاً، بل واقع مرئي ملموس، لدرجة أن «حمامة السلام» رئيس الجمهورية حسن روحاني قال بالنص مؤخراً:
«لا يمكن في الوقت الحاضر اتخاذ إجراء حاسم في العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج من دون إيران». وهو التصريح الذي استدعى في حينه ردّاً من سعد الحريري نفسه.
تصريح روحاني كان تعبيراً عن ثقافة النظام الإيراني، فمثلاً، نائب قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني اللواء إسماعيل قائاني، قال في وقت سابق، إن «إيران مستمرة بفتح بلدان المنطقة».
هل حانت لحظة المواجهة الكبرى مع النظام الإيراني، والبداية من خلال أداته الأولى عربياً، «حزب الله» اللبناني؟ ونسخته اليمنية، جماعة الحوثي؟
نحن أمام لحظات تاريخية فاصلة.
تتزايد جبهات المواجهات مع إيران وحلفائها الرئيسيين. فالصاروخ الباليستي الذي أطلقه الحوثيون على العاصمة السعودية تطور عسكري خطير لا يمكن فصله عن الصراع الإقليمي مع إيران في لبنان وسوريا والعراق. وقد فشلت السبل الدبلوماسية بسبب الرفض المستمر من الإيرانيين في إخراج قواتهم وميليشياتهم من سوريا، وسبق أن رفضوا الخروج من العراق الذي يعملون فيه عسكرياً، وآخر المعارك التي يقودونها الزحف الأخير على إقليم كردستان.
إيران تدير المعارك عن بُعد، في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وقد فشلت دول المنطقة، وكذلك الولايات المتحدة، في تبني سياسة تتناسب واستراتيجية إيران في التمدد والسيطرة من خلال وكلائها. الأميركيون الذين دفعوا أثماناً مكررة بسبب تفجيرات واغتيالات «حزب الله» اكتفوا بمواجهة الوكيل نفسه، من خلال خطف أو اغتيال متورطين أو قيادات في الحزب. وكذلك فعلت مصر ودول الخليج التي اكتفت في السابق بالتضييق سياسياً واقتصادياً على «حزب الله».
إيران تضطر الخصوم إلى إحدى سياستين؛ مواجهة المصدر نفسه مباشرة، وهو النظام الإيراني، أو خلق وكلاء «بروكسيز» إقليميين والدخول في حروب الوكالات. من المستبعد وقوع الخيار الأول؛ أي حرب مع إيران، إلا في حالة دفاعية، هجوم منها مسلح مباشر، وهو ليس أسلوب طهران في إدارة أزماتها. حتى عندما فقدت إيران ثمانية دبلوماسيين، وغيرهم في كمين من قوات «طالبان» في مزار شريف بأفغانستان أواخر التسعينات، لم تدخل في حرب هناك، بل عمدت إلى بناء ميليشيات محلية هناك بصبر واستمرارية.
رغم الهيمنة الإيرانية الواضحة في ساحات مثل العراق، فإن الجيش العراقي لا يستطيع مواجهة القوى المحلية المسلحة الموالية لإيران، وذلك بحكم تعدد قياداته السياسية ونفوذ إيران الطاغي. ومن الواضح أن لإيران دوراً كبيراً في توجيه القوات العراقية، و«الحشد الشعبي» تحديداً، لتصفية الوجود الكردي في كركوك وخلفها، وهي معركة إقليمية مهمة وليست عراقية فقط. وهذا لا يعفي الأكراد من أنهم ارتكبوا أخطاء سياسية وعسكرية جسيمة في هذه الأزمة، نتيجة مشروع الاستفتاء على الاستقلال، واستغلها الإيرانيون للزحف على المناطق الحيوية؛ بترولية وجغرافية.
لن تجد الدول بداً من اللجوء إلى التوازن عبر صراع الميليشيات. الآن تدخل سوريا مرحلة ترتيبات الحكم، وأهمها السيطرة على الأرض. الميليشيات الإيرانية تقوم بعمليات إعدامات كبيرة بين الأهالي في المناطق التي تسيطر عليها، وهي غالباً معارضة في السابق. تريد من خلالها الإمساك أمنياً في مناطقها، نظراً لأن النظام السوري لم يعد يملك قدرات عسكرية وأمنية كافية لبسط نفوذه.
وفِي هذه الظروف ستجد الدول الإقليمية أنها تواجه مشروعاً إيرانياً ضخماً يستخدم سوريا للسيطرة على سوريا نفسها، والعراق ولبنان، ولاحقاً ما وراء الحدود. وفِي مقابل هذه السياسة لا توجد وسيلة لإزاحة إيران أو إضعافها مهما وعد الروس أو النظام السوري نفسه. هنا من المتوقع أن تتحول سوريا إلى دولة ميليشيات أيضاً.
بالنسبة للإيرانيين فسياسة الوكلاء مربحة، فهم يعتبرون استثمارهم في «حزب الله»، وهو أغلى مشروع والأطول زمناً؛ يكلفهم نحو سبعمائة مليون دولار سنوياً، عبارة عن جيش متقدم. وبالنسبة لوكلائهم في اليمن الحوثيين (أنصار الله)، فإن السعر أرخص، حيث قد لا يكلفهم المحارب دولارين في الأسبوع.
أعود إلى بداية الحديث، وهي أن المواجهات تتسع مع تمدد إيران وعدم وجود رادع لها. وتصبح أكثر خطورة كما رأينا في نجاحها بإضعاف معسكر الحريري في لبنان، وتعزيز قدرة الحوثيين الصاروخية التي تهدد قلب السعودية مباشرة. وبسقوط خيار المواجهات العسكرية المباشرة ضد إيران، الأمر الذي لا أحد يرغب فيه، فإن تعزيز قوات الميليشيات المحلية في الدول المضطربة يبدو أنه الطريق المفتوح الوحيد.
عندما طرح فلاديمير بوتين في منتدى فالداي يوم 17 الشهر الماضي، فكرة الدعوة إلى «مؤتمر الشعوب السورية»، لم يكن بصدد جسّ النبض حيال مدى المقبولية لهذه الفكرة، بل كان يعرف جيداً أن تفاهمه مع الأميركيين على هذا يكفي بذاته لإطلاق المبادرة!
الدليل، أن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، دعا بعد أربعة أيام على كلام بوتين، إلى ما سمّاه «ضبط الحماسة» حيال هذه الفكرة؛ لأنه من المبكّر الحديث عن كيفية وموعد عقد هذا المؤتمر، ثم فجأة كرّت سبحة التأكيدات والمواعيد دفعة واحدة وبسرعة قياسية في الأيام القليلة الماضية؛ ما يؤكد وفق التقارير الدبلوماسية أن كل شيء يبدو معداً وراء الأبواب الأميركية الروسية المغلقة، منذ الاتفاق على الخطوط العريضة في قمتي هامبورغ بين بوتين ودونالد ترمب.
وهكذا حددت موسكو يوم 18 الشهر الحالي موعداً لانطلاق المؤتمر في سوتشي، على أن ينتقل بعد ذلك إلى حميميم في مراحله المتتابعة، ثم وجّهت يوم الأربعاء الماضي الدعوة إلى 33 منظمة وحزباً لحضور ما سمّته «مؤتمر الحوار الوطني السوري»، بعدما كان تعبير «الشعوب السورية»، قد أثار علامات استفهام واستغراب في سوريا والمنطقة، رغم أن هذه التسمية تتطابق مع الفكرة الأساسية التي ترسخت في ذهن بوتين منذ اليوم الأول لتدخله في سوريا نهاية سبتمبر (أيلول) 2015، وسبق أن أعلنها تكراراً، وهي أن لا حل في سوريا إلا عن طريق الفيدرالية، وفي خلفية أي فيدرالية تبرز ملامح شعوب في سياق دستور وحدة مفدرلة!
ولم تكتفِ موسكو بنشر أسماء المدعوين على موقع وزارة الخارجية، بل بدت كمن يحدد جدول أعمال المؤتمر، عندما أعلنت أنها «تأمل» في أن يدرس المؤتمر ملامح الدستور الجديد لسوريا، وأن يبحث في الإصلاحات السياسية المحتملة، وقد يكون من الضروري أن نُذكّر هنا بأنه سبق أن وضع سيرغي لافروف مسودة لمشروع دستور جديد لسوريا، سيشكل في رأيي منطلق النص الذي سيجري النقاش فيه!
استعمال تعريف «الشعوب السورية» ربما يفتح الأبواب في نظر موسكو، لشمولية تجمع كل مكونات الشعب السوري، وهو ما يمكن أن يسهّل التفاهم على حل تتفق عليه كل مكونات الشعب السوري، لكن التعابير الروسية ذات الإيحاءات المقصودة طبعاً، لم تتوقف عند «الشعوب السورية»، بل وصلت إلى قول بيسكوف في 21 الشهر الماضي إنه من السابق لأوانه الحديث عن متى وكيف سيتمّ تشكيل «كونغرس» الشعوب السورية... ثم إنه في وجود «مجلس الشعب السوري»، هل يعني «الكونغرس السوري» شيئاً بعيداً عن الانتقال إلى النظام الفيدرالي؟
وإذا كان من المعروف أن موسكو تمسكّت دائماً بمشاركة كل المكونات السورية في تحديد مستقبل سوريا وفي إطار من التوافق العام، إلا أن المثير كان في إعلان بوتين في فالداي، أنه لا يطرح فكرة جديدة، بل على العكس كشف أن نقاشاً جدياً يدور حول تلك الفكرة، ويتناول تفاصيلها ومضمونها وخطوطها العامة، وكرر قوله إنه مقتنع بأن المؤتمر الشامل، الذي يجمع المكونات السورية يساعد في عملية خفض العنف والتهدئة، ويمهد الطريق للاتفاق على حل دائم في سوريا!
مع من يجري النقاش الذي أشار إليه بوتين، النظام وافق فوراً، والأتراك والإيرانيون الذين يشاركون في «آستانة» وافقوا أيضاً، لكن أهم من كل هذا الموافقة الأميركية التي أُعلنت مداورة من خلال محاولة الوفد الأميركي في «آستانة»، دفع معارضي المؤتمر إلى تغيير موقفهم والمشاركة في الاجتماع، وذلك في خلال لقاء جانبي معهم، حيث جرى حضّهم على «الموضوعية» والانخراط في العملية السياسية، والمشاركة بفاعلية في النقاشات، واتخاذ قرارات مصيرية ومهمة للتوصل إلى الحل السياسي.
الموضوعية؟
يبدو الأمر صادماً للمعارضين، ويزيد من صدمته عندما يقال لهم ضمناً تعالوا إلى التفاوض من دون شروط مسبقة، وهو ما يعكس موقف النظام الذي أعلن دائماً أنه يرفض أي شروط مسبقة في أي حوار؛ لأنه من الواضح أنه يحرص على أن يقرر هو نتائجه، وفي هذا السياق أكدت قناة «RT» الروسية، أن الوفد الأميركي أبلغهم أن واشنطن لم تعد تضع رحيل الأسد شرطاً لبدء العملية السياسية، لكنه على سبيل الإيحاء بالتطمين، أبلغهم أن المجتمع الدولي لن يعترف بمنتصر في سوريا، ولن تقوم أي عملية إعمار من دون عملية سياسية ترعاها الأمم المتحدة؟
هل السوريون إذن أمام حل على الطريقة اللبنانية المضحكة المبكية، أي «لا غالب ولا مغلوب»، بعد ستة أعوام من الدم والدمار ولجوء الملايين في الداخل والخارج؟
لا داعي إلى الجواب، لكن دعونا نتوقف قليلاً أمام إيحاءات سيرغي لافروف، الذي يقول إن «مؤتمر الشعوب السورية» يلتقي عملياً مع قرار مجلس الأمن 2254، الذي يدعو إلى مفاوضات شاملة بين الحكومة وكل أطياف المعارضة والمجموعات السياسية والعرقية، بما يعني راوح مكانك حول نقطة ربط مصير الأسد بقرار الشعوب السورية، التي ليس من الواضح كيف ستتم لملمة شظاياها، وإن كان القرار 2254 يعني ضمناً عملية انتقال سياسي عبر انتخابات بإشراف الأمم المتحدة تنهي حكم الأسد، الذي قال ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي قبل يومين بعد اجتماعه مع ستيفان دي ميستورا العائد من «آستانة»: «إن حكم أسرة الأسد في طريقه إلى النهاية»!
لكن كيف؟ والسؤال الثاني كيف سيتفق 1500 شخص، يقول وائل ميرزا، عضو «مجلس سوريا الديمقراطية» إنهم سيحضرون مؤتمر الشعوب السورية، من أين وكيف سينبثق «الكونغرس السوري»، وهل سيكون على طراز الكونغرس الأميركي أو الدوما الروسي، وكلاهما في المناسبة يشكلان صيغة في الدستور الفيدرالي السائد في أميركا وروسيا، وفي هذه الحال ماذا سيحلّ بشعار «الأسد رئيسنا إلى الأبد»؟
أيضاً وأيضاً، من المبكر الجواب عن هذه الأسئلة، لكن الواضح أن موسكو وواشنطن متفقتان على أن «داعش» سيُهزم ويخسر كل مواقعه قبل آخر السنة، وأن مؤتمر الشعوب السورية هو محاولة لوضع بداية الحيثية السياسية لقرار مناطق خفض التوتر الأربع، التي من الواضح أيضاً أنها تؤسس للفيدرالية: الجنوب الغربي، ودولة الساحل، حيث «المجتمع الصحي الأكثر تجانساً» كما سبق أن أعلن الأسد، وإدلب، حيث يجتهد رجب طيب إردوغان لفرض شريط في وجه الأكراد المسيطرين تقريباً من كوباني إلى الرقة ودير الزور، ويريدهم الأميركيون أن يسيطروا على معبر البوكمال لقطع الممر الحدودي الإيراني إلى لبنان، حيث يتقدّم الحشد الشعبي إلى القائم على الحدود العراقية السورية… وكل ذلك ينسجم مع رغبة واشنطن في اقتلاع النفوذ الإيراني من سوريا والعراق، وهذا ما يسرّ قلب بوتين المرتاح في سوريا في غياب «الضُرّة الإيرانية» التي زارها.
تتجدد حالة التوتر والمواجهة والبيانات المتبادلة بين فصائل الغوطة الشرقية ممثلة بـ "فيلق الرحمن وجيش الإسلام" كل طرف يهاجم الآخر ويكيل له الاتهامات بالاعتداء على مواقعه، في بقعة جغرافية تضيق يوماً بعد يوم على أكثر من 350 ألف مدني محاصرين في الغوطة الشرقية، مع تزايد وقع الحصار عليهم بشكل كبير.
كان الأولى بفصائل الغوطة الشرقية في كل خلاف أن تقدم مصلحة المدنيين أولاً على مصالحها الشخصية وتبادر لاتخاذ مايخرجها والمدنيين من حصار يكاد ينهي عامه الخامس، وفي كل خلاف تسقط منطقة بيد الأسد وحلفائه، ويبدأ كيل الاتهامات لتحميل المسؤولية كلاً للطرف الآخر، أوصل المدنيين لحالة من اليأس التام في فك الحصار في حال استمر هذا التشرذم والخلاف.
خسرت الغوطة الشرقية العشرات من المناطق وخسرت سلتها الغذائية التي كانت تعين مدنييها على الحصار ومواجهة التجويع، كل ذلك بسبب التشرذم الحاصل لفصائل الغوطة، وفي كل خلاف بات المدنيون يتخوفون من خسارة منطقة جديدة ودماء إضافة بيد الأخوة وأبناء الثورة، في الوقت الذي ساهمت فيه الفصائل في تحمل ماحل بالمدنيين عسكرياً وكذلك إنسانياً كونها كانت المتحكمة في الانفاق التي تدر ملايين الليرات، حتى أنها لم تحافظ عليها وخسرتها في المعارك الأخيرة رغم كل الاستغلال الذي مورس على المدنيين فيها.
الغوطة اليوم باتت تواجه أشد أيام الحصار، مع استمرار القصف اليومي وارتكاب المجازر من قبل نظام الأسد وحلفائه، والاخوة يتصارعون تواجه الموت بأصناف عدة على يد الأسد وأتباعه، مع استمرار المحاولات لقوات الأسد للتقدم في عين ترما وحي جوبر، ولاينكر ماتقدم الفصائل من تضحيات ولكن بات لزماً عليها اليوم وأمام كل ماتواجهه الغوطة من حصار ومشاريع للتهجير ان تقف موقف رجل واحد وكلمة واحدة بجميع مؤسساتها المدنية والعسكرية وتلتف حول الفعاليات الشعبية لتكون سداً منيعاً في مواجهة كل المخططات.
اثبتت التجارب العملية على مدار سنوات أن تحرير الشعوب من الاستبداد لا يحققه الفكر المتشدد الذي تتبناه بعض التنظيمات التي تدعي إسلاميتها وتتولى بنفسها اسم الدفاع عن الشعوب باسم الإسلام ومن خلال العشارات الإسلامية التي تخالفها ذات التنظيمات في تصرفاتها، فتسيئ للإسلام أولاً قبل أن تسيئ لنفسها وتدمير بلداً وشعباً وتضيع أحلامه، في ذلك أمثلة كثيرة في أفغانستان والشيشان والعراق والصومال.
في الحراك الثوري السوري كان الأمر مختلفاً قليلاً لحين ظهور هذه التنظيمات التي تبنت حراك الشارع المدني ونصبت نفسها الوصي عليه وعلى ثورته، فبرزت عدة تنظيمات منها "الدولة في العراق والشام" و "جبهة النصرة" التي تبنت فكر القاعدة ثم انتهجت كلاً منها لنفسها فكراً خاصاً، لم يختلف لحد كبير عن الفكر الجهادي في العبارات والتصرفات والممارسات في المناطق التي تتواجد فيها وتسيطر فيها على كامل مقدراتها.
لعل اختلاف طبيعة الحراك السوري والصراع الذي نسب في وقت مبكر بين تلك التنظيمات دفع البعض منها للتقرب من الشعب أكثر ومحاولة الغوص أكثر بين الثوار والعمل على جذب الشباب السوري للانضمام لصفوفها حتى باتوا يشكلون غالبية مكوناتها ساعد لحد كبير في تغير مسارها والابتعاد عن فكر "القاعدة" لحد ما مع بقاء التأثر بشكل واضح بفعل وجود شخصيات مازالت متحكمة في مفاص القرار لدى جبهة النصرة ومن بعدها جبهة فتح الشام وآخرها هيئة تحرير الشام.
التغيرات التي طرأت على "جبهة النصرة" منذ عام 2012 حتى 2017 وتعدد التسميات التي أطلقتها على نفسها مع تعدد الرايات، في الوقت الذي استمرت فيه ذات التصرفات في محاربة فصائل الجيش الحر وكل من يرفض الخضوع لها، فنالت من 30 فصيلاً آخرهم أحرار الشام والتي كانت أقرب الفصائل توجها لها في مراحل عديدة من عمر الثورة، هذه التغيرات مع استمرار ذات التصرفات خلقت فجوة كبيرة بينها وبين الحاضنة الشعبية التي تراجعت عن تأييدها لفترات عديدة إبان أوج قوتها والمعارك التي أثبتت فعلياً أنها الأقوى فيها.
ولعل الشعارات التي أطلقتها تحرير الشام في كثير من الأحيان والأسباب التي روجت لها لإنهاء فصائل كثيرة كانت في تلك المرحلة محرمة ومن الكبائر، باتت هي اليوم من تمارسها وتنتهجها بعد أم ملك كل القرار العسكري في بقعة جغرافية كبيرة في إدلب وحماة وحلب واللاذقية، أيضا الجانب المدني الذي عملت على التفرد فيه وإقصاء الجميع فيه من مؤسسات مدنية تتبع للحكومة المؤقتة أو غيرها.
يبرر أنصار تحرير الشام هذا الانقلاب على الذات والشعارات التي أطلقتها سابقاً بأنها لضرورة المرحلة، مع ملاحظة تغير التوجه بشكل كبير للهيئة في الخطاب السياسي وفي الخطاب الداخلي تجاه الثورة والثوار واعتبار نفسها جزء من الثورة السورية وصل الأمر لرفع أنصارها علم الثورة السورية عبر حساباتهم وكثير من المواضع، بعد أن كان علماً علمانياً محارباً سفكت دماء لأجل رفعه.
اتجهت تحرير الشام بعد إنهاء الأحرار في تموز الماضي لخط سياسة وأسلوب جديد من الالتفاف بحسب البعض والسبب أنها أدركت نفسها باتت في مواجهة حتمية مع كل العالم وأن النهاية اقتربت، لم تنفعها كل التحولات التي قامت بها في شكلها واسمها وضم فصائل أخرى لها، كونها لم تستطع كبح جماح التصرفات والممارسات التي أوصلتها لهذا الحد من المواجهة.
هذا الاتجاه بعد إنهاء الأحرار كان كمحاولة التفاف على العالم والمجتمع السوري والثورة أيضاَ من خلال بناء كيان مدني كإدارة مدنية تطور لاحقاً لحكومة إنقاذ تحركها هي بشكل مباشر من غرف مظلمة، واختارت لنفسها شخصيات كواجهة مدنية تدير حكومة مدنية، ملكتها كل المؤسسات وكل ماهو في المحرر، طبعا هناك اتفاق ضمني بين الهيئة وتركيا لذلك مقابل دخول تركيا للشمال المحرر دون مواجهة، وتركيا طبعاً تعي ماتفعل.
لمسنا تشكيل حكومة الإنقاذ بدءاً من مبادرة الأكاديميين والدعم الذي قدمته تحرير الشام لها ولظهورها، والدفع الذي ساعدت فيها على تشكيلها، ولاننكر وجود شخصيات ثورية ومستقلة في الحكومة ولكن ليست صاحبة قرار أبداً والقرار الفعلي هو لمن يدير الدفة ممثلة بالدولة العميقة في هيئة تحرير الشام، أيضاَ التغيرات التي طرأت على الجناح الأمني في مدينة إدلب والبدء بتشكيل الشرطة العسكرية التي سيكون عناصر تحرير الشام نفسهم عمادها مع تغيرات في الأسماء المتصدرة وزج أسماء جديدة، كذلك الدفع لبعض المجالس الكبرى في سلقين وجسر الشغور لتشكيل مجالس تتبع للحكومة الجديدة علماً أن هذه المدن كانت وماتزال محرومة من أي مشاريع خدمة بسبب وجود القرار في يد تحرير الشام وقادتها العسكريين.
هذه التحولات الكبيرة التي تطال بنية تحرير الشام العسكرية مع رفض كبير داخل أروقة الهيئة لهذا التعديل وهذا النهج، يقوده العديد من القادة في الصف الأول والثاني لاسيما في قطاع البادية الرافض للحكومة بشكل مطلع ولهذا النهج الذي تتبعه تحرير الشام مدنياً، ترسم التحولات بداية تحول كبير لتحرير الشام بعد سلسلة تحولات سبقتها مع استمرار نفس النهج، فهل تكون هذه المرحلة بداية خلع البدلة العسكرية وتسلط القبضة الأمنية لتحرير الشام، تغيير كسابقه لمجرد تغيير البدلة العسكرية بالطقم المدني مع الحفاظ على ذالت القالب والتوجه والفكر .....!؟
ترسم التطورات الحالية تحدياً كبيراً في مدى نجاح هذه التجربة لتحرير الشام ومدى كونها لصالح المدنيين أو الثورة السورية أو أنها ستكون باباً كسابقاته للتغلب وتمكين القبضة في الحكم والإدارة وإنهاء الخصوم وتغليب المنهج ولكن بواجهة وقبضة مدنية تتحكم في مفاضل القرار أمنياَ ومؤسساتياً، ستكشف الأيام والسنوات اللاحقة مدرى قدرة هذه الحكومة على التحرك والعمل فعلياً على تحقيق مطالب المدنيين ووقف ممارسات العسكر .
يمكن أن نقسّم الأحداث المتعلقة بالدول إلى عدة أقسام، فهناك من بلغت درجة إيمانه أن إيران قد قبضت على عواصم عربية بعد أن تغلغلت بميليشياتها في دولة عربية عريقة وكبيرة في حضارتها وتاريخها ورجالها هي العراق، وهناك من لم يؤمن بهذا، ويرى في الأفق عراق العروبة وهو ما زال جزءاً من جسد أمته، بمعنى أنه لن يكون رهناً لإيران رغم احتفالات إعلامها وعملائه، وستنتهي الفوضى في المنطقة، وستقلم أظافر النظام الإيراني في كل العواصم العربية التي أنشبها فيها، وكانت الأولوية معقودة بمواصلة الجهود لإيقاف العبث الذي يمارسه هذا النظام في دعم الميليشيات؛ سواء في العراق أم في لبنان أم في اليمن، ومدّ الحوثيين بالصواريخ الباليستية والألغام في انتهاك صارخ لقرار مجلس الأمن رقم 2216، وبناء عليه أدان وزراء الخارجية ورؤساء هيئات الأركان العامة للدول الأعضاء في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن تحركات إيران الإرهابية.
بهذا الشكل أتت الوقفة العربية الخليجية الحازمة، وبتحرك سعودي متفرد ومتميز؛ لتجسّد حقيقة العلاقة المتينة وإعادة توهجها بين الدول الأربع ودول التحالف، لإيقاف ما تقوم به إيران عبر ميليشيا الانقلابيين، من قتل للشعب اليمني وتعريضه للجوع والخوف والمرض والعبث بمقدراته، وتهديدها لأمن واستقرار دول المنطقة.
إن الأمر باختصار يتعلق بإيران، وهو بمثابة معركة تدور بينها وبين الدول العربية تضيف إلى وجودها شيئاً مخزياً تظهره للعالم بصورة مارقة ومنحرفة، تريد باختصار تسخير خدماتها لنشر الفوضى في كل مكان من المنطقة.
ويمكن للمسكون بهموم السياسة، والحامل للجينات العربية أن يتوق لمعرفة إجابة السؤال الأهم الذي ما زال ساخناً، يقول السؤال: لماذا تركنا ميليشيات إيران تستولي على المراكز القيادية في دولنا وفي العراق أولاً، وتسلب من شعوب تلك الدول كثيراً من حقوقهم وتقتل أحلامهم وآمالهم؟ كيف بلغ الأمر أن تعارضت سياسات القوى الدولية وتخاذلت عن إنقاذ العراق وسوريا واليمن، من براثن وذيول إيران، ثم من قطعان «داعش» وميليشيا الحوثيين؟ إذ لا يعدو الأمر أن يكون إفراطاً في إبراز قوتها للملأ، ولا يرى العالم إلا النزر اليسير من إشاراتها وصواريخها الباليستية، وهي تعمل في الخفاء على زعزعة أمن دول الخليج. وهذه الإدانة الأخيرة من التحالف تحمّل النظام الإيراني وأدواته مسؤولية العبث بأمن المنطقة، والانتهاكات التي ترتكبها الميليشيات الحوثية ضد الأطفال، والزج بهم في النزاع المسلح.
لدينا إذن لائحة واضحة في ثلاث لحظات، في بدايتها ضرورة قيام دول التحالف بإبراز رسالتها، ووسطها الاستمرار في كشف المخططات والممارسات الإجرامية التي تقوم بها ميليشيات الانقلابيين، بدعم من إيران و«حزب الله»، ونهايتها أن الجماعة الحوثية المسلحة هي أول جماعة إرهابية خارج القانون تمتلك القدرات الباليستية، وهو خطر حقيقي وتقاطع طرق.
لا شك أن الحقائق المنحوتة ستظهر، وينفض عنها ركام السنين، بعدما ران عليها العنف والحرب، وبهذا يتبين أن الجهود المبذولة من المملكة العربية السعودية تمثل تاج السياسة الحكيمة، ونضج الرؤية، وبهذه المنزلة يكتمل البناء فيها، فتحددت معالمها، وعمل الملك سلمان ورئيس الوزراء العراقي بمقتضى ذلك على البدء في تأسيس مرحلة جديدة وتغير المواقف والتصورات الماضية، وتؤسس للعلاقة المتمكنة مع تجاوز العقبات.
وأكدها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بالدعم والتأييد لوحدة العراق واليمن واستقرارهما، قائلاً حول العراق: «إن الإمكانات الكبيرة الموجود في السعودية والعراق تتيح فرصا كبيرة لبناء شراكة فاعلة، تحقق الأهداف والتطلعات المشتركة بين البلدين».
ولا عجب عندئذ أن تجد صدى للجهود المبذولة، وما تحقق من إنجازات في القضاء على الإرهاب والطائفية التي تواجه دول المنطقة، ومن هذه الحوادث التي مرت بالشعب العراقي «داعش»، وميليشيات مدعومة من إيران تزعزع أمنه واستقراره، وها هي اليوم القوات العراقية تطرد «داعش» من مناطق جديدة في القائم.
أظهرت ردة فعلِ سوريا سلبيةً إزاء المساعي الروسية لعقد «مؤتمر الشعوب السورية» في سوتشي، وظهر الرفض علناً في أوساط المعارضة السياسية، كما في أوساط المعارضة المسلحة، ومنها أطراف كانت شاركت في مؤتمر «آستانة» الذي هو صنيعة روسية، وامتدت روح معارضة المؤتمر الروسي إلى أوساط سياسية واجتماعية وثقافية وشعبية أعلنَتْ رفضها المشاركة في المؤتمر، رغم أن بعض المعارضة، خصوصاً القريبين من موسكو ومن نظام الأسد، أبدوا موافقتهم على المشاركة، لكن موافقة هؤلاء لا تعني أن المؤتمر سوف يُعقَد، وأنه إذا انعقد سوف يحقق أهدافه.
السوريون، في غالبيتهم، يعرفون أن روسيا، اليوم، صارت فاعلاً رئيسياً في القضية السورية، ليس بسبب حجمها الدولي، وهي واحدة من الدول الكبرى، ولا بسبب إمكانياتها الكبيرة فقط، وإنما (إضافةً إلى ما سبق) بسبب وجودها السياسي والعسكري في سوريا، من جهة، ونتيجة استقالة الدول الكبرى والقوى الإقليمية من دورها، وعزوفها عن التعامل مع القضية السورية بما تستحق من أهمية.
ولهذه العوامل، يرغب كثير من السوريين في أن يكون لروسيا دور في معالجة قضيتهم وإخراجها من نفق القتل والتهجير والتدمير الذي تُوغِل فيه مما يهدد بنهايتها كياناً وشعباً لا أحد يسعى إلى الإبقاء عليهما، ووضع حد لكارثة سبع سنوات مضت، كلفت كثيراً من البشر والقدرات المادية، وخلقت معطيات جديدة لتدمير ما تبقى.
غير أن رغبة السوريين في دور روسي في القضية تصطدم بمواقف موسكو وخياراتها في سوريا؛ حيث عملت بصورة نشطة للحفاظ على النظام، وتصر على بقاء رأس النظام في السلطة بعد كل ما ارتكبه من جرائم، وتسعى بكل جهد لتبرئته من تلك الجرائم، وتبرر سياساته، وهي في سبيل أهدافها تتحالف مع إيران والميليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانب النظام، وقد عارضت أيّة سياسات اتبعتها الدول الأخرى والمنظمات الدولية لإدانة النظام والدفع نحو معاقبته على جرائمه، بل مارست شتى الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد دول من أجل تغيير مواقفها، كما فعلت مع تركيا التي أجبرتها على الانخراط في مسار «آستانة»، وفرض تعاونها في جلب قوى من المعارضة المسلحة إلى هناك.
أما في الداخل السوري فقد قامت بفعل الكثير؛ فإضافة إلى عملياتها العسكرية، خصوصاً استخدامها سلاح الجو في هجمات، تجاوزت ما تعتبرُهُ معاقلَ لقوى المعارضة المسلحة «الإرهابية والمتطرفة» إلى ضرب حواضن اجتماعية مدنية خارجة عن سيطرة النظام، بما فيها مناطق سكنية وأسواق ومدارس ومراكز طبية، لتسهيل عودة تلك المناطق إلى سيطرة النظام، وسَعَتْ إلى عقد مصالحات في مناطق استحال أو صعب إخضاعها بالقوة العسكرية، وأسهمت في عمليات التهجير بما يعني إعادة صياغة الديموغرافية السورية بما يتوافق ومصلحة حلفائها من نظام الأسد وإيران.
وأضافت، في سياق سياساتها، بناء حواضن سياسية مرتبطة بها على نحو ما هي عليه منصة موسكو، والجماعات المرتبطة بقاعدة حميميم الروسية، وأنشأت صلات مع أوساط اجتماعية في مناطق سيطرة النظام تؤيد السياسة الروسية في سوريا، كما نسجت علاقات عميقة مع شخصيات وفعاليات في الداخل، وبينهم عسكريون في جيش النظام وأجهزته الأمنية.
ورغم سوء الدور الروسي في سوريا وحولها، فإن كثيراً من السوريين يمكن أن يندمجوا في خط التفاهم مع موسكو وطروحاتها لمعالجة القضية السورية وحلِّها، إذا توفرت في الموقف الروسي تحولات أساسية؛ أولها إيقاف العمليات العسكرية ضد الأهداف المدنية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والسماح بالمرور الحر للسلع والبضائع والمساعدات الإنسانية إلى تلك المناطق، سواء كانت ضمن مناطق خفض التصعيد أو خارجها. والثاني تأكيد موسكو دورها المستقل في إنجاز تسوية للقضية السورية تشارك فيها كل الأطراف، تكون عتبتها إعلان جنيف لعام 2012 وما تلاه من قرارات دولية في هذا السياق، مما يعني الموافقة على قضية الانتقال السياسي بصورة مبدئية. والثالث انفتاح روسي أوسع على القوى والأطراف الدولية والإقليمية والداخلية المنخرطة والمهتمة بالصراع في سوريا وحولها، لضمان مساندتها للحل الروسي وتفاعلها الإيجابي معه.
إن قيام موسكو بهذه الخطوات، سوف يبدِّل من نظرة الأطراف المختلفة للدور الروسي في القضية السورية، وسوف يجعل السوريين بمختلف اتجاهاتهم وتوجهاتهم أقدر على التفاعل مع دور روسي بنّاء في حل القضية السورية وفي علاقات روسية - سورية أفضل في المستقبل.
لقد جرَّبَت موسكو طوال السنوات الماضية في القضية السورية سياسات مختلفة، بدأت من الدعم المستور لنظام الأسد إلى الدعم والمساندة المكشوفين، وصولاً إلى التدخلات العسكرية المباشرة، وممارسة سياسات التفرد، والضغوط المختلفة على كل الأطراف الداخلية والخارجية، ولم تصل إلى النتائج المطلوبة في تحقيق أهدافها ومصالحها، ولا في تحقيق أهداف ومصالح النظام وحلفائه، وفي ظل مساعيها الراهنة لتعزيز الدور الروسي وتقويته، لا بد لها من إجراء تغييرات في سياساتها، لأنها إن لم تفعل، فإن أطرافاً أخرى سوف تتدخل، وتشغل حيزاً أوسع في القضية السورية، والمثال الأكثر وضوحاً في ذلك ما حصل في الحرب على «داعش»، الذي أعطى الوجود الأميركي زخماً وأهمية في سوريا وقضيتها لم يكن حاضراً في السابق، وما لم تذهب موسكو في هذا الاتجاه، فلن ينفعها عقد «مؤتمر الشعوب السورية» في شيء، خصوصاً بعدما أثبت مؤتمر «آستانة» في اجتماعه الأخير أنه وصل إلى طريق مسدود.
عندما يغيب الأمن ، يغيب معه الأمان والاستقرار والطمأنينة ، وتغيب العدالة ، وتحل الفوضى ويتفشى الخوف والظلم ، ويصبح المجتمع خالياً من مضمونه حيث لم يعد الإنسان يأمن على حياته وحياة من حوله ، ويعيش في دوامة الخوف والرعب ويصبح صيداً ثميناً وفريسة سهلة لكل القتلة والمجرمين والعابثين بأرواح الناس وأمنهم وارزاقهم .
لقد أثبتت الوقائع الميدانية وشبه اليومية في محافظة درعا أن المناطق المحررة منها والتي تخضع لسيطرة فصائل الجيش الحر هي من أقل المناطق أمناً واستقراراً وتنظيماً مقارنة ببعض المناطق المحررة في بعض المحافظات الأخرى ، والمتابع لذلك يدرك حق الإدراك مدى الفشل والتسيب والإهمال وعدم الإحساس بالمسؤولية من قبل الجهات المعنية بالحفاظ على أمن هذه المناطق .
حيث شهدت ومازالت تشهد العديد من مدن وبلدات المحافظة وبشكل شبه يومي الكثير من التفجيرات والاغتيالات وحوادث القتل المتفرقة والعديد من حالات الخطف والسلب وغيرها من الحوادث التي ازدادت وتيرتها في الآونة الاخيرة والتي ذهب ضحيتها الكثير من عناصر الجيش الحر والمدنيين من بينهم عناصر في الدفاع المدني .
هذه المناطق التي من المفترض أن تنعم بالهدوء والاستقرار وتحضى بدعم أمني كبير نظراً لوقوعها تحت سيطرة الفصائل الثورية ، بعكس المناطق التي تخضع لسيطرة قوات النظام والتي تشهد هدوءاً ملحوظاً ما جعل البعض يفكر جدياً بالانتقال إليها بحثاً عن الأمان لحماية عائلته وأطفاله من الخطر .
هذا المنعطف الخطير التي وصلت إليه الأمور في حوران اليوم يأتي جراء الفلتان الأمني والفوضى العارمة التي تشهدها المناطق المحررة ، وجراء التسيب الأمني غير المبرر وظاهرة انتشار السلاح العشوائي بين أيدي الجميع ، والذي ترتكب من خلاله الكثير من الجرائم وتزهق الأرواح البريئة دون وجه حق ودون معرفة هوية القتلة وانتمائاتهم أو أهدافهم في ظل غياب كامل لمبدأ الرقابة والمتابعة لضبط هذا السلاح وحصرية استخدامه ومعاقبة حامليه .
ورغم الخسائر البشرية الكبيرة والمتزايدة التي نتجت عن هذه الحوادث إلا أن الجهات المعنية بحماية المدن والبلدات ومراقبة الطرقات الرئيسية والفرعية لم تتخذ حتى اللحظة أية احتياطات أو إجراءات جديّة وملموسة للحد من هذه الحوادث التي تحولت وللأسف لظاهرة شبه يومية تحصد وتهدد حياة الكثيرين من الأبرياء .
كل ذلك يجري في ظل غياب كامل للدور الفعلي الذي يجب أن تقوم به “محكمة دار العدل” التي لاحول لها ولاقوة بسبب تحجيمها وتهميشها حسب بعض المعلومات ، وهذا ما يتطلب من جميع الفصائل والفعاليات الأخرى ضروة التنسيق السريع فيما بينها لإعادة هيكلتها من جديد ورفدها بكل الكفاءات النزيهة والقادرة على القيام بدورها المطلوب لتظهر كقوة تنفيذية فاعلة يُحسب لها ألف حساب دون التشكيك بها أو بقدراتها لتكون مرجعاً لإحقاق الحق وصوتاً لكل المظلومين في حوران.. وما أكثرهم .!
ولا يتحقق هذا إلا من خلال دعمها أمنياً ومعنوياً وإعطائها كامل الصلاحيات بعيداً عن أية ضغوطات أو تدخلات بشؤونها من قبل أي جهة كانت عسكرية أو مدنية وذلك لأداء دورها الحقيقي بفرض الأمن ومحاسبة كل من تسول له نفسه العبث بأمن حوران وأهلها مهما علا شأنه ومهما كانت انتماءاته الفصائلية أو العشائرية .
وإلا.. ستبقى حوران عنواناً للفوضى ومسرحاً للقتل وارتكاب الجريمة وسيبقى القتلة والعملاء والعابثون يسرحون ويمرحون في طول حوران وعرضها مخلفين ورائهم المزيد من الضحايا بلا رقيب أو حسيب .
فالوضع خطير جداً وحماية الناس هي من أولى الأولويات ومسؤولية الجميع والتهاون والاستهتار بحياتهم وأمنهم وأرزاقهم لم يعد مقبولاً ، فالبيانات الرنانة والتصريحات الإعلامية لم تعد لها قيمة مع بقاء الوضع على ما هو عليه ، ويجب الانتقال من الأقوال إلى الأفعال وإلا ستنزلق حوران إلى منعطف أخطر بكثير قد يصعب التنبؤ بنتائجه أو السيطرة عليه مستقبلاً ..
“حوران في رقابكم أمانة فاحفظوها من الضياع” .!
تنويه : المقال يعبر عن رأي كاتبه، وتجمع أحرار حوران ليس مسؤولاً عن مضمونه.
لم تخل برامج الأحزاب الغربية المتنافسة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية من نقطة تتعلق بالموقف من قضية اللجوء وطالبيه السوريون، ما أدى إلى تنامي أحزاب يمينية وعنصرية معادية لسياسة استيعاب اللاجئين الإنسانية، نالت في فرنسا وألمانيا وزناً لافتاً وحازت أكثرية برلمانية في النمسا.
ولم تخجل حكومة أنقرة من توظيف مشكلة اللاجئين خارج جوهرها الإنساني، إن في ابتزاز الغرب والضغط سياسياً واقتصادياً عليه، وإن في جعلها مدخلاً لتحصيل بعض النفوذ الإقليمي وتمكين أردوغان من فرض مشروعه الإسلاموي، وإن في تدريب بعض اللاجئين وتعبئتهم لمحاصرة التمدد الكردي في سورية، ناهيكم عن الاستغلال البشع لقدراتهم من خلال قرارات تمييزية تتيح أفضل الفرص لمالكي رؤوس الأموال وذوي الكفاءات العلمية على حساب المساواة الإنسانية المفترضة بين عموم اللاجئين.
وكان للبنان حصته في استثمار ورقة اللاجئين سياسياً، بسبب الانقسام المزمن في المجتمع بين تيارين متعارضين في الموقف من النظام السوري، زاد الأمر وضوحاً التدخل العسكري المباشر لـ «حزب الله» في الصراع الدموي السوري، وانتماء الكتلة الرئيسة من اللاجئين إلى مذهب تلاحقه لعنة الإرهاب وكل عملية تقوم بها جماعات «النصرة» و «داعش» فوق الأراضي اللبنانية، ما سهّل إلى حد كبير خلق مناخ اجتماعي ونفسي مناهض لوجود اللاجئين السوريين، وتمرير مطلب إعادتهم من حيث أتوا أو طردهم من البلاد، يحدوه تبلور سياسة رسمية للبنان، معززة بانتخاب ميشال عون رئيساً، وبضغوط أطراف سياسية واقتصادية وأجهزة أمنية، تميل إلى تطبيع علاقاتها مع النظام، كخيار لتحسين حضورها الداخلي والإقليمي، وضمان دور لها في المرحلة السورية المقبلة.
لكن ذاك الاستثمار السياسي لقضية إنسانية نبيلة ومؤلمة، كقضية اللاجئين الهاربين من أتون عنف منفلت، ما كان ليمضي قدماً لولا تضافر عوامل مختلفة.
أولاً، تدهور الدور الدولي في حماية القيم والمعايير المشتركة المتعلقة بحقوق الإنسان وحماية المدنيين، انعكس في الخصوصية السورية، بعجز أممي مزمن وفاضح عن فرض حلول سياسية توقف العنف وتضمن الأمن وتخفف حدة النزوح والهجرة، زاد الطين بلة اضطراب الدعم العالمي لقضية اللاجئين، وما صار إليه من تقصير مالي وتراجع المعونات الإغاثية تحت حجج وذرائع مختلفة، سواء من الحكومات التي أبدت اهتمامها بمعاناة السوريين، وسواء من المنظمات الدولية المعنية بشؤون اللاجئين والتي باتت تشكو من شح المساعدات ونقص التمويل، وحين يبقى العالم عاجزاً ومقصراً في معالجة ما يعترضه من أزمات إنسانية بالغة الفجاعة، يمكن تفسير كيف تغدو محنة اللاجئين السوريين ورقة مهملة في مهب تنازع سياسي تحكمه مصالح الأطراف الدولية ومطامعها.
ثانياً، يمكن اعتبار الارتفاع المتواتر في أعداد اللاجئين السوريين جراء طول أمد الصراع وشدة العنف والتنكيل اللذين رافقاه، أحد دوافع تحويل قضيتهم الإنسانية إلى ورقة سياسية من قبل قوى لا تريد تحمل عبئاً يزداد ثقلاً ووطأة. وبلا شك، فإن مليون لاجئ إلى أوروبا وما يقارب المليونين في تركيا وأكثر من مليون في كل من لبنان والأردن، يشكلون ضغطاً على تلك المجتمعات عموماً وعلى إمكانياتها الاقتصادية والاستيعابية، فكيف الحال لدى بلدان تعاني من صعوبات في توفير احتياجات مواطنيها، ما منح بعض الديماغوجيين فرصة سياسية ثمينة للالتفاف على الأسباب الحقيقية لازمات مجتمعاتهم ولإثارة نوازع السكان الأصليين ضد هؤلاء اللاجئين باعتبارهم أساس الداء والبلاء!
ثالثاً، لعبت الاندفاعات العدوانية لجماعات إرهابية عابرة للحدود، لا سيما من «النصرة» و «داعش»، دوراً مهماً في إثارة مخاوف جدية لدى المجتمعات التي ضمت لاجئين سوريين، ربطاً بما أظهرته تحقيقات عن ضلوع بعض طالبي اللجوء في ممارسات إرهابية طالت مدنيين أبرياء، والأهم اندفاع أوساط سياسية وقيادات أمنية نحو المبالغة في الترويج لارتباط تلك الجماعات المتطرفة مع عموم اللاجئين، بغرض تأليب الرأي العام ضدهم.
رابعاً، ما يزيد محنة اللاجئين سوءاً واستغلالاً سياسياً، تنوع وكثرة القوى التي باتت فاعلة ومقررة في الصراع السوري ولجوء بعضها لاستخدام اللاجئين ورقة لتعزيز موقعه السياسي التفاوضي، وتنصل بعضها الآخر منهم ما داموا يشكلون عبئاً عليه أو يحسبون اجتماعياً وطائفياً على أطراف تخاصمه، بدليل تنكر النظام لمشكلة اللاجئين ومجاهرته بأن لا مكان لهم أو حقوق في مجتمعه المتجانس.
وهو ليس مجرد تفصيل صغير حين تجد المجتمعات التي تضم لاجئين سوريين أن السلطة في بلدهم قد ألغتهم من حساباتها، ألا يعزز ذلك من تهميشهم وتسهيل انتهاك حقوقهم وزيادة فرص تسخير جماعات منهم لخدمة أهداف سياسية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك؟
وفي كل حال، إذ يصح القول إن محنة اللاجئين السوريين باتت بلغة الأرقام والوقائع أسوأ محنة إنسانية في تاريخنا المعاصر، وإن ثمن إهمالها والاستهتار بتداعياتها سيكون باهظاً وسوف يصطدم، ليس فقط بازدياد أعداد اللاجئين والمهجرين قسراً، أو بشدة معاناتهم وإنما أيضاً بتنوع سبل إذلالهم واضطهادهم واستغلالهم سياسياً. ولعله أضعف الإيمان، التأكيد والتشديد، في مواجهة جميع المتلاعبين بهذه القضية الإنسانية، على المعايير الأساسية للأمم المتحدة التي يفترض أن تلتزم بها سائر الدول تجاه قضية اللاجئين، بدءاً باحترام عودتهم الطوعية دون قسر أو إكراه، بصفتها خياراً حراً، تحدوه إزالة الظروف السياسية والأمنية التي دفعت بهم للهروب، مروراً بضمان أمانهم الجسدي والقانوني بما في ذلك حقوق الحرية والحياة والحماية من العنف والملاحقة والاعتقال والتعذيب، وإنتهاءاً بحفظ كراماتهم وعدم التمييز بينهم لأية أسباب أو دوافع، خاصة في حصولهم على الوثائق الشخصية واستعادة ممتلكاتهم وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية وفرص العمل والمقاضاة.
واستدراكاً، مثلما لا يصعب الاستنتاج أن هذه المعايير لا يمكن تحقيقها، في ظل سلطة الاستبداد والفســاد ووسط استمرار الإهمال الأممي والإقليمي، لا يصعب الاستنتاج كم كان مطلب السوريين بدولة المواطنــة والديموقــراطية، محقاً ومشروعاً.
هيربرت ماركوزا وجون بول سارتر اثنان من المثقفين الأوروبيين الذين أُعجبوا بدايةً بالنموذج السوفياتي حتى اكتشاف الجرائم الستالينية فاعتذرا ومضيا قُدماً. أما مارتن هيدغر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين فانتمى في فترة من حياته إلى الحزب النازي ونسب إليه بعضهم تُهمة معاداة السامية. ومثلهم مثقفون ومبدعون على طول القارة الأوروبية وعرضها أيدوا موسوليني وفاشيته أو حكم فرانشيسكو فرانكو الانقلابي على الجمهورية الإسبانية. بمعنى أن مثقفين كباراً أخطأوا في مواقفهم وقراءاتهم الواقع، ولا يزال هذا الخطأ وصمة عار في تاريخهم الشخصي وإرثهم يلاحقهم أينما ذُكروا.
وفي سياق متصل، شهدت التجربة العالمية في ذروة حملة التطهير الستالينية داخل الحزب الشيوعي أو ضد مَن اعتبرهم معادين للثورة، مثقفين على مدار العالم يدافعون عنه وعن جرائمه. ورأينا مجتمعات ونُخباً أوروبية تفعل الأمر ذاته مع النازية وتنضمّ إلى جهودها في تطهير بلاد من سكانها وفي إنجاز محرقة اليهود. والأمر ذاته حصل في سياق الفاشية الإيطالية والفرانكوية في إسبانيا وفي حالات مشابهة. فثمة مجتمعات كاملة وأوساط ثقافية واسعة سقطت في امتحان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مرة عندما دافعت عنها ومرة عندما شاركت فيها بالفعل أو بالصمت.
ومن تجربة العالم هذه تحديداً في النصف الأول من القرن الفائت، جاءت نصوص القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة والمحاكم الدولية ودستور مجلس الأمن الدولي وسواها من مؤسسات وآليات دولية بهدف واضح وصريح: منع تكرار ما حصل والحدّ قدر الإمكان من احتمالات تكرار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لا سيما الإبادة الجماعية والتطهير العرقي واستخدام أسلحة محرّمة وما إلى ذلك. وهي جرائم، قالت هنه أرنت، أنها ممكنة الحدوث والتكرار وأن كل شعب ومجتمع قابل لتنفيذ مثلها. بمعنى أن الشرّ لم ينتهِ في الهولوكوست وأنه عادي ومألوف وما مِن أحد محرّر من إغراء القيام به. لهذا السبب، قاطعت المؤسسة الصهيونية أرنت اليهودية الأصل ولم يُترجم أي من كتبها وإبداعاتها التنظيرية إلى اللغة العِبرية إلا في السنوات الأخيرة. وهذا لإصرار الصهيونية على مؤسساتها أن الهولوكوست فعل استثنائي لم يكن ليحصل لو أن ضحاياه من اليهود وأن ما من جريمة تشبهها! وهو ما نفته أرنت في تقارير كتبتها عن محاكمة المجرم النازي أدولف آيخمان في إسرائيل في الستينات كمندوبة لصحيفة أميركية. وهي تقارير تحوّلت في ما بعد إلى نص نظري فلسفي ألمعي شهير لأرنت عن «عادية الشرّ»، جزمت فيه بأن المجرم آيخمان لم يكن استثناء وإنما هو - في ارتكابه الجرائم التي نُسبت إليه - تجسيد واضح لقُدرة النُظُم الشمولية على تجريد الإنسان الفرد من إنسانيته وعلى تحويله، كما المُجتمع، إلى ماكنات قتل وفتك لا تسأل ولا تستأنف، وأن هذه السِّمة من سِمات كل الأنظمة الشمولية وليس النازية فحسب!
هذا يعني أن أرنت الألمعية استطاعت أن تضع يدها على مفصل في السلوك السياسي للدول الشمولية والمجتمعات فيها وأن تفتح لنا باب الفهم على مصراعيه لنُدرك، مروراً منه، إمكانية تكرار التجربة النازية بتسميات أخرى. كأنها استطاعت بعينها النافذة أن تتوقع ما حصل في كمبوديا زمن الخمير الحمر أو في سورية الآن، وأن ترسم لنا خريطة السلوكات السياسية التدميرية للدولة السورية ممثلّة بنظامها الشمولي وبالأفراد، بوصفهم منزوعي الإنسانية وعلى استعداد للإتيان بأي فعل كجزء من القوة الهائلة التي تعتمدها لتحقيق نظريتها ومصالحها (كما فعل عصام زهر الدين وأمثاله!). وإذا كانت تنظيراتها تعطينا مفاتيح فهم الظاهرة في شكلها الأكثر وحشية وشرّاً، فإنها تُعطينا أيضاً فهما لما يُمكن أن يكون سبباً في كون أناس ليسوا سوريين يؤيّدون جرائم النظام واستخدامه القوة المدمّرة. كما تُعطينا التجربة التاريخية القريبة التفسير لهذا السوك لدى المثقفين أو «المتثقفين» ولدى العامة. وهو سلوك قد يكون له أكثر من منبع واحد لكن نتيجته واحدة، وهي التغطية على أبشع الجرائم و «غسلها» بالكلمات وإيجاد «المبرّرات» لها كأنها جزء من السياسة وحماية للدولة والمجتمع، كأنها حرب مع أبشع عدوّ وأكثره خطراً على وجود الدولة، وما شابه من ادعاءات تبدو منطقية ظاهرياً لولا أنها تستر أبشع الجرائم ضد الإنسانية!
علينا أن نستحضر الألمعية أرنت في السياق السوري لنفهم أداء الدولة - النظام في تأهيل المجتمع والأفراد للمجزرة المستمّرة وللعنف المُطلق ولنفهم إصرار سوريين وعرب وأجانب على اعتبار هذا العنف وهذه المجزرة شرعية أو لها ما يُبررها، ولنفهم الصمت القاتل عنها وحيالها من جهات مختلفة. علينا أن نستعير منها ألمعيتها في القراءة والتحليل والتسمية لنخاطب ذوي القابلية على ارتكاب المجزرة والمنافحين عنهم وأولئك الذين يُغطّون استمرارها بخطاب يساوي بين الفاعل والضحية وبين نظام شمولي مُستبدّ مُجرم وبين شعب ضحية، تارة كمُشارك في جزء منه وتارة كجثث تحت الرُكام. وهو ما يعني أن حقبة مروّعة في تاريخ البشرية كما عبّرت عنها تجربة الهولوكوست وسواها من إبادة وتطهير عرقي قد اندملت هي أيضاً تحت رُكام المناطق السنّية باعتبار ضحاياها يهود هذه الحقبة! وهذا يعني، أيضاً، أن أطناناً من الأدبيات القانونية والتنظيرات في نقد الحداثة والدولة الشمولية والفلسفات المستأنفة الممانعة كلّها أيضاً دفنها المجرمون في سورية وأعوانهم في كل مكان في قبور جماعية لا يزال بعضها مفتوحاً لاستيعاب المزيد من هذه النصوص التي ماتت في السجون أو بالغاز في شيخون ومعضمية الشام، والتي لا تزال تُهجّر قسراً وبالدم من الغوطة والرقّة وإدلب وحلب وسواها. هذا ما يحدث هناك الآن. هناك مَن يُريد التخلّص من الشعب السوري ومن التاريخ ومن نصوصه المستأنفة كي يواصل هو جريمته!