٢٦ يوليو ٢٠١٧
المئات من عناصر تنظيمي جبهة النصرة وداعش يتمركزون في مناطق على الحدود اللبنانية-السورية في ما يعرف من الجانب اللبناني جرود عرسال، ومن الجـانب السوري تلال القلمون الغربي. التنظيمان متواجدان منذ سنوات، حصلت في الأصل مواجهات عسكرية بينهما حيث يتمركز تنظيم داعش في المناطق الشمالية من هذه الجرود، فيما جبهة النصرة (جبهة فتح الشام) في الجزء الجنوبي، كما يتواجد في هذه الجرود فصيل تابع للجيش السوري الحر.
حزب الله قرر أخيرا أن ينهي هذا الوجود العسكري بالتعاون مع الجيش السوري، بدأ حملة عسكرية مسبوقة بحملة إعلامية واسعة في الداخل اللبناني، ساهمت في تصعيد العداء ضد اللاجئين السوريين، حيث صدرت مواقف من حلفائه فيما تكفل الإعلام الممانع بلصق المآسي اللبنانية باللاجئ السوري. هذه الحملة العسكرية والتي شملت مناطق جرود عرسال وهي منطقة وعرة تمتد على مساحة أربعمئة كيلومتر مربع يتحكم حزب الله وجيش النظام في سوريا بالسيطرة شبه الكاملة عليها، فيما المسلحون داخلها هم في حالة حصار.
ويؤكد المراقبون أنّ حزب الله كان قادرا منذ العام 2015 على إنهاء وجود هذه المجموعات من الناحية العسكرية، إذ يجب الإشارة إلى أن هؤلاء المقاتلين في معظمهم هم من أبناء بلدات وقرى القلمون تلك التي كان حزب الله سيطر عليها في ذلك العام بشكل شبه كامل، فيما شكّل وجود هذين التنظيمين الإرهابيين أحد أهم أسلحة حزب الله التي استخدمها في مواجهة اللبنانيين الذين رفضوا تدخله في الأزمة السورية، بالقول لهم إنه هو من يحميهم من الإرهاب وأن هذه التنظيمات الإرهابية المتواجدة في جرود عرسال متأهبة للدخول إلى لبنان لولا أن حزب الله يحول دون ذلك.
اتفاق الجنوب السوري الذي قام بين روسيا والولايات المتحدة وبالتنسيق مع الأردن وإسرائيل، قضى بأن لا يكون للإيرانيين وميليشياتهم أي تواجد في عمق يصل إلى 40 كلم بعيدا عن حدود الجولان المحتل وعن الحدود الأردنية. طهران لم تنبس ببنت شفة التزمت وسحبت قواتها بصمت لإدراكها أنّ مثل هذا الاتفاق بين الدولتين الكبيرتين لا يمكن أن تواجهه، فالأفضل هو الرضوخ والتعويض في مكان آخر، علما أنّ النظام السوري اعتبره اتفاقاً ملائما له.
الحملة العسكرية في جرود عرسال اللبنانية، هي خطوة إيرانية بالدرجة الأولى، وعلى خلفية اتفاق الجنوب السوري المذكور، ولإحكام النفوذ على المثلث الشرقي الممتد من دمشق- حمص- لبنان وعرسال تقع في وسطه، وعلى ما يمكن استنتاجه فإنّ المحور الإيراني ربما وجد أنّ بقاء شماعة المجموعات الإرهابية لم يعد ذا أهمية إزاء إحكام السيطرة الكاملة للمحور الإيراني.
من هنا فإنّ أبعاد معركة جرود عرسال لها وجهان. وجه أول يتصل بإحكام السيطرة الإيرانية المباشرة وغير المباشرة في الجانب السوري. والوجه الثاني استكمال حلقات السيطرة الأخيرة على لبنان، وهنا تمكن الاستفاضة في الإضاءة على الخطة التي اعتمدها حزب الله على هذا الصعيد.
إذ يعرف الجميع، وفي مقدمتهم اللبنانيون، أنّ حزب الله ضرب بعرض الحائط كل الاعتراضات اللبنانية الرسمية والشعبية التي طالبته بالخروج من سوريا منذ أن أعلن رسميا ما سمّاه “الواجب المقدس” كعنوان لحربه التي انطلقت من لبنان ضدّ كل فصائل المعارضة السورية، بل ضدّ كل من يعارض النظام السوري، وإن برر تدخله بالقول إنه يريد الدفاع عن المقامات الشيعية في سوريا في البداية.
استهزأت قيادات حزب الله في ذلك الحين بكل المواقف والمناشدات اللبنانية التي تطالبه بالخروج من سوريا، هذا الاستهزاء ترافق مع عملية تطويع للقوى السياسية اللبنانية عبّر عنه بالدرجة الأولى عدم انتخاب رئيس للجمهورية وإلزام اللبنانيين بانتخاب مرشحه أو استمرار الفراغ، وفعلا نجح حزب الله في فرض مرشحه العماد ميشال عون بعد فـراغ في هذا المنصب استمر لأكثر من عامين ونصف، وتمّ تشكيل حكومة على قاعدة تسوية سياسية رضخ فيها معارضوه لشروطه (ما لي لي وما لكم لي ولكم) أي أنّ حزب الله له مطلق الصلاحية عمليا في ما يعتبره مهمات أمن قومي خارجي ومنها سلاحه وتدخله في سوريا، أمّا القضايا الداخلية المتصلة بالسياسات الاقتصادية والمالية وما إلى ذلك فهي بالشراكة بين حزب الله وبقية اللبنانيين.
الجديد في الحلقة الأخيرة من إحكام السيطرة على لبنان، أن المشروع الإيراني المتمثل بحزب الله بدأ من خلال عملية جرود عرسال العسكرية، إظهار أنّ اللبنانيين ولا سيما شركائه في السلطة الداخلية في لبنان هم لا يشيحون بوجوههم عن تدخله في سوريا، بل هم في موقع الملتفين حول دوره في مواجهة تنظيم إرهابي موجود على الأراضي اللبنانية، رغم أنّ الجميع يعلم أنّ وجود هؤلاء هو بسبب دخول حزب الله إلى بلدات القلمون، فيما البعض من هذه التنظيمات كانت بوعي عناصرها أو بغير وعيها تنفذ أجندات المشروع الإيراني.
تكشف عملية عرسال العسكرية والتي تزامنت أيضاً مع زيارة مقررة لرئيس الحكومة سعد الحريري إلى واشنطن، حيث من المقرر أن يلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب (اليوم الثلاثاء) وكما هو معلن في بيروت أن الحريري سيحمل للرئيس الأميركي مطالب لبنانية تتصل بعدم تصعيد العقوبات المالية على حزب الله لأنّها باتت تؤثر على كل اللبنانيين، كما سيطالب بدعم المؤسسة العسكرية، لكن الأهم في هذه الزيارة أنّ الحريري يحمل في طيات زيارته، ما يندرج في سياق التأكيد على أن لبنان يحارب الإرهاب في جرود عرسال.
علما أنّ الجيش اللبناني الذي لم يشارك إلى جانب حزب الله والجيش السوري في المعارك الجارية، إلا أن الحكومة اللبنانية والجيش يتعاملان مع معركة حزب الله وكأنّها حرب مشروعة من دون أن يظهر لبنان الرسمي أيّ موقف يبدو فيه مستاء مما يجري على الأقل من زاوية أنّ حربا تجري على أرضه ويجب أن يكون هو صاحب القرار في الحرب وفي خططها وإدارتها.
الاستسلام الرسمي لسلوك حزب الله يكشف إلى حد بعيد أن لبنان فقد القدرة حتى على مقاومة مصادرة سيادته ولو في الموقف. فقدان هذه المقاومة هو ما يمكن أن نسميه في الجانب الرسمي الاستسلام لمجريات التحكم والسيطرة، لا بل التسليم بأنّ لبنان صار من الناحية الرسمية ضمن المحور الإيراني أو منطقة النفوذ الإيراني التي جاءت معركة عرسال الجارية لتمثل الحلقة الأخيرة التي ستجعل حزب الله ومن خلفه إيران يستعد ليخاطب اللبنانيين وشركائه في السلطة كما فعل غداة تحرير الشريط الحدودي من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000، حيث ادعى حزب الله أنّه هو من حرر الشريط المحتل طامسا كل النضالات وآلاف الشهداء اللبنانيين والفلسطينيين الذين سقطوا خلال عملية التحرير التي بدأت منذ العام 1982.
سيخرج زعيم حزب الله بعد عملية عرسال وسيقول للبنانيين أنا من حرركم من إسرائيل ومن الإرهاب… والأمر لي.
٢٦ يوليو ٢٠١٧
يمكن القول، من دون مبالغة، إن الصراع الدولي في سورية انتهى إلى نمطٍ من تقسيم عمل روسي/ أميركي، يترجم نفسه هذه الفترة من خلال علاقةٍ تكاد تكون اندماجية بين موسكو والنظام، تضمن بقاء الأسد، وتمرّر حلا دوليا/ إقليميا/ محليا، يعيد إنتاجه شخصا لا بديل له، ولا بديل سواه. في ظل ما بلغه الانخراط السياسي/ العسكري الروسي في سورية، من غير الجائز استبعاد بقاء النظام معدّلا، في حال جسّد الحل القراءة الروسية للقرارات الدولية الخاصة بسورية.
في مقابل علاقة روسيا الكيانية مع الأسد، ونجاحها في إقناع دول عديدة بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، متمسّك بتابعه، تبلورت، خلال العامين الماضيين، علاقة أميركية مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، مشابهة لعلاقة روسيا بنظام الأسد، ومع أنها أكثر غموضا والتباسا، فإنها تضمن كيانية دولوية، أو شبه دولوية، للحزب، توضع ركائزها اليوم بقوة تعيرها واشنطن له، تكرّسه قوة تحتل منطقة تعادل خمس مساحة سورية، ترشحها للاتساع الحرب ضد "داعش" التي مكّنت الحزب من تشكيل جيش كبير، يضم كردا عراقيين وإيرانيين وأتراكا وبعض السوريين، تحميه طائرات أميركا ومدفعيتها من تركيا، وتمكّنه من احتلال مناطق، ليس في مئات من قراها وبلداتها أي وجود كردي، تقع خارج المنطقة التي طرد عربها وتركمانها وآشورييها، وجرف قراهم، بحجة الدفاع عن حق شعبه الكردي في تقرير مصيره. هناك اليوم قوة عسكرية مشتركة ومتكاملة تضم أميركيين وكردا، وأعدادا قليلة من العرب والتركمان، تغطي قوات الحزب الكردي بواسطتهم مشروعا هو جزءٌ من مشروع إقليمي، يتخطّى سورية إلى تركيا وإيران، يتطلب تمريره دعما أميركيا وتفهما روسيا.
أين "المعارضة" من الكيان الأسدي المنفذ روسيّاً، وكيان حزب الاتحاد الديمقراطي (البايدا) المحمول أميركياً؟ ليس لديها مشروع تستطيع ترجمته إلى وجود مادي، تأخذه الدولتان في حسبانهما. أليس هذا حقيقة جلية، رسمتها نتائج الاحتلال الروسي وشلل "جنيف"؟ وفي المقابل، أليس برود أميركا السوري موقفاً يسهّل جهود روسيا، في مقابل برود روسي تجاه انتشار عسكر واشنطن شمال سورية وشرقها وجنوبها، الضروري لمعركتها القادمة ضد إيران، ولإنجاز حوار عربي/ كردي، إن نجح ساعد على إقامة وضع سوري جديد بموازين قوى مختلفة، يعزّز حضور اليانكي في سورية والعراق، حيث قرّرت البقاء فترة طويلة، وقد يخلق ظروفا مناسبة روسياً لتحقيق حل سياسي متوازن، يزيد فرص ترحيل الأسد. أليس من الضروري إنجاز هذا العمل، قبل أن يدخل الروس على الخط، ويضغطوا لقيام تفاهم بين "البايادا" والأسد؟ وهل تعترف واشنطن، عندئذٍ، بحق "البايادا" في الانفصال، لإبقاء ورقتهم في يدها. ماذا سيبقى، في هذه الحال، من خيار للمعارضة، غير ذهابها أو ذهاب أطراف منها إلى روسيا، علها تضغط على الأسد، كي يقبل مشاركتها في حكومة وحدة وطنية.
هناك أمران يطرحهما الوضع المعقد الحالي:
ـ حتمية انتخاب ممثلين لمجالس المناطق مخفضة التصعيد، يلتزمون التزاما لا شبهة فيه بوثيقة جنيف، والمواقف الوطنية التي يتبناها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والحراك الوطني والثوري السوري، لتكون جزءا من الثورة، إن فاوضت النظام والروس فاوضتهما باسمها، ولتحقيق أهدافها، على أن تكون، في الوقت نفسه، ممثلة في "الائتلاف" ومؤسساته.
ـ حتمية إجراء حوار مع واشنطن، يتناول تحديد نمط الدولة السورية البديلة للأسدية، على أن يواكبه تفاهمٌ مع مختلف أطراف الكرد على حقوقهم فيه، وينتهي بضماناتٍ أميركية لوحدة الدولة والمجتمع السوريين، ولما سيتم التفاهم عليه، فضلا عن حمايته من إيران، لتصبح نتائجه خيارا وطنيا يعبر عنه الحل السياسي المطلوب. بعد المجالس والحوار، لا بد من تواصلٍ مع روسيا يقنعها أن التمسّك بالنظام ليس لصالحها، ويغلق أبواب مصالحتها مع الشعب السوري.
بعد قيام كيانين، لا علاقة لهما بالثورة في وطننا، روسي/ أسدي وأميركي/ باياداي، وبعد نشوء مخاطر تهدّد وجود سورية، لم يعد بإمكاننا بلوغ أهداف شعبنا وثورته بالوسائل والممارسات التي اعتمدها "الائتلاف" والعمل الوطني خلال السنوات الماضية. ولم يعد ممكنا أو مجديا التخلي عن روح المبادرة ومتطلبات الواقعية السياسية، والتمسّك بطرق عمل وممارساتٍ عائدها الوحيد تفويت فرص تحقيق ما يُراد تحقيقه من أهداف بواسطتها.
٢٦ يوليو ٢٠١٧
لقد كان للرئيس التركي أردوغان دور مهم في رسم خطوط التحول في السياسة الخارجية، وبوصفه رجل دولة كان له دور مهم في قيادة السياسة الخارجية التركية وتوحيد الرأي العام التركي بعد أن تراجع تأثير الجنرالات الكماليين بمجلس الأمن القومي في صناعة هذه السياسة التي لم تأخذ الرأي العام التركي في اعتبارها...
وعبر السيد أردوغان عن ذلك بقوله:
إن ”تركيا ليســت دولة حديثة الدور، ولا دولة عديمة الجذور، وليست كذلك دولة صغيرة ولا ضعيفة، ولا يمكن لأحد أن يحاول جس نبض تركيا وصبرها.
وكما يحمل أصدقاء تركيا صداقة قوية، فإن أعداءنا يواجهون عداء قويًا في الوقت نفسه...
وأن الموقع الجغرافي لتركيا يحتم عليها القيام بدور إقليمي نشط في منطقتي الشرق الأوسط والبلقان.
”ولن نسمح بممارسة القوميــة الاثنية أو الدينية، ونحن ضد كل أشــكال التمييز، ونحن نؤمن بأن تركيا القويــة هي التي تضم كل الهويات.
ذكر أردوغان أن ”تركيا ليست بلدًا يحدد له جدول اعماله بل بلد يحدد بنفسه جدول أعماله ويسهم في تحديد وجهة الأحداث المحيطة به.
لقد تحولت تركيا إلى بلد ذي ثقل وتأثير، وإلى لاعب مؤسس للنظام الإقليمي والدولي وهذا لم يعد خيارًا بل حتميةً تاريخيةً.
وفي نهاية العام 2012 اندلعت أولى المعارك في شمالي سوريا وهي؛ المنطقة ذات الغالبية الكردية المحاذية للحدود التركية، عندما اجتازت العديد من المعارضة المسلحة الحدود التركية وهاجمت قوات النظام السوري التي كانت متمركزة في مدينة رأس العين وعلى إثر سيطرت تلك الفصائل على المدينة تشكلت "وحدات حماية الشعب"، وتعرف اختصارا بـ (YPG)، وهي تعد الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
ولا يزال «حزب الاتحاد الديمقراطي » يعتبر نفسه متفرعًا عن «حزب العمال الكردستاني» ويعبّر حتى الآن عن تعاطفه مع محنة أوجلان وقلقه إزاءها كما حصل في مؤتمر الحزب الأخير الذي عقد في بروكسل في أيلول/ سبتمبر 2016.
والمقاتلون من «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «حزب العمال الكردستاني» يتنقلون ما بين الطرفين.
ولا تزال قيادة «حزب العمال الكردستاني» المعتكفة في جبال قنديل النائية على مقربة من حدود «حكومة إقليم كردستان» مع إيران وتركيا، تملك بعض النفوذ على قرارات «حزب الاتحاد الديمقراطي».
وبظهور حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب بالقرب من غرب الفرات والحدود الجنوبية لتركيا أدرك رجل الدولة السيد أردوغان أن واقعا جيو سياسيا واستراتيجيا قد تشكل على الحدود الجنوبية لتركيا وبات هذا الواقع يهدد الأمن القومي التركي من ثلاثة اتجاهات.
تهديدات من الجنوب
«حزب الاتحاد الديمقراطي»، ووحدات حماية الشعب وهي جماعة سورية كردية، وتنظيم «داعش » والرئيس السوري بشار الأسد.
وقد تطرح التساؤلات المشروعة الاتية:
كيف يمكن للاستراتيجية العسكرية التركية أن تتعامل مع خطر ظهور «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» و«وحدات حماية الشعب الكردية» بالقرب من الحدود الجنوبية التركية بمنظار شركاء أم أعداء محتملين على المدى المنظور القريب والمتوسط؟
هل هناك فرصة واقعية بتوظيف القوة الناعمة التركية لإمكانية نجاح القوة الناعمة التركية بتحريك القوات الكردية في الجنوب نحو الرقة بدل من تحركها شمالا نحو الحدود التركية؟
وهل من الممكن أن تسهم كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإقليم كردستان العراق بتقريب وجهات النظر وتسهيل تطويق وتحجيم مخاطر حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب على الأمن القومي التركي؟
وإذ تم إيجاد أرضية مشتركة افتراضية بين تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي فما هي مطالب الطرفين عسكريا وسياسيا؟
وهل من الممكن أن يتم الاتفاق على تعهد حزب الاتحاد الديمقراطي وبضمانات أمريكية بالآتي:
1- تعهد «حزب الاتحاد الديمقراطي» على الامتناع عن إرسال الأسلحة إلى تركيا، والتعهّد بتجنب السماح لمقاتلي «حزب العمال الكردستاني» بدخول تركيا عبر أراضيه.
2- تعهد قادة «حزب الاتحاد الديمقراطي» بالتعاون مع كل من المعارضة السياسية السورية، لعزل الرئيس السوري بشار الأسد والتعهد بتوثيق العلاقات مع إقليم كردستان العراق وتنسيق المواقف بينهما أمنيا وسياسيا وعسكريا في منطقتي جبل قنديل وسنجار تمهيدا لدخول محادثات غير مشروطة وبوساطة أمريكية بين حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب وأنقرة؟
ويبقى التساؤل المحوري، هل من شأن قيام علاقة وثيقة مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» ووحدات حماية الشعب أن يمنح كل من أنقرة وواشنطن بعض النفوذ على الجماعات المسلحة الكردية في كردستان سوريا؟
وهل من الممكن أن نجعل من الآتي:
أولًا: توظيف هذه الحقيقة التي تؤكدها المصادر الاستخبارية التركية والامريكية إنّ المناطق الحدودية الخاضعة لسيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» هي تلك التي لا يتم فيها تهريب الأسلحة والمخدرات والأموال إلى تركيا.
ثانيًا: توظيف بوادر حسن النية التي ألزمت «حزب الاتحاد الديمقراطي» بالاتفاق الذي أبرمه عام 2012 والقاضي بتفادي الهجوم على تركيا، وعلى وجه التحديد وهي حماية منطقته الخاصة داخل سوريا عوضًا عن نقل الصراع الكردي عبر الحدود.
إن يجعل كل من «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية الشعب» شركاء محتملين لتركيا - لا تهديدًا لها - في ضمان حدودهم المشتركة بوجه «حزب العمال الكردستاني» أو تنظيم «داعش» أو التنسيق على اسقاط نظام بشار الأسد أو المساهمة في تحجيم النفوذ الروسي والإيراني في سوريا وأخيرا ممكن أن يسهم في زيادة التقارب مع إقليم كردستان العراق؟
وهل ربما سنشهد قيام «حزب الاتحاد الديمقراطي» بقطع أو على الأقل تجميد علاقاته مع حزب العمال الكردستاني سؤاء في مجال تبادل الخبرات والمعلومات الاستخبارية وإيقاف للدعم اللوجستي والعسكري بينهما (وهو احتما ل غير وارد على المدى القريب أو المتوسط)؟
وإنه لن يقطع أبدًا علاقاته مع «حزب العمال الكردستاني»، لكنّه قد يقتنع بالحد من التوتّرات مع تركيا واحترام مصالح أنقرة؟
ومن شأن مثل هذه النتيجة أن تساعد في تركيز جهود جميع الأطراف التركية والأمريكية وحزبي الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب وإقليم كردستان العراق نحو هدفين:
الأول: مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية بإنهاء ملف داعش.
الثاني: التنسيق مع فصائل المعارضة السورية المسلحة لعزل الرئيس السوري بشار الأسد.
وإذا تحقق الاتفاق على هذين الأمرين ربما تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد «وحدات حماية الشعب» - الجناح العسكري لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري - بالأسلحة الثقيلة، بما في ذلك قاذفات صواريخ مضادة للدبابات ومضادة للطائرات.
وكانت «وحدات حماية الشعب» قد ساعدت على استعادة السيطرة على الأراضي التي كانت بحوزة تنظيم «داعش في العراق والشام».
إن محصلة الاجابة على هذه التساؤلات السابقة الذكر سوف تساعد في فهم مبررات دخول حكومة أردوغان بمفاوضات جدية مع حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحة العسكري وحدات حماية الشعب من جهة، وإن الدافع وراء سياسة تركيا في سوريا سيكون كامنًا في الفرص التكتيكية بدلًا من الاعتبارات الاستراتيجية من جهة أخرى؟
ويمكن الآن تحديد المبررات والدوافع التي دفعت الرئيس التركي أردوغان بوصفه رجل دولة بالدخول بمفاوضات جدية مع حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب وبوساطة أمريكية وبتنسيق مع حكومة إقليم كردستان العراق وكما يلي:
أولًا: إن تركيا غير مستعدة أن تهدد أمنها القومي باستمرار وجود جماعات مسلحة كردية على حدودها مدعومة أمريكيا؟
وبنفس الوقت أنه لا يمكن تجاهل المصالح التركية في سوريا ولا تجاهل معاييرها في أمنها القومي، وبأن عدم التنسيق التركي الأمريكي من شأنه أن يضر بمصالح البلدين معا؟
ثانيًا: سنجار بالنسبة لحزب العمال الكردستاني أقرب بكثير إلى روجاڨا الأمر الذي يتيح لـ «حزب العمال الكردستاني» خطوط اتصال ولوجستيات ممتازة مع الأراضي الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب».
وأن تركيا تحاول بجدية أن تقطع الطريق على حزب العمال الكردستاني من تشكيل قواعد عسكرية ومقرات قيادة سيطرة وتحكم وبنى تحتية في سنجار من جهة، وقطع خطوط الاتصال والدعم والتنسيق اللوجستي وتبادل المعلومات الاستخبارية بين حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في شمال سوريا، من جهة أخرى.
إلّا أنّ منطقة سنجار الجبلية توفر لـ «حزب العمال الكردستاني» ميزة الأرض الوعرة الأكثر ملاءمة لتكتيكات الحرب غير النظامية التقليدية التي يخوضها، ضد تركيا، ويوفر الجانب الشمالي من جبل سنجار تحصينيات طبيعية تكاد تكون مشابهة للتحصينات الاستراتيجية لقواعد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، وبالتالي أدركت القوات المسلحة التركية أهمية هذا الأمر وبالتالي ستحاول بشتى الطرق منع تكوين جبل قنديل ثاني بسنجار يهدد الأمن القومي التركي؟
ثالثًا: أدركت القيادة العسكرية التركية بأنها مرغمة على قبول تسليح الولايات المتحدة الأمريكية لوحدات حماية الشعب وهو الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي بالأسلحة الثقيلة مع مخاوفها المشروعة من أن تنقل هذه الأسلحة الثقيلة إلى حزب العمال الكردستاني.
وعلى الرغم من أن الأسلحة الثقيلة قد تُمكّن «وحدات حماية الشعب» من الاستيلاء على مزيد من الأراضي الواقعة تحت سلطة تنظيم «داعش واسقاط نظام بشار الاسد ان تم التنسيق مع بقية فصائل المعارضة السورية ؟
وإن التخلي عن «حزب الاتحاد الديمقراطي» يمكن أن يدفع بالأكراد السوريين نحو روسيا، وهو ما يعرض مصالح كل من واشنطن وأنقرة للخطر.
ووفقًا لذلك، فبينما يجب على واشنطن أن تفكر في عدم توفير الأسلحة الثقيلة إلى «حزب الاتحاد الديمقراطي»، تحتاج تركيا إلى بناء علاقات جيدة مع الجماعة والمصالحة مع «حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب».
رابعًا: إن الهدف الإسمي لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو تحقيق الاستقلال الذاتي الإقليمي والدفاع عن المناطق الكردية في سوريا ضد تنظيم «داعش».
لكن لدى «الحزب» جدول أعمال أكثر طموحًا: فبعد أن صدت قواته هجومًا قام به تنظيم «داعش» مع مساعدة من الولايات المتحدة ومن قوات التحالف في وقت سابق من هذا العام، شن «حزب الاتحاد الديمقراطي» هجومًا لتوحيد الكانتونات الحدودية الكردية تحت هدف قطع طرق التهريب التي يستعملها تنظيم «داعش» إلى تركيا.
وقد، استولت الجماعة على تل أبيض - المنطقة الكردية التركمانية العربية المختلطة.
وربما نتوقع ان يحاول «حزب الاتحاد الديمقراطي» إقناع واشنطن بالسماح له بالتحرك غربًا عبر نهر الفرات والاستيلاء على منطقة مختلطة من التركمان والعرب والأكراد،
وذلك بهدف توحيد كوباني وجزيرة مع كانتون عفرين.
ومن شأن ذلك أن يشكل حزامًا كرديًا متجاورًا على طول الحدود - وهو خط أحمر واضح لأنقرة. ولعل هذا أحد الأسباب وإن لم يكن أهمها في خطوة تركيا باستخدام القوة الناعمة وكسب حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب كشركاء محتملين بدل من أعداء على المدى المدى المنظور القريب أو المتوسط؟
وربما يتغير تصور أنقرة بأن «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو واجهة لـ «حزب العمال الكردستاني»، الجماعة التي صنفتها الولايات المتحدة على أنها تنظيم إرهابي والتي شنت حربًا على الحكومة التركية منذ عقود؟
ولكن هذا التغيير التركي مشروط بضمانة امريكية على الالتزام بالخط الأحمر الذي وضعته أنقرة والذي ينص على أنه لا يمكن لأي قوات كردية عبور غرب الفرات، بضمها قوات حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب ؟
خامسا : لا يمكن لأنقرة أن تتجاهل الأكراد في الكردستان السوري وإلا سيكون البديل توجه حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب نحو روسيا ونظام بشار الأسد؟
إن دعم روسيا لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«حزب العمال الكردستاني» سيضع هاتان الجماعتان في موضع «حزب الله» بالنسبة إلى إسرائيل؟
وربما يكون المزيج المناسب من المحفزات من واشنطن وأنقرة هو حث "حزب الاتحاد الديمقراطي" على أن يصبح حليفًا محل ثقة لكل من الأتراك والأمريكان؟
خاصة وأن تركيا وحسب مصادرها الاستخبارية تدرك أن الولايات المتحدة الأمريكية قد التزمت من العام 2013، بالبرنامج السري لـ "وكالة الاستخبارات المركزية" الأمريكية المعروف باسم "قيادة العمليات العسكرية"والذي بموجبه يتم تزوّيد الأسلحة والتمويل
لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي وجناحه المسلّح المعروف بـ «وحدات حماية الشعب»، علمًا أنّ «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو الفرع السوري لـ «حزب العمال الكردستاني» - جماعة تركية تحارب أنقرة منذ عام 1984 - وهو مُدرج على لائحة وزارة الخارجية الأمريكية للإرهاب منذ عام 1997.
وأخيرا سيكون أحد شروط تركيا بكسب ود حزب الاتحاد الديمقراطي كشركاء محتملين وليسوا أعداء في الفترة المقبلة أن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية ضمانات لتركيا تلزم فيها حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب بعدم التعرض أو شن هجمات على كل من تركيا والتركمان في حلب والذين تجمعهم بأنقرة روابط عرقيّة وخاصة لوائي (لواء السلطان مراد ولواء السلطان محمد الفاتح)...
وأخيرا ربما ترى أنقرة إن من شأن ترشيد الدعم العسكري الأمريكي إلى القوى الكردية في سوريا، أن يفتح بابًا واسعًا للتغيير الديمقراطي في سوريا، بما يرضي معظم الأطراف الإقليمية المتنافسة إسرائيل وتركيا وإيران والسعودية، وأن يجعل من النموذج الكردي "بتعاونه مع باقي مكونات الشعب السوري" مفتاحًا لحل طويل الأمد بدلًا من يكون بابصا لحرب داخلية جديدة أيضًا ستكون طويلة الأمد. ومن هذا المنطلق، لا يعود الدعم الأمريكي لكل من «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية الشعب» بمثابة تهديد لتركيا وإخلالا بالعلاقات الاستراتيجية التركية الأمريكية، وحتى إذا افترضنا استمراره بعد تحرير الرقة وهزيمة تنظيم «داعش »، بل يصبح في الواقع حسنة تصب لصالح الأمن القومي التركي.
أما بالنسبة لتركيا، فقد تشمل الحصيلة المثلى استخدام القوة الناعمة لكسب ود «حزب الاتحاد الديمقراطي» وجناحه العسكري «وحدات حماية الشعب» كشركاء محتملين في المدى المنظور القريب، ولكن تركيا ستكون مستعدة للذهاب إلى أبعد الحدود للدفاع عما تعتقد بأنه يهدد أمنها القومي.
وهذا ما أكده نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش لصحيفة حرييت في 5/ تموز 2017: "إذا لاحظت تركيا تحركًا لـ «وحدات حماية الشعب» في شمال سوريا بما يشكل تهديدًا لها، فسوف تردّ بالمثل".
٢٥ يوليو ٢٠١٧
لم تكن المعارضة السورية في حاجة إلى القرار الأميركي الأخير بوقف تمويلها وتسليحها لتدرك المصير السيئ الذي ينتظرها. فالحقيقة أن الأجواء التي تعيش المعارضة تحت وطأتها تعود إلى مناخ دولي أخذ يتصف بالتخلي عن المبادئ والأسس الأخلاقية والإنسانية التي كان البعض واهماً أن العلاقات الدولية ترتكز على شيء منها، مناخ يطلق عليه أصحابه صفة «الواقعية» وتدفع المعارضة ثمنه.
وفي ظل هذا المناخ يتجه العالم إلى التراجع عما كان مطلباً أساسياً لحل الأزمة السورية، تمثل ذات يوم بالمطالبة بتخلي بشار الأسد عن الحكم. ألم يكرر المسؤولون الغربيون، وفي أكثر من مناسبة، أن رئيساً ارتكب بحق شعبه ما ارتكبه الأسد لا يجوز أن يكافأ بقبول بقائه في السلطة، لمجرد أنه تمكن من القضاء على قسم كبير من هذا الشعب؟
إبعاد الأسد الذي كان الرئيس دونالد ترامب أحد الذين طالبوا به، يبدو الآن أنه تم التراجع عنه بفضل تلك «الواقعية».
فالتقارب بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، والموقف الجديد الذي اتخذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعدم اعتبار تنحي الأسد شرطاً مسبقاً لأي تسوية، والذي يشكل انقلاباً على مواقف سلفيه نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند، ثم التباعد الأميركي - التركي، نتيجة دعم واشنطن القوات ذات الأكثرية الكردية في الشمال السوري، (قوات سورية الديموقراطية)، كلها عوامل لا بد أن تقرأ فيها المعارضة السورية تخلياً عنها، وبحثاً عن مخارج وحلول أخرى لأزمة بلغت من العمر سبع سنوات، أي ما يعادل عمر الحربين العالميتين.
هكذا، تدفع المعارضة السورية مرة جديدة ثمن الالتفاف الدولي حول رقبتها. وإذا كانت هذه المعارضة قد راهنت على أن الضمير العالمي لا بد أن يفيق أمام مشاهد القتل والدمار والخراب التي لحقت بالسوريين وببلدهم، وأن يحاسب المسؤولين عن ارتكاب هذه الفظاعات، فها هي تكتشف الآن انها متروكة، أو ما بقي منها، لتقتلع شوكها بيديها.
قرار وقف تمويل المعارضة المعتدلة لم يكن مفاجئاً إذاً. ففي ظل التفاهمات الأميركية - الروسية التي أنجبت الهدنة الجنوبية في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، والتي تعد بإنجاب تفاهمات في مناطق أخرى، يمكن أن تشمل حمص وريف دمشق، كان طبيعياً أن يتقارب موقفا الدولتين المسمّاتين عظميين. هكذا، رحبت موسكو بالقرار الأميركي وقف تسليح المعارضة، فيما نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤولين في إدارة ترامب أن هذا القرار يعكس الاهتمام الأميركي بإيجاد سبل للعمل المشترك مع روسيا.
لقرار وقف تسليح المعارضة السورية أسباب سياسية أميركية، لا يصح تحميل إدارة ترامب وحدها المسؤولية عنها. فالتخلي عن المعارضة والإساءة إلى مطالبها المشروعة يعودان في الواقع إلى عهد باراك أوباما الذي كان بليغاً ومفرطاً في الخطب، وعاجزاً ومشلولاً عندما يأتي وقت الفعل. أوباما هو الذي قال أنه لا توجد معارضة معتدلة داخل سورية قادرة على هزيمة بشار الأسد والمجموعات الجهادية. ووصف المعارضين بأنهم مجموعة من المزارعين وأطباء الأسنان والمدرسين الذين لم يسبق لهم أن حاربوا. وإدارة أوباما هي التي مارست ضغوطاً على حلفائها لتحول دون دعمهم وتمويلهم المعارضةَ.
للقرار الأميركي أيضاً أسبابه الموضوعية على الأرض. فتشتّت المعارضة إلى معارضات، ووصول أسلحة أميركية إلى أيدي تنظيمات إرهابية مثل «داعش» و «النصرة»، نتيجة الحروب المتنقلة بين الفصائل، انتهيا إلى قناعة أميركية بأن أموال دافع الضرائب الأميركي تذهب سدى، بعد أن أنفقت الولايات المتحدة ما يقارب نصف بليون دولار على برنامج دعم المعارضة الذي كانت تشرف عليه وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي). وكانت النتيجة الواضحة على الأرض، تقاسم الجغرافيا السورية بين الإرهابيين من جانب ونظام بشار الأسد من جانب آخر، فضلاً عن التناحر التركي - الكردي الذي يضيف لوناً آخر إلى هذه الخريطة المهشمة.
٢٥ يوليو ٢٠١٧
انطلق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يوم الأحد 23 تموز/يوليو، برفقة ثلة واسعة من الوزراء والهيئات إلى الخليج، في إطار جولةٍ رسميةٍ يُجريها بهدف المساهمة في حل الأزمة التي نشبت بين بعض دول الخليج، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، من جهة، وقطر من جهةٍ أخرى. تشمل جولة الرئيس أردوغان المملكة العربية السعودية والكويت وقطر.
تُوصف الجولة، وفقاً لما تورده الصحف التركية، بأنها جولة "سلام" ترمي إلى حل الأزمة الخليجية، إلا أن الشخصيات والهيئات المرافقة للرئيس أردوغان، كوزير التجارة والجمارك ووزير الاقتصاد ووزير المصادر الطبيعية وهيئة العلاقات الاقتصادية الخارجية، تؤكد أن الزيارة لا تأتي في ضوء حل الأزمة وتأكيد دعم تركيا لقطر فحسب، بل تأتي في إطار حرصها أيضاً على الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع المملكة العربية السعودية. تلك العلاقات التي أدت، ولا زالت، إلى تعاون دبلوماسي وعسكري جيد يعود على تركيا بالفائدة الملموسة.
ولعل تصريح وكالة الأنباء السعودية "واس" بأن المباحثات تطرقت إلى العلاقات المتبادلة بين البلدين، وتطورات الأوضاع في المنطقة، يبيّن تنوع أهداف زيارة أردوغان التي رمت، على ما يبدو، إلى المساهمة في إنجاح جهود الولايات المتحدة والكويت كوسطاء في الأزمة، بالإضافة إلى بحث أزمة الأقصى الأخيرة.
وفي سياق ما يمكن تقييمه في إطار سياسة "اصطياد الفرص"، يبدو أن الرئيس أردوغان وجد الزيارة فرصة مناسبة للتأكيد على دعمه للكويت في استتباب أمنها ضد التحركات الخارجية التي تُتهم إيران بالتخطيط لها. وربما الموقع الجيو ـ سياسي للكويت، والذي يتوسط الخليج العربي والعراق ـ الحليف المقرب جداً لإيران ـ والحاجة الكويتية لتنويع المصادر الاقتصادية، والمقام الكويتي المرموق في منطقة الخليج، حيث يوصف أميرها "بوسيط الخير بين الأخوة"، وغيرها، عبارة عن عوامل عدة تجعل هدف أردوغان من الزيارة ليس فقط دعم جهود حل الأزمة، بل النظر في عرى التعاون بين بلاده والسعودية والكويت.
من جديد، اتسمت تصريحات أردوغان التي أدلى بها، قبل الانطلاق في جولته، بالدعم التام لسياسة قطر حيال الأزمة، حيث وصفها بالسياسة "العقلانية". وعلى الأرجح، تتمحور زيارته لقطر حول النظر في الحلول المناسبة لقطر وبالتالي لبلاده، ووضع هذه الحلول ضمن أجندة الجهود الأمريكية والكويتية. وما يؤكد ذلك، تأكيد الصحف التركية، المقربة من الحكومة التركية، رغبة بلادها في استغلال فرصة زيارة أردوغان لقطر في رسم سياسات تنتج عنها "حلول جذرية" لمنع تكرار مثل هذه الأزمات. وفي سياق ذلك، نجد أن تصريحات وزير الدول القطري لشؤون الدفاع، خالد العطية، حول التحضر لإجراء مناورات عسكرية مشتركة بين القوات الأمريكية والقطرية والتركية، تصب في صالح الموقف التركي الذي ثبت على موقفه من وجود القاعدة العسكرية في قطر، حيث ستحصل تركيا، من خلال هذه المناورات، على تأكيد دولي لشرعية وأهمية قاعدتها في قطر. ويبدو أن هذه النقطة هي أكثر النقاط الواضحة حول النتائج الإيجابية التي حصلت عليها تركيا جراء موقفها الداعم لقطر.
ومن الممكن تبرير رغبة الحكومة التركية في دعم الموقف الأمريكي والكويتي في حل الأزمة سريعاً، وعدم فتح خارطة طريق جديدة لعملية الحل وفقاً للعوامل التالية:
1ـ ظهور ملامح تدعم ميزان القوى الخاص بقطر على حساب دول الأزمة الأخرى، كتوقيع مذكرة "محاربة الإرهاب" بين قطر والولايات المتحدة، وزيارة رئيس الأركان الأمريكي، الجنرال جوزيف دانفورد، لقطر، التطورات التي قيمتها الحكومة التركية، وفقاً للتصريحات الصحفية الواردة، على أنه دعم أمريكي للموقف القطري، ودفعتها لعدم فتح خارطة طريق جديدة لعملية الحل، بخلاف خارطة الطريق الخاصة بالطلبات القطرية، والتي تقيم على أنها دعم تركي للموقف القطري، وليس محاولة تركية لحل الأزمة.
2ـ الأجندة التركية التي تحتل أولوية "تقاسم النفوذ" في سوريا درجتها الأولى، وتخشى تركيا من تأثير استمرار الأزمة سلباً على مصالحها في سوريا تلك المصالح المتدهورة أصلاً. وفيما يمكن تقييم "التوسط المصري" لتهدئة الأوضاع في الغوطة الشرقية، على أنه تأثير سلبي على النفوذ التركي القطري السعودي المشترك في المنطقة، والذي، أي النفوذ، أصيب بحالة ضعف نتيجة الأزمة، يمكن الإشارة إلى أن الرغبة التركية في الحفاظ على المصالح الاقتصادية والدبلوماسية التي استطاعت بناءها بشكل أقرب ما يكون إلى الاستراتيجي مع بعض دول الخليج، كمجلس التعاون الاستراتيجي السعودي التركي، تشكل عاملاً آخر في دفع تركيا لعدم فتح باب منفصل عن الجهود الأمريكية الكويتية لعملية الحل.
3ـ الهوية الاستراتيجية: كانت تركيا تخشى من إمساك دول الإقليم والدول العظمى بتهمة دعم الإرهاب ضد أي دولة تخالف طموحها في الساحة الدولية. وبما أن الهوية التركية السياسية الخارجية الاستراتيجية تخالف تحركات أكثر من دولة في المحيط والعالم، وجدت تركيا أنه من الجيد تسريع عملية الحل ضمن الجهود المبذولة، لحفظ هويتها الدولية من التشويه على صعيد استراتيجي، وبالتالي الحفاظ على دورها الفاعل في الساحة الدولية من دون مهاجمة إعلامية مضادة.
في الختام، لا تصب الأزمات في صالح أي طرف من الأطراف الفاعلة في العلاقات الدولية. وهذا ما دفع تركيا للتحرك صوب المساهمة في حل الأزمة التي وضعتها في اختبار صعب أرغمها على ضرورة اللعب ببراعة للحفاظ على علاقاتها مع دول الأزمة بشكل متوازن.
٢٥ يوليو ٢٠١٧
كما جاءت هدية عباس إلى رئاسة مجلس الشعب السوري، في هالة من الصخب والضجيج الإعلاميين، غادرت بالأسلوب نفسه، ولم لا فالمخرج المتذاكي واحد..؟ ففي مجيئها منذ سنة وشهرين، كانت المرأة الأولى في تاريخ سورية الحديث التي تشغل هذا المنصب الرفيع، ما يؤكد علمانية النظام، وتوافقه مع روح العصر ولغته، فهو نصير للمرأة، في وقتٍ تَرْجُمُ فيه داعشُ (العدو الأول للعالم اليوم) النساءَ أحياءً حتى الموت، وفي مشاهد كريهة مقززة.. أما مغادرة عباس فلمخالفتها الديمقراطية التي يحرص عليها النظام منذ خمسين عاماً، إذ هو نظام عصري، لديه برلمان فيه أعضاء أحرار في كلمتهم، وفي تصرفاتهم، لا يخشون في الديمقراطية لومة لائم، لا وصاية على كلمتهم ولا رقابة. ذلك، بالضبط، ما أرادت قوله عملية الإقالة التي استوقفت كثيرين ممن يعرفون مجريات الأمور داخل المجلس المعدود واجهة للديمقراطية، لـكنها مع الأسف "الـديمقراطية المغدورة" منذ الثامن من مارس/ آذار 1963، كما هكذا أسماها الباحث عدنان بدر حلو في كتابه "سورية الخمسينيات.. الديمقراطية المغدورة من عسكر الدولة إلى دولة العسكر".
يعدُّ مجلس الشعب في سورية بمثابة السلطة التشريعية في البلاد، ولكنه ليس أكثر من رمز لديمقراطية مقصوصة الجناحين، ولنظام القرار فيه منوط بمؤسستين، تتماهى الواحدة منهما بالأخرى، العسكرية والأمنية، فكيف يتأتى لـ 164عضواً من مجموع أعضاء مجلس الشعب السوري (250 عضوا) أن يعتصموا داخل المجلس، احتجاجاً على تصرُّف رئيسته هديّة عباس لإيقافها، كما قال المخرج الألمعي، الأعضاءَ عن متابعة مناقشة موضوع جلستهم، وهو النظام الداخلي.
ولأن الحديث غير مقنع لكل من خبر طبيعة النظام السوري الذي تشرف قمته، بهذا القدر أو ذاك، على تعيين أو إقالة أصغر مستخدم في أي بلدية نائية، جاءت التفسيرات ممن هم على دراية بخفايا الأمور، إذ أوضح أعضاء أن رئيسة المجلس كانت قد "شاركت بجلساتٍ وصفت بأنها حامية، في ملفات كثيرة، منها إلغاء التعتيم "الفيميه" عن زجاج سيارات رجال الأمن والسياسيين والحكوميين.. كما أنها ساهمت، وهذا الأهم، بإلغاء فقرة من مرسوم كان بشار الأسد قد أصدره عام 2007، ويحمل الرقم 30 يتعلق بإعفاء العسكريين من الخدمة، إذ كان هذا المرسوم ينص في الفقرة ح على أنه يحق للقيادة العسكرية العامة إعفاء أيِّ أحد من الخدمة الإلزامية. فشطب هذا الاستثناء، وألغيت الفقرة من المرسوم. ولعلَّ هذا الأمر جرى تحت ضغط حاجة الجيش السوري إلى عناصر جديدة، بعد أن فقد من فقد من ضباط وجنود، ما يعني أنَّ هذا الإلغاء حاجة "وطنية ماسّة.." ولكن نتائج شطب هذه الفقرة لم ترضِ بعض كبار العسكريين، إذ تتطلب إعادة عرض المعفيين من الخدمة العسكرية، مرة أخرى، على لجنة فاحصة للتأكد من "سبب إعفائهم السابق". وهذا ما قد يثير فضائح فساد نتن في المؤسسة التي تتصدى "للإرهاب".
ويبدو أنَّ هذه الوقائع تعطي تفسيراً مقارباً للحقيقة، ومتماشياً مع ممارسة النظام الذي اختطه حافظ الأسد خلال فترة حكمه، وسار على خطاه بشار! فالمسألة تتعلق بما تُعرف، في النظام السوري، بقدسية المؤسسة العسكرية، وهيبتها اللتين تأتيان مباشرة بعد هيبة الرئيس وقدسيته، وهي بالطبع متماهية مع المؤسسة الأمنية، العسكرية أصلاً.. ومفيد هنا الاستشهاد بحادثةٍ قديمةٍ، جاء على ذكرها الصحافي الفرنسي دانييل لوكا في كتابه "سورية الجنرال أسد"، وترجمه الدكتور فايز القنطار، أنقلها بإيجاز:
في خريف 1987، وأواخر عهد وزارة المهندس الدمشقي عبد الرؤوف الكسم، الذي أثار وجوده بين كتلةٍ من الفاسدين، تساؤلات جمَّة، فالرجل معروف بنظافة يده.. أمر الكسم، بناء على طلب حافظ الأسد بالذات، باعتقال ابنة عم زوجة وزير الدفاع، مصطفى طلاس، لإدارتها بعض حلقات الفساد، فاجتمعت، حينذاك، المؤسسة العسكرية العليا، وكلَّفت طلاس بالتوجه إلى حافظ الأسد لإبلاغه ما جرى من تجرؤ على المؤسسة العسكرية! وكان العماد يصرخ في كل مكان غاضباً: "لسنا عائلة تعمل في التهريب، فأنا أدير كل سنة موازنة تزيد على 25 مليار ليرة سورية، ولست بحاجة للتهريب (...) هذا يمثل إهانة للجيش وللحركة التصحيحية، وهو ضد الذين صنعوا حرب تشرين كلهم".
المهم أن الأسد وافق، لكنه عاد، بعد يومين، ليخبر العماد طلاس بأنه سيعيد تكليف الكسم برئاسة الوزارة، لأنه رجل شريف، ويمتلك الكفاءة اللازمة، "ولم يجد خلفاً مناسباً له..". عندئذ اتصل إبراهيم الصافي (قائد إحدى أهم الفرق العسكرية) بعبد الرؤوف الكسم، بعد أن أبلغه طلاس قرار الرئيس بساعتين، وليقول له مهدّداً: "إذا أردت أن ترى، وأنت على قيد الحياة، زوجتك وأولادك، ننصحك برفض اقتراح الرئيس". وهكذا كان.. وجيء بمحمود الزعبي.
ومن تجربتي بشـأن أسلوب العمل في مجلس الشعب، أسوق هذه الحادثة ذات الصلة بالموضوع.. في أواخر العام 2004، بدأ المجلس يناقش تعديل قانون العاملين الموحد، واستعدّ لذلك النواب الشيوعيون والبعثيون والفريق البرلماني لاتحاد العمال، وغيرهم، للعمل على إلغاء المادة 137 من القانون التي تجيز للسلطة التنفيذية تسريح العاملين من دون أي سبب يتعلق بالعمل، بل وفق عبارة فضفاضة "مقتضيات المصلحة العامة"، ما يعني تسريحاً تعسفياً يستند إلى تقارير أمنية، غير نزيهة دائماً، ولأغراض سياسية محضة.
وبالفعل كان للمجلس ما أراد، لكن السلطة التنفيذية، ممثلة برئيس الجمهورية، أعادت مشروع القانون لعرضه ثانية وفق الدستور.. وفتح، آنئذ، رئيس المجلس، محمود الأبرش، المناقشة، طالباً إعادة نظر المجلس بالمادة، وكان أوَّل المتحدثين العضو زهير الناعم الذي أكَّد قرار المجلس، مشيراً إلى مادة في الدستور، تقول إنه في حال إصرار المجلس على رأيه لدى أي خلاف بينه وبين السلطة التنفيذية، فالقرار عندئذ للمجلس. وتقدّم زميل آخر ليؤكد ما قاله الناعم، فاكتفى رئيس المجلس بهذين الرأيين، وأقفل المناقشة، ولم يعارضه أحد، وليجري فيما بعد التفافٌ على المادة المعنية، بعد أن غير كثيرون رأيهم، لتظل المادة قائمة سيفا على رؤوس العاملين.
وثمّة أمثلة كثيرة على أنّه لا سلطة لمجلس الشعب السوري، فهو ليس أكثر من منتدى عام، له حرية قول ما يشاء، تاركاً الفعل للسلطة التنفيذية، ومرجعها الأساسي رئيس الجمهورية الذي يستند، في قراراته الأساسية، إلى المؤسستين، العسكرية والأمنية. وحتى في مجاله، باعتباره سلطة تشريعية، يقدم مشاريع قوانين، ومناقشتها وإقرارها.. وحينما يفعل تعرقلها السلطة التنفيذية، وخصوصاً حين لا تتوافق مع توجهاتها. ومن هنا، ترى الحديث عن ضرورة فصل السلطات على ألسنة من يهتم بالشأن السوري. وما حصل بشأن إقالة هدية عباس ليس أكثر من مسرحية كوميدية بإخراج رديء. ولو كان لمجلس الشعب السوري أن يقيل رئيسه، لأقال وزيراً واحداً أو مديراً عاماً من الفاسدين السابقين، أو ممن تناسلوا كالفطر في ظل الحرب القذرة التي فرضها النظام على الشعب الذي لم يحرّك مجلسه "الديمقراطي" جداً ساكناً، بل طبَّل وزمَّر..
أخيراً: لو كان لمجلس الشعب أن يقيل رئيسه، لما تدمرت سورية، كما يشتهي المتربصون بها، وفي مقدمتهم إسرائيل.
٢٥ يوليو ٢٠١٧
لو أجرينا اليوم استفتاء في أيّ بلد عربيّ: من الذي يؤيّد نظاماً ينهض على مبادئ القانون والحرّيّة والمساواة، لانتهينا إلى أقلّيّات هزيلة تؤيّد. هذه الأقلّيّات زادها ضموراً انهيار الثورات العربيّة ما بين تحطيم خارجيّ وتحطيم ذاتيّ، فاندفع البعض إلى إيثار الوضع القائم، أي الاستقرار والأمان كيفما اتّفق. تلك الأقلّيّات إيّاها يُرجّح أن تزداد ضموراً: ذاك أنّ الأديان والطوائف والإثنيّات، المتورّطة في النزاعات، ستستعيد بعض أبنائها «الضالّين» الذين لا تزال تتوزّعهم الحيرة بين العقل والغريزة، أو بين الضمير والجماعة. في المحيط العريض، سوف يزداد الالتحام بالبنى التقليديّة طلباً للحماية و/أو طلباً للترقّي. ما تبقّى من حقوق الإنسان سيُسحق، والمنظّمات والجمعيّات التي تدافع عنها ستبحث عمّن يدافع عنها.
تجربة لبنان مع اللاجئين السوريّين اليوم تقول، للمرّة الألف، إنّ الاختلاف في درجة الصلة بحداثة وحيدة الجانب، حداثةٍ من دون القانون ومن دون النزعة الإنسانيّة، لا يعني الكثير على صعيد كهذا.
الوضع الموصوف سوف يضعنا، في مستقبل بدأت نذره بالظهور، أمام مأساة تتجاوز المآسي التي سبقت، لتولّد سلسلة لا متناهية من المآسي. فلا الحاكم سيكون قابلاً للمساءلة، ولا زعيم الطائفة، ولا شيخ العشيرة. الاستبداد سيهبط من موقعه المركزيّ إلى تضاعيف العلاقات الاجتماعيّة في جميع مستوياتها الدنيا. معه ستشعّ علينا كراهيّات مقدّسة بلا حدود، وستُفتح عرسالات لا نهاية لها.
لكنْ لنتذكّر قليلاً التسعينات، عقد «العرس الديموقراطيّ» الكونيّ، بالجدّيّ فيه والفولكلوريّ. يومذاك بدا النشاز العربيّ في عدم الطلب على الديموقراطيّة مدعاة لطروحات بائخة وتبسيطيّة عن «صراع الحضارات». اليوم، وفي معزل عن تعداد الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ستبدو الهوّة أكبر بلا قياس ممّا كانت عليه في التسعينات. إلى ذلك، ستكون الهجرة الكثيفة التي شهدها العامان المنصرمان الصنّارة التي سيصطاد بها الكثيرون صيدهم المسموم، متأكّدين من صلابة براهينهم وملموسيّتها.
ولقائل أن يقول: إنّ الغرب نفسه تردّى ويتردّى، وهذا صحيح. لكنّ الفارق بين تردّيه، أو كبوته، وبين تردّينا، لا تخطئه إلاّ عين المتستّر على انهيارنا، أو من يجمّله. ففي مقابل حروبنا المفتوحة والمؤجّلة، تطالعنا الأخبار يوميّاً باحتمالات عزل ترامب (الذي بحسابات الأرقام رسب في الانتخابات الرئاسيّة). واستطاعت فرنسا أن تبعد مارين لوبن، فيما تتهيّأ ألمانيا لتجديد الانتخاب لأنغيلا مركل. اليمين المتطرّف، فوق هذا، لم يحظَ بموقع مؤثّر في البرلمان الهولنديّ ولا حظي بالرئاسة النمسويّة. حتّى بولندا، تعلن أكثريّتها الكبرى رفضها القانون الجديد الذي يُخضع المحكمة الدستوريّة وتعييناتها للسلطة السياسيّة. إنّها تهبّ دفاعاً عن فصل السلطات. فوق هذا: ليس ما يعانيه الغرب من طينة جيولوجيّة. ليس فناء وبقاء وإعادة تشكّل. نحن نعاني هذا.
ما يقال لا يقال للإيحاء بأنّ سائر العالم يعيش ألمع لحظاته. «هناك»، لا تزال مقاومة الانحطاط تملك ضماناتها القويّة. «هنا»، يملك الانحطاط ضماناته الهائلة القوّة.
هل نحن حيال موجة جديدة من «صراع الحضارات» تطحننا، بعد كلّ الطحن الذي تعرّضنا له في العقود الفائتة؟
الأسوأ أنّه إذا كان هذا التعبير الإيديولوجيّ يتضمّن «وحدة» بين أبناء «الحضارة» في مقابل «وحدة» بين أبناء «الحضارة» الأخرى، فإنّ أحوالنا البينيّة، حروباً وأحقاداً، بليغة جدّاً في فضح هذه النظريّة برمّتها... إلاّ أنّنا قد ننتهي إلى وضع لا نعود معه نملك الصوت واللسان كي نعلن ذلك!
٢٤ يوليو ٢٠١٧
مع انطلاق اللقاءات التشاورية التقنية التي عقدها دي مستورا في لوزان مطلع هذا الشهر (يوليو 2017) بين أطراف المعارضة السورية، انطلقت في المجتمع السوري حملات شعبية ملأت صفحات التواصل الاجتماعي تدعو إلى اعتماد دستور 1950 الذي رسخ بنية الديمقراطية في تلك المرحلة من تاريخ سورية، وأسس لحكم غير طائفي، وقد جاء هذا الدستور بعد أن مرت سورية بحالة قاسية من الفوضى حيث شهدت ثلاثة انقلابات عسكرية في عام واحد هو 1949 وكان الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم (في شهر مارس) أول انقلاب في الشرق الأوسط، وبداية لتدخل الجيش في الحكم بشكل مباشر، وبعد أقل من خمسة أشهر قام سامي الحناوي بانقلاب على الزعيم (شهر أغسطس) وسرعان ما قام أديب الشيشكلي بانقلاب على الحناوي (شهر ديسمبر)! ولعل هذه الأجواء الانقلابية حفزت الشعب السوري على الإصرار على استعادة الحياة الديمقراطية، التي بدت مطلباً شعبياً منذ حكومة علي رضا الركابي عام 1918 حيث تم تأسيس أول تجربة برلمانية عربية بعد نهاية المرحلة العثمانية. والطريف أن الأمير فيصل بن الحسين استعان عام 1919 بالناخبين الذين اختاورا ممثليهم لمجلس المبعوثان لإسطنبول ليكونوا أعضاء المؤتمر السوري العام الذي قام بتعيين الأمير فيصل ملكاً لسوريا، وهو المؤتمر الذي تولى رئاسته بعد فوزي باشا العظم، هاشم الأتاسي الذي ترأس لجنة صياغة دستور 1920.
ولقد قام الانتداب الفرنسي بتعطيل هذا الدستور لأن خطة فرنسا يومذاك هي تقسيم سوريا، وقد فعلت ذلك، ولن أستعرض التفاصيل فحسبي أن أشير إلى أن دستور 1920 انتهى العمل به وانتخبت لجنة جديدة لوضع دستور لسوريا عام 1928 برئاسة إبراهيم هنانو، وأعلن الدستور الجديد أن سوريا جمهورية نيابية عاصمتها دمشق ودين رئيسها الإسلام، وأن بلادها وحدة سياسية لا تتجزأ، وتم في هذا الدستور فصل السلطات، وقد تم تعديله عام 1947 ثم عام 1948 حيث سمح للقوتلي بولاية ثانية، إلى أن جاء انقلاب الزعيم وتم تعطيل العمل بالدستور.
وحين جاء سامي الحناوي بانقلابه كلف الرئيس السابق هاشم الأتاسي بالإعداد لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وكان دستور 1950 الذي سمي دستور الاستقلال، وكان قد ترأس لجنة وضع الدستور الدكتور ناظم القدسي الذي صرح يومذاك بأن اللجنة درست خمسة عشر دستوراً أوروبياً وآسيوياً للوصول إلى أرقى المعايير الدستورية.
وأهم ما جاء به الدستور الجديد هو إنهاء النقاش الحاد حول «دين الدولة» حيث اتفق الجميع على الاكتفاء بأن يكون دين رئيس الدولة الإسلام، وهذا ما كان أقره دستور 1930، كما أقر دستور 1950 تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وزاد من صلاحيات البرلمان، ولكن هذا الدستور لم يحسم موضوع تدخل الجيش في الحياة السياسية، وكانت هناك مادة لم يتم إقرارها.
والمفارقة اليوم أن موضوعات النقاش الجارية في لوزان وفي مواقع أخرى تستعيد ذات القضايا على رغم مرور ستة عقود ونيف، حيث كانت الحوارات وما تزال تدور حول صلة الدولة بالإسلام، وحول حقوق الأقليات، وحول موقف الجيش من السياسة، كما أن هاجس تقسيم سوريا لا يزال خطراً يخشاه جميع الشرفاء من السوريين.
وقد توافقت رؤى أغلب المتحاورين في اللجنة التقنية التي تدرس ملف الدستور حالياً على أن صياغة دستور جديد لسوريا تأتي في سياق عملية انتقال سياسي ضمن محادثات جنيف الراهنة، وينبغي أن يبدأ العمل في إعداد الدستور فور إنشاء هيئة الحكم ذي المصداقية غير الطائفي (كما تسميه البيانات والقوانين الدولية) وسيطرح على النقاش الشعبي العام. ويفترض أن تكون آلية ذلك منوطة بهيئة الحكم التي ستدعو إلى عقد مؤتمر وطني عام، يقوم بتشكيل لجنة صياغة الدستور، الذي سيعرض على استفتاء عام، وتلتزم الأمم المتحدة بالإشراف عليه.
وأعتقد أن إصرار قوى مهمة من الشعب السوري على استعادة دستور 1950 بشكل مؤقت هو توجيه مهم لمن سيقومون بوضع دستور جديد، بألا يخرجوا عن روح هذا الدستور، وأن يرسخوا قيم الديمقراطية ومفهوم المواطنة، وأن يحافظوا على المرجعيات الثقافية التي حافظ عليها الشعب وحافظت بدورها على هويته.
٢٤ يوليو ٢٠١٧
لضمان تفخيخ المعارضة السورية والوفد المفاوض وتطعيمها بمنصّات موسكو والقاهرة بغية استنبات القرار الروسي في المعارضة والوفد المفاوض، يحاول الرّوس فيما يتعلق بوقف إطلاق النار بالغوطة من خلال التنسيق مع أحمد الجربا الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري ورئيس تيار الغد حالياً تهديد الهيئة العليا للمفاوضات والتلويح لها بإمكانية قلب الطاولة ودعم الجربا والتحالف معه إذا لم تسرع في اتخاذ القرار المتعلق بتغيير الهيكلية السياسية للمعارضة. وبشكل عام وحتى إن تم قبول المعارضة الحالية بمنصات موسكو والقاهرة، لن تقبل موسكو والقاهرة بوجود تيارات أو أشخاص غير راضيةٍ عنهم في التكتلات السورية المعارضة، وسيكون أحمد الجربا أحد أعضاء الهيئة العليا للمفاوضات هو البديل المناسب المطروح والذي تشرف موسكو على إعداده وتسويقه كأحد الفواعل المؤثرة بالملف السوري، لا سيما ويعتبر الجربا أحد منافسي رياض حجاب المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات والمعروف بخطه السياسي المغاير للإرادة الروسية، وبعبارة أدق خطه السياسي غير المتطابق مع الإرادة الروسية.
وتؤكد تصريحات قدري جميل رئيس منصّة موسكو والمعارض بشدة لرحيل بشار الأسد بالوقت الحالي، عزم الروس على تغيير جياد المعارضة بالمطلق وعدم الاكتفاء بتطعيمها إلا كخطوة تكتيكية، فمن المعلوم أن السياسة الروسية لا تقبل أنصاف الحلول أو مشاركة الآخر إلا تكتيكيا إن أجبرت على ذلك في مرحلة معينة، فقد كانت تصريحات رئيس منصة موسكو واضحة عندما لمح في مؤتمره الصحفي الأخير في جنيف7 أنّ مفاوضاته مع المعارضين كانت سلسة للغاية، لحين الوقت الذي وصل به رياض حجاب المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات لجنيف، عندها وفجأة تعرقلت المفاوضات وتغيرت المواقف حسب إفادة قدري جميل. بالمقابل ما يبدو استطاعت روسيا إقناع العديد من الفصائل المقاتلة بقبول واجهة سياسية جديدة مقابل وعود سياسية ومستقبلية لن يحققها الروس لهم حتماً، لأن سياستهم لا تقبل الطرف الآخر إلا تكتيكيا ولأهداف مصلحية واستراتيجية. وعليه فعلى قوى الحراك السوري أن تكون أكثر فطنة وتحاول تحقيق أكبر المكاسب الممكنة في ظل المتغيرات السياسية الطارئة، وأولى الخطوات لذلك هو التحالف مع القوى الثورية الأخرى ومن ثم مفاوضة الطرف الآخر، وإلا ستذوب بالطرف الآخر كما يذوب السكر في فنجان القهوة.
٢٤ يوليو ٢٠١٧
استوت الطبخة، وبدأت التعبئة السياسية والإعلامية والشحن الطائفي، والتخويف من النازح واللاجئ، وشد وتر العصبية اللبنانية، تفرز نتائجها. العنوان المعلن لهذه الحملة هو الدفاع عن الجيش اللبناني "سياج الوطن وحامي أمنه وحدوده من الإرهابيين". علما أن لا أحد تعرّض للجيش بكلمة. أما المبطن والمضمر فخطير وخبيث وسلطوي واستبدادي وفتنوي، ناهيك عن رائحة العنصرية التي بدأت تفوح.
بدأت الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي تنافس مزايدة في التهليل للجيش والإشادة به، وشتم النازحين السوريين، خصوصا في أوساط المراهقين والجهلة، بدأت تنتقل إلى وسائل الإعلام وتتوسع، ثم تليها التعبئة في الشارع وعلى اللوحات الإعلانية. وها هي تدخل كل بيت، متخطيةً كل الخلافات السياسية والانتماءات الطائفية والمذهبية. الجيش لا يُنتقد ولا يُمسّ، ولا يمكن إبداء أي ملاحظةٍ تجاه ما يقوم به. ولا يجب حتى أن يُؤتى على ذكره على أي شفة أو لسان، غير التبجيل والحمد، كما في ظل الأنظمة العسكرية. أنه يقاتل ويستبسل في مواجهة الإرهاب وتنظيماته، مثل "داعش" وجبهة النصرة المتغلغلة بين النازحين، بحسب أصحاب الحملة. حتى عندما يخطئ، وجلّ من لا يخطئ، وإذا حصل وأن أخطأ في التعاطي مع بعض من تم اعتقالهم خلال عمليات مواجهة على الحدود الشرقية اللبنانية - السورية، وأدّى هذا الخطأ إلى وقوع أربع ضحايا، فمن غير المسموح أن يحتج أحدٌ، أو أن يطالب بإجراء تحقيقٍ لكشف حقيقة ما حصل، حفاظا على حقوق الموقوف، حتى تثبت إدانته، أو بهدف معرفة حقيقة ظروف من قضى، وحفاظا، في الوقت عينه، على دور الجيش وسمعته وحصانته.
ولأن أحدا تجرّأ، وهو طرفٌ لبناني بطبيعة الحال، ودعا إلى اعتصام رمزي سلمي مرخص، تضامنا مع الموقوفين والضحايا، ومطالبا بكشف حقيقة ما حصل مع هؤلاء الأشخاص، بغض النظر عن جنسيتهم وانتماءاتهم، ارتفعت أصواتٌ تهدّد بالثبور وعظائم الأمور. واشرأبت أعناق وأبواق مأجورة ومسعورة مطلقةً حملة شعواء على النازحين السوريين، "المعتدين على أمننا" و"المتنكّرين لحسن الضيافة"، و"ناهبي خيراتنا ولقمة عيش أبنائنا" و.. و.. وحولت البروباغندا الاعتصام إلى تظاهرة معادية للجيش اللبناني. وأعلن "سعاة الخير"، من حاقدين وبقايا أجهزة، عن تظاهرة مضادة، تضامنا مع الجيش في المكان نفسه. ووسط هذا المناخ المسموم، اندفع متهورون ليلا إلى مطاردة بعض النازحين، والاعتداء عليهم بوحشية. عندها، سارعت وزارة الداخلية إلى التحرّك لضبط الأمور، قبل حصول ما لا تُحمد عقباه. وقد دفعت الوقاحة بالسفير السوري في بيروت إلى حد إصدار بيانٍ يدين فيه "المعاملة السيئة التي يتعرّض لها السوريون من البعض" في لبنان؟!
الخطوة الأولى إذا إيجاد مناخٍ معاد للنازحين السوريين الذين هم بمعظمهم من معارضي النظام، ولجأوا إلى لبنان هربا من القتل ببراميل الأسد المتفجرة. ثم تسويق فكرة أن مخيمات النزوح أصبحت مخترقة من إرهابيي "داعش" وجبهة النصرة الذين يتلطون بالنازحين، للاعتداء على الجيش كما يروّج حزب الله منذ فترة. وبالتالي، تأليب الجيش ضد النازحين، ووضعهم في مواجهةٍ معه، بالتزامن مع إحداث مناخٍ تعبويٍّ من الحقد والكراهية والعنصرية تجاه السوريين، واللعب على خلفية مخزون الذاكرة، الحديثة في مطلق الأحوال، عبر الخلط بين الشعب السوري وممارسات النظام السوري وأجهزته التي حكمت لبنان ثلاثين سنة.
الخطوة الثانية هي إيهام النازحين السوريين، في المقابل، بأنهم باتوا غير آمنين، وغير مرغوب فيهم في لبنان، وإن العودة إلى سورية هي الخيار الأسلم لهم. ولكن، إلى أين؟ يحاول هنا حزب الله الضغط على الحكومة اللبنانية، لإجبارها على فتح حوار مع بشار، والاعتراف بشرعيته، والتنسيق معه بشأن عودة النازحين التي يضمنها هو إلى "المناطق الآمنة" التي يسيطر عليها. وطبعا نريد أن نقتنع أنها مزحة، ولو سمجة، إلا أن هذه المناورة لم تنطل على رئيس الحكومة وحلفائه من غير "الممانعين".
الخطوة الثالثة والأهم تمرير تحت دخان هذا الغطاء الكثيف والخبيث المشحون بالسموم العنصرية "معركة تحرير جرود عرسال" اللبنانية من إرهابيي "النصرة" التي مهد لها حزب الله منذ أسابيع، وأطلقها فجر الجمعة 21 يوليو/ تموز الجاري. وهي معركةٌ قرّرها وافتعلها حزب الله بمفرده، ووضع الجيش اللبناني أمام الأمر الواقع، بعد أن تم توريطه في معارك تطهير تمهيدية، اصطدم خلالها بوفاة أربعةٍ بظروف غامضة من بين الذين تم توقيفهم خلال المداهمات. وقد مهّدت هذه الواقعة الطريق أمام حملة التعبئة والتجييش مع الجيش، وضد النازحين. وقد مهد الطيران الحربي الأسدي لهذه المعركة منذ أكثر من أسبوع بغاراتٍ على جرود عرسال داخل الأراضي اللبنانية، فيما بدت الحكومة اللبنانية مربكةً، تلتزم الصمت حيال انتهاك طيران بشار السيادة اللبنانية. أما جماعة "الممانعة" فيبرّرون هذا الانتهاك بأنه يعود إلى عدم ترسيم الحدود بين البلدين، علما أن من رفض كل محاولات الترسيم هو النظام السوري، سواء بالمباشر أو عبر الأمم المتحدة.
تم التحضير لمعركة عرسال بإتقان، وعلى أكثر من مستوى، أوله إحراج الجيش وإجباره على اللحاق بما يقرّره حزب الله، بسبب غياب أي قرار رسمي حكومي. وثانيا، عبر إيجاد مناخ لبناني حاضن ومعاد للنازحين. وثالثا، مواكبة من وسائل إعلام "الممانعة" التي راحت تروّج المعركة، وتتكلم عن تفاصيلها وإحداثياتها قبل حصولها. وواضح أن الهدف الجوهري للمعركة أن منطقة عرسال (نحو 50 ألف نسمة من السنّة) تشكل عقبة كأداء في طريق تحرير الشريط الساحلي (دويلة الأسد المزعومة؟) من دمشق نحو حمص واللاذقية.
وللمفارقة، رسمت صحيفة الأخبار اللبنانية صورة عن مجريات المعركة في عددها الصادر صباحا بالتزامن مع بدء الهجوم، واعتبرت بوضوح، ومن دون أي إحراج، أنها معركة يخوضها حزب الله والجيش السوري. وقدمت للتقرير جازمةً أن المعركة "ستنتهي قريباً بتحرير ما يزيد على 300 كلم مربّع من سيطرة الإرهابيين على يد المقاومة والجيش السوري، ليتسلّم الجيش اللبناني لاحقاً الحدود اللبنانية ــ السورية "خالية من الإرهاب".
٢٤ يوليو ٢٠١٧
لا يمكن فهم كشف وكالة الأناضول التركية القواعد العسكرية الأميركية في شمال شرق سورية إلا في سياق زيادة التوتر بين البلدين، على خلفية مواصلة الإدارة الأميركية دعمها الكرد، وعدم استجابتها لمطلب تركيا بوقف هذا الدعم، وهو ما تعدّه أنقرة الحليفة التاريخية لواشنطن انقلابا على ثوابت العلاقة الأميركية - التركية، منذ انضمت تركيا مبكرا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952، ولعل ما يزيد من مخاوف تركيا شعورها العميق بأن وراء الدعم الأميركي للكرد وجود مخطط غير معلن، هدفه إقامة دولة كردية في المنطقة، وإن إقامة مثل هذه الدولة ستؤدي إلى تقسيم تركيا، فيما تقول واشنطن إن ذلك يأتي في إطار الحرب على "داعش". وهكذا، تحول الدعم الأميركي للكرد إلى نقطة خلاف متصاعدة في العلاقات التركية – الأميركية، أفقدها الثقة من جهة، ومن جهة ثانيةٍ، عمّق من الشروخ بين البلدين، لاسيما ان قضية تسليم فتح الله غولن المتهم بالتورّط بالإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا تخيم بظلالها على هذه العلاقة.
أمام هذا الواقع، ترى تركيا أن اللغة الدبلوماسية الأميركية التي تحاول التوفيق بين الحليف التاريخي (تركيا) والحليف الكردي الجديد عبر لعبة التوازنات ليست سوى مجرد أسلوب دبلوماسي، للتهرب من مطالب أنقرة، والمضي في المخططات الخفية، ومثل هذا الأسلوب لم يعد ممكنا القبول به في المرحلة المقبلة، وإن على واشنطن أن تحسم خيارها بين استمرار تحالفها مع الكرد أو العودة إلى تحالفها القديم مع أنقرة. وعليه، فان كشف أنقرة المواقع العسكرية الأميركة في سورية يشكل رسالة تركية بأنها لن تقبل باستمرار الوضع هكذا، وهي رسالةٌ تتكامل مع التسخين العسكري التركي في شمال سورية، والتهديد بشن عملية عسكرية ضد عفرين، تحت عنوان "سيف الفرات".
أبعد من قضية الدعم الأميركي للكرد، ثمّة قضية حسّاسة قد تفجر العلاقات بين البلدين، فبعد الاتفاق الأميركي – الروسي على وقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية، زادت الهواجس التركية إزاء إدارة دونالد ترامب، ولاسيما بعد تلميح الأخير إلى احتمال إبرام اتفاق ثان يشمل منطقة شمال شرق سورية التي تتمتع بأهمية قصوى لتركيا. ولعل تركيا تخشى هنا، في المقام الأول، من أن يجري مثل هذا الاتفاق من دون الترتيب معها، وأن يؤدي إلى تكريس الكيان الكردي الناشئ على شكل اعتراف أمني، يجلب اعترافا سياسيا به في المرحلة المقبلة. ومن جهة ثالثة، قد يؤثر مثل هذا الاتفاق سلبا على التقارب التركي – الروسي، والتفاهمات التي حصلت في أستانة بشأن التهدئة في المناطق المنخفضة التوتر، فيشكل ذلك كله ضربة لنفوذ تركيا ودورها في الأزمة السورية.
من دون شك، يثير وصول العلاقات الأميركية - التركية إلى هذا المستوى من الخلافات مخاوف مفتوحة في تركيا، لاسيما وأن سياسات دونالد ترامب توحي بمزيد من التصعيد، في ظل شعاراته المعادية للإسلام، وانخراطه في إجراءات إقصائية بهذا الخصوص، والحديث عن احتمال تصنيف الكونغرس الأميركي جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، كذلك ازدياد حدّة الخلافات بين تركيا ودول أوروبية عديدة... إذ يوحي ذلك كله بتطورات دراماتيكية في العلاقات التركية مع الغرب، بشقيه الاميركي والأوروبي، قد يكون من أهم نتائجها إعادة تموضع العلاقات، إن لم نقل القطيعة في بعض الحالات.
٢٤ يوليو ٢٠١٧
لم تكن اللحظة التركية مناسبةً في ما خصّ إعلان الحرب على قوات سورية الديمقراطية في عفرين وأكنافها، ذلك أنه ثمّة مكيدةٌ، أو ما يشبهها، لجهة تسعير حربٍ تركية، بشروط قاسية، داخل منطقة وعرة ومليئة بالتناقضات والتقاطعات السياسية والعسكرية، بل ومزدحمة بالقوى العسكرية المحلية والدولية. وفوق ذاك، في لحظة سعيدة لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، حيث تخوض حرباً في الرّقة تحظى من خلالها بدعم دولي، وتغطية إعلامية مهولة، وربتٍ دوليٍّ على أكتاف مقاتليها، فلمَ اختارت تركيا هذه اللحظة غير المناسبة، ولم تدخلها بلا موجباتٍ حقيقية، أي أسباب مباشرة (قريبة) مقنعة، إلا تذرّعها بحوادث إطلاق نارٍ استهدفت جنودها داخل الشريط الحدودي لتركيا، أو تصريحها بالخطر الكردي المحدق بأمنها القومي، علماً أن أمنها القومي لا يعني الكثير لحليفها الأطلسي (الولايات المتحدة) ولا شريكها الاقتصادي المهم (روسيا)؟
جهدت روسيا لإعادة عفرين، بما هي ثالث أحجار الأثافي للمناطق التي يعتمد عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، بعد الجزيرة وكوباني (عين العرب) إلى حظيرة النظام السوري، تلويحاً بإمكانية استعادتها بُعيد استعادة حلب، وبسط السيطرة عليها، وتخويفاً من إمكانية أن تشنّ القوات التركية والمعارضة السورية المسلحة هجمات صاعقة عليها، قد تودي بما تحقق للحزب وللأكراد هناك، بيد أن عناد "الاتحاد الديمقراطي" أدى إلى تراجع الروس عن مطالبهم التي وجدها الحزب قاسيةً ومهينةً لمشاعره وتضحياته، فكيف للحزب الذي يعتبر عفرين إحدى أكبر خزّاناته البشرية، وأحد أهم مناطقه التاريخية داخل سورية تنظيمياً أن يوافق على رفع العلم السوري (علم النظام) على مضض، وفي لحظة "ابتزاز" من شريكٍ يرقى إلى مرتبة الحليف، مثل روسيا.
إلى ذلك أدت طبيعة العلاقة الروسية – التركية إلى قلقٍ، طاول قيادات الحزب الكردي في عفرين وسواها، في ما خص إمكانية أن يؤدي هذا التلاقي الروسي – التركي إلى السماح لتركيا بالتوغل عميقاً شمال حلب، معطوفاً الأمر على صمت أميركي صريح عن الأعمال العسكرية التركية شمالي حلب، وعن تهديداتها المتواصلة للمناطق التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي.
بيد أن الوقائع على الأرض، في الأيام القليلة الماضية، أفصحت عن خلاف ما كان يتم تداوله بخصوص إمكانية الإحاطة بعفرين، ومن ثم عزلها، وإدخالها ضمن معادلتين متعاكستين، تصبّان في مصلحة تركيا وأمنها القومي، وقد كانت المعادلتان: إما عودة عفرين وجوارها إلى حظيرة النظام، وهذا مقبول على سوئه بالنسبة للجانب التركي، بحيث يخسر غريمه الكردي أحد أبرز معاقله، أو أن تصبح المعادلة بشكل معكوس، أي أن تخضع هذه المنطقة لسيطرة القوات المعارضة المتحالفة وتركيا، وبذا أيضاً يخسر الحزب مرةً أخرى، فواقع الحال، وما نجم عن أولى المعارك التي دارت بين "قسد" والجيش التركي، مصحوباً بقوات من المعارضة السورية المسلحة في شمالي حلب في محيط عين دقنة، دلّت على صعوبة المواجهات؛ فوفق ما نشره "المرصد السوري"، فإن المعارك أودت إلى قتل وجرح مقاتلي الطرفين، وأن تركيا وسّطت روسيا "لسحب الجرحى ونقلهم لتلقي العلاج، عبر التوصل إلى تهدئة شاملة ومؤقتة، أو وقف القتال في موقع وجود الجرحى"، بما يفيد أن المواجهات، ومنذ بدايتها، ستكون شرسة، وأن التطورات على الأرض قد تكون بخلاف المتوقع تركياً، خصوصا أن الطرف التركي غير قادر على استخدام سلاح الجو الحاسم في مثل هذه المعارك والاشتباكات. وفي ما يدلّ على أن الروس والأميركان غير مستعدين لمنح تركيا نصراً على "القوات الكردية " و"قسد"، بقدر ما يرغبان في إرباك تركيا وتوريطها في العمق السوري!
تشي المشاهد الأولى للمعارك عن مراقبة روسيّةٍ أميركية لتطورات الأحداث في عفرين وشمالي حلب، لكنهما قد يدخلان حال تفوّق طرفٍ على الآخر، ولعل الغاية الروسية مختلفةٌ عن تلك الأميركية، لجهة أن كل جهود روسيا، حتى اللحظة، تكمن في تكسير "النصال على النصال"، بغية بقاء النظام في موقعٍ أفضل لاحقاً. أما أميركا فواثقةٌ من أن شريكها الكردي لن ينتهي بسهولة، وفق شروط الحرب التركية القاسية، ويبقى السؤال المعلّق: هل حقاً كان صمت الروس والأميركان فخاً منصوباً لتركيا كي تتورّط في حربٍ لا يمكن توقّع نتائجها، أم أنهم كانوا عاجزين عن إيقاف الأتراك المستشيطين غضباً لأجل حدودهم الجنوبية وأمنهم القومي؟ وحتى نجد أجوبة مقنعة لمثل هذه الأسئلة وغيرها، سنشهد كثيراً من المعارك ومن تكسيرٍ للنصال.