مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٠ يناير ٢٠١٨
ركائز النظام الإيراني تتكسّر!

عندما يقول الرئيس حسن روحاني في مواجهة المظاهرات الشعبية الغاضبة التي شملت معظم أنحاء البلاد إنه «ينبغي على الحكومة تأمين مساحة للنقد»، فإنه يجانب الحقيقة الصادمة التي باتت تواجه النظام الإيراني، ذلك لأنه يجب أولاً تأمين مساحة للحياة أمام المواطنين الإيرانيين الغاضبين، وهنا تبرز حقيقة المشكلة التي يواجهها النظام المُغلق بطبيعته على كل العناصر والشروط الضرورية لتأمين هذه المساحة من الحياة التي يطمح إليها الإيرانيون.

وعندما يكتفي المرشد علي خامنئي بالقول إن أعداء إيران يقفون وراء المؤامرة، فإنه لا يضيف فاصلة إلى دأبه الدائم على توجيه هذه الاتهامات إلى الخارج والمشكلة في الداخل، حيث يبدو أن السياسات التي يطبقها النظام هي التي راكمت الأزمات التي كسّرت ركائزه، وأثارت السخط الشعبي عليه.
وعندما يدعو صادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية إلى التدخل بقوة لوقف المظاهرات والتعامل بحزم مع المتظاهرين، فإن ذلك لا يغيّر شيئاً من القواعد العاتية التي فشلت سابقاً في منع الإيرانيين من التظاهر رغم القمع العنيف الذي تعرضوا له عام 2009.

وعندما يعمَد موسى غنضفر آبادي، رئيس المحكمة الثورية، إلى ترهيب المتظاهرين بالقول إن المعتقلين منهم قد يواجهون الإعدام، وإن إحدى التهم التي قد توجّه إليهم يمكن أن تكون الحرابة، فإن ذلك لا يناقض كلياً حديث روحاني عن مساحات النقد المتاحة للمواطنين فحسب، بل يتناقض مع جوهر الأسباب التي دفعت الإيرانيين إلى التظاهر، إلا إذا كان النظام يعتبر أن التظاهر ضد النظام حرابة!

وقياساً على هذا الأسلوب في التعامل مع المتظاهرين وفي فهم دوافعهم ورفض الاستماع إلى مطالبهم، تغصّ السجون بالمعتقلين، ويمكن أن يُساق بعضهم إلى الإعدام فعلاً، وبهذا تتحول إيران إلى سجن كبير أكثر من ذي قبل، ولكن ذلك لن يغيّر شيئاً من حقيقة أن قواعد النظام الإيراني وركائزه قد تكسّرت تباعاً، على الأقل في أربعة مفاصل أساسية وهي:

أولاً - السياسات الاقتصادية التي فجّرت المظاهرات؛ ففي بلد ينتج أربعة ملايين برميل من النفط يومياً، ويملك الغاز وموارد طبيعية ضخمة، ليس مقبولاً ولا معقولاً أن تصل نسبة البطالة فيه إلى 12.5 في المائة، وأن تلامس في بعض المدن نسبة 60 في المائة، ومن الفاضح أن يعترف برويز فتّاح، رئيس لجنة الخميني للإغاثة الحكومية، عشية المظاهرات، بأن الفقر يصيب 40 مليون إيراني، وأن 11 مليوناً منهم يعيشون في مناطق مهمّشة.

وإذا كانت المليارات التي حصلت عليها طهران بعد توقيع الاتفاق النووي قد تبخرت في الإنفاق على الحروب وتمويل تدخلات إيران الخارجية، فإن حكومة روحاني زادت من الضيق الاقتصادي، ومن رفع مستوى الفقر عند الناس، عندما اتخذت في سعيها إلى ترتيب أرقام الموازنة الجديدة، قرارين أشعلا الغضب الشعبي، أولاً عندما قررت رفع سعر الوقود بنسبة 50 في المائة، وثانياً بعدما أعلنت أنها ستلغي برنامج الإعانات المقدمة للفقراء التي يستفيد منها 34 مليون مواطن، بينما كانت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الإيرانية تعلن أن 12 مليون مواطن يعانون من الفقر الغذائي.

الانتقادات الغاضبة انطلقت عندما أظهرت أرقام الموازنة تخصيص الجزء الأكبر منها للإنفاق على «الحرس الثوري» والمؤسسات الدينية المرتبطة بالمرشد، وهو ما دفع فرشاد مومني، وهو الخبير الاقتصادي المؤيد لروحاني، إلى القول لوكالة «إيسنا» إن الموازنة الجديدة ستفاقم أزمة المعيشة التي يواجهها الشعب.

ثانياً - تضع منظمة الشفافية الدولية (transparency international) إيران في مقدمة الدول الأكثر فساداً، فهي تحتل المرتبة الـ 136 من أصل 175 دولة من حيث الفساد، وفي هذا السياق تنسب المنظمة إلى الخبراء أن عناصر الفساد تعمل في شكل هرمي داخل السلطة الحاكمة، وأن الجماعات المرتبطة بأعلى هرم النظام هي التي تسيطر على مفاصل الاقتصاد الإيراني ولا تخضع للرقابة.

تقول شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، إن «تغوّل الفقر في بلد غني مثل إيران سببه الرئيسي الفساد الحكومي والإنفاق العسكري الكبير»، وهذا أمر واضح، لأن اهتمام النظام يتركّز على حشوات الصواريخ ومداها أكثر من أمعاء المواطنين وصراخهم، ولهذا سبق أن شهدت المحافظات الإيرانية في الأشهر الماضية إضرابات واحتجاجات بسبب تأخر الرواتب وانخفاض الأجور وتفشي الفساد على مستوى السلطة، وجاء في دراسة أجرتها مؤسسة «بورغن» العالمية لمكافحة الفقر أن 5 في المائة من الطبقة الحاكمة تستحوذ على ثروة البلاد، وهي تبدأ بالمرشد الذي تقدر ثروته بنحو 95 مليار دولار، وتتدرج لتضم الحاشية وكبار المسؤولين، وسبق أن تسربت في طهرن وثائق عن فساد رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني وشقيقه علي رئيس مجلس الشورى.

ثالثاً - فشل السياسة الخارجية التي قامت منذ البداية على فكرة تصدير الثورة التي دفعت النظام إلى التدخلات وخوض الحروب الخارجية والإنفاق على التنظيمات والأذرع التي يديرها في الخارج، وعلى هذا لم يكن مفاجئاً على الإطلاق أن يرتفع صراخ المتظاهرين: «لا للديكتاتور - اخجل يا سيد وارحل من إيران - لا غزة لا سوريا لا لبنان أرواحنا فداء إيران - لا نريد الجمهورية الإسلامية - لا لاستغلال الدين - الشباب عاطلون والملالي يحتلون المكاتب».

بات واضحاً تماماً سقوط المعادلة الواهمة التي قام عليها النظام، الذي امتهن التصدير في اتجاهين؛ تصدير الثورة والتخريب إلى الخارج، خصوصاً دول الإقليم، وتصدير الفقر إلى الداخل، خصوصاً مع استفحال الفساد، فلقد انهارت مرة جديدة معادلة قرع طبول «الإنجازات» الخارجية للتغطية على الإخفاقات الداخلية.

رابعاً - انكسار سياسة القمع الداخلية رغم سياسة تكميم الأفواه بعد سحق «الثورة الخضراء» عام 2009 عندما تظاهرت يومها المدن ضد التزوير الانتخابي لتجديد ولاية محمود أحمدي نجاد، ولكن ها هي الأرياف تسابق المدن إلى التظاهر، وها هي القوميات التي يضطهدها النظام تنضمّ إلى المظاهرات: الكرد - العرب - الأهواز - البلوش - التركمان - اللور.

يستطيع النظام الإيراني أن يملأ السجون بالمتظاهرين ويمكنه إعدامهم، لكنه عملياً هو الذي يدخل سجن الشعب وفي النهاية، ومن الواضح أنه فشل تماماً في السياسة الداخلية بقمع الناس، وفي الاقتصاد بتوسيع حلقة الفقر والبطالة، وفي السياسة الخارجية بالتخريب والإنفاق على الحروب وتجويع مواطنيه، وفي المسؤولية كما في النزاهة باتساع حال الفساد التي تسيطر خصوصاً في أعلى هرم السلطة.

واضح أن النظام الإيراني يتقدم بخطى حثيثة على طريق الاتحاد السوفياتي الذي بدأ ينهار مع البيروسترويكا عام 1987، ولكن الأهم من كل هذا الآثار العميقة التي ستنتج عن ذلك على مستوى الأحداث والتوازنات الإقليمية!

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٨
الربيع العربي في طهران

غير الإيرانيون المنطقة والعالم أيضاً منذ 1979، وربما كان «الربيع العربي» في 2011 من متواليات الثورة الإيرانية، وها هو «الربيع» يستأنف في إيران كما بدأ قبل قرابة أربعين سنة. كانت الثورة استحضاراً للدين في الصراع وتبدو الثورة اليوم لأجل الاستقلال بين الدين والسلطة، وكان الدين على مدى التاريخ مورداً سلطوياً، ثم انتزعه الثوار والمهمشون والمستضعفون لمواجهة السلطات والمتسلطين، ثم تحول اليوم إلى جوهرة ساخنة جداً لا يستطيع أحد الاحتفاظ بها ولا يريد أحد أن يتخلى عنها.

كان تديين الصراع يمنح السلطات قدرة على الهيمنة ويحرم الإصلاحيين من فرص توظيف اللحظة لأجل تغيير العلاقات المحركة الفرصَ وتوزيعها في المجتمع والدولة. ففي ظل هذه الحروب الدينية، تهيمن القلة الاحتكارية على إدارة البلاد ومواردها، وتمنحها المؤسسة الدينية فرصة الإدارة للموارد بعيداً من قواعدها الأساسية. لكن اللعبة تغيرت وصار تديين الصراع يعمل لمصلحة المتمردين والمهمشين والمعارضين.

لا تريد النخب الاعتراف بأن الأزمة الحقيقية مردها إلى الهيمنة والاحتكار والامتيازات وتفضل بدلاً من ذلك أن تشغل الناس بصراعات دينية ومذهبية وطائفية. لكن الفئات المهمشة والمحرومة وجدت أنها لن تخسر شيئاً طالما أنها خسرت كل شيء تقريباً، وتخوض هذه الحرب اليائسة متحالفة مع المتشددين الدينيين الذين هم أيضاً يمضون في طريق واحد لا خيار فيه سوى الموت. وحتى تأتي اللحظة التي تحتكم فيها الدول والمجتمعات إلى العدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع، فستجد أنها خسرت كثيراً بلا فائدة ولا معنى.

لكن، يبدو أن الإيرانيين يغيرون المعادلة مرة أخرى، فكما انتزعوا الدين من السلطة وجعلوه إلى جانب المهمشين، يبدو أنهم يريدون اليوم أن يجعلوه محايداً ليس بيد أحد، وكان آية الله حسين منتظري يعتقد أن هذا هو هدف الثورة عندما نجحت في 1979، وكان يظن أن موقعه المتقدم في قيادة الثورة يمكنه من تحدي النظام الديني، لكنه مضى في تفكيك السلطة الدينية السياسية/ ولاية الفقيه أبعد مما يعززه، أو إلى الحد الذي يضر بها، فعزل ووضع تحت الإقامة الجبرية، عزله الناس الذين يريد أن يحررهم من الهيمنة لكنهم يريدون أن يروه معصوماً أو شبه معصوم. عصمة الإمام وولاية الفقيه وسلطة الفتوى والتحريم والدور الديني للدولة ومعاقبة العصاة والمرتدين صناعة مؤسسية للسلطة ولا يستطيع نقضها أو الإضرار بها حتى الإمام المعصوم نفسه و/ أو الولي الفقيه، كما المفتي وقاضي القضاة، ويطبقها الحاكم بالتزام عميق حتى لو لم يكن مؤمناً بها و/ أو لا يفهم الدين ولا يطبق منه شيئاً. ويتسلى اليوم مثقفون بشتم الجماعات الدينية، متوهمين أن استبعادها ينهي الدولة الدينية، الجماعات ليست بريئة بالطبع، لكنها شريك صغير ليست أكثر من شراكة بائعي الموبايلات في عالم الاتصالات وصناعتها وتجارتها وخدماتها.

ربما تفشل حركة الإيرانيين للتحرر من الهيمنة الدينية السياسية كما فشلت عام 2009، لكنها تعكس على نحو واضح الأزمة الكبيرة والعميقة في عالم الإسلام اليوم، إذ لا بديل للطغيان سواء كان حكماً فردياً أو دينياً سوى الفوضى أو مجتمعات قادرة على تنظيم ذاتها، وهو ما يبدو أصعب من الثورة نفسها، فهذا التنظيم المدني لا يتشكل في فترة قصيرة ولا تنتجه الثورات للأسف الشديد، ولا مجال سوى تسويات معقدة تبدأ بالاعتراف بالتغيير والتأثير المتبادل والمشاركة في الفرص والموارد، وصولاً إلى عقد اجتماعي يجعل من الحريات مورداً منظماً العلاقات والسلطات، ومصدراً للفهم والنظر في المسائل والتحديات، لكن التجارب والنيات السيئة التي أحاطت بجميع المحاولات والتسويات السابقة تظل تدفع بالصراع والجدال نحو الهاوية!

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٨
صورة بشار في حميميم

هذه المشاهد التي تأتيكم من سوريا ومن مصر واليمن وليبيا والعراق تبدو كما لو كانت مشاهد من احد أفلام الخيال العلمي. كيف تشابهت طوابير البشر الذين غادروا رفح سيراً على الأقدام بطوابير النازحين من المدن السورية؟

الخرائب التي يخلفها القصف في ليبيا هي نفسها الخرائب التي تراها في أعقاب كل قصف في إدلب أو حلب أو الغوطة أو غيرها. الأب الذي يحمل جثمان ابنه بعد أن ارتقى شهيداً في قصف جوي في سوريا ووالده لا يصدق أنه (لم يعد) موجوداً في سجل الأحياء بنفس سرعة تتابع الحروف في كلمة (فجأة)!

هذه الأنقاض في اليمن التي تشبه شقيقتها في سوريا أو في ليبيا أو في سيناء.

هناك من يقود بلدوزر عملاق ويهدم به منطقة الشرق الأوسط.

ولو قُدر لأحدهم أن يدخل في غيبوبة سنة 2011 ثم يستيقظ الآن, لعاد من جديد إلى الغيبوبة, فشكل المنطقة قد تغير ولم يعد هناك حجر قائم. وفوق كل هذا, هناك حالة من الانهيار الايديولوجي تصاحب حالة التهدم هذه.

وللوهلة الأولى يبدو لمن يرى المشهد ان شيطان الثورات المضادة قد نجح, فهاهو يضرب كل مناطق الثورات بمطرقة تحيل كل ما تلمسه إلى أنقاض. ومع ان مطرقة الثورات المضادة نجحت ظاهرياً في تحطيم كل شيء, إلا أنها اصبحت عاجزة عن الاستمرار ويمكننا القول أن الثورات المضادة دفعت ثمناً باهظاً في جولتها الأولى التي استمرت عدة سنوات حتى الآن.

نجحت الأنظمة في وقف مد التغيير ولكنها انكشفت تماماً امام الشعوب. ولو كانت الأنظمة نجحت في إخماد الثورات, لما احتاج بشار إلى الألاعيب الدعائية من عينة زيارة منزل أحدهم لالتقاط الصور والايحاء بوجود شعبية ولما احتاج الانقلاب في مصر إلى افتتاح خطوط انتاج الجمبري !

الحقيقة أنها بقدر ما اصيبت الثورات بالارهاق واصبحت غير قادرة على الفعل (ولو مؤقتاً) فقد اصيبت الأنظمة هي الأخرى بالانهاك والحديث هنا ليس على قدرة تلك الأنظمة في فرض ارادتها على أرض الواقع, فلابد أنها تحتفظ ببقايا شكل الدولة وتمارس سلطاتها فعلياً بما تبقى لها من مؤسسات, بل الحديث هنا على قدرة تلك الأنظمة على الاستمرار في التظاهر بالاستقرار.

لقد استنفذت الأنظمة مخزونها القمعي خلال السنوات الماضية في محاولة تحجيم موجات التغيير وشل حركتها ولم تنجح سوى في محاصرة الجانب المادي للرغبة في التغيير, بل أننا إذا نظرنا إلى الحالة السورية, لوجدنا أن النظام نفسه اسُتهلك واستنفذت أجهزته واصبح عليه ان يستدعي حلفاءه الاقليميين بتدرج وكأنما يغوص في مستنقع من الرمال المتحركة ينزلق إليه رويداً, فبدأ بحزب الله ثم بإيران وأخيراً روسيا, وهي خطوط دفاعية انهار كل واحد منها تلو الآخر مما تطلب الانتقال لما يليه, وهي كلها خطوط لم تفلح في وقف انهيار النظام السوري.

وهو انهيار بلغ درجات عالية من التردي لم تفلح معها كل جهود النظام الدعائية, فصورة الضابط الروسي الذي يبعد بشار الأسد إلى الخلف ويمنعه من الاقتراب ريثما يلقي بوتين كلمته في قاعدة حميميم العسكرية التي تمثل قمة هرم السيادة الذي من المفترض أن يمثله بشار (بحسب ما يقولونه للشعوب) كشفت بصورة فجة ما كان يدور في الغرف المغلقة لعقود وأن النظام السوري مجرد تابع.

اللطيف أن هذه المشاهد لم يكن من الممكن أن تدور بخلد أشرس المطالبين بـ (الاستقلال) عن الدولة العثمانية منذ مائة عام, ولم يكن بإمكان أي منهم تصور أن أحفاده سيدفعون تلك الضريبة الباهظة لنيل استقلالهم من الاستقلال المزعوم الذي ظنه ونادى به.  

وفي مصر يمكن القول أن نظام العسكر والذي ظن أنه جدد دماءه بانقلاب 2013, اصبح بحاجة إلى ألعاب الحواة لاقناع الجمهور العازف عن المشاركة الذي ملَّ كلَّ شيء, بأن يشارك في مسرحية الانتخابات بينما هو لم يقدم لهم سوى زيادات في الأسعار وتردِ في الأوضاع الأمنية.

وربما كان الجانب الايجابي الوحيد للثورات المضادة هو انها كشفت حقيقة تلك الأنظمة

اقرأ المزيد
٩ يناير ٢٠١٨
الصراع السياسي ومستقبل إيران

أي ثورة أيديولوجية يتراجع وقودها بمرور الوقت لتأخذ بعداً يتعامل مع الواقع. لكن إيران تظل حالة خاصة، إذ أدت حربها مع العراق إلى تكتل وطني خلف شعارات الثورة، ثم جاء الحصار الاقتصادي الغربي ليزيد من تماسك الجماهير خلف الثورة وأهدافها. ومن هنا تأخر التعاطي الواقعي في ظل صراع مكتوم، حتى مع تآكل واضح لجيل الثورة الإسلامية، وتغير المعطيات على الساحة، وتفاقم التنازع بين أجنحة النظام. فجيل الإصلاح المنفتح نسبياً على الخارج والذي عبّر عنه محمد خاتمي، تراجع مع مقولات محمود أحمدي نجاد حول الإصلاح مِن داخل أيديولوجيا الثورة الإيرانية.

لذا فإن نجاد، على رغم غيابه عن سدة الرئاسة، يمثل حالة زخم ويعبر عن قدرات المرشد العام أحمد خامنئي. فالشعبويه الدينية تغلبت على النخبة في صورة نجاد الذي عاش في أزقة جنوب طهران بعد نزوحه مع أسرته من مدينة كرمسار الفقيرة، واحتكاكه بالفقراء جعله يحولهم إلى طاقة تخدم سياسته. اعتمد نجاد على سرعة الحركة مع سرعة التطورات، واستعان بمن يثق في قدراتهم على الإنجاز. لكن حسن روحاني يمثل الإصلاحيين التقليديين الذين يستمدون نفوذهم من رأس الدولة الدينية مباشرة. عموماً المستقبل سيكون مختلفاً في إيران، إذ إن طول أمد الحروب والصراعات التي خاضتها منذ بداية ثمانينات القرن العشرين، أدى إلى رفض الأجيال الجديدة فكرة نشر النفوذ المذهبي أو السياسي، من دون عائد إيجابي على مستوى المعيشة.

لذا هناك صراع لن يكون بين الإصلاحيين التقليديين الذين يعدون امتداداً لرفسنجاني أو خاتمي، أو إصلاحيي الداخل بزعامة أحمدي نجاد، لكن بين هذين الجناحين وأجنحة جديدة، ستتجلى ربما بحرب شوارع. هنا تبدو الأقليات العرقية والمذهبية المهمشة، مثل العرب والترك والأذريين والكرد والبلوش، أمام فرص إما للانفصال أو الحصول على حكم ذاتي، في ظل صراع داخلي بين الشيعة والسنة لطالما حرصت طهران على وأده في السابق.

هل يعني هذا أن إيران ستتخلى عن سياسة تصدير الثورة؟ في حقيقة الأمر تعد إيران تنشيط المذهب الاثنى عشرة أداة لامتداد نفوذها السياسي، لذا فإنها لو تخلّت مرحلياً عن دعم نشر هذا المذهب، فإن ذلك سيرتبط بمدى قوة نظام ولاية الفقيه، فضلاً عن انتقال البلد من مرحلة الثورة الأيديولوجية إلى مرحلة الواقعية السياسية. لذا يتوقع أن نشهد تقزم إيران مرة أخرى إلى دولة مهمة لها حساباتها في المنطقة بدل أن تكون لاعباً رئيسياً، خاصة أنه يُنتطر حصول في تغير تركيبة الحكم سواء بتراجع أو اختفاء سلطة ولاية الفقيه. وتلك ستكون بداية استعادة العرب السنة في العراق دورهم السياسي بما يعيد توازناً مع الشيعة بات مفقوداً في السنوات الأخيرة، ثم إنهاء حربي اليمن وسورية وصعود قوى عربية تحدث توازناً إقليمياً.

ويلاحظ أن الضغوط الاقتصادية في الداخل الإيراني تمثل تحدياً لنظام الحكم في إيران. فأمل الإيرانيين بتحسن الأوضاع بعد الاتفاق النووي تراجع بشدة مع تصاعد البطالة في أوساط الشباب إلى نسب غير مسبوقة، فضلاً عن الحاجة الماسة الآن إلى إعادة التوازن بعد أن طغت موازنة الطموحات الإقليمية على حساب موازنة التنمية.

اقرأ المزيد
٩ يناير ٢٠١٨
برج الحرية في إيران

خيّبت "الثورة الإسلامية" في إيران آمال الشعب الإيراني بعد 39 سنة من الحكم، فهي أغدقت الوعود بـ"التغيير"، ولكن النظام تحول شيئاً فشيئاً إلى نظام ديكتاتوري فاسد، لا يختلف عن النظام السابق الذي خلَفته الثورة أي نظام الشاه. ولا تأتي التظاهرات والاحتجاجات الإيرانية من عبث حتى لو حاول المشككون والمدافعون عن النظام الحاكم أن يقللوا من شأنها، ويستطيع نظام الملالي أن يلقي التهم يميناً وشمالاً ككل الأنظمة الديكتاتورية التي تتذرع بنظرية المؤامرة في كل مرة تواجه عجزاً عن حل أمورها مع شعوبها، ولكن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تعصف بالنظام الحاكم ولن يستطيع أن يتجنبها.

يقف برج الحرية أو برج آزادي في وسط ساحة طهران، هذا الصرح الذي شيد عام 1971 ليرمز إلى الحداثة، متفرجاً على عناصر النظام يزرعون الساحات مقابر ومحولين أجواء العاصمة الإيرانية إلى أجواء موت وكآبة من مقبرة "بهجت الزهراء" إلى "ضريح الخميني"، لا يوجد بلد في العالم يمجد الموت كما في إيران، شعارات الموت "الموت لأميركا" و"الموت لإسرائيل" والموت لكل من يعادي إيران تخرج صادحة من الحناجر عقب كل صلاة جمعة، إذ إن هذا النظام وبعد الحرب العراقية الإيرانية حوّل الساحات العامة إلى مقابر جماعية ومراكز لتشريف ضحايا الحرب، وأجبر الناس على حضور صلوات الجمعة بموجب القانون، ومع أن إيران بلد إسلامي، أصبح من يلبي حضور صلوات الجمعة لا يزيدون عن ثلاثة بالمئة من السكان، وهؤلاء يأتون خوفا من فقدانهم لوظائفهم، أو فقدان الحظوة في الجامعات بالنسبة للطلاب، والكثير منهم يعتبر أن صلاة الجمعة فقدت جوهرها الديني وأصبحت منتدى للنظام من أجل تحفيز مناصريه وإعادة تأكيد ايديولوجيته، ذلك أن الجيل الجديد من الشعب الإيراني بدأ "يتخلص من الوهم" لقائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني، حسب تعبير "ماكس فيبر" عالم الاجتماع الذي فسر الدينامية التاريخية من منظور الكاريزما والروتينية و"سيادة الرجل الكاريزمي"، كاريزما الساعة الأولى (شعلة الحماس) بدأت تخبو أو هي انطفأت بالفعل، لذا يحاول من خلف القائد الأول الخميني أي علي خامنئي أن يسد الفراغ الذي خلّفه القائد الأول ولكنه يعجز لأنه لا يملك الكاريزما القيادية "الخمينية"، فقام بالاتكال على القمع الذي يمارسه الجناح العسكري أي الحرس الثوري الإيراني (حرس الباسداران).

لا يستطيع الإنسان مهما كان مؤمنا بالقضية أية قضية أن يعيش وهو يشعر بأنه مراقب على طريقة الأخ الأكبر، حيث تخضع الجامعات لرقابة وحراسة مشددة عن كثب من جهاز استخبارات وعناصر الحرس الثوري أو عبر تجنيد شبكة من الطلاب ليتجسسوا على زملائهم، وهذا ما يشكل عاملاً من الضغط النفسي الرهيب، كما يعيش المواطن الإيراني تحت ضغط "الاقتصاد المقاوم،" حيث وحسب عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، محمد رضا باهنر، فإن عدد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر وصل إلى 18 مليون شخص من أصل 80 مليون نسمة، أي ما يقارب ربع السكان، عوامل دفعت إلى ارتفاع نسبة متعاطي المخدرات، وحسب منظمة مكافحة المخدرات الإيرانية فإن 2.8 مليون مواطن أي حوالي 3.5 في المئة من السكان يتعاطون المخدرات بانتظام، وهذه نسبة عالية بالنسبة لبلد إسلامي محافظ.

تحول النظام الإيراني وبعد حربه مع العراق إلى دولة انتقامية هجومية خوفاً من حرب محتملة عليه، أما مع جيرانه عن طريق التوسع أو عن طريق شن الحروب، أو عن طريق زرع أو دعم ميليشيات وتيارات شيعية متشددة متطرفة دينياً خارج أراضيه على نسق حزب الله اللبناني ولواء فاطميون الأفغاني والحوثيون في اليمن والحشد الشعبي العراقي، ولكن هذا ما كلفه كثيراً مادياً ومعنوياً، وكان كله على حساب بنيانه وقوته الداخلية، إذ رويداً رويداً فقد التواصل مع مواطنيه وفقد المواطن الثقة والأمل "التغييري" بهذا النظام، إذ تكشف للشعب الإيراني أن هذه الثورة لم تفِ بأي من وعودها، وأنها لم تكن سوى حركة دينية إقصائية وإزاحة كل من يعارضها ومن ساهم في نجاحها داخليا، وأن مزراب الذهب الإيراني يتدفق إلى الخارج ليغذي حروب النظام العبثية الخارجية، وهذا ما سمعناه في الهتافات المنددة في التظاهرات "انسحبوا من سوريا وفكروا بنا" و"لا للبنان ولا لغزة.. نعم لإيران" و"الموت لحزب الله".

قد يكون الشعب الإيراني بدأ ثورته الاجتماعية ولكن هذه الثورة لم تبدأ الآن بل كانت تتحضر في النفوس لتنفجر اليوم، لكل شعب ساعة بيولوجية خاصة به، وهي التي تقرر موعد استيقاظه، والشعب الإيراني قد يكون اختار الآن أن يخرج إلى الشارع، إذ لا يهم الإيراني فتوحات النظام الخارجية وهلاله وبدره الذي بشر به قيس الخزعلي من على الحدود اللبنانية، وفي طهران العاصمة هناك من يعرض أطفاله وأعضاء جسده للبيع.

"الثورة الإيرانية" ذات طابع اقتصادي اجتماعي سياسي، ومع تمدد رقعة التظاهرات وتوسعها لتشمل كل محافظاتها وأكثر من 70 مدينة من تبريز إلى الأهواز، مشهد وكرمان، علماً أن ما يصل إلى الإعلام هو القليل، حيث معلوم التضييق الذي يمارسه النظام على وسائل التواصل والإنترنت والإعلام، يتبين أن النظام يخسر يوميا في تعامله مع مواطنيه، وهو يعلم ذلك، ذلك أن الجيل الشاب الإيراني الذي يتحرك للحاق بركب التطور يرى نفسه متأخرا أشواطا عن المجتمع العالمي، وهو يشعر بالإحراج من العيش بهذا التخلف في بلد ما زال يعيد دورة الحياة إلى القرون الوسطى، من هنا تأتي مطالبة الشعب الإيراني "بالاستفتاء" وبتغيير النظام، يكفي ما صدرته الثورة الإيرانية إلى الخارج ونموذجها حزب الله، حيث طالعنا أمينه العام السيد حسن نصر الله في مقابلته الأخيرة يقول إنه لا يستطيع أن يرشح "أخت" إلى الانتخابات حسب تعبيره طبعا، لأنها لا تستطيع أن تقوم بالواجبات الاجتماعية من تقديم عزاء أو تهنئة أو ملاحقة معاملات، ولكن على المجتمع الدولي أن يترك الشعب الإيراني وشأنه، وأن لا يتدخل كما يفعل رئيس الولايات المتحدة الآن، إذ لا يفعل سوى التأثير السلبي على مجريات الأحداث، ودفع النظام الإيراني إلى الاعتماد على هذا الخطاب كتهمة تلصق بهذا التحرك والقول بأن قوى الاستكبار هي وراء التظاهرات.


قد يكون من المناسب أن أعيد ما كتبته منذ شهرين عقب استفتاء كردستان أي منذ أكثر من شهرين: "مرة جديدة تريد إيران أن تخوض حروبا على غير أراضيها، لا يهمها إن قامت حرب وإن سقطت أرواح طالما الدماء هي دماء عربية وكردية، المهم جشعها ومكاسبها طالما الحرب بعيدة عن ديارها، تظن أن الحروب والانقسامات لن تطرق أبوابها، هذه المرة قد تواجه ثورة داخلية بدأت مع ثورة أكراد كردستان".

هذه الثورة مستمرة، وقد يكون النظام ما زال قويا ويستطيع أن يقمع المتظاهرين بالقوة وهو يملك وسائله للقمع، ولكن المهم أنه بات يعلم أن بنيانه تخلخل ولن يستطيع أن يقف شامخا لأن الأرض تحته تزلزلت، وعقدة الخوف انكسرت لأن الشعب يطالب بـ"خبز عمل حرية" قد حدد معالم طريقه وهو بذلك عرف معنى الصرح المزروع في وسط ساحة الحرية في طهران، هذا الصرح الذي يرسم الطريق الذي ينتظر البلد منذ زمن.. الحرية.

اقرأ المزيد
٩ يناير ٢٠١٨
لماذا يجب أن يتغير النظام في إيران ؟

قرابة الأربعين عاما مضت لما يمكن وصفه بآخر الأنظمة ظهورا في المنطقة، وبظهوره شهد الشرق الأوسط أسوأ التحولات والظروف والمتغيرات وعلى مختلف الأصعدة، وطيلة الأربعين عاما لم ينتج هذا النظام للمنطقة وللعالم إلا تراجعا أمنيا وثقافيا وحضاريا كذلك، تحول النظام في إيران إلى أزمة حقيقية للعالم وأزمات يومية متنوعة في المنطقة، ولم يؤسس النظام لنفسه أيا من عوامل البقاء والاستمرار والحيوية، ولم يحقق طيلة أعوامه الماضية أية مكاسب داخلية أو خارجية يمكن أن تجعل من بقائه مطلبا لأي طرف إقليمي أو دولي، بل الواقع على العكس من ذلك تماما.

اليوم على الإيرانيين وعلى المنطقة وعلى العالم كله السعي بكل جدية وواقعية للتخلص من هذا النظام، إنه أشبه ما يكون بتلك الأوبئة أو الأخطار الحضارية المدنية التي يتحفز العالم كله لمواجهتها، حفاظا على أمنه واستقراره ودفاعا عن مكتسباته الحضارية والإنسانية، لماذا إذن يجب التخلص من هذا النظام وتغيير الواقع السياسي في إيران ؟

أولا: يمثل النظام آخر نموذج في العالم للدولة الدينية الكهنوتية المتغلبة بقوة الأساطير والغيبيات، والنظام الوحيد الذي يدار دينيا وسلطته الأعلى هي سلطة الدين لا النظام ولا القانون ولا الأعراف ولا حتى المصالح السياسية، وتمثل المسألة الدينية محور النظام والموجه الفعلي لسلوكه وتوجهاته السياسية، وبالتالي فهو لا ينتمي لنا في هذا العالم الذي تحركه مصالح السياسة والأمن والتنمية والرقي، وما يقوم به النظام من تأسيس ودعم للميليشيات في لبنان واليمن والبحرين لا يَصُب في مصلحته السياسية ولا علاقة له بأمن إيران الإقليمي، بل على العكس من ذلك تماما، وهو يقوم بكل ذلك انصياعا للتعليمات الدينية المتطرفة.

ثانيا: يحاول النظام الدفاع عن نموذجه الذي لو كتب له البقاء فسيمثل شرخا حضاريا كبيرا وسيؤسس كما حاول طيلة العقود الماضية لفكرة أن الدينية الكهنوتية يمكن أن تبني دولة، وهو ما شجع كل الجماعات والميليشيات والأحزاب الموجودة في المنطقة.

ثالثا: تخلو المنطقة العربية اليوم من أي أحزاب أو تيارات مدنية أو علمانية حيث استوعبتها الدولة الوطنية الحديثة، وكل الأحزاب والحركات والميليشيات القائمة التابعة لإيران تنطلق من موقف ديني غير وطني وتمثل أبرز عوامل تهديد الأمن والاستقرار في بلدانها والمنطقة، وأكثرها مصنف في المنطقة والعالم كمنظمات إرهابية، وإذ تمثل تلك الميليشيات أبرز منتج إيراني للمنطقة فهي تعكس رؤية النظام المستقبلية التي تقوم على هدم الدولة الوطنية ومواجهة الانتماء الوطني بالانتماء المذهبي والإعلاء من الطائفية التي تتجاوز الدولة لصالح الميليشيا.

رابعا: أبرز محفز للإسلام السياسي هو النظام الإيراني ويشمل ذلك الإسلام السياسي الشيعي والسني، وبقاء النظام واستمراره يعني توسيع فرص التهديد المستمر للكيانات الوطنية في المنطقة والاستمرار في بناء النظم الميليشياوية المتطرفة التي تريد أن تجعل من الدين والمذهب والطائفة محورا لبناء كيانات جديدة لن تقدم إلا مزيدا من العنف والتشدد ومواجهة كل قيم الحضارة الإنسانية.

خامسا: كانت الحياة العامة في المنطقة قبل الثورة الإيرانية تسير في تصاعد حضاري متوازٍ مع ما يحدث في العواصم الأوروبية، وجولة يسيرة على لقطات للحياة في القاهرة وبغداد ودمشق قبل الثورة تبرز ذلك بكل وضوح، جاءت الانتكاسة الثقافية الكبرى في المنطقة بعد الثورة وأصبح التدين المتشدد إشكالية يومية كبرى هجمت على كل شيء وتراجعت الحياة المدنية في المنطقة وبرزت توجهات مناهضة للثورة الإيرانية لم يكن أمامها إلا الإعلاء من الشأن الديني المتشدد، ردا على مزايدات الثورة واستخداما لذات السلاح وتصاعدت الطائفية في المنطقة إلى أقصى حدودها وتفشت مظاهر التشدد في كل شيء.

سادسا: الجغرافية الإيرانية شبه معطلة اليوم وإسهامها الحضاري والتنموي لا قيمة له لأنها ترزح تحت نظام لا يتصل بالواقع، إنه نظام يقاتل ويتصرف ويبني اقتصاده ومواقفه انطلاقا من الغيب والتاريخ ولا علاقة له بالواقع، وإذا ما تغيرت المعادلة فسيتمكن هذا الجزء من العالم من استثمار مقدراته الحضارية والجغرافية.

سابعا: لا يمكن الرهان على أن يغير النظام الإيراني سلوكه لا في الداخل ولا الخارج، فالقضية ليست أصلا في سلوكه، لأن كل تصرفاته نتيجة طبيعية لبنيته الفكرية التي تأسس عليها، وإذا ما تغير سلوكه بالفعل فهذا يعني تغير بنيته وهو ما لا يمكن أن تقوم به النخبة الحاكمة في طهران.

ثامنا: كل دول المنطقة اليوم في حراك مستمر وواسع نحو مزيد من التغير والتحديث والانفتاح والتعايش وتشهد عواصم المنطقة إيقاعا عاليا في المشاريع والقرارات المدنية التي تعزز قيم الحياة المتحضرة وتصبح جزءا من العالم المتجدد، لكن النظام الإيراني يقع خارج ذلك كله، ويسعى لإعاقة كل تلك الخطوات بالحروب والمكائد والميليشيات والتشدد والطائفية، ولكي تواصل المنطقة نماءها يجب أن تتخلص من هذا الخطر المتربص.

تاسعا: هذا العالم الجميل وهذه الحياة التي تطيب كل يوم وهذه التقنيات والثورات الاتصالية والتقدم في مواجهة الأخطار والانتصار على الأمراض والأوبئة والخطوات الكثيفة نحو مستقبل متحضر حيوي واتصال إنساني وقيمي هو أعلى ما توصلت إليه الإنسانية، كل ذلك لا يمكنه أن يستوعب نظاما كالنظام الإيراني، ولا ذلك النظام لديه القدرة على استيعاب هذا العالم، وبالتأكيد العالم الجديد هو الذي سينتصر.

اقرأ المزيد
٩ يناير ٢٠١٨
ماذا بعد الهجوم على مطار حميميم بصورايخ "حديثة"؟

تعرضت روسيا إلى أكبر هجوم منذ أن تولت حماية النظام السوري عام 2015. فأمس الأول، أكدت المتحدثة باسم خارجيتها، ماريا زاخاروفا الهجوم الذي وقع يوم 31 ديسمبر الماضي، واستهدف مطار حميميم.

وخلال تأكيدها استخدمت زاخاروفا جملة هامة، حيث قالت "القوات الروسية محمية بشكل جيد بفضل منظومة الدفاع الجوي.لكن ما يثير القلق هو أن الإرهابيين يمتلكون أسلحة حديثة..".

وأعلنت المتحدثة أن الهجوم يهدف إلى عرقلة "مؤتمر الحوار الوطني السوري" المزمع عقده في مدينة سوتشي الروسية، والذي تأجل بعد اعتراض تركيا على دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي إليه.

ونفت زاخاروفا ما ذكرته صحيفة كومرسانت، التي كشفت عن الهجوم، عن إصابة سبع طائرات حربية.

ومنذ الكشف عن الهجوم مطلع الأسبوع لم يتبنه أحد حتى الأمس.

من الملفت أن منظومة الدفاع الجوي "Pantsie-S1"، التي تحمي مطار حميميم، على الرغم من تشغيلها، لم تتمكن من تدمير كافة الصواريخ الحديثة المصوبة تجاه المطار. وهذا ما يشير إلى أن عددًا كبيرًا من الصواريخ استُخدم في الهجوم.

السؤال الرئيسي يطرح نفسه في هذه النقطة..

إذا كان الهجوم من تنفيذ عدد من التنظيمات "المتطرفة" ومن بينها جبهة النصرة كما أعلنت موسكو،  يجب العثور على إجابة لسؤال "كيف حصلت على هذا النظام الصاروخي؟".

استخدم داعش صواريخ "غراد" روسية الصنع بعد تركيبها على شاحنات صغيرة. وهذا النظام المتحرك والفعّال في ساحات القتال يمكنه إطلاق 40 صاروخًا على المنطقة ذاتها خلال ثوانٍ.

استخدمت قوات المعارضة صواريخ غراد العام الماضي لدحر هجوم النظام على حلب العام الماضي. ولم تظهر إجابة آنذاك عمن قدم الصواريخ ذات المدى 18-45 كم، للمعارضة السورية. ولاحقًا استخدمت جبهة النصرة وداعش هذه الصواريخ.

وفي الواقع، لم يقتصر هجوم المعارضة السورية بالأسلحة الحديثة على القصف الأخير.

فالأسبوع الماضي أُسقطت طائرة للنظام السوري بواسطة صاروخ محمول على الكتف. وقبل أيام سقطت مروحية روسية من طراز Mi-24 وهي متجهة إلى مطار في حماة وقُتل طياراها، وأعلنت موسكو أن الطائرة سقطت بسبب "عطل فني".

عدم توسع هذه الهجمات المتوالية في إدلب، التي اعتبرت منطقة خفض توتر بموجب مباحثات لأستانة، أمر غير ممكن. فروسيا ردت أمس الأول على الهجوم بقصف مكثف على إدلب. ولم يسلم مستشفى السلام في معرة النعمان خلال القصف.

تمكنت روسيا من كسر إرادة المعارضة والسكان المدنيين في حلب قبل عامين من خلال فرض نموذج يستند إلى القصف المكثف على كل نقطة مستهدفة دون مراعاة وجود مدنيين فيها.

فإذا اتجهت الأمور إلى هذا الاتجاه سيؤثر ذلك على مؤتمر سوتشي الذي يثور خلاف بالأساس حول من سيشارك به.

والأهم من ذلك هو أنه مع انتهاء خفض التوتر في إدلب سيكون هناك موجة نزوح جديدة، وهذا ما ستكون فاتورته ثقيلة على تركيا، وسيجر المنطقة إلى وضع متأزم يستحيل الخروج منه..

اقرأ المزيد
٨ يناير ٢٠١٨
النظام و "قسد": حرب أم مساكنة؟

بدا واضحا منذ انهيار منظومة "تنظيم الدولة الإسلامية" في الشرق السوري أن مرحلة جديدة من الصراع ستفتح بين النظام من جهة و "قوات سوريا الديمقراطية" من جهة ثانية.

وتصريح علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني قبل نحو شهرين من أن الرقة ستكون الهدف المقبل، ليس تصريحا عاديا يمكن المرور عليه، فالرجل الذي يمتلك مهارة سياسية عالية خبرها طوال ستة عشر عاما قضاها كوزير للخارجية، لا يمكن أن يطلق مثل هذا التصريح عبثا.

الوجود الأمريكي الذي يبدو أنه شبه مستدام في سوريا يؤرق طهران ودمشق أكثر مما يؤرق موسكو، فهذا الوجود يمنع النظام من استكمال سيطرته على الشمال والشمال الغربي الغني بالثروات الطبيعية، ويحول دون إعادة عافية الاقتصاد، في وقت يحد من المرور الإيراني البري المريح.

ولا يمكن اعتبار اتهامات الأسد الأخيرة لـ "قوات سوريا الديمقراطية" بالخيانة منعزلا عن هذا السياق، فالتصريح يأتي عشية انطلاق محادثات استانا التي ستحدد في نسختها الثامنة مصير المرحلة المقبلة لمحافظة إدلب ومحيطها، وربما تحدد أيضا طبيعة مواجهة الوجود الأمريكي.


بطبيعة الحال، لا يسمح التوقيت الحالي بإطلاق معركة عسكرية بين النظام و "قسد" بسبب فائض القوة لدى الطرفين، وبسبب رفض موسكو وواشنطن لمثل هذه المعركة، ولعل رفع سقف الرد الكردي على تصريحات الأسد يؤكد أن المعركة غير واردة في هذه المرحلة، لا العكس.

العلاقة بين النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه العسكرية علاقة مفارقة، وربما تكون التعبيرَ الأفضل عن مفارقات الأزمة السورية.

ارتبط الحزب بعلاقات أمنية ـ عسكرية واضحة مع النظام منذ 2012 في حين رفض أن يكون جزءا من سياسته، ويرتبط بتحالف واضح مع الولايات المتحدة بينما يمد جسور التواصل والتنسيق مع الروس، ويرفض محاربة النظام في حين يقدم نفسه على أنه جزء من المعارضة.

هذا الوضع المعقد سمح للحزب وأذرعه العسكرية بالبحث عن مساراتهم الخاصة، دون الوقوع في مصيدة النظام / المعارضة.

    ما جرى قبل أشهر بين النظام و "قسد" في بلدة العكيرشي بالرقة، وما جرى في أحياء حلب قبل أيام، يمكن أن يتكرر في مناطق عدة تسيطر عليها "قسد"، خصوصا في أقصى الشمال الشرقي وأقصى الشمال الغربي لسوريا.


وهكذا نشأت خلال السنوات الماضية معادلة "تحالف الضرورة"، لكن تحت هذا التحالف يكمن الخلاف العميق بين الجانبين، وظل كل طرف ينظر إلى الآخر على أنه عدو، لكنه عداء مؤجل حكمته ضرورات الحرب: بالنسبة للنظام فإن الأولوية هي لمحاربة فصائل المعارضة الوطنية التي تمتلك وحدها الشرعية في تغيير الحكم، وبالنسبة للوحدات الكردية فالعدو الرئيسي هو الذي يمنعها من بسط هيمنتها في مناطقها.

في المراحل السابقة لم يمنع النظام توسيع النطاق الجغرافي لهيمنة "قسد"، لكنه اليوم لا يتحمل بقاء الوضع على ما هو عليه، ويبدو مستعجلا للقيام بخطوات عسكرية ما، لا تصل إلى مستوى فتح معركة متكاملة، لكنها كافية لضبط العلاقة مع القوى العسكرية الكردية، مستغلا الاستعجال التركي لحسم مصير ريف حلب الغربي والشمالي.

وإذا كان مفهوما النشاط العسكري التركي خلال المرحلة السابقة في ريف حلب الغربي وإزالة الجيش التركي لقسم من الجدار المحاذي لمدينة عفرين، فإن توجه قوات عسكرية روسية من مدينة تل رفعت إلى قرية الشيخ هلال لا يبدو مفهوما، ذلك أن الدخول العسكري الروسي إلى تل رفعت قبل أشهر كان بهدف ضمها إلى مناطق خفض التوتر وقطع الطريق أمام الأتراك.

إما أن الروس يمهدون الطريق للأتراك للسيطرة على تل رفعت ومحيطها مقابل ترك عفرين للوحدات الكردية، أو العكس، أي ترك الروس تل رفعت للوحدات الكردية مقابل تخليها عن عفرين إما لصالح تركيا أو لصالح النظام.

وثمة احتمال آخر متعلق بترسيم الروس للحدود بين "قسد" وفصائل المعارضة في تلك المنطقة، كمقدمة لتسيم جغرافي في عفرين بحيث تحل قوات النظام محل الوحدات الكردية، لتترك محافظة إدلب لتركيا في هذه المرحلة على الأقل.

    فرضت المرحلة السابقة إقامة "تحالف الضرورة" بين النظام والوحدات الكردية، في حين ستفرض متطلبات المرحلة المقبلة إقامة ما يمكن تسميته "مساكنة الضرورة"


وما جرى قبل أشهر بين النظام و "قسد" في بلدة العكيرشي بالرقة، وما جرى في أحياء حلب قبل أيام، يمكن أن يتكرر في مناطق عدة تسيطر عليها "قسد"، خصوصا في أقصى الشمال الشرقي وأقصى الشمال الغربي لسوريا.

لن تسمح روسيا بنشوء معركة عسكرية بين النظام والوحدات الكردية، ليس فقط لأن هذه المعركة ستؤدي إلى مواجهة مع الولايات المتحدة فحسب، بل لأن الروس بحاجة ماسة إلى القوى العسكرية والسياسية الكردية في المرحلة المقبلة لاستكمال مخططاتها في رسم معالم التسوية السورية.

وإذا كانت القوة الكردية تعبر عن نفسها عسكريا على أرض الواقع، فإنها ستعبر عن نفسها في مقبل الأيام كقوة سياسية، هذا أمر تدركه موسكو ولذلك تبدو حريصة على إدخالهم إلى الساحة السياسية عبر مؤتمر سوتشي المقبل.

وبناء على هذه الوقائع والتطورات؛ يصعب تحديد مسار العلاقة بين النظام والوحدات الكردية، ويرتبط الأمر بطبيعة التحالف الأميركي/ الكردي، ومدى وحدود السياسة الأميركية في الشمال السوري.

لقد فرضت المرحلة السابقة إقامة "تحالف الضرورة" بين النظام والوحدات الكردية، في حين ستفرض متطلبات المرحلة المقبلة إقامة ما يمكن تسميته "مساكنة الضرورة".

اقرأ المزيد
٨ يناير ٢٠١٨
إيران.. لحظة الحقيقة

حتى أسبوع مضى، كانت إيران تبدو مستقرّة، لم تصل إليها رياح التغيير التي عصفت بالمنطقة، أو تتأثر من جرّاء الحروب الكبيرة من أفغانستان إلى لبنان واليمن، مرورا بالعراق وسورية. وعلى الرغم من أنها محرّك أساسي في كل ما يحصل داخل هذه الجغرافيا الشاسعة المتفجرة، إلا أنها بقيت قادرةً على تجنيب نفسها وصول الشظايا إليها.

منذ أسبوع، قرّر الشارع الإيراني أن يهزّ ثبات المعادلة التي تعايش معها الإيرانيون عدة عقود، ويولّد مفاجأةً خارجةً عن كل الحسابات. هذه هي المرة الأولى التي يواجه الحكم في إيران، منذ سقوط الشاه، حركةً احتجاجيةً  واسعة، تضع البلد أمام استحقاقاتٍ كثيرة، داخلية وخارجية.

ويكمن التحول الأساسي في تحرّك الشارع ضد نظام الحكم، وهو الأمر الذي لم يكن في حساب أحد، وقد حصل الأمر من دون مقدماتٍ أو أي إشاراتٍ وعلاماتٍ مسبقة، ويبدو، حتى الآن، أن العالم الخارجي ليس وحده الذي فوجئ بالهزّة الشعبية في بلدٍ اعتاد الزلازل، بل السلطة الإيرانية نفسها التي يشهد العالم بصلابة نظامها الأمني والاستخباراتي الذي بلغ من القوة حد إحصاء أنفاس الشعوب في عموم المنطقة، وليس شعب إيران فقط.

وصل النظام الأمني والسياسي الإيراني إلى درجةٍ من التعقيد التي يبدو فيها التفكير بإمكانية زعزعته من الداخل ضربا من الخيال، وهو يعد الإنجاز الوحيد الذي استطاعت أن تحقّقه المؤسسة الحاكمة منذ نحو أربعة عقود. كل ما قامت به هو الاستثمار في بناء نظام حديدي قائم على أجهزة أمن وجيش وطبقة واسعة من رجال الدين، وما عدا ذلك، لم تنجز اقتصادا متينا، ولا دولة مدنية حديثة، تحكمها المؤسسات والقانون.

أهمل النظام الإيراني شعبه، وصرف جل وقته، وسخّر موارده الاقتصادية، على تحقيق طموحاتٍ خارجية، بدءا من تصدير الثورة في مطلع الثمانينات، إلى بسط النفوذ على عواصم عربية ذات ثقل سياسي وتاريخي، مثل دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء. ومن هنا، وصل الوضع الداخلي الإيراني إلى مستوىً من التعقيد الذي يجعل من الحراك الشعبي ضده اليوم مشتبكا ومتداخلا ومرتبطا بقضايا خارجية كثيرة، في الوقت الذي يفتح فيه الأبواب بسهولةٍ لأعدائه الخارجيين.

الأعداء الخارجيون للنظام الايراني كثر، ومن لم يكن عدوا فقد كان يسايره من أجل مصالح ومنافع اقتصادية او سياسية. ويأتي الحدث اليوم ليعيد خلط الأوراق، ويجعل من حركة الشارع بوصلةً للمواقف الخارجية، فإذا كسبت الاحتجاجات مساحةً تستطيع أن تقف عليها لمواجهة أجهزة القمع ستجد إلى جانبها كل القوى الإقليمية والدولية المتضرّرة من النظام الإيراني، وفي هذه الحالة سوف يزيد الضغط عليه من أجل استنزافه، وتصفية الحسابات معه. وحتى لو نجح النظام في احتواء الاحتجاجات، فإنه لن يتمكّن من ذلك إلا من خلال القوة، وهو في هذه الحالة لن يكون في موقع من ربح الرهان، بل سوف يخرج ضعيفا، ويجد نفسه، بعد حين، مجبرا على التراجع، من أجل حماية نفسه، وهو في هذه الحالة سوف يضطر للانكفاء نحو الداخل، وسيوظف إمكاناته وجهوده، من أجل حماية القلعة الداخلية. وهذا يعني أن مشروع الأطماع الخارجية الإيراني سوف يبدأ بالتراجع التدريجي، طبقا لحجم التهديد الداخلي الذي سوف يواجهه النظام، غير القادر، في وضعه الحالي، على تقديم حلول عاجلة لمشكلات اقتصادية مزمنة.

هذه هي المرة الأولى التي يتعرّض فيها المشروع الخارجي لامتحان فعلي، ففي المرات السابقة، سواء الحرب مع العراق، أو التدخلات الحالية في لبنان وسورية والعراق واليمن، كان الشارع الداخلي متماسكا وموحّدا، أما اليوم فلم تعد الصورة كذلك، وبات الانقسام واضحا، وترجم النظام إحساسه بالخطر عبر المظاهرات المضادّة التي أراد منها القول إن شرعيته الشعبية لم تتأثر.

اقرأ المزيد
٨ يناير ٢٠١٨
الإعلان عن النخبة الحاكمة السورية الجديدة

وكأن روسيا وإيران وتركيا قد أنجزت كافة التسويات وانتهت من صناعة السلم في سورية ورتبت جميع الملفات المتعلقة بالصراع في هذا البلد المنكوب، وهي الآن بصدد وضع اللمسات الأخيرة، والتي غالباً ما تتعلق بهيكلية الحكم وتوزيع المناصب وترسيم أدوار الفاعلين.

الهروب من جنيف إلى سوتشي، في حين لم يتم إنجاز تفصيل صغير واضح، ليس هدفه ترشيق المفاوضات على ما يقول الروس وتحريكها عبر ورشة عصف فكري تتكون من 1700 شخص يمكنها إنتاج أفكار خلاقة تنقذ المفاوضات من مأزقها الحالي ووضع الجمود الذي وصلت إليه، وتقديمها لوفدي النظام والمعارضة باعتبارها أفكار من صناعة سورية وتملك قوة معنوية، كون الروس يعتبرونها «سوتشي» ممثلة لجميع السوريين، ما دام أن الألية التي ستنتجها اسمها المؤتمر الوطني، وأن أعضاءه يمثلون كامل الطيف السوري، بطوائفه وقومياته وطبقاته وفئاته وشرائحه.

وليس خافياً أن الهدف من وراء ذلك، هو إيجاد آلية جديدة تحتل مكانة عليا وتصبح جميع الأطر والآليات الأخرى تابعة لها على قاعدة التدرج، فيمكن تحديد مشروعية أي إطار انطلاقا من مدى توافقه مع طروحات الألية الكبرى التي لا يجوز مخالفة ما تقرره، وإن كانت تسمح بالإجتهاد ولكن دائما تحت سقف ما تقرره هي، وضعية تشبه تراتبية الدستور مقارنة بالقوانين المحكومة بالتكيف الدائم معه، وفي حال الاختلاف يتم الرجوع إلى هذا الإطار واستبعاد الأدنى لمصلحة الأسمى، والذي سيكون هنا الأمن والاستقرار والشرعية وفق تعريف الثلاثي المقرر روسيا وإيران وتركيا.

حسناً، ألم يطالب السوريون بتغيير سياسي، هذا تغيير سياسي يكاد يوازي قلب منظومة حكم كاملة وإحلال أخرى بدلاً منها، والأمر لن يقتصر عند المئات التي ستحضر سوتشي بل سيتم ضخ الألاف من الكوادر الجديدة في مؤسسات الدولة، من عناصر ميليشياوية وأعضاء لجان محلية وأشخاص تمت تسوية أوضاعهم عبر ما يسمى بالمصالحات، وهم من أبناء المناطق ويعرفون احتياجاتها ومطالب سكانها، كما تكونت لديهم خبرات إدارية وتفاوضية ويستطيعون القيام بالتوسط بين القاعدة الشعبية والهرم السلطوي.

النخبة التي ستقود هؤلاء جميعاً وستقود سورية في المرحلة المقبلة، هي التي سيتم الإعلان عنها في سوتشي، بعد أن تحدّد قوائمها روسيا وإيران وتركيا !، ويبدو أن العدد المعروض أكبر من قدرة مؤتمر سوتشي على إستيعابه لذلك سيتم غربلته لإختيار المناسب والأفضل.

وتتكون هذه النخبة في الغالب، وكما بات معلوماً لدى السوريين، من أشخاص مفحوصين، تم اختبارهم واختيارهم بعناية، في قاعات قاعدة حميميم ودهاليز المعسكرات الإيرانية ومكاتب المخابرات السورية، والكثير منهم تمت صناعتهم خصيصاً لمثل هذه المهمة، وغالبية هذه النخبة برزت في الحرب وأثبتت فعاليتها في خدمة الروس والإيرانيين ونظام الأسد، وهم تجار حروب وقادة ميليشيات وحزبيين متنقلين. أو من الرماديين والمتشاطرين الذين يسيرون مع الموجة. فضلاً عن أولئك الذين يقدّرون أن الحرب انتهت لصالح نظام الأسد ومشغليه وآن الأوان كي يلحقوا بالركب.

مهمات هذه النخبة ستكون واسعة، فهي بعد تقديم أوراق إعتمادها والإعلان الصريح عنها، ومن ثم إعلان موافقتها على المشروع الروسي للدستور وشكل الانتخابات المقبلة، لن تذهب للعطالة، بل سيكون مطلوب منها التجهّز لمهام تشريعية وتنفيذية أخرى، باعتبار أن هذه النخبة هي البنية التحتية للحكم، وهي من ستتولى إدارة البرلمان والبلديات والمجالس المحلية والنقابات، وستزكّي النخبة التنفيذية الأدنى التي ستتولى تنفيذ المهمات المقبلة في مرحلة الإعمار من إصلاح وتنظيف الشوارع إلى تسيير شؤون قطاعات التعليم والصحة وغيرها.

وبالطبع، بالنسبة للبنية الفوقية للحكم، وهي هنا رأس النظام وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، فهي بنية مقدسة وخارج أطر النقاشات، إما بذريعة انها شرعية، على ما يؤكد الروس، أو لضرورة الأمن والاستقرار، وكل ما هو ممكن هنا، تغيرات على مستوى الحكومة، والتي هي بالمناسبة بنية غير فاعلة أو مؤثرة في تنظيم الحكم في سورية.

ما قبل سوتشي لن يكون كما بعدها، إذ ستصبح محرمة المطالبة بالانتقال السياسي كما سيصبح جرماً المطالبة برحيل الأسد، وفق المنطق الروسي ستكون الوقائع السياسية قد تجاوزت هذه الأمور، ومن يلجأ لها سيكون إما شخص غير بناء وإما في أهون الأحوال منفصل عن الواقع. فما دام قد جرى النص على تغيير الدستور أو إصلاحه وإجراء إنتخابات بما فيها البرلمانية والرئاسية فإن الميدان السياسي للأزمة السورية يكون قد أغلق الباب على أي مطالب أو إعتراضات جديدة، وحاصة وأنه تم بموافقة الأمة السورية جمعاء عبر ممثليها الذين حضرو مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي.

ليس ثمة خيارات ذات قيمة لدى المعارضة لمواجهة هذه الإستراتيجية الماكرة لتصفية القضية السورية، وبخاصة في ظل تراجع دولي أمام الثلاثي الصانع لهذه الإستراتيجية، وتغير مطالب البيئة الدولية، لكن ذلك لا يعني الاستسلام والرضوخ، بل على المعارضة إدراك حقيقة أن قيمتها في التصنيف الشعبي والدولي تضعها في مكان لا تستطيع روسيا تجاوزه، ورفضها لمؤتمر سوتشي وعدم حضوره سيجعلان المؤتمر مجرد فكرة فاشلة بلا أي قيمة، وستكون قيمته الوحيدة كشفه لقوائم العملاء والمرتبطين بالأجهزة الروسية والإيرانية والتركية.

اقرأ المزيد
٨ يناير ٢٠١٨
ما وراء الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة

تمر إيران، منذ أكثر من أسبوع الآن، بحالة من الاضطرابات الداخلية إثر الحشود العارمة من مختلف الأحجام التي تنظم المسيرات الاحتجاجية في أكثر من 30 مدينة إيرانية لم تُستثنَ منها العاصمة طهران. وبفضل المشاهد التي لم تُشاهد في هذا البلد منذ عام 2009 عندما تمكن النظام الحاكم من إخماد الانتفاضة الشعبية في طهران، ثارت كثير من التساؤلات حول ما يُشار إليه مؤخراً، وعلى نحو مجازي، بـ«الأحداث».
والسؤال الأول المطروح هو: من هم المتظاهرون؟

كما جرت العادة، يحلل النظام الإيراني الاحتجاجات بأنها نتيجة لمؤامرات من قبل الولايات المتحدة التي، مع مغادرة الرئيس باراك أوباما الذي سعى إلى نوع من التوافق مع القيادة الحالية في طهران، قد أصبحت - تحت إدارة الرئيس دونالد ترمب - عاقدة العزم على تغيير النظام الحاكم في
البلاد.
والتحليل الحكومي الإيراني يتسم بكثير من الصبيانية حتى يستحق مناقشته بصورة جدية ومفصلة. ويكفي القول إنه في حين أن إدارة الرئيس ترمب تفضل بالفعل تغيير النظام الحاكم في إيران إلا أنها، وحتى الآن على أقل تقدير، لم تفعل أي شيء على الإطلاق للتحرك على هذا المسار.
وعلى أية حال، إن كان تغيير الأنظمة الحاكمة بهذه السهولة لكانت الولايات المتحدة قد نجحت في تنفيذ ذلك مع كوبا وكوريا الشمالية منذ فترة طويلة.
ويمكن للولايات المتحدة، عبر سياقات مختلفة، إضافة إلى القوى الكبرى الأخرى، المساعدة في إطالة حياة أي نظام حاكم من خلال منحه الشرعية التي لا يستحقها وإمداده بالمساعدات الاقتصادية والسياسية التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة.

وهذا بالضبط ما صنعته إدارة نيكسون - فورد الأميركية تجاه الاتحاد السوفياتي في سبعينات القرن الماضي.
وهذا أيضاً ما صنعته إدارة أوباما للجمهورية الإسلامية بين عامي 2009 و2017، ولا يزال الاتحاد الأوروبي يتابع تنفيذ هذه السياسة حتى الآن.

ومع ذلك، وبعيداً عن الغزو العسكري الكامل، لا يمكن لأية قوة خارجية، مهما كانت عظمتها وسلطتها، أن تنجح في إسقاط نظام حاكم يحظى بقدر ولو يسير من الدعم المحلي وما يكفي من الثقة الذاتية التي تؤهله لمواجهة التحديات والصعاب.
ومما لا شك فيه، تندفع القوى الكبرى بين الحين والآخر صوب مستنقع مؤامرات تغيير الأنظمة الحاكمة، ولكن غالباً ما ينتهي الأمر بها إلى المراهنة على الجياد التي يمكن أن تتحول إلى الركض بأسرع ما تستطيع.
إن تغيير النظام الحاكم هو عمل الشعب المعني بالأحداث الداخلية في بلاده، ولا يمكن للقوى الخارجية سوى المساعدة من خلال عدم دعم الظالمين.

ولكن إن لم تكن الأحداث الإيرانية الأخيرة «مؤامرة أميركية»، فمن يحتج ويتظاهر الآن في إيران؟ والإجابة المباشرة هي: إنه الشعب غير الراضي عن طغمته الحاكمة.وبقدر ما تمكنت من متابعة الاحتجاجات الجارية في إيران فإنها تجري تقريباً في كل المحافظات الإيرانية ويتصدرها الشباب المتعلمون والرجال والنساء من أبناء الطبقة المتوسطة الذين يرغبون في الإعراب عن مظالمهم المشروعة ضد النظام الحاكم الذي أثبت فشله داخلياً على كل الأصعدة والمجالات.
وبعض من هذه المظالم ذات طبيعة اقتصادية؛ إذ إن البطالة الجماعية من القضايا الكبرى في إيران مع نسبة 25 في المائة من خريجي الجامعات عاجزون عن العثور عل

ى عمل لمدة بلغت 4 سنوات بعد التخرج. وتقول الإحصاءات الرسمية إن معدلات البطالة تقترب من 12 في المائة، وعندما يتعلق الأمر بالمناطق الحضرية الكبرى فإن المعدلات ترتفع عن ذلك بكثير.
ثم هناك مشكلة التضخم، الذي بلغت نسبته 13 في المائة على أساس سنوي، ويسبب التآكل الشديد في الدخول الضئيلة للأسر المتوسطة في البلاد.


ومما يزيد الأمور سوءاً انتشار الفساد والاختلاس على نطاق كبير وواسع.
وفي عام 2017 وحده، انهارت خمسة مصارف وصناديق استثمارية، مما عصف بمدخرات ما لا يقل عن 2.5 مليون أسرة من الطبقة المتوسطة والطبقة دون المتوسطة

. وحيث إن المؤسسات المنهارة كان يسيطر عليها الملالي البارزون أو كبار جنرالات الحرس الثوري، فإن فشل هذه المؤسسات يعتبر فشلاً للنظام الحاكم ذاته. وأدى انهيار صناديق المعاشات، بما في ذلك معاشات المعلمين، إلى تفاقم آثار فضائح الفساد. ومن المثير للاهتمام، أنه لم يتم اعتقال أحد على خلفية أي من حالات الفشل المعلنة تلك، إذ يعتقد أن المسؤولين عنها قد سمح لهم بالفرار إلى المنفى الاختياري في كندا.
ومع ذلك، أظهرت الاحتجاجات أنه يستحيل الفصل بين القضايا الاقتصادية المحضة والسياسية المحضة في البلاد. وفي الواقع، فإن كل القضايا في أي مجتمع تحمل السمة السياسية في خاتمة المطاف بسبب أن السياسات تؤثر على مناحي الحياة كافة.
على سبيل المثال، يستند إعفاء كثير من المصارف وصناديق المعاشات الإيرانية من قواعد الشفافية والمساءلة القانونية بحجة أنها تخضع لسيطرة كبار الملالي أو جنرالات الحرس الثوري، إلى قرار سياسي في المقام الأول. وحقيقة أن يتخرج في إيران مئات الآلاف من الرجال والنساء الحاصلين على الدرجات الجامعية من دون مهارات حقيقية تفيدهم في سوق العمل هو ثمرة قرار سياسي بكل تأكيد.
كما كشفت الاحتجاجات أيضاً عن إدراك كبير لدى المواطنين العاديين للتكاليف الهائلة للسياسة الخارجية الإيرانية المضللة التي حولت إيران إلى شريك في الجرائم التي يرتكبها الطغاة في سوريا والإرهابيون في لبنان واليمن. فليست هناك مصلحة مباشرة لإيران في دعمها لبشار الأسد وذبحه للشعب السوري أو لتأييد حسن نصر الله الذي يقوم بدور المملوك المطيع في بيروت.
ومن بين الشعارات المتكررة في كل الاحتجاجات الإيرانية كانت الدعوة إلى الإفراج الفوري عن كل السجناء السياسيين في البلاد. وحقيقة أن الجمهورية الإسلامية ظلت طيلة أربعين عاماً تحتل المرتبة الأولى عالمياً في عدد السجناء السياسيين والمرتبة الثانية عالمياً بعد الصين من حيث حالات الإعدام، هو أمر يرجع بالأساس إلى القرارات السياسية وليست اقتصادية.
هل تسير إيران على طريق تغيير النظام؟
توصلت، قبل أكثر من عشر سنوات، إلى استنتاج مفاده أن تغيير النظام هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها إنقاذ إيران من المأزق التاريخي الذي خلقه هناك الخميني وزمرته. ولقد توصلت إلى هذا الاستنتاج، والذي بسطت القول بشأنه في كتابي بعنوان «الليلة الفارسية»، وهو لا يتعلق بحبي للنظام الخميني من عدمه، وأنا فعلاً لا أحب هذا النظام. ولا يتعلق الأمر أيضاً بفكرة أن النظام الخميني هو أسوأ حالاً من حلفائه في كوريا الشمالية أو فنزويلا أو زيمبابوي، بل إن طرحي للمسألة يستند إلى اعتقاد مفاده أن النظام الخميني، سواء كان جيداً أو سيئاً، قد عفّى عليه الزمن ولم يعد يعمل بكل بساطة. وهو نفس الاستنتاج الذي توصل إليه الكثيرون ممن يعملون داخل النظام نفسه.
وحتى وقت قريب، اعتقدت حفنة ممن هم داخل النظام أو يعملون في دوائر قريبة منه أنه يمكن تفادي مواجهة تغيير النظام الحاكم بإجراء تغيير داخلي في النظام نفسه. غير أن أعواماً طويلة من التجارب حول هذا المفهوم تحت قيادة محمد خاتمي ومؤخراً حسن روحاني، قد أثبتت افتقار نظام الخميني لأية آلية فاعلة للإصلاح والتغيير من الداخل. وبالنسبة لإيران، فإن تغيير النظام الحاكم هو الخيار الأكثر حكمة، والأكثر تعقلاً، والأقل تكلفة. وهذا لا يعني بالضرورة أنني أتنبأ بتغيير النظام الحاكم في طهران من الآن وحتى بداية السنة الفارسية الجديدة في مارس (آذار) المقبل. بل إن كل ما أقوله هو إذا ما أراد الشعب الإيراني لبلاده أن تتخلى عن صفوف الخاسرين والأمم المضطهدة فإنهم في حاجة إلى نظام جديد وأفضل من اختيارهم. أما بالنسبة للقوى الأجنبية الحالمة بالتوافق مع إيران، فأقول: عليكم التخلي عن تلك الأوهام. فإن النظام الذي يعاني من مشكلات مع شعبه فإنه يعاني ولا بد من مشكلات مع البلدان الأخرى.
وبعد مرور أربعين سنة من استيلاء الملالي على الحكم، لا بد لإيران أن تتوقف عن العمل كمطية للثورة المفلسة وتعاود اكتشاف الذات كدولة قومية تتصرف تصرف الدول العادية.
وهذا الأمر يستلزم تغيير النظام.

اقرأ المزيد
٧ يناير ٢٠١٨
هل يغير أكراد سورية معادلات التسويات في سوتشي؟

ينطلق الموقف التركي في مقاربته للحلول المقترحة للصراع السوري من مسألتين أساسيتين: أولاهما، ما يتعلق بأمنه القومي الذي يهدده، وفق تعبيره، «الحزام الإرهابي» في تسمية صريحة للإدارة الذاتية الكردية. وثانيتهما، ما يتعلق بنصيب تركيا من التحكم بالصراع الدولي على سورية، ورغبتها في ضمانة التهدئة «المزعومة» في إدلب وعفرين وفق اتفاقات «خفض التصعيد»، التي وقّعت في جولات آستانة، باعتبار أنها تتعلق مباشرة بالمسألة الأولى الخاصة بمنع قيام دولة كردية تمتد من شرق سورية إلى البحر المتوسط. ولعل هذا ما يفسّر اليوم خفوت الحديث عن المشاركة في مؤتمر سوتشي التي تدعو روسيا اليه، بهدف تنويع خيارات الحلول الروسية، من العسكرية التي توّجتها بمسار آستانة، ومؤتمر سوتشي الذي يؤسّس لعلاقة جديدة بين المعارضة والنظام السوري على أساس التسويات المباشرة، بعيداً من القرارات الأممية الصادرة بخصوص القضية السورية.

وتتحدد جملة التفاهمات التركية الدولية والإقليمية ومنها (التركية- الروسية، أو التركية- الأميركية) في سياق ضمان «الأمن القومي التركي»، بعيداً من تفاصيل وأسباب الصراع السوري- السوري، وغير متطابقة مع مواقف تركيا وتصريحات قادتها الداعمة لمطالب المعارضة السورية، وكل ما يحقق مصلحة تركيا الأمنية هو المعيار الأساسي لها في التفاهمات مع الدول المتصارعة على سورية، وهو ما أدى إلى إعادة العلاقات مع روسيا، على رغم الخلافات التي وصلت إلى حد القطيعة إثر إسقاط القوات التركية مقاتلة حربية روسية من طراز سوخوي 24 (25 /11/ 2015).

وعلى ذلك كان التقارب مع روسيا نتيجة مباشرة لتوتر العلاقات التركية ـ الأميركية حيث اعتبرت تركيا أن الولايات المتحدة تساند عدوها التاريخي «الأكراد»، الذين تعتبرهم امتداداً لحزب العمال الكردستاني المحظور والمصنف «بالإرهابي»، ما ساهم بتبني حكومة أردوغان مشروع روسيا «الانشقاقي» عن المسار الأممي التفاوضي السوري-السوري في جنيف، والانجرار وراء مسار آستانة الذي يجمع بين المتناقضين والمتواجهين في الصراع على سورية، أي موسكو وطهران من جانب النظام، وتركيا من جانب المعارضة السورية. وأيضاً، مع تقاطع المصالح مع النظام السوري، الذي يتشارك مع تركيا مخاوفها من التحركات الكردية وانتزاع مناطق الشمال لإعلان كيان مستقل عن سورية، الأمر الذي هيأ الظروف لاستمرار مسار آستانة وعقد اتفاقيات خفض التصعيد العسكرية تحت مظلته.

إلا أن التذبذب الروسي الذي يراوغ في موقفه من القضية الكردية في سورية، بين مراعاة رغبة الولايات المتحدة، التي تسيطر على الشمال والشرق من سورية (مناطق السيطرة الكردية)، والتردد في تنفيذ اتفاق «خفض التصعيد» في مدينة إدلب، والتي وضّحها تصريح وزير الخارجية الروسي لافروف، خلافاً للتفاهمات الآستانية مع تركيا، بإعلانه أن «المهمة الرئيسية لقواته هي تدمير جبهة النصرة بعد أن اعتبر أن المعركة ضد داعش في جزئها الرئيسي انتهى». ما وضع اشارات استفهام كبرى من قبل تركيا حول جملة التفاهمات التي انبثقت من آستانة، والتي تعطي تركيا وليس روسيا هذه المهمة في إدلب، ما يعني أن واقع التفاهمات الروسية ـ التركية في مسألة تقاسم النفوذ في سورية قد يشهد تغييراً في ملامح الخريطة النهائية، التي كانت تركيا قد اطمأنت إليها، وبدأت بإعادة انتشار فصائل المعارضة وهيكلتها وفق ما يخدم الوجود التركي، والمعركة التي تستعد لها مع هيئة تحرير الشام «النصرة سابقاً».

أيضاً فإن التصريحات الروسية التي أكدت دعوة ممثلي الادارة الذاتية الكردية إلى مؤتمر سوتشي، خلافاً للوعود التي قدمت لتركيا، ولفصائل المعارضة المشاركة في الجولة الثامنة لمحادثات آستانة (كانون الأول من العام المنصرم)، يضع عملية التقارب مع الجانب الروسي على شفا الانهيار وكذلك تفاهمات سوتشي، في وقت تلوح فيه الإدارة الأميركية بإمكانية فتح صفحة علاقات جديدة مع حكومة أردوغان، على رغم وقوف كلا الطرفين على الضفتين المتواجهتين فعلياً.

بناء على ذلك فإن خيارات تركيا اليوم تتراوح بين التمدد باتجاه الانفتاح على المشروع الأميركي، أو المضي في المسارين الروسيين (آستانة وسوتشي)، ما يضعها أمام خيارين مرّين، أي بين التحالف مع داعم عسكري لقوات سورية الديموقراطية التي تناصبها العداء، أو التماس الطريق الروسي إلى «سوتشي» التي تمنح الإدارة الذاتية الكردية الدعم السياسي، من خلال مشاركتها في حوار اعتبرته روسيا مؤسساً للحل السياسي بين «الشعوب» والمكونات السورية.

وفي كلا الخيارين تتخوف أنقرة من تجرّع هزيمة مطالبها بما يتعلق بتحجيم دور أكراد قوات سورية، وإبعاد شبح إقامة «كانتون كردي» على الحدود الشمالية السورية المقابلة لمناطق تركية ذات الأغلبية الكردية، وهو ما دفع القوات التركية- التي تعثرت حركتها أكثر من مرة- لإعلان بدء معركتها مع القوات الكردية، لتحرير منطقة عفرين بهدف تبديد الحلم الكردي بوصل مناطق نفوذهم، من مدينة المالكية شرقاً حتى جبل الأكراد والتركمان على الساحل السوري غرباً، والوصول إلى البحر المتوسط.

ولعل تعويل تركيا على إنهاء الدعم الأميركي للقوات الكردية، لتحقيق استدارة كاملة من طرفها عن المشروع الروسي لايزال يفتقد «الثقة» بسبب التصريحات المتضاربة للمسؤولين الأميركيين حول دعم الأكراد، إلا أنه ومع تلك التصريحات يمكن ملاحظة أمرين في هذا السياق:

-اعلان قيام جيش كردي مع قوميات عربية وشركسية وسريانية في الشمال السوري (جيش شمال سورية) من جانب الأكراد من دون أي اشارة أميركية لذلك، على رغم الإعلان الأميركي عن مساعدات عسكرية للمعارضة بقيمة 500 مليون دولار، منها 100 مليون للتدريب العسكري، علماً أن الحديث الأميركي لم يخصّص «قوات سورية الديموقراطية» بأي تصريح مباشر حول هذه المساعدات، بينما تحدثت للمعارضة السورية التي قد تكون القوات الكردية منها.

-الدعم الأميركي المعلن من قبل إدارة ترامب، والذي لا يختلف عن الدعم المعلن من قبل ادارة أوباما عام 2015، وقد أدت الظروف المحيطة بعمل فصائل المعارضة العسكرية والسياسية إلى افشال توجيهه إلى فصائل الجيش الحر لتشكيل جيش موحد لقتال «داعش»، حيث رفضته آنذاك قادة الأركان والائتلاف والحكومة الموقتة (سليم إدريس، خالد خوجا، احمد طعمة)، لتتوجه المساعدات الأميركية إلى القوات الكردية التي قدمت نفسها كقوة معتدلة ومنظمة ووافقت على الشروط الأميركية. لذا ربما يمكن القول اليوم إن تركيا التي دفعت ثمناً باهظاً بسبب عدم تفهم دواعي تشكيل الجيش الموحد لقتال «داعش»، قبل ما يزيد عن عامين ونصف العام، يمكن أن تدفع المزيد اليوم لو كررت الفصائل المبررات نفسها «التي يشك في أنها بدفع تركي» لرفض العرض الأميركي.

في هذه الظروف والمداخلات قد تتسبب تركيا بنفسها -مرة أخرى- في حصر المساعدات الأميركية بالقوات الكردية من دون سواها، وتكون سهلت فتح الطريق أمام مواجهة بين فصائل سورية مدعومة تركياً مع أكراد سورية، من دون أي دعم دولي، وبأدوات فصائلية إسلامية غير مرحب بها مجتمعياً ودولياً، في حرب ستكون ظالمة لكلا الطرفين، وضدهما. وفي مثل هذا الوضع ربما يصبح المجال مفتوحاً على مصراعيه أمام قوات سورية الديموقراطية لتكون الطرف الفاعل في تغيير معادلات التسوية التي قامت عليها مبررات انعقاد مؤتمر سوتشي، ما يبقي الصراع السوري في غاية التعقيد، والتداخل، وهذا لا يقتصر على النظام الذي سلم قراره لإيران وروسيا، بل وعلى المعارضة التي لم تتلمس طريقها الصحيح بعد في التعاطي مع القضية الكردية من منظور سوري بحت، وهو حتماً يشمل مختلف الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة أو المتورطة في هذا الصراع.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)
● مقالات رأي
١٣ مايو ٢٠٢٥
"الترقيع السياسي": من خياطة الثياب إلى تطريز المواقف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري