
القمح في خطر: سوريا تفقد محصولها الاستراتيجي تحت ضغط الجفاف
عاد أبو خالد إلى قريته في ريف إدلب بعد سنوات من النزوح، حاملاً أملاً يتكئ على ذاكرة الأرض، ويدين قاسيتين عرفتا خبرة الفلاحة قبل أن تقاسيان مرارة الحرب، كانت الأرض هناك تنتظر من يعيد نبضها، ففلحها مع شقيقه، فحص التربة، راقب السماء، ثم زرعا عشرة دونمات بالقمح. لم تكن زراعة تقليدية، بل فعل حياة واستعادة للكرامة.
لكن هذا العام، لم تأتِ الأمطار كما كان مطلوباً، في حين كانت الأرض بأمسّ الحاجة إليها، وإن هطلت، فبقدر لا يكفي لسد عطش التربة ولا لإنبات المحصول. ومضى الموسم، ومضت معه آمال العائدين. "حتى تكاليف البذار والفلاحة لن نستعيدها"، يقول أبو خالد بنبرة يختلط فيها الحزن بالخذلان.
أزمة ممتدة في الجزيرة السورية
قصة أبو خالد ليست استثناءً، بل جزء من لوحة قاتمة تمتد على طول الجزيرة السورية، حيث يعاني آلاف المزارعين من خسائر فادحة في محاصيل القمح والشعير بسبب الجفاف وقلة الأمطار. تقدر المساحات المتضررة بالآلاف من الهكتارات، ويؤكد مزارعون أنهم زرعوا حقولهم هذا العام ووضعوا تكاليف على أمل موسم يحميهم من الحاجة. لكن قلة هطول الأمطار لم تمكنهم من الوصول إلى مبتغاهم.
أسباب الخسائر: مناخية وتنظيمية
تتعدد الأسباب، لكنها تتقاطع جميعها عند نقطة واحدة: غياب الدعم في وجه الجفاف. المتغيرات المناخية وضعت الزراعة في اختبار عسير. في تقرير لقناة "القاهرة الإخبارية"، حمل عنوان: "الحقول تموت عطشاً.. خطر الجفاف يتصاعد ويهدد مستقبل الزراعة في سوريا"، ووصف التقرير سوريا بأنها تمر بإحدى أشد موجات الجفاف في تاريخها الحديث، حيث انخفضت كميات الأمطار إلى مستويات غير مسبوقة، وتشققت الأراضي و فشلت زراعة محاصيل القمح.
ويعزو أبو عمار، مزارع من ريف حلب، السبب بخسارة الموسم لهذا العام إلى تأخر تغذية الأراضي بمياه الري وغياب الأمطار في التوقيت الحرج لنمو القمح. ويضيف أن معظم الأراضي هذا العام لم تصل إلى مرحلة امتلاء الحبة، ما يعني موسماً خاسراً بالكامل.
الجفاف يهدد الأمن الغذائي في سوريا
ولا تقتصر تداعيات الجفاف على خسارة مواسم فردية، بل بات يهدد الأمن الغذائي للبلاد بأكملها. أفادت وكالة رويترز أن 75% من محصول القمح السوري مهدد بالضياع هذا العام بسبب الجفاف الشديد، بينما توقعت منظمة الفاو أن يصل عجز القمح في سوريا إلى 2.7 مليون طن، وهي كمية تكفي لإطعام 16.3 مليون شخص لمدة عام كامل.
ويعد هذا العجز تهديداً خطيراً للأمن الغذائي، لا سيما في ظل استمرار الأزمات الاقتصادية، وضعف البنية التحتية الزراعية، وتضاؤل قدرة الدولة على الاستجابة.
وزارة الزراعة السورية أعلنت من جهتها عن نيتها تقليص زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه، مشيرة إلى أن رفع العقوبات سيسمح للبلاد باستيراد الأسمدة وتقنيات الري الحديثة، وهو ما قد يساهم في حال تطبيقه في تحسين الإنتاج مستقبلاً، لكن الحلول الآنية ما تزال محدودة.
بدائل مؤقتة... لا تعوض الفقد
مع تكرار الخسائر، لجأ بعض المزارعين إلى تقليص المساحات المزروعة بالقمح، وفضل آخرون البحث عن محاصيل بديلة أقل اعتماداً على الأمطار. وفي حالات كثيرة، تم تضمين الأراضي المزروعة لمربي المواشي، كحل إسعافي لتقليل حجم الخسائر. لكن هذه البدائل ليست مستدامة، وهي لا تعوض الغياب المفجع لمحصول القمح، الذي يمثل حجر أساس في الأمن الغذائي المحلي، لا سيما في المناطق التي لطالما عُرفت بأنها سلة غذاء سوريا.
تقارير دولية تدق ناقوس الخطر
منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) بدورها حذرت في تقارير سابقة من تدهور الأمن الغذائي في سوريا نتيجة لتكرار مواسم الجفاف، وارتفاع تكلفة الإنتاج، وتراجع الدعم الحكومي. وأشارت تقارير رسمية إلى انخفاض تدفقات نبع عين الفيجة المغذي الرئيسي للعاصمة إلى 2 متر مكعب فقط بعد أن كان يضخ 15 متراً في الثانية.
بين الأرض العطشى والفلاح الخاسر، تقف الزراعة السورية على مفترق طرق. ما لم يُعَد النظر في استراتيجيات الري والدعم الزراعي، ويُفعّل التعاون الدولي الإنساني بما يضمن توفير التقنيات والأسمدة والمياه، فإن الحقول ستموت عطشاً عاماً بعد عام، ومعها تموت فرص التعافي الغذائي لسوريا بأسرها.