جماعة الخط الحلو.. حين كان الخوف يسير بيننا
جماعة الخط الحلو.. حين كان الخوف يسير بيننا
● أخبار سورية ١٨ مايو ٢٠٢٥

جماعة الخط الحلو.. حين كان الخوف يسير بيننا

نظام الأسد المجرم كان يعمل على إثارة الفتن بين أبناء الشعب السوري، ساعياً بكل وسيلة إلى تمزيق نسيجه الاجتماعي، وتفكيك ثقة الناس ببعضهم البعض. ومن أخطر أدواته لتحقيق هذا الهدف كانت فئة المخبرين، أو ما يُعرف في الأوساط الشعبية بـ”كتيبة التقارير”، والتي اشتهرت بين الناس بـ”جماعة الخط الحلو” بسبب أسلوبهم الماكر في الكتابة والتبليغ.

هؤلاء المخبرون، الذين كان يُجنّدهم النظام تحت مسميات متعددة، لعبوا دوراً حاسماً في رصد تحركات المواطنين، ونقل الأحاديث، وبث الرعب بين الناس، مما أدى إلى اعتقالات تعسفية، وتعذيب، وتدمير حياة مئات العائلات. ولعلَّ الأخطر من ذلك، هو دورهم في زرع الشك والريبة بين أبناء الحي الواحد، بل داخل العائلة الواحدة أحياناً.

قبل الثورة:

قبل انطلاق الثورة السورية في شهر آذار/مارس عام 2011، كانت “كتيبة التقارير” إحدى أدوات النظام الأمنية التي تُستخدم لمراقبة المعارضين المحتملين، أو حتى المواطنين العاديين ممن يُظهرون استقلالية في الرأي أو نشاطاً ثقافياً أو اجتماعياً لا يخضع لرقابة النظام. المخبر لم يكن مجرد ناقل للمعلومة، بل كان عنصراً مُفعّلاً لإنتاج الخوف، وغالباً ما يُكافأ على عدد “التقارير” التي يرفعها.

كان الخوف من المخبرين يعشعش في تفاصيل الحياة اليومية للسوريين، حتى غدا جزءاً من الوعي الجمعي. لم يكن أحد يثق بأحد، فالصمت كان أضمن طريق للنجاة، والكلام حتى العابر منه قد يُحوَّر في تقرير يُفضي إلى الاعتقال أو الاختفاء. انتشرت أمثال مثل “الجدران لها آذان” و”نمشي الحيط الحيط وياربِّي السترة” كوصايا للسلامة، لا مجرد حكم شعبية. كان الناس يتهامسون في بيوتهم، يتحاشون الحديث في السياسة أو حتى التذمر من ضيق المعيشة، خشية أن يكون الجالس بينهم “عيناً” للدولة. صار الخوف عادة، والشك في الآخر غريزة دفاع. المخبر لم يكن غريباً بالضرورة؛ قد يكون زميلاً، جاراً، قريباً… أو حتى فرداً من العائلة.

في ظل الدراما

في كثير من الأعمال الدرامية السورية قبل الثورة، كانت شخصية “المخبر” حاضرة بشكل ساخر وكوميدي، وكأنها جزء من النسيج اليومي الذي لا يمكن تجاهله. لم تكن هذه الأعمال تُخفي وجوده أو تنكره، بل كانت تسخر من حضوره المفضوح، وتُظهره في صورة الشخص الفضولي، ثقيل الظل، الذي يحاول التسلل إلى المجالس والأحاديث، ويسجل الملاحظات في دفتر صغير، بينما الجميع يعلم تماماً من يكون. كانت هذه الكوميديا في الحقيقة وسيلة ذكية للتعبير عن واقع مرير: أن المخبر كان يعيش بين الناس، ويأكل معهم، ويضحك، لكنه في النهاية ينقل ما يُقال ليلاً إلى أجهزة الأمن. ومن المفارقات أن الناس كانوا يتعاملون معه بنوع من “التطنيش الذكي”، يلقون النكات بوجوده وكأنهم يقولون له: “نحن نعلم من أنت، ونعرف لمن تكتب”. هذه المعالجة الدرامية الساخرة كانت متنفساً مؤقتاً، لكنها في الوقت ذاته فضحت كيف تحوّل الخوف إلى شيءٍ يومي، يُضحك عليه، رغم ما فيه من ألم.

خلال الثورة:

مع انطلاق الثورة السورية، تصاعد دور “كتيبة التقارير” بشكل خطير، وتحولت من شبكة تجسس خفية إلى أداة علنية وفعّالة في خدمة آلة القمع والقتل التي يديرها نظام الأسد المجرم. المخبر لم يعد مجرد ناقل لمعلومة، بل أصبح شريكاً مباشراً في الجريمة، يتسبب بتقاريره الكاذبة في اعتقال الآلاف من الأبرياء، كثير منهم ماتوا تحت التعذيب أو أُعدموا ميدانياً أو فُقدوا في أقبية الأفرع الأمنية. بعضهم كانوا من الأطفال أو النساء أو نشطاء سلميين لم يحملوا سلاحاً يوماً، لكنهم وُصِفوا في تقارير هؤلاء بـ”محرضين” أو “إرهابيين” فقط لأنهم طالبوا بالحرية.

المخبر خلال الثورة لم يكن شخصاً مغرّراً به أو ضحية، بل كان أداة وضيعة بيد النظام، مجرماً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا يقل إجراماً عن بشار الأسد نفسه أو عن حلفائه الذين شاركوه سفك الدم السوري. كثير من المآسي التي عاشتها العائلات بدأت بتقرير كتبه أحد هؤلاء، وربما بابتسامة خبيثة خبّأ بها قلمه تحت عباءته ومشى بين الناس وكأن شيئاً لم يكن.

عندما سقطت بعض القرى والمدن بيد قوات الأسد المجرم، سارع العديد من المخبرين الذين انكشف أمرهم إلى الفرار نحو مناطق سيطرة النظام الديكتاتور السابق، مدفوعين بالخوف من المحاسبة أو الانتقام الشعبي. هؤلاء الذين خانوا جيرانهم وأصدقاءهم وكتبوا تقارير أودت بحياة الأبرياء، لم يكن لهم مكان بين من صمدوا أو عانوا من ظلم النظام، فاختاروا العودة إلى حضن الجريمة الذي خرجوا منه أول مرة. في مشهد يؤكد حقيقة انتمائهم، التحق بعضهم من جديد بصفوف أجهزة الأمن أو الشبيحة، مواصلين دورهم في الإيذاء والوشاية، وكأن شيئاً لم يتغير. هروبهم لم يكن مجرد هروب جسدي، بل إعلان صريح عن الولاء لنظام قتل ودمّر، ونبذٌ واضح من المجتمع الذي لفظهم بعد أن تبيّن من هم حقاً.

بعد التحرير وانتصار الثورة:

بعد تحرير المناطق من سيطرة نظام بشار الأسد المجرم، تم الوصول إلى سجلات هؤلاء المخبرين، وظهرت أسماء لأشخاص كانوا يُعتبرون في الأوساط المجتمعية “أناساً عاديين”، بل أحياناً “محترمين”. هذا الكشف لم يكن مجرد فضح لأشخاص، بل كان كشفاً لمنظومة تجسسية شاملة استخدمها النظام لإجهاض أي حلم بالحرية. في ظل انتصار الثورة، تبقى مسؤولية محاسبة هذه الكتيبة من أولويات العدالة الانتقالية. لأن هؤلاء لم يكونوا مجرد أدوات صامتة، بل فاعلين في صناعة الجريمة، وسبباً مباشراً في كثير من المآسي.

الكاتب: فريق العمل
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ