
غارات بلا خسائر وصواريخ بلا هدف.. هكذا تُبقي إسرائيل الجنوب السوري بلا استقرار
في ليلة الثلاثاء، سقط صاروخان داخل الأراضي المحتلة في الجولان السوري، ليتحول الحادث إلى شرارة لقصف إسرائيلي واسع استهدف جنوب سوريا، في واحدة من أعنف الغارات منذ أسابيع.
لكن ما بدا للوهلة الأولى تصعيدًا عسكريًا تقليديًا، سرعان ما تكشّف عن مشهد معقّد: قصف بلا إصابات، مواقع عسكرية فارغة، وفصائل مجهولة تبنّت الهجوم.
ومن خلال تحليل الوقائع والمواقف يكشف أن الغارات الإسرائيلية الأخيرة لم تكن ردًا على خطر حقيقي، بل رسالة سياسية مزدوجة، تهدف أولاً إلى تقويض مشروع الاستقرار الذي تحاول الحكومة السورية الجديدة ترسيخه، وثانيًا إلى تخريب أي تقارب محتمل بين دمشق وواشنطن.
الصاروخان اللذان أشعلا الجنوب.. بلا أهداف
عند الساعة 9:30 مساءً، سُمع دوي انفجارات في ريف درعا الغربي. لاحقًا، تأكد سقوط صاروخين في الجولان المحتل، في مناطق مفتوحة بلا أي منشآت مدنية أو عسكرية، ولم تُسجل إصابات أو أضرار تُذكر.
وما أثار الشكوك لم يكن مجرد مكان سقوط الصواريخ، بل دقتهما المتناهية في تفادي الأهداف او تحقيق أي اصابات، ما طرح احتمال أن الإطلاق لم يكن يرمي لإيذاء أحد، بل لاستفزاز رد إسرائيلي محسوب سلفًا، وقد يكون أصلا تم بالاتفاق مع تل أبيب.
وسرعان ما تبنّت العملية جهتان: الأولى تُدعى كتائب محمد الضيف”، التي لم يعلن عنها سابقًا، وقد نفت حركة حماس أي علاقة بها، والثانية تدعى ”فصيل أولي البأس” التابع لمقداد فتيحة، أحد قادة فلول النظام السابق.
غموض الجهة المنفذة، وطبيعة المناطق التي سقطت بها الصواريخ، وسرعة التبني، وسرعة الرد الإسرائيلي، جميعها مؤشرات على عملية بلا عمق عسكري، لكنها محمّلة بالدلالات السياسية.
قصف جوي واسع.. بلا ضحايا
جاء الرد الإسرائيلي عبر قصف مدفعي سريع، أعقبه قصف جوي عنيف استهدف 10 مواقع عسكرية في محافظتي درعا والقنيطرة وريف دمشق، أبرزها تل الشعار، تل المال، تل المحص، الفوج 175، اللواء 90، ومحيط بلدة سعسع. رغم شدة القصف، لم تُسجّل أي إصابات بشرية ولا حتى خسائر مادية تذكر.
ويُرجّح أن الغارات نُفّذت بناءً على بنك أهداف تم تحضيره مسبقًا، وأن حادثة الصاروخين كانت مجرد ذريعة جاهزة للتنفيذ. فالضربات طالت تلالًا ومواقع عسكرية خالية، ما يدل على رغبة إسرائيلية في إيصال رسالة دون التورط في مواجهة مباشرة أو فتح جبهة ساخنة في الجنوب السوري.
دمشق: لسنا وراء القصف.. وندين الاعتداء
وزارة الخارجية السورية أصدرت بيانًا أكدت فيه أنها لم تتحقق بعد من مسؤولية أي جهة عن إطلاق الصواريخ، مشيرة إلى أن “أطرافًا تسعى لزعزعة الاستقرار”. وركّز البيان على أولوية “بسط سلطة الدولة” وإنهاء السلاح المنفلت، في إشارة ضمنية إلى أن الحكومة لا تغطي أو تحمي أي طرف متورط في هذه العمليات.
بالمقابل، أدانت دمشق القصف الإسرائيلي بشدة، واعتبرته “انتهاكًا للسيادة وتصعيدًا خطيرًا”، داعية المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته في وقف هذه الاعتداءات.
إسرائيل لا تُحذّر من الفوضى.. بل تُحذّر من الاستقرار
بعيدًا عن اللغة العسكرية، يمكن قراءة الغارات الإسرائيلية على أنها تحذير سياسي من نجاح الحكومة السورية في فرض الأمن والسيادة جنوب البلاد. فإسرائيل – وعلى عكس ما يُفترض – لا ترغب في حكومة تُمسك بزمام الجنوب، ولا في ضبط الحدود، بل ترى في استقرار الجنوب تهديدًا مباشرًا لمصالحها:
• حكومة تفرض سيادتها تعني نهاية حرية الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية.
• مؤسسات أمنية فعالة تعني قطع الطريق على المحاولات الانفصالية ، وتقسيم سوريا.
• استقرار سوري يعني بالضرورة استئناف مسارات إقليمية كانت متوقفة منذ عقود، منها مفاوضات الجولان، أو ترتيبات أمنية دولية لا ترغب بها تل أبيب.
ولذلك، فإن الغارات تبدو وكأنها تقول: “نحن هنا، وسنمنع أي تهدئة لا تتم بشروطنا”.
تصريحات الشرع: مقاربة واقعية تربك إسرائيل
في مقابلة لافتة مع صحيفة “Jewish Journal”، قدّم الرئيس السوري أحمد الشرع رؤية غير مألوفة حول العلاقة مع إسرائيل. قال صراحة: “يجب أن ينتهي عصر القصف المتبادل الذي لا ينتهي… لدينا أعداء مشتركون، ويمكننا أن نلعب دورًا في الأمن الإقليمي”.
أكّد الشرع أن سوريا لا تسعى للمواجهة، بل لإعادة ضبط قواعد الاشتباك على أساس اتفاق فك الاشتباك عام 1974، مع حماية خاصة لمواطني الجولان والدروز، ورفض واضح لأي خضوع أو تطبيع مجاني.
هذه المقاربة الواقعية تُربك الحسابات الإسرائيلية، لأنها تُخرج دمشق من خانة “العدو المزمن” وتُدخلها إلى خانة الشريك المحتمل في الاستقرار – وهو أمر ترفضه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية جملة وتفصيلًا.
زيارة أميركية مرتقبة.. فهل جاء القصف لإجهاضها؟
تزامن التصعيد مع تسريبات تحدث بها صحفيون عن نية الرئيس ترامب إرسال وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان إلى دمشق، لمناقشة ترتيبات تتعلق بملف الجنوب والحدود ودور إيران وحتى تسليح الجيش السوري، فهذا الاحتمال – إن صحّ – يشكل تهديدًا استراتيجيًا لإسرائيل، التي ترى في أي تقارب بين دمشق وواشنطن انقلابًا في توازن القوى.
ترتيبات أمنية دولية لا ترغب بها تل أبيب
استقرار الجنوب السوري لا يعني فقط نهاية الفوضى، بل قد يكون مقدمة لعودة الترتيبات الأمنية الدولية التي لطالما خشيتها إسرائيل. فبموازاة الحديث عن تقارب بين دمشق وواشنطن، يُثار في الكواليس ملف إعادة إحياء آليات رقابة عسكرية كانت قائمة قبل الحرب، ومنها:
• تفعيل دور قوات “الأندوف” الدولية (UNDOF) على خط الفصل في الجولان، بشكل فعّال وليس رمزيًا كما هو الحال الآن، ما يقيّد حرية الحركة الإسرائيلية الجوية والبريّة.
• إنشاء آلية أميركية-سورية مشتركة لمراقبة الحدود الجنوبية.
• اجبار اسرائيل على الانسحاب من المناطق التي احتلتها مؤخرا بعد سقوط نظام الأسد، وهو ما قد يُفضي إلى تقليص الوجود الإسرائيلي.
القصف الإسرائيلي، لم يكن ردًا على خطر، بل كان مناورة استباقية لمنع إعادة ترتيب المشهد السوري على أسس جديدة قد تستبعدها من المعادلة.
والرسالة التي بعثتها إسرائيل عبر هذه الغارات ليست عسكرية بقدر ما هي سياسية: “لا عودة للسيادة السورية في الجنوب ما لم تمر من بوابة تل أبيب”.
لكن حكومة أحمد الشرع، التي تنطلق من مقاربة واقعية قائمة على السيادة والشراكات الإقليمية، تبدو مصممة على استعادة القرار الوطني والسيادة الكاملة… ولو على وقع الغارات.