أوستن تايس- بسّام الحسن
أوستن تايس- بسّام الحسن
● أخبار سورية ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥

لغز أوستن تايس يعود إلى الواجهة… بسّام الحسن يتهم الأسد بإعدامه

كشفت شبكة CNN في تحقيقٍ استقصائي مطوّل أن بسّام الحسن، المستشار الأمني البارز  للرئيس الفار بشار الأسد ومؤسّس ميليشيا «قوات الدفاع الوطني» الموالية للنظام آنذاك، قال إن الأسد أمر بإعدام الصحفي الأمريكي أوستن تايس بعد أشهر من اعتقاله قرب دمشق في منتصف آب/أغسطس 2012.

وجاء اعتراف الحسن خلال مواجهةٍ مباشرة مع مراسلة الشبكة كلاريسا وورد والمنتجة سارة السرجاني داخل شقةٍ فاخرة كان يقيم فيها بضاحيةٍ راقية في بيروت، حيث صُوِّرت أقواله بكاميراتٍ خفية قال فيها بوضوح: «بالتأكيد، أوستن مات… أوستن مات»، مؤكّدًا أنه سلّم أمر الإعدام إلى أحد مرؤوسيه.

أومأ الحسن برأسه عندما سُئل عمّا إذا كان التنفيذ وقع في 2013، ونفى أن تكون روسيا أو إيران على صلةٍ بالقضية قائلاً: «هذا يتعلق بالرئيس بشار فقط». وأضاف: «لا أريد حماية بشار الأسد لأنه تخلّى عنا وتركنا».

وبحسب التحقيق، فشل الحسن في اختبار كشف الكذب الذي أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، كما رفض مرؤوسه—الذي يُعتقد أنه موجود الآن في روسيا—الرد على أسئلة CNN عبر وسيط.

فرّ الأسد إلى روسيا بعد انهيار نظامه في كانون الأوّل/ديسمبر 2024، ولم تنجح محاولات الشبكة في التواصل معه. وتؤكّد CNN أن رواية الحسن تشوبها ثغرات، وأن الحقيقة متشابكة في شبكةٍ من الأكاذيب التي ورثها السوريون عن نظامٍ أخفى وقتل مئات الآلاف.

 

 

تفتيشٌ أمريكي في قلب دمشق

قالت CNN إن فريقًا أمريكيًا تقوده الـFBI وصل إلى دمشق في سبتمبر/أيلول 2025 ضمن قافلةٍ من مركباتٍ مدرّعة، وتقدّم على طريقٍ مُحصّن إلى متاهة من المنشآت العسكرية المحفورة في سفوح جبل قاسيون.

وكان الهدف مزدوجًا: البحث عن المكان الذي يُعتقد أن تايس احتُجز فيه آخر مرّة، وإن أمكن العثور على رفاته. تركّزت التحريات على مواقع مرتبطة بـالمركز السوري للدراسات والبحوث العلمية. استمرت العملية أقل من ثلاثة أيام، ثم غادر الوفد فجأة في 9 أيلول/سبتمبر بعد هجومٍ صاروخي إسرائيلي على قطر.

ورغم سهولة ملاحظة القافلة بالنسبة للسكان والعسكريين، لم تسفر عمليات التفتيش عن دليلٍ قاطع. ونقلت الشبكة عن شخصٍ مطلع على تحقيق الـFBI أن التحقيق الفدرالي «نشِط»، وأن الهدف، إلى جانب أي عملية استرداد ممكنة، هو محاولة تحقيق بعض العدالة.

من «الطاحونة» إلى محاولة الهروب

احتُجز تايس—وهو ضابط سابق في مشاة البحرية الأمريكية وصحفي مستقل نشر لوسائل من بينها «واشنطن بوست» و«ماكلاتشي»—في مجمّع للحرس الجمهوري معروف باسم «الطاحونة» قرب دمشق، وكان يُشرف عليه الضابط غسّان نصّور الذي قدّم تقاريره إلى الحسن.

ويشير التحقيق إلى ضبابية الحدود آنذاك بين الحرس الجمهوري و«الدفاع الوطني»، إذ خدم ضباطٌ في الجهازين، وبينهم نصّور.

وافق اللواء صفوان بهلول، الضابط السابق في فرع الاستخبارات الخارجية، على الحديث إلى CNN بعد نيله إذنًا من الحكومة السورية الجديدة في دمشق. وقال إنه استجوب تايس ثلاث مرات بطلبٍ من الحسن وقال: «راجعتُ الأسماء وجهات الاتصال على هاتف تايس وسألته عن كل اسم. كان تايس متعاونًا… شجاعًا بما يكفي لمواجهة أمر احتجازه. حتى أننا تحدّثنا أحيانًا عن الموسيقى».

تعليمات بالصمت وفيديو مُفبرك

أفاد نصّور أن الجندي المكلّف بإحضار الطعام إلى تايس أُمر بعدم التحدّث معه، وأن هوية تايس وجنسيته بقيت محصورةً بدائرة ضيّقة حول الحسن، فيما كان مكتب الأخير يقابل «الطاحونة» عبر الطريق. وأكّد جنديٌ من رتبةٍ منخفضة عمل في مكتب الحسن آنذاك أن الجميع كانوا يعلمون بوجود «سجينٍ مهم» من دون معرفة هويته؛ ولم يجرؤ أحدٌ على السؤال، ولم يعرف أن ذلك السجين هو تايس إلا بعد إعلان تفاصيل أسره عام 2025.

وتقول رواية نصّور إن الحسن وجّه جنودًا بارتداء ملابس «جهاديين» ونقل تايس مُعصوب العينين إلى منطقة رخلة الجبلية قرب الحدود اللبنانية، لتصوير فيديو نُشر في أيلول/سبتمبر 2012 يظهر فيه تايس وهو يتلو الشهادتين ويتوسّل «يا يسوع»، بهدف إيهام الرأي العام بأن متطرفين يحتجزونه لا النظام.

وقد خلص مسؤولون أمريكيون ومحللون مستقلون مبكرًا إلى أن الفيديو خدعة، وتتبّعت تحليلات رقميّة مسارًا يقود إلى أجهزة النظام السوري، ما اعتُبر الدليل الوحيد على أنه كان حيًّا وفي قبضة الحكومة آنذاك.

«صابون ومنشفة»… هروب لم يدم

يفيد التحقيق التي نشرته قناة سي أن ان، بأن تايس هرب أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2012، حيث طلب من بهلول صابونًا ومنشفة، ويُعتقد أنه استخدم الصابون للتسلّل عبر نافذةٍ عالية، والمنشفة لتجاوز الزجاج المُكسّر المثبّت أعلى سور المجمّع. ساد الهلع داخل «الطاحونة»؛ رُفعت حالة التأهب، ووزّعت صورته على حواجز قريبة.

بقي تايس فارًّا لأكثر من 24 ساعة، وصل خلالها إلى حيّ المزة الراقي على بُعد ميل تقريبًا من «الطاحونة»، في منطقةٍ تعجّ بالسفارات ومنازل كبار الجنرالات.

قال بهلول: «كل جهاز أمني في دمشق، آلاف العناصر، بدأوا البحث عنه. قبض عليه أحدهم وسُلّم إلى قوات الدفاع الوطني التي كان يرأسها الحسن». وعندما استُدعي بهلول لرؤيته بعد إعادة الاعتقال، لاحظ أن تايس «انقطع تواصله، كان مكتئبًا، لا يجيب»، ثم «لم يره مرة أخرى».

منذ تلك اللحظة، انتقلت القضية إلى مكتب الحسن المقابل للمجمّع، وانقطعت أخبار تايس وفق شهادات متقاطعة من قادةٍ في الاستخبارات السورية و«الدفاع الوطني». يقول نصّور: «توقّفت عن السؤال؛ في سوريا إذا سمع أحد أنك سألت عمّا لا يعنيك، تكون في ورطة».

بين بيروت وطهران… وسيرة مثقلة بالعقوبات

عمل الحسن مستشارًا للأسد، وأسّس ميليشيا «الدفاع الوطني» سيئة السمعة والمتورطة في بعض أسوأ جرائم الحرب. فُرضت عليه عقوبات بريطانية وأوروبية عام 2011 وأخرى أمريكية في 2014، شملت دوره ممثلًا للرئيس في المركز السوري للدراسات والبحوث العلمية، المسؤول عن تطوير أسلحة غير تقليدية وصواريخ.

بعد سقوط النظام، فرّ الحسن إلى إيران، ثم ظهر في بيروت خلال نيسان/أبريل الماضي حيث خضع—إلى جانب عدد من مساعديه—لاستجواباتٍ من محققي الـFBI حول قضية تايس.

يذكر التقرير الاستقصائي لشبكة سي أن ان، أن الحسن ظلّ يرفض الحديث إلى الصحافة، والصور المتداولة له نادرة وقديمة، إلا أنه في أيلول/سبتمبر، حصلت CNN على صورة حديثة ومعلوماتٍ عن مكانه في مجمّعٍ سكني فاخر؛ راقب فريق الشبكة المبنى مساءً، ثم طرق بابه صباحًا.

بدا منزعجًا من العثور عليه، وسأل مرارًا: من دلّكم؟ لكنه دعاهم للدخول فور سماع اسم تايس، قبل أن يكرّر اتهامه للأسد بإصدار أمر الإعدام، ويزعم أنه حاول مقاومة الأمر دون جدوى.

يرتاب سوريون عرفوا الحسن في جرأته المفترضة على تحدّي الأسد. قال بهلول: «بسام ليس الرجل الشجاع الذي يقول: سيدي لا ينبغي لنا ذلك». مصادر أخرى شكّكت في دوافعه للحديث مع الأمريكيين، خاصةً بعد إعلان مكافأةٍ أمريكية قدرها 10 ملايين دولار لمعلوماتٍ عن تايس، بينما نفى الحسن طلب أي مقابل مالي. ويصفه صحفيون وخبراء بـ«الماكر والميكافيلي وغير الموثوق»، تجسيدًا لثقافة عهدٍ قائم على التنافس والكتمان.

وساطة متعثّرة وعروض أمريكية متكررة

قال اللواء عباس إبراهيم، الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات اللبناني والوسيط المعروف في ملفات رهائن إقليميّة، إن المفاوضات فشلت خلال الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب: «لم يكن الأمر منطقيًا بالنسبة لي. بدأت أشعر أن شيئًا ما خاطئ حول القضية أو حول أوستن».

ويوضح إبراهيم أنه عمل على الملف منذ إدارة باراك أوباما حتى تقاعده في 2023، وأن الولايات المتحدة كانت مستعدة لدفع أي ثمن لاستعادة تايس، معتبرًا أن النظام السوري امتلك «فرصة كبيرة لإنقاذ نفسه باستخدام أوستن»، لكنه لم يلعب هذه الورقة «لأنهم ربما لم يعودوا يمتلكونها».

طوال ثلاثة عشر عامًا، رفضت دمشق السابقة الاعتراف باحتجاز تايس أو معرفة مكانه، رغم عروض أمريكية متعددة وصلت حتى الاكتفاء بإثبات حياة. وتذهب بعض الشهادات إلى أن الأسد رأى في تايس «ورقة تفاوض» مهمّة، ما يجعل قتله المبكّر غير منطقي، إلا إذا بدّلت محاولة الهروب الحسابات داخل الحلقة الضيقة.

العائلة تتمسّك بالأمل… والحكومة الجديدة تتعاون

منذ اختفاء تايس عام 2012، لم تتراجع عائلته عن قناعتها بأنه على قيد الحياة. قادت والدته ديبرا تايس حملةً جماهيريةً دؤوبة مطالِبةً الإدارات الأمريكية المتعاقبة ببذل كل ما يمكن لإعادته حيًّا.

وبعد سقوط نظام الأسد بفترةٍ وجيزة مطلع هذا العام، سافرت ديبرا إلى دمشق والتقت الرئيس أحمد الشرع بحثًا عن ابنها. وتصف ديبرا الحسن بأنه «كاذبٌ مريض»، فيما تؤكد العائلة في بيانٍ للشبكة: «أوستن تايس على قيد الحياة. نتطلع إلى رؤيته حرًا طليقًا».

على الجانب الرسمي، تحرص الحكومة السورية الجديدة منذ أواخر 2024 على بناء علاقاتٍ جيّدة مع الولايات المتحدة، وعملت عن قرب مع مسؤولين أمريكيين للمساعدة في حلّ القضية، بما في ذلك تسهيل وصول فرق تحقيقية وجمع أدلة على الأرض داخل دمشق ومحيطها.

ذاكرة أماكن مطموسة… وعدالة مؤجّلة

عندما زارت CNN «الطاحونة» ومكتب بسّام الحسن في أيلول/سبتمبر، بدت آثار ما جرى هناك قبل 13 عامًا محوّلةً ومطموسة: نهبٌ وتخريب أعقب انتقام الحشود في كانون الأوّل/ديسمبر، وجداريات باهتة للأسد، وذخائر مهملة، وقضبان حديدية على نوافذ بعض الغرف. منذ فتح زنزانات الأسد العام الماضي، بدأ الأمل في العثور على تايس—وعشرات آلاف السوريين المفقودين—يتضاءل؛ من لم يخرجوا باتوا في حكم الأموات لدى كثيرين، وإن كانت عائلاتٌ عديدة ترفض الاعتراف بذلك ما لم تُعثر على رفاتٍ أو أدلةٍ قاطعة.

بالنسبة لعائلة تايس، لا يزال البحث مستمرًا. وعند باب شقته في بيروت، تقطّع صوت الحسن وهو يقول إنه مدينٌ باعتذار لوالدة تايس: «حقًا، يُحزنني أن أتذكره… أتمنى لو لم يحدث ما حدث». خلع نظارته كاشفًا عن عينين محمرّتين وقال: «لقد كان الأمر معضلةً أثقلتني».


ما الذي نعرفه… وما الذي بقي غامضًا؟

 • نعرف أن تايس كان في قبضة أجهزة الأسد منذ 2012، وأن فيديو «الجهاديين» كان خدعةً مُدبَّرة لإبعاد الشبهة عن النظام.
 • نعرف بمحاولة هروبٍ نادرة استمرت أكثر من 24 ساعة، وانتهت بإعادة الاعتقال وتسليم تايس إلى دائرة الحسن.
 • نعرف أن الحسن يتّهم الأسد بإصدار أمر الإعدام، لكنه فشل في اختبار كشف الكذب، وأن روايته موضع تشكيك من مصادر عدة.
 • لا نعرف مكان الرفات—إن وُجدت—ولا يوجد دليل مادي قاطع يحسم الوفاة.
 • لا نعرف التسلسل القيادي والتنفيذي النهائي داخل الحلقة الضيقة: من نفّذ؟ أين؟ وكيف وُثِّق القرار إن وُثِّق؟

حتى الآن، تقف القضية عند مفترقٍ بين اعترافٍ مصوَّر للحسن المتّهم والمطعونٍ في مصداقيته، وتحقيقٍ أمريكي نشِط يفتّش في مواقعٍ كانت مغلقةً لعقدٍ كامل. وبين هذين الحدّين، تبقى عدالةٌ بعيدة المنال لصحفيٍ ذهب ليوثّق الحقيقة، فابتلعته متاهة نظامٍ لا يرحم.

الكاتب: فريق العمل
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ