مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٥ يوليو ٢٠١٦
يوم القدس في خطاب نصرالله: إيران أولا وسوريا ممر والسعودية عدو

في خطابه الأخير الذي ألقاه يوم القدس لم يتطرق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى مسألتين، كان الكثير ينتظر بشوق لمعرفة موقفه من إهداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدبابة الإسرائيلية التي غنمها الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية واللبنانية في لبنان عام 1982، لا سيما وأن السيد نصرالله يقدم نفسه كحريص على مجابهة كل ما يمسّ بفكرة المقاومة لإسرائيل، وبالتالي ترقب الكثيرون أن يكون له موقف من هذه الإهانة التي وجهها الرئيس الروسي إلى المقاومة ضد إسرائيل، وإلى حلف الممانعة الذي فعل ما فعل خلال السنوات الخمس الماضية في سوريا من أجل مجابهة المشروع الأميركي والصهيوني. لم يقل حسن نصرالله شيئا في هذه القضية ولم يذكرها بتاتا، ربما نسي أو لا يزال يدقق في أبعاد الخطوة الروسية.

إن فرضية النسيان والتدقيق لدى السيد نصرالله، يدحضها الاستعداد الروسي- الإسرائيلي للقيام بمناورات جوية على امتداد شاطئ البحر الأبيض المتوسط هذا الصيف، وهذا ما لـم يشر إليه السيد نصرالله ولم يجد نفسه معنيا بأن يقول شيئا وهو الذي لا يزال يعتبر معركته في حلب، وفي مختلف المناطق السورية، فتحا للطريق نحو القدس، وهو نفسه لم يعلق على فعلة الروس إذ يقاتل وإياهم ما سماهم أدوات المشروع الصهيوني من تكفيريين ومسلحين، هم بالضرورة حلفاء موضوعيون للمشروع الصهيوني، كما كان يقول دائما إلى أن قالها أخيرا؛ إنهم أخطر من المشروع الإسرائيلي.

لم يُستفز السيد نصرالله من خطوات فلاديمير بوتين الإسرائيلية، ولا من مسار التنسيق بين موسكو وتل أبيب على الإدارة العسكرية والسياسية للأزمة السورية، ففي كلمته المتلفزة يوم القدس كان نصرالله يجدد الاتهام للأنظمة العربية التي نعرف، ويعرف، أنها قصرت في شأن القضية الفلسطينية وفي تحرير القدس، وهذا ديدن خطاب الممانعين وعلى رأسهم نصرالله منذ عقود.

الأنظمة العربية مفروغ من أمرها، لكن السؤال يوجه إلى إيران وامتدادها حزب الله، ماذا فعلتم للقدس التي خضتم حروبا في كل الدول العربية من أجلها؟

الإجابة البليغة من قيادة الحرس الثوري جاءت قبل أيام، ومفادها أنه “خلال 25 عاما ستزول إسرائيل من الوجود”، وهو تطوّر جديد وأكثر موضوعية مما كان يكرره نصرالله عن أن الكيان الإسرائيلي هو “أوهن من بيت العنكبوت”، بحيث كان يمكن أن يقضي نصرالله عليها في وقت لا يتجاوز مدة القضاء على بيت العنكبوت، ليبقى السؤال لماذا يغرق حزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية في حرب استنزاف في سوريا، ولا تبذل هذه الطاقات البشرية والمادية على إنهاء من هي أوهن من بيت العنكبوت، أي إسرائيل؟

السيد نصرالله لم يعد مضطرا حتى في يوم القدس إلى أن يبحث في طرق الوصول إليها، ولا في الإجابة على سؤال كيف سيقاتل إسرائيل، كما لم يعد معنيا بمخاطبة جمهور عربي أو إسلامي لم يعد يستسيغ خطاباته منذ أن تورط في قتال الثورة السورية، هو اليوم يتحدث، بشكل صريح وواضح، بأن العدو الأخطر بالنسبة لإيران هي السعودية وليست إسرائيل ولا الشيطان الأكبر أميركا. وزعيم حزب الله على هذا المنوال بات في سلم أولويات خطابه هو قتال “الإرهاب التكفيري”، والتصويب على المدرسة الوهابية، وهو في ذلك يبدو وفيا للانخراط في معركة ذات طابع سياسي تشكل المذهبية ذخيرتها.

الاستقرار والهدوء على طول الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان، ومع الجولان المحتـل في سـوريا، وقد زاد من هذا الاستقرار إضافـة الضمانة الروسية لإسرائيل على هذا الصعيد، فمنذ تدخل روسيا العسكري في السنة الماضية، بدا أن موضوع الحدود الجنوبية السورية أكثر استقرارا، بـل لقـد تمّت الإطاحة بمجموعة من الأسماء العسكرية في حزب الله التي كانت لها شبهة في قتال إسرائيل أو معاداتها من خلال سوريا، ليس مصطفى بدرالدين أو سمير القنطار إلا من أمثلة عديدة.

يدرك نصرالله أن اللعب هذه المرة سيكون مكشوفا، سيصمت عن كل التنسيق الروسي- الإسرائيلي، ليس كرما لحماية بشار الأسد فحسب، بل تفاديا لأن يقاتل على جبهتين؛ واحدة مع السوريين في سوريا وأخرى مع إسرائيل، وبالتالي فإن أقل المكاسب التي ستنالها إسرائيل هو السكوت عن احتلال الجولان، قوى الممانعة هي أول من سيوفر شرط حماية احتلال الجولان، ما دامت إسرائيل تحمي نظام الأسد ولو على حدود “سوريا المفيدة”.

اكتشفت، روسيا، أخيرا أنها هي التي تستطيع أن تقدم لإسرائيل الأمن والضمانات لأنها -أي روسيا- هي من يستطيع أن يلجم قوى الممانعة في الساحة السورية على تنوعها، بسبب أن روسيا هي من منع انهيار النظام السوري وحلفائه بعدما كان على حافة الانهيار، إذ شكل الغطاء الروسي الجوي عنصرا حاسما في إعادة التوازن للنظام السوري ولحزب الله.

وعلى الرغم من الضمانات الروسية لإسرائيل تجاه أي خطر على أمن إسرائيل من سوريا، فـإن إسرائيل لا تزال تتصرف على الأراضي السورية بمهاجمة كل ما تعتبـره مهـددا لأمنها، وفي هذا السياق قامت طائراتها الحربية بتوجيه ضربات عسكرية لقوافل سلاح كانت تتجه نحو الحدود اللبنانية. ودائما يتـمّ ذلك من دون أي ردّ فعـل من قبـل حزب الله الـذي يرجح أنه الجهة التي تحاول نقل السلاح إلى لبنان.

حسن نصرالله انتقل من التفنن في خطاب التهديد والوعيد لإسرائيل، إلى فنّ جديد اسمه العزف على أوتار الحروب الأهلية في سوريا والعراق واليمن، فن التقسيم باسم الوحدة، وفن إدامة الاستبداد باسم القضية الفلسطينية، وفن تأبيد الاحتلال باسم مقارعة الفرق الدينية والمذهبية.

الحرب مع إسرائيل انتهت والسلام الإسرائيلي لا يتم إلا عبر مدخل الممانعة، وروسيا هي أفضل من يحسن القيام بهذه المهمة، أفضل من الإدارة الأميركية ومن الاتحاد الأوروبي. وستكون هي أكثر كرما من واشنطن بالتأكيد وإن غد الممانعة لناظره قريب.

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠١٦
سورية أولاً: النزوح والتعاسة

يتصدر السوريون 65 مليون نازح في العالم من جنسيات مُختلفة، يليهم الباكستانيون ثم الصوماليون. وحسب إحصائية أسعد شعوب العالم وأكثرها تعاسة وحزناً، فإن الشعب السوري يحتل الأولوية أيضاً في الحالين. وهذه الأزمة السورية دخلت عامها السادس، وليس هناك أي أفق لحل سياسي، وما يجري على الأرض ينافس ما تعرضه أفلام الرعب. الذل هو عنوان حياة الإنسان السوري، فهو ذليلٌ في المعاناة من الانقطاع الكبير للكهرباء، وفي انهيار الليرة السورية والغلاء الفاحش للبضائع إضافة إلى فسادها. وهو أيضاً ذليل في الفساد المتشرش في سورية منذ أكثر من خمسة عقود.

الأهم من ذلك كله تحطم الأمل في نفوس السوريين، فلو تابعنا أي حديثٍ بين أصدقاء في سورية، لوجدناه تقليب مواجع مروّعة، وذكر حوادث عجيبة وظالمة. وقد هجّ رجل في الخامسة والأربعين من حلب المحترقة إلى اللاذقية، ليفتح دكاناً يُصلح فيها السجاد العتيق (مهنته) ويعمل معه أولاده، ولم يعرف سبب استدعائه للتحقيق واعتقاله، فلا أحد يعلم شيئاً في سورية، وقصد أهلُه محام متخصص ونصاب في التقصي عن المعتقلين، وأخبرهم أنه يستطيع إطلاق سراحه بعد خمسة أيام، إذا دفعوا ثلاثة ملايين ليرة سورية. باع أهله أثاث المنزل وسيارتهم العتيقة وأمنوا المبلغ للمحامي، وفعلاً تم إطلاق سراح الرجل، لكنه فوجئ بعد أيام بعناصر من الشرطة، تداهمه في دكانه، وتسحبه لخدمة الجيش كاحتياط (!)، فصرخ بهم يطالبهم بأن يقدروا عمره، لكنهم أبلغوه بأن ينفذ الأوامر.

تنويعات القهر السوري لا تُحصى، ويمكن أن تؤلف فيها موسوعات. ومن وقائع مريعة، أن ناشطاً في "فيسبوك" تم اعتقاله وخرج جثة من المعتقل، فوضع صديق له طبيب صوره على صفحته في "فيسبوك"، فتم أيضاً اعتقاله ثلاثة أشهر مع التعذيب. هل هذا ما كنا نتأمله بعد ست سنوات من الثورة السورية؟ هل هذه الإصلاحات الموعودة؟ أما عن الرشاوي على الحدود السورية اللبنانية فبالملايين، وكل الحواجز المتكاثرة كلها تطلب الرشوة من السائقين حقاً لها. وقد سرقت لجان لها تسميات عديدة المنازل في كسب وصلنفة وقرى ومدن أخرى، ما يوحي بأن سارقها حاميها. لكن، من جهةٍ أخرى، وربما الأشد ألماً، تجد أن هذه الظروف البالغة الوحشية واللاإنسانية أعطبت عقول ناسٍ كثيرين، فزادتهم تشنجاً وتطرفاً. والظلم هو السبب الرئيسي للجهل والتطرف.

قصد صديق في حماه تاجراً يفهم بأجهزة البيانو، وطلب إليه إصلاح قطعة معطوبة انتزعها من البيانو، رفض التاجر بحجة أن الموسيقى حرام (!). منذ متى كنا نجد نماذج من التخلف والتعصب الأعمى كهذه في سورية؟ تتحمل فضائيات تلفزيونية بعض المسؤولية، إذ تقدّم برامج دينية تشتمل على أسئلة مخجلة في تخلفها وسطحيتها. هل يُعقل أن تسأل مشاهدة شيخاً يحق له الإفتاء: ما هو رأي الدين الإسلامي بنزع أشعار جسم المرأة بالشفرة؟ ثم الشيخ الفاضل بجواب أخجل من كتابته.

أليس علينا أن نعيد تعريف الحياة في سورية؟ هل هي مجرد تراكم أيام؟ هل هي تراكم قهر وذل وفقر وفساد وضلال العقل في أفكار سطحية تافهة، تهبط بالإنسان إلى مرتبه الحيوان؟ ولماذا تبث فضائيات عديدة برامج كهذه، أليس لإغراق المشاهد في السطحية والتفاهة والضلال، كي لا ينتبه ويعي المشكلة الحقيقية، وهي الظلم والاستبداد. يحق لسورية التي تحتل المرتبة الأولى في العالم في النزوح، وفي التعاسة بين الشعوب، لها أن تنتفض، وتصرخ: كفى كفى كفى إمعاناً في إذلال هذا الشعب، كفى معاملته بقسوة لا حدود لها ولا قاع.

كل من تلتقيهم من السوريين تعيسون ومُروعون من هول هذه الحياة التي لا تشبه الحياة في شيء. أما آن للضمير العالمي أن ينتفض حقاً؟ أما آن للمعارضة السورية المشرذمة المرتبطة، والتي تضم فصائل متطرفة، أن تكون معارضة يهمها حقاً الشعب السوري، فتكف عن سفك الدماء؟ أما آن للنظام أيضاً أن يجد طريقة من أجل شعبه، لكي يتحاور مع المعارضة؟ هل الأزمة السورية مُستعصية الحل إلى هذه الدرجة، أم أن إرادة الدول كلها أن تغرق سورية بدماء أبنائها، وأن يغرق قسم كبير من شعبها في ضلال الجهل والتفاهة؟ ربما العالم كله متآمر على سورية كي يعطيها وسام الأولوية في النزوح، وفي أن يكون شعبها الأتعس في العالم.

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠١٦
مصير «داعش» يحسم في سوريا… وكذلك مخططات شركائه؟

لفظ فلاديمير بوتين حكمه على «داعش»: حسم مصيره في سوريا ميدانياً. حيثيات الحكم الضمنية وفيرة:
كَبُر «داعش» وتجبّر وأصبحت له ذراع طويلة تطاول كبرى العواصم والمرافق في شتى أنحاء العالم.

لديه أسلحة نوعية متطورة وفتّاكة: كيميائية وصاروخية ومضادة للطائرات.

له شركاء دوليون وإقليميون أقوياء وأثرياء يزودونه المال والسلاح والدعم السياسي.

استمرارُ «داعش» في اعتماد نهج «إدارة التوحش» من خلال عمليات عنف أعمى بالغة الهَتك والفتك والتدمير يؤدي إلى تعاظم مردود عملية اجتذاب وتجنيد وتدريب وزجّ آلاف الفتيان الانتحاريين المغسولي الأدمغة في عمليات إرهابية مدوّية ومدمّرة في شتى أصقاع الدنيا.

استوقفت بوتين، بلا شك، واقعة أخيرة لافتة: ثلاثة من «أبطال» عملية مطار أتاتورك الرهيبة في اسطنبول جاءوا من قلب روسيا ومن حديقتها الخلفية في آسيا الوسطى: القوقاز وأوزبكستان وقرغيزيستان. كم سيكون مخيفاً ومؤذياً لو نجح الداعشيون في اجتذاب المزيد من هؤلاء والزجّ بهم في عمليات مروّعة في قلب موسكو وبطرسبرج؟ ثم، ليس سراً أن التعاون قائم ومتفاقم بين «داعش» والولايات المتحدة وتركيا. هؤلاء باتوا شركاء في توليف وتنفيذ مخططات وعمليات في عمق سوريا والعراق. ألم تتحول الحدود التركية – السورية على مدى نحو 900 كيلومتر مدخلاً لإمرار الرجال والسلاح والعتاد لتنظيمات شتى تقاتل جيشيّ سوريا والعراق؟

موسكو نددت مراراً بهذا الخلل المتمادي. شعرت بأن الغاية من ورائه ليس استنزاف جيشيّ سوريا والعراق فحسب، بل استنزافها هي تحديداً، بعدما أصبحت شريكة دمشق في مقاتلة «داعش» و»النصرة». في هذا السياق، حاولت أنقرة تشديد الاستنزاف لحمل موسكو على التراجع عن العقوبات التي فرضتها عليها عقب إسقاط الطائرة الروسية فوق سوريا في خريف العام الماضي. موسكو لم تتراجع عن تدابيرها العقابية، فكان لا بد لأنقرة من أن تتراجع عن تواطئها مع «داعش» لاسترضاء موسكو بغية رفع العقوبات. «داعش» أحسّ بالخطر، أمر مجموعاته الانتحارية بتنفيذ عمليات إرهابية على حدود تركيا مع سوريا وفي قلب أنقرة وبعدها في مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول. كل ذلك من أجل تخويفها وردعها عن الاسترسال في سياسة استرضاء روسيا لترفع عنها العقوبات. أردوغان حزم أمره أخيراً، قدّم اعتذاره علناً لبوتين عن إسقاط الطائرة الحربية. ووعد سراً بتنازلات أخرى وازنة ليس أقلها إغلاق حدود بلاده مع سوريا، فلا تبقى ممراً آمناً للرجال والسلاح والعتاد المرسل إلى تنظيمات الإرهاب. لو لم يحصل بوتين على تعهدٍ من أردوغان بهذا المستوى الرفيع والوازن لما وافق على رفع العقوبات، السياحية منها خاصة، عن جارته المتضررة .

وقْفُ تدفق الرجال والسلاح عبر الحدود التركية الى سوريا (والعراق) عدّل ميزان القوى لمصلحة دمشق وحلفائها، فأصبح في وسع بوتين أن يعلن، بثقة وارتياح، عزمه على حسم مصير «داعش» في سوريا.

ما مفاعيل هذا الموقف الروسي الصارم وتداعياته؟
سيَحدثُ انخراطٌ روسي متزايد في معمعة الحرب في سوريا وعليها، سياسياً وعسكرياً، وتعاونٌ أوسع على هذين الصعيدين مع سائر أطراف محور المقاومة. بوادرُ التعاون لم تتأخر في الظهور. فقد أعلن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني ان طهران وموسكو ودمشق اتفقت على تشكيل مجموعة خاصة بمراقبة الاوضاع في سوريا، أوضح أن قرار إنشاء المجموعة الثلاثية جرى اتخاذه خلال محادثاته الأخيرة في موسكو مع أمين مجلس الأمن الروسي نيكولاي بارتروشيف، وأن مهمتها مناقشة المسائل السياسية وقضايا الأمن في سوريا من مسافة قريبة.

واشنطن أحسّت بدورها بأن موسكو عازمة على انتهاج سياسة اكثر حزماً في سوريا ضد تنظيمات الإرهاب، بما فيها تنظيمات المعارضة السورية «المعتدلة» المتعاونة مع جبهة «النصرة»، لذا بادرت ادارة أوباما، حسب صحيفة «واشنطن بوست»، إلى اقتراح إنشاء «شركة عسكرية جديدة في سوريا» على موسكو. مضمون الاقتراح يتمثل في وعد من واشنطن بتوحيد الجهود مع القوات الجوية والفضائية الروسية لتبادل المعطيات عن الأهداف وتنسيق حملة موسعة لقصف جبهة «النصرة» المصنفة إرهابية في مقابل أن تضغط موسكو على حكومة الرئيس بشار الأسد لوقف قصف مجموعات معينة من المعارضة السورية المسلحة لا تعتبرها الولايات المتحدة ارهابية.

موسكو لن ترفض، مبدئياً ، هذا الاقتراح، لكنها ستشترط بالتأكيد خروج تنظيمات المعارضة السورية «المعتدلة» من مناطق سيطرة «النصرة» لتأمن عدم قصفها. سبق لموسكو أن طالبت واشنطن بتنفيذ هذا الإجراء لضمان ترسيخ الهدنة المعلنة في شمال سوريا. واشنطن لم تنجح في تنفيذ هذا الشرط، ولعلها لم توافق عليه اصلاً، ذلك أن سياسة إدارة أوباما كانت دائماً الحدّ من نشاط التنظيمات الإرهابية شرط عدم استفادة حكومة الاسد من إضعافها.

واشنطن اليوم ربما أصبحت اكثر استعداداً لتنفيذ الشرط الروسي، فقد اخفقت في مساعيها الرامية لبناء وتسليح تنظيمات فاعلة للمعارضة السورية «المعتدلة «، ذلك ان السلاح المرسل اليها كثيراً ما كان يقع في ايدي «داعش» و»النصرة»، وأن ما يتبقى منه في يديها لا يكفي او لا تُحسن استعماله فتكون النتيجة كارثية على الطرفين الامريكي والسوري «المعتدل»، أليست هذه الأمثولة المستخلصة من الهجمة الفاشلة قبل ايام على مطار البوكمال؟ ثم هناك اشكالية اخرى بالغة التعقيد، فقد تبيّن ان السبب الرئيس، وليس الوحيد، لوقوف ادارة اوباما موقفاً معادياً لحكومة الاسد هو رغبتها في تعويض اسرائيل خسائرها جرّاء اتفاقها النووي مع ايران ومخاطره على أمنها القومي. التعويض يكون في محاولة إضعاف حلفاء ايران، سوريا وحزب الله اللبناني، بطريق إدامة الحرب في بلاد الشام لاستنزاف مكوّناتها الوطنية والاقتصادية والعسكرية وصولاً إلى تقسيمها، إذا أمكن. إدارة أوباما لاحظت، على ما يبدو، صعوبة الاستمرار في مجاراة إسرائيل في مخططها الانف الذكر، لذلك تراها تعتمد مقاربة جديدة قوامها تعويض خسائر الكيان الصهيوني جراء الاتفاق النووي بمضاعفة تسليحه بأسلحة متطورة من جهة وبزيادة المساعدات المالية السنوية التي تغدقها عليه من جهة اخرى. في سياق هذه المقاربة ، جرى تظهير اقتراح «الشركة العسكرية الجديدة» بين امريكا وروسيا، فهل يتشارك القطبان الدوليان لحسم مصير «داعش» في سوريا؟

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠١٦
أردوغان المحاصر يلتحق بالقطار الروسي - الإسرائيلي

اقتنع الرئيس رجب طيب أردوغان متأخراً بوجوب نهج سياسة براغماتية جديدة. وطي صفحة الأحلام الامبراطورية. أدرك أن ثمة ديناميات طارئة في الإقليم تحتم انعطافة جذرية في العلاقات الخارجية. ووجوب فك العزلة المضروبة على تركيا، بعد توتر علاقاتها مع قوى كثيرة. مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وروسيا وإيران وعدد من الدول العربية على رأسها مصر والعراق. وتأتي هذه الانعطافة في وقت تحتاج كل هذه القوى إلى إعادة تموضع لا مفر منها في منطقة تعصف بها الاضطرابات وتهدد السلم والاستقرار الدوليين. فالولايات المتحدة تتراجع عن الشرق الأوسط بعد إبرام الاتفاق النووي مع إيران. وتقيم في محطة انتظار الإدارة الجديدة. والاتحاد الأوروبي يتخبط في أزمات متصاعدة، من أزمة اللاجئين إلى خروج بريطانيا وما يرتبه من تبعات على وحدة القارة، إلى التحديات التي يمثلها صعود روسيا وعودتها لاعباً دولياً لا قدرة ولا رغبة في مواجهته غربياً بغير العقوبات. وتقاربها مع إسرائيل، وتقدمها في سورية وإطلاق يدها في هذا البلد. وانشغال الدول العربية بنفسها وبحروبها، من شمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة وشرق المتوسط. وتنامي الدور الكردي في الحرب على الإرهاب في كل من العراق وسورية. ولجوء واشنطن وموسكو إلى دعم الميليشيات الكردية في هذين البلدين بلا اكتراث لمخاوف أنقرة وهواجسها بعد تجدد حربها مع حزب العمال الكردستاني. إلى كل هذه المتغيرات يكيل العالم اتهامات لتركيا بأنها تمد في عمر الإرهابيين. ويحملها المسؤولية عن تسهيل عبورهم إلى بلاد الشام وبلاد الرافدين مما أربك ديبلوماسيتها وشوه صورتها في الداخل والخارج. كما أن هجوم الإيرانيين والروس والكرد في شمال سورية بحجة محاربة التنظيمات الجهادية والتكفيرية يستهدف معظم أطياف المعارضة المعتدلة وغيرها، وبينها تلك التي رعتها وترعاها حكومة «حزب العدالة والتنمية» بالدعم السياسي والعسكري. أي أن القضاء على هذه الفصائل، بعد تشتيت قوى «الإئتلاف الوطني» بين الرياض والقاهرة وعمان وأبو ظبي وحتى موسكو وعواصم غربية، يحرم أنقرة من أداة نفوذ رئيسية في أي تسوية سياسية. وتغييب كلمتها ومصالحها عند رسم مستقبل جارتها الجنوبية المعنية بمصيرها أكثر من أي لاعب آخر في هذه الأزمة.

توكأ الرئيس أردوغان على القفزة الاقتصادية التي حققتها سياسته. ثم على خطاب شعبوي في الداخل وفي الشارع العربي، إثر الهجوم الإسرائيلي على السفينة «مرمرة». وبعدها على تقديم حزبه نموذجاً لحركة التغيير التي وعد بها «الربيع العربي» وتصدرتها قوى الإسلام السياسي. وهذا ما أتاح له تحويل «حزب العدالة والتنمية» طوال 14 عاماً في السلطة رافعة شخصية. فنجح في إطاحة معظم زملائه المؤسسين الطامحين. ومعهم كثير من الخصوم السياسيين. وأطاح بطريقه كثيراً من الحريات. وقبض على القضاء. وأعاد الجيش إلى ثكنه. تحول حاكماً وحيداً من دون أن ينتظر تعديل الدستور الذي ينوط بالحكومة معظم الصلاحيات التنفيذية. وجنح بالبلاد نحو محافظة متشددة بعيداً عن العلمانية، الهوية الأساس لتركيا منذ قيام الجمهورية. لذلك لم يكن مستغرباً أن يقدم نفسه راعياً لقوى الإسلام السياسي في الشرق الأوسط كله. وهو الأسلوب نفسه الذي لجأ إليه نظيره الروسي فلاديمير بوتين باعتماده العربة الدينية إحدى المنصات لاستنهاض الروح القومية وإستعادة الدور الذي كان لموسكو أيام القيصرية ثم أيام الكتلة الشرقية، وكذلك لإطاحة خصومه والحؤول دون قيام أي معارضة فاعلة ليبرالية أو غير ليبرالية. وكلا الرجلين يسعى إلى حكم الحزب الواحد. من هنا ربما على أوروبا أن تعيد إطلاق المحادثات من أجل عضوية تركيا في الاتحاد لأن ذلك سيخلق حواراً واسعاً وحملة قاسية تضيء على ما يتعرض له القضاء والحريات وحقوق الإنسان في عهد أردوغان.

لكن الرئيس التركي اكتشف أن انشغاله بالساحة الداخلية صرفه عن إعادة حساباته بعد التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة وأطاحت نظرية «تصفير المشاكل» في العلاقات الخارجية، وبدأت تهز دعائم الاقتصاد والتجارة. اكتشف أن بلاده باتت شبه معزولة مع التمدد الإيراني في عدد من الدول العربية، والتدخل الروسي في سورية وانكفاء الأميركي الحليف الاستراتيجي عن الإقليم وإبرام الاتفاق النووي مع إيران وفتح خطوط التواصل بين واشنطن وطهران. شعر بتراجع موقع تركيا في الاستراتيجية الأميركية، بعدما كان هذا الموقع تراجع أصلاً مع سقوط حلف وارسو. فكان لا بد من مراجعة السياسة الخارجية جذرياً. كان يتوقع عندما أسقط الطائرة الروسية أن يهب حلفاؤه في الأطلسي، وعلى رأسهم أميركا، للدفاع عنه في وجه غطرسة الرئيس فلاديمير بوتين وإطلاق يده في بلاد الشام. لكن شيئاً من هذا لم يحصل. كان إسقاط الطائرة مؤلماً للرئيس الروسي لكن ذلك لم يؤد إلى رسم حدود لتدخله في سورية، بقدر ما انتهى إلى تقليص الدور التركي وتحجيمه. فقد عاندت واشنطن ورفضت مطالبة أنقرة بإقامة مناطق آمنة، وبتوجيه ضربات إلى نظام الرئيس بشار الأسد تمهيداً لإسقاطه. فكان لا بد من الاستدارة وتلبية شروط الكرملين لإعادة المياه إلى مجاريها بين البلدين الجارين. فالرئيس التركي يدرك هول خسارة سورية التي تشكل لبلاده فضاء حيوياً وباباً إلى كل المنطقة. فهي كانت في أدبيات الامبراطورية «درة التاج العثماني»، تماماً مثلما تشكل أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا آخر دفاعاتها في وجه الغرب و»الناتو».

الانعطافة التركية لم تكن مفاجئة. الدينامية التي خلفها تدخل روسيا العسكري في سورية وانخراط إيران عسكرياً في الدفاع عن النظام، دفعت أنقرة إلى إعادة ترتيب علاقاتها. ولم تجد مفراً من إعادة الحرارة إلى علاقاتها مع الرياض. ووفر له غياب الملك عبد الله بن عبد العزيز فرصة لملاقاة خليفته الباحث أيضاً عن حلفاء في الإقليم وخارجه لتعويض الانسحاب الأميركي من المنطقة، ولتعزيز الحلف المناوىء لطهران. وكانت العلاقات بين تركيا والمملكة سادها فتور وتوتر بعدما ساندت السعودية التغيير الذي حصل في القاهرة وأطاح نظام «الأخوان». وهو ما دفع بالرئيس أردوغان إلى شن حملة على الدور الخليجي في دعم الرئيس عبد الفتاح السيسي. ومعروف أن للبلدين علاقات واسعة مع العشائر السنية، ويؤديان دوراً في دعم أهل السنة لمواجهة «داعش» وتمدد إيران في العراق وسورية. وكان تالياً لا بد من إعادة الحرارة إلى العلاقات مع روسيا. فالمصالحة معها تعيد انعاش التبادل التجاري الواسع بين البلدين. كما تعيد الاعتبار إلى سياسة أنقرة لتحويل البلاد ممراً أساسياً للغاز والنفط من آسيا (إيران) وروسيا نحو أوروبا، مما يعطيها ثقلاً سياسياً. وقال الرئيس التركي من سنوات إن بلاده تعتمد على ما تستورده من إيران وروسيا وسيكون «من المستحيل وقف هذه الواردات من أي من هاتين الدولتين». وتعين المصالحة البلدين معاً على التفاهم لتلمس تسوية سياسية في سورية حيث لا ترغب موسكو في حرب مديدة تغرقها في مستنقع لا طاقة لها على تحمله. من هنا جاء التنسيق بينها وبين إسرائيل والذي يعزز حضورها وإمساكها بالورقة الشامية للحفاظ على النظام ومصالحها. فضلاً عما يمكن أن يقدمه اللوبي الإسرائيلي من دعم للكرملين في الأوساط الأميركية والأوروبية. وهو ما شجع ايضاً الرئيس التركي على استعجال إحياء العلاقات مع تل أبيب. وتحد المصالحة من حدة التنافس بين البلدين في آسيا الوسطى والبلقان.

ان تمتين التفاهم بين إسرائيل وروسيا يخدم مصالحهما وسياستيهما في منطقة مضطربة. مثلما تخدم المصالحة بين تركيا والدولة العبرية مصالح الدولتين وتعزز حضورهما في الإقليم والمنتديات الدولية. فكلتاهما تدرك حجم هذه المصالح التي لا يمكن المجازفة بإضاعتها. يمكن أنقرة أن تعتمد على حضور الدولة العبرية وثقلها في الإقليم لمواجهة خصومها فيه. وكان الجيش التركي تاريخياً يعتمد على ما تنتجه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتحديث آلته العسكرية. كما أن اللوبي الإسرائيلي في أميركا يمكن أن يقدم خدمات جلى إلى تركيا. مثلما تحتاج إسرائيل إلى علاقة تصالحية مع بلد إسلامي كبير لضمان أمنها القومي واستقرار هذا الأمن. فالمعروف أنها اعتمدت لتعزيزه،على معاهدة السلام مع مصر وعلى علاقاتها مع تركيا. وهذا ما شكل ويشكل لها وزناً إضافياً في ميزان القوى العسكري في الشرق الأوسط. وهي حريصة على عودة الدفء إلى علاقاتها مع أنقرة التي باتت لها كلمة مسموعة مع حركة «حماس». فضلاً عن حاجتها إليها لتسويق غازها وإيصاله إلى اوروبا بعد الاتفاق على تقاسم هذه الثروة في المتوسط.

لا شك في أن دخول تركيا صلب التفاهم الإسرائيلي - الروسي سيمنحها مجالاً أوسع للتحرك. ويعيد إليها تدريجاً دوراً فقدته. مثلما قد يعدل في موازين القوى المتصارعة في الشرق الأوسط. إن السياسة البراغماتية التي تستعيدها أنقرة تعيد إليها عافيتها الاقتصادية التي تشكل عنصراً فاعلاً في توكيد نفوذها في المنطقة. وتعزز الجبهة الداخلية لحزبها الحاكم. وتستطيع عندها أن تقدم نفسها قوة وشريكاً لا يستغنى عنه في رسم النظام الإقليمي الجديد. مثلما يمكنها تقديم نفسها حامية لأهل السنة بمواجهة إيران وتمددها. وإقامة توازن في علاقاتها مع هذه الأضداد. فحتى الجمهورية الإسلامية في عهد الرئيس حسن روحاني تعتمد سياسة براغماتية لتعزيز اقتصادها وانفتاحها على العالم. فهي سكتت وتسكت على التنسيق القائم بين تل أبيب وموسكو في الساحة السورية. لن يتغير الكثير بين ليلة وضحاها نتيجة هاتين المصالحتين. لكن الانعطافة التركية كانت ضرورية في منطقة تتغير وتتبدل على وقع صراعات دولية وحروب أهلية طاحنة.

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠١٦
هل ستتغير قواعد اللعبة في سوريا

باتت المسألة السورية في مواجهة تطورين كبيرين، سيكون لتداعيات كل منهما شأن كبير، إن على مآلات الوضع السوري والثورة السورية، أو على مكانة الفاعلين الدوليين والإقليميين، في إطار الصراع على سوريا.

التطور الأول، ويتمثل بهذا التمايز، الذي بات علنيا وواضحا، في مواقف كل من روسيا وإيران بخصوص ما يجري في سوريا، وفي الموقف من نظام الرئيس بشار الأسد، ومن مسألة الهدن، والعملية التفاوضية؛ ففيما تبدو إيران مصرة على استمرار الأسد في السلطة إلى ما بعد المرحلة الانتقالية، باعتباره الضامن الوحيد لاستمرار نفوذها، ليس في سوريا فحسب وإنما في العراق وإيران أيضا، ثمة تسريبات جديدة تفيد بأن روسيا ليست متمسكة للنهاية بالرئيس، وأنها تفعل ذلك الآن فقط لمصلحة بقاء الدولة السورية، وتلافيا لانهيارها. ومعلوم أن روسيا تعوّل في دورها على العملية التفاوضية، في حين أن إيران تعول فقط على مشاركة ميليشياتها في الصراع إلى جانب النظام، ما يعني أنه بات ثمة فارق جوهري في مضمون مواقف هذين الطرفين؛ الروسي والإيراني، كما في اصطفافهما على الأرض، وفي هدف كل منهما لأغراض التدخل العسكري.

وقد شهدنا في الآونة الأخيرة مجموعة من الإشارات الروسية التي تفيد بالتوضيح للعالم، وضمنه للإيرانيين، بأن سوريا هذه ورقة في يد روسيا، لا في يد إيران، وأن هذه أصغر من أن تنافس روسيا في سوريا. ولعل هذا ما بدا واضحا من “فيلم حميميم”، في القاعدة البحرية الروسية على الساحل السوري، الذي ظهر فيه الرئيس الأسد وكأنه في حالة استدعاء إلى قاعدة روسية في سوريا لمقابلة وزير دفاع بلد آخر. هذا أيضا ما يمكن استنتاجه من رفع الغطاء الجوي الروسي عن الميليشيات التي تشتغل كأذرع لإيران في سوريا مثل حزب الله في مناطق حلب، وفي نفي السفير الروسي للكلام الذي صدر عن زعيم هذا الحزب حسن نصرالله بخصوص أن ثمة معركة مصيرية آتية في حلب.

التطور الثاني الذي يمكن ملاحظته أيضا، وستكون له تبعاته في المشهد السوري، يتمثل في إعادة التموضع التركي المفاجئ؛ إن لجهة عودة العلاقات الطبيعية بين تركيا وروسيا، أو لجهة تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية، وذلك بغض النظر عن العوامل الذاتية أو الموضوعية، التي ضغطت من أجل ذلك، وأفضت إلى هذا التحول الدراماتيكي في السياسة التركية.

في هذا التطور تحاول تركيا الخروج من الضائقة التي باتت تجد نفسها فيها بسبب انعكاسات الصراع السوري عليها، وتحوله إلى عامل لزعزعة الاستقرار فيها، إن كان من مدخل العمليات الإرهابية التي نشطت في الفترة الماضية، أو من مدخل إشعال فتيل الصراع مع الأكراد، إما في داخل تركيا ذاتها، وإما في سوريا، بحكم تصدر قوات حماية قوات الشعب (الكردية) لقوات سوريا الديمقراطية، والتي بات لها دور فاعل على الأرض في إطار الجهد العسكري ضد داعش.

هكذا يقف السوريون اليوم لمراقبة تداعيات هذين التطورين المهمين، على مجريات الصراع في سوريا وعليها، بحيث يمكن القول معهما إن سوريا ستشهد، على الأرجح، معادلات سياسية جديدة، قد تمهد لتسويات قريبة تخفّف من حدة الصراع السوري، وصولا إلى إيجاد مخارج أو توافقات مناسبة، تمهد لتحقيق النقلة السياسية اللازمة لاستعادة الاستقرار في هذا البلد.

ومعنى ذلك أن هذا الاصطفاف الجديد في علاقات القوى المتصارعة على سوريا، سيعني إضعاف دور إيران، وتاليا إضعاف أهم قوة ساندت نظام الأسد، وأسهمت في وصول الأوضاع في سوريا، وفي المشرق العربي عموما، إلى ما وصلت إليه، من حال التصدع الدولي والمجتمعي. ومن شأن هذا الاستبعاد ربما أنه يوحد الجهود في اتجاه إخراج كل الميليشيات العسكرية من البلد، ووضع حدّ للصراع المسلح، أو التخفيف منه، بانتظار أن تفرض التسوية السياسية ذاتها.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٦
كيف نواجه "بغي" جبهة النصرة !؟

يخطئ الانسان أحياناً ، و يصب خطئه في قالبه "الشخصي" ، وضمن محدودية الآثار على الجمع المحيط به، و لكن عندما تضع نفسك في مقام عالي و تنصب شخصك أو مجموعة على أنك حامي الحمى ذو مهمة دينية عالية، فالخطأ هنا أكبر و أشد إيلاماً سواء لمسؤولياتك التي قررت حملها أو للهدف الذي ارتضيت حمايته و الوصول إليه، دون أن يكون هناك ورقة تكليف رسمية أو شعبية ذات إرادة حرة.

تقع جبهة النصرة في كل مرة في مطب من مطبات العمل المدني و التداخل في شوائك الحياة العسكرية، وقلب المعادلة  في الآرض بسيف القوة ، ويبدو أن هناك من يدأب على زرع الرفض الشعبي لها مستقبلاً، و إن كان هناك قبول حالي فهو وقتي تبعاً لمعطيات الظرف ، المتمثل بحجم الألم المتولد عن النظام و حلفائه، ففي الأرض مدنيون لا يملكون ميزة أو رفاهية إختيار السلاح المدافع عنهم، و مع غياب الخطر على الروح فإن الآية ستتغير بشكل كبير، بخلاف كل ما يخطط أو يُعمل عليه، و لا يوجد استبداد يستطيع السيطرة على الأرض بالسيف و النار ، فدوامهما مستحيل.

فبعد التجارب الـ١٣ للفصائل التي تم انهائها من قبل جبهة النصرة و ارتفاع العدد إلى ١٤ بعد انضمام جيش التحرير إلى القائمة، يبدو أن خط التمدد من قبل النصرة هو قطار سيمر على الفصائل، سواء التي تعتبر جزء خفي من النصرة أو بعيد كل البعد عنها، و الغريب هو الاستهتار النابع عن خوف أو أنانية من قبل الموضوعين على القائمة، اتجاه ما تقوم به النصرة اتجاه فصائل الجيش الحر.

الصامتين على تصرفات النصرة يمثلون قطيع من الغنم يقفون أمام جزار يتلاعب بهم، بانتظار لحظة مواتية لإنهائهم، هذه اللحظة التي تأتي بعد كل انتصار أو بطولة للنصرة لتفرّغ الساحة من فصيل من أبناء الشعب، لا هدف له بأن يتحول الشعب المكلوم لمحارب عن مجتمع بأكمله، لم يتحرك ساكناً أمام أنهر دمائه التي مُلئة الأرض.

قد ينتفض كثر ضد ما نقول أو نتحدث عنه، و لكن يبقى تبيان الواقع أفضل من الصمت بحجة الخوف من ردة الفعل التي قد تودي بحياتك أو حياة من هم على قرب منك، فالقضية ليست قضية فلان من الناس مع مجموعة من الأشخاص ، لكنها هي قضية سوريا المستقبل ، الذي يتحدد الآن من خلال الخيارات التي تضيق على الأرض بعد الابتلاعات المتتالية و غير مضبوطة.

لا يمكن انكار دور النصرة الحالي في احداث الرد الجزئي على كم الاعتداءات اللامتناهي من أعداءه، و لكن في الوقت ذاته لا يمكن أن ننسب هذا الفضل في مجمله لفصيل بعينه، فهو ضمن عمل جماعي يلعب كل جزء منه دور بارزاً و مهماً في أي نتيجة إيجابية، من حلب للساحل و عودة إلى بداية الرد في وادي الضيف وصولاً إلى تحرير ادلب.

التفرد و انكار الجميع قد تكون حالة تمنح النصرة حالياً ميزة للتفوق على الأرض، و لكن ليست ذات استمرارية فحكم الشعب لا يكون بالإلغاء و الانهاء لكل مخالف، و إنما باستيعابه و الذوبان فيه و قبوله كما هو .

و آلاف الأسئلة تضرب في الرأس بحثاً عن مبرر يمكن أن يستخدم لتخفيف الحنق ضد تصرفات "النصرة"، و أبرزها ماذا لو النصرة حلت المشاكل مع حزم و الفرقة ١٣ و جيش التحرير من خلال لجنة حل مقبولة من الجميع، و ماذا لو لم تعتبر كل أخطاء النصرة من اعتقالات و كم الأفواه تحت بند "الأخطاء الفردية" المعفو عنها، ويبقى السؤال الأهم كيف نواجه "بغي" جبهة النصرة !؟

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٦
الصراع السوري وانتعاش أوهام الحسم العسكري

بعد فسحة من الأمل، تراجع فيها منطق العنف والحرب وتقدمت لغة التفاوض السياسي، عاد المشهد السوري إلى سابق عهده مثقلاً بالفتك والدمار، وعاد السلاح ليكون صاحب الكلمة الفصل، منعشاً الأوهام بجدوى الخيار العسكري ومستهتراً بالنتائج المأسوية التي يخلفها على حياة البشر وأمنهم وشروط عيشهم وعلى وحدة الوطن والدولة والنسيج الاجتماعي، وما يزيد الطين بلة، أن كل طرف يحمل الآخر مسؤولية هذا الخيار، إما كرد على انسحاب المعارضة من اجتماعات جنيف ولإجبارها على العودة الى طاولة المفاوضات، وإما لإضعاف نظام يرفض المعالجة السياسية ولإجباره أيضاً على قبول خطة الطريق الأممية والمرحلة الانتقالية العتيدة.

وبينما لا تزال جماعات المعارضة المسلحة منشغلة بترميم قواها وتحصين مواقعها بعد الضربات الجوية الروسية، فإن النتائج التي حققتها هذه الأخيرة مكنت النظام وحلفاءه من التقاط زمام المبادرة والبدء بمرحلة من التصعيد العسكري مستندين إلى ثلاث نقاط داعمة.

أولاً، استثمار الانفلات الناجم عن انهيار هدنة وقف العنف والأعمال العدائية لاستعادة السيطرة على بعض المواقع المفصلية ومحاصرة المعارضة المسلحة في مناطق محدودة ومعزولة، ربطاً بالتركيز على استعادة مدينتي حلب والرقة والتعويل على ذلك في قلب التوازنات القائمة ووضع الصراع السوري في مسار جديد يمكن النظام وحلفاءه من رفع سقف الاشتراطات وفرض إملاءاتهم.

ثانياً، تمرير التصعيد العسكري بالتناغم والتزامن، مرة، مع استعار معارك التحالف الدولي وقوات سورية الديموقراطية ضد تنظيم داعش ونجاح الأولى في التقدم والسيطرة على عدد من القرى والبلدات وآخرها مدينة منبج، ومرة ثانية مع الهجوم الواسع الذي تقوده قوات التحالف ذاتها مع الجيش العراقي للسيطرة على مدينة الفلوجة والاستعداد لاجتياح مدينة الموصل، وما يعطي هذا التناغم قيمة مضافة، انكشاف حالة من توزيع المهمات بين واشنطن وموسكو في إدارة الضربات الجوية للنيل من الجماعات الجهادية على أنواعها.

ثالثاً، الإفادة من تشتت المعارضة السياسية ومن الصراعات التنافسية الدموية التي تتواتر بين أهم جماعاتها المسلحة في غير منطقة من سورية، ربطاً باستمرار إحجام الأطراف الخارجية عن تزويدها بسلاح نوعي، هذا إن بقي خبر حصول جبهة النصرة على مضادات للطيران في إطار التخمينات!

لكن أن تكون الظروف مواتية لتحقيق بعض التقدم العسكري شيء، وأن يسمح تباين المصالح الدولية والإقليمية بتغيير التوازنات القائمة شيء آخر! والقصد أن الأفق سيبقى مغلقاً أمام أي تصعيد عسكري، وأن ثمة خصوصية لمعركتي حلب والرقة، ترتبط بصراع محموم على النفوذ المشرقي، يرجح أن تلعب أطرافه المتضررة دوراً كبيراً في إجهاض أية نتائج عسكرية حاسمة، حتى لو أدى الأمر إلى رفع منسوب الصراع ميدانياً وربما إعلان حرب مفتوحة! فليس من منطق ومصلحة يدفعان القوى الدولية والإقليمية المناهضة للنظام وحلفائه، كي تغض الطرف عما يجري وتقف على الحياد، وهي المدركة الأهمية الإستراتيجية لمدينتي حلب والرقة، إن في تمكين أعدائها وإن في إضعاف تأثيرها بالمستقبل السوري وبصراع الهيمنة على المنطقة.

ربما لا تسمح الموازين الداخلية والخيارات الدولية والإقليمية في اللحظة الراهنة بفرض حل سياسي عادل يحقق طموح الشعب السوري، وربما لا تسمح ببعث مسار التفاوض السياسي ومنحه ما يتطلبه من الجدية والزخم، لكن هذه الموازين نفسها لن تسمح أيضاً لأحد الطرفين، بتحقيق الغلبة والانتصار خاصة في مدينة مثل حلب، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى تحذيرات الوزير كيري بأن صبر واشنطن بدأ بالنفاد، وتالياً إلى مسارعة موسكو تجميد القصف والأعمال القتالية وإعلان هدنة قصيرة في المدينة من طرف واحد.

يصعب على المرء فهم الطريقة التي تنظر فيها أطراف الصراع إلى ما يجري، وكيف تخلص إلى تغليب الخيار الحربي على كل شيء، وتعجب بعد أعوام عديدة من تجريب مختلف أصناف الأسلحة وأكثرها فتكاً ومن استجرار كل أشكال التدخل الخارجي وما تحمله من مصالح وأهداف خاصة، تعجب من استمرار الأوهام بإمكانية الحسم ونجاعة منطق كسر العظم، وتالياً من نكران حقيقة مرة تقول بلا جدوى هذا الخيار، وأنه يسير بالبلاد، في ضوء التشابكات الدولية والإقليمية العنيدة والمعقدة للوحة الصراع السوري، نحو الأسوأ سياسياً وعسكرياً وإنسانياً، ونحو المزيد من الضحايا والخراب والمشردين واستنزاف ما تبقى من قوة المجتمع وثرواته.

فإلى متى يبقى الشعب السوري أسير الخيار الحربي في رهان السلطة أو المعارضة على الانتصار؟ أوليس أمراً مؤسفاً ومقلقاً في آن، الوقوف أمام قادة للمعارضة لا ينفكون عن تكرار أوهامهم عن حسم عسكري سريع في حال مدوا بأسلحة نوعية أو تم تحييد الطيران، وأمام نظام لم تفارقه الأوهام ذاتها، واعتاد مع كل محطة يحقق فيها الخيار العسكري بعض التقدم، أن ينعش هذه الأوهام ويكرر لازمته، بأن الأزمة توشك على الانتهاء وبأن ما تواجهه البلاد سيغدو في وقت قريب من الماضي؟!

لن تعود سورية إلى ما كانت عليه قبل آذار (مارس) 2011... هي عبارة يتداولها الكثيرون كحقيقة لا تقبل التأويل. ولكن بين تشاؤم العقل وتفاؤل القلب، ثمة بارقة أمل، تتعدى الرهان على محصلة صفرية للصراع تكره أطرافه الداخلية على التنازل والانصياع للحلول السياسية، أو على تقدم توافق وإرادة أمميين يضعان حداً لما يجري، إلى الرهان على خصوصية الشعب السوري وعلى شدة ما يعانيه في لعب دور فاعل يحاصر منطق العنف والغلبة والإكراه، يحدوه رهان على جدوى المثابرة في نشر ثقافة تنبذ التمييز والاستفزاز وإثارة الحقد والبغضاء، وترفض أي خطاب إيديولوجي مسطح يحتقر السياسة وحقوق الإنسان ويستسهل قتل البشر وسفك الدماء لأغراض سياسية أو دينية، ثقافة لا يمكن من دونها أن يكون السوريون أوفياء للتضحيات العظيمة التي بذلت ولشعارات الحرية والعدل والكرامة.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٦
هذه العنصرية ضد السوري

قد يمكنك تفسير سبب عنصرية الشعب اللبناني (أو الشعوب اللبنانية؟) تجاه العمال الأجانب الآتين من سريلانكا أو الهند أو بنغلادش، من دون أن تبرر هذا الحال طبعاً، كما هو شأن تفسيرك عنصريتهم تجاه الأفارقة، وحتى تجاه العربي الخليجي أو المصري أو المغربي. ولكن، كيف نفسر العنصرية اللبنانية ضد السوري والفلسطيني؟ على ماذا تستند، أو من أين تنبع؟ على ماذا تستند لترى نفسك مختلفاً عمّن تشترك معه في اللغة، لا بل اللهجة أحياناً، والتاريخ والجغرافيا والثقافة والعرق والنسب... والتخلُّف عن ركب الحضارة؟ نزوح مليون ونصف مليون إنسان إلى بلد صغير، متعثر أصلا، سيفاقم مشكلاته ويعرّضه للأزمات والمخاطر. ولكن، هذه مسؤولية الدولة، ومن واجباتها ومهماتها إيجاد الحلول والتسويات مع الخارج، عبر المؤسسات والقوانين الدولية، ومع الداخل عبر مؤسسات المجتمع المدني، لتنظيم ما يمكن تنظيمه وتحسين ما يمكن تحسينه. وبعدها، لا بأس بالاتكال على أصحاب الهمم من المواطنين للمساهمة بما أمكن. أمّا المواطن الغاضب والقلق على الأمن والمستقبل، وإذا ما شعر أن ضرر النزوح أقوى من قدرته على الاحتمال، فما عليه سوى الضغط على أصحاب الشأن لتخفيف الضائقة؛ وليس التنكيل بالنازح المغلوب على أمره، والذي يحلم، أصلاً، بالخروج من لبنان على أقرب قارب، يصارع أمواج الموت الأبيض المتوسط.

ثم، أليس اللبناني شريكاً لشقيقه السوري في هذا البؤس المزمن والمستشري؟ كم من العائلات والأفراد اللبنانيين سعوا، ويسعون، إلى سلوك الدرب نفسه، درب الموت الشمالي المفضي إلى الوهم الأوروبي؟ أو، كم لبنانيا زوَّر أوراقه الرسمية، وادعى أنه سوري، ليحصل على حق اللجوء في ألمانيا أو سويسرا أو إيطاليا؟ وكم لبنانيا نجح بالادِّعاء، لأنه يتكلم اللهجة السورية نفسها، ويحمل السحنة نفسها، ويتكبل بالأنواع نفسها من اليأس والإحباط، ومن العقد التي راكمها في نفسه شبيحة الأنظمة والمليشيات وحماة الطوائف.

من الطبيعي أن يتخفّى بين النازحين السوريين شذاذ ومجرمون وإرهابيون ومعتوهون. ولكن، من قال إن نسبة هؤلاء أعلى من نسبة نظرائهم في منازل اللبنانيين؟ لنعد إلى أرشيف التفجيرات والعمليات الإرهابية، ونرى كيف أن الأسماء السورية كانت أقلية، مقارنة باللبنانيين، خصوصاً إذا ما فصلنا الذين خرجوا من بين النازحين عن الذين جاؤوا مجهزين من خلف الحدود. ثم، خارج هذه المعادلة، وفي كل الأحوال، يبقى الأمن مسؤولية الأجهزة الأمنية، حصراً، ولا يجوز أن تحمّل المسؤولية للنازح المغلوب على أمره، ولا لزوجته التي، غالباً، ما تكون مشغولة بأطفالها، فمعظم اللاجئين السوريين هربوا من الأرياف، وهؤلاء أطفالهم كثيرون، على غير أفراد الطبقة الميسورة التي انخرطت في النسيج المدني اللبناني، ولا تطاولها التصرفات العنصرية، لأنها، أصلاً، غير محسوبة على النازحين.

بشأن سوق العمل، ومعزوفة مزاحمة اللبناني و"خطف اللقمة من فمه"، توضح الأرقام أن معظم اليد العاملة السورية، الموجودة حالياً، كان موجوداً في العقود الأربع الماضية. مع فارق أنها، أيام وصاية النظام السوري على لبنان، كانت تحظى باحترامٍ وتقديرٍ أكبر؛ وكانت مرتباتها ومداخيلها أعلى. ومن دون قيود من الأمن العام ووزارتي العمل والشؤون الاجتماعية. ولم تكن قد اختُرِعت بعد شخصية "الكفيل" الذي يشارك، في أحيان كثيرة، العامل المياوم عرقه، ويتحكّم به بعنصرية مقرفة! والأهم أنه، في ما مضى، كان السوري يرسل مدخوله الى عائلته في سورية، أما الآن فهو يصرفه في لبنان. أي أنه يشارك، إيجابياً، في الدورة الاقتصادية التي تحسنت، بشكل ملحوظ، بعد دخول مليون ونصف مستهلك إلى السوق اللبناني.

النزوح السوري مشكلة، لكن النازح هو الأكثر معاناةً، هو الضحية وليس المجرم. هو النتيجة وليس السبب. فيا أيها اللبناني الغاضب؛ وجِّه غضبك باتجاه مسببي المشكلة أو، على الأقل، باتجاه من يستطيعون شيئاً لحلها، فالنازح لا حول ولا قوة، وإذا كنت ترى وضعك أفضل، فساعده بالضغط على أصحاب القرار لحل مشكلته، أو اتكل على الله... واصمت. فقد تصحو في صبحٍ قريب، وترى نفسك تشاركه النزوح داخل لبنان أو خارجه. لا فرق. وستكون في انتظارك جحافل من عنصريين سيشعرون بالتفوق عليك، لمجرد أن ظروفاً قاهرة أخرجتك من بيتك.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٦
ما حدود الصبر الأميركي؟

قال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في زيارته النرويج أخيراً إن لصبر بلاده على روسيا، فيما يخص الملف السوري، حدوداً "مع محاسبة الأسد أو بدونها". وأضاف أن الولايات المتحدة "مستعدة أيضا لمحاسبة (المجموعات المسلحة) من عناصر المعارضة"، الذين يشتبه بارتكابهم انتهاكات أو الذين "يواصلون المعارك في انتهاك لوقف اطلاق النار".

بقي أن نعرف متى سينفد صبر الولايات المتحدة، وأين تقف حدود صبرها. أي متى سينفد صبر الولايات المتحدة من نظام الأسد وجرائمه المستمرة، بعد أن وسّٓعت صدرها، وألغت جميع خطوطها الحمر، يوم قصف الأسد الغوطة بالكيماوي، وقتٓلٓ الآلاف، قبل أكثر من عامين، وبعد أن انخفضت فجأةً حساسيتها تجاه جرائم التعذيب حتى الموت والقتل الجماعي في السجون. ووسَّعت أميركا صدرها، وصبرت على نشر حوالي خمسين ألف صورة لأكثر من عشرين ألف شاب وشابة سوريين، جرى قتلهم تعذيبا في سجون النظام

هل هناك عدد محدد من السوريين يجب أن يموتوا قبل أن ينفد صبر السيد كيري وإدارته؟ هل عدد النصف مليون لا يزال رقماً ضمن الحدود، ويمكن التسامح معه؟ ليحدّد لنا كيري عدد السوريين الذين يجب أن يقتلهم الأسد وحلفاؤه، لكي ينفد صبره وصبر إدارته. ما هي النسبة المئوية للمنازل والمدن والقرى السورية التي يُسمح للطائرات الروسية وقوات إيران ومليشياتها تدميرها قبل أن ينفد صبر الوزير كيري؟ نطالبه، وإدارته، بتحديد هذه النسبة: هل ينتظر أن يتم تدمير ما تبقى من حلب وإدلب وحمص وريف دمشق وريف اللاذقية والقلمون، وتشريد من تبقوا من سكانها حتى ينفد صبره؟ يبدو أن مخزون الصبر الأميركي تجاه موت السوريين أكبر من مخزون النفط العالمي.

ألا يكفي تهجير نصف سكان سورية من مدنهم وقراهم إلى مخيمات البؤس، أم لدى جون كيري وإدارته ما يكفي من الصبر، لترحيل النصف المتبقي؟ وكم هو عدد الأطفال المشرّدين والمحرومين من التعليم والحياة اللائقة في مخيمات البؤس الذي سيدفع كيري وإدارته للإعلان أن صبرهم نفد، وأصبح من الواجب دفع المؤسسات الدولية لعمل شيء من أجل تأمين عودةٍ آمنة لهم إلى مدارسهم ومنازلهم التي هجَّرهم نظام الأسد منها؟

فعلاً شر البلية ما يُضحك ويُبكي معاً. بعد أكثر من خمس سنوات من الموت والدمار والقتل والتهجير والتشرد، ولا يزال لدى وزير الخارجية الأميركي، وإدارته، مزيد من الصبر. حوّل نظام الطاغية سورية إلى مرتع لمليشيات إيران الطائفية، لتزرع حقدها، وتؤمِّن البيئة المناسبة لفتنةٍ طائفيةٍ مهّدت لظهور داعش والتنظيمات التكفيرية بأبشع صورها، ولا يزال لدى كيري وإدارته مزيد من الصبر. وُلِد عشرات الأطفال في مخيمات اللجوء، ووصل مئات الآلاف منهم إلى سن التعليم، من دون وجود مدرسة تؤويهم، أو بيئة صالحة تجنبهم الانزلاق نحو التطرف، ولا يزال كيري وإدارته بعيدين عن الحدّ الذي يستوجب نفاد الصبر.

معالي الوزير: مع الأسف، لا أعتقد أن سورياً واحداً لا يزال يثق بحسّكم الإنساني، ولا بحديثكم عن حقوق الإنسان وضرورة احترامها ومحاسبة منتهكيها. الغالبية الساحقة من السوريين، ومن جميع الاتجاهات السياسية، ترى أن مسؤوليتكم عن استمرار شلال الدم السوري لا تقلّ أبداً عن مسؤولية الروس الذين تُنذِرونهم بقرب نفاد صبركم. صمتكم و(صبركم) تجاه الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري من قتل وتعذيب وتهجير على يد طاغيته، والمليشيات الطائفية التي تدعمه، وترككم "داعش" تكبر وتتمدّد وتقتل وتنكل بالسوريين منذ أكثر من عامين، بحد ذاته، جريمة أخرى بحق سورية وشعبها.

معالي الوزير: إذا ما شعرتم وإدارتكم أن صبركم نفد فعلاً، وكان مفترضاً أن يَنـفد منذ سنوات، فأنتم أكثر من يستطيع وقف شلال دمائنا (إذا لم يكن لكم مصلحة في استمراره؟).

تستطيعون أنتم وحلفاؤكم، لو شئتم، أن تفرضوا على الروس أن يتوقفوا عن دعم الطاغية وإيران ومليشياتها في حربهم ضد شعبنا، الأمر الذي سيساعدنا، نحن السوريين، لكي نتوحد ضد وحش التكفير والإرهاب. وتسطيعون أنتم وحلفاؤكم تشكيل قوةٍ عربيةٍ دوليةٍ، وبموافقة الروس، قادرة على دعم جهود السوريين في الحفاظ على وحدة وطنهم، وعيشهم المشترك الممتد آلاف السنين (إذا كان ذلك لا يتعارض مع مصالحكم واستراتيجيتكم في المنطقة!)، وفي حربهم المزدوجة ضد الظلم والظلام، لعّلكم تُكَفِّرون عن صمتكم، وعن سعة صدركم اللامحدودة تجاه موتنا وآلامنا وتدمير وطننا.

معالي الوزير: لن يكون سهلاً على السوريين المنهكين أن يحاربوا هذين الوحشين معاً وحدهم (ظلم الطاغية وظلام التكفيريين) من دون قرارٍ أمميٍّ، لم تبذلوا أي جهدٍ كي يصدر عن مجلس الأمن. آمل وأرجو ألّا تكون لكم أي مصلحة في استمرار مأساتنا ونزيف دمائنا، وكلي أمل أن ينفد صبركم بأسرع وقت ممكن، وقبل أن تظهر داعش أخرى أشدّ دموية، وأكثر خطورةً، علينا وعليكم وعلى الإنسانية.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٦
عن لقالق المعارضة السورية

لا أعتقد أنه بقي غير عدد جد قليل من السوريين من لم يتصل بأجانب، أو من لم يتصل به أجانب. صار السوريون، في معظهم، كائنات دولية تتخطى اهتماماتها ومواقفها هموم بلدها الصغيرة إلى معضلات العالم الكبرى التي تعتقد أنها لن تحلّ من دون جهودها، وأن لقاءاتها مع المسؤولين الأجانب تتم بقصد توجيههم ومساعدتهم على اتخاذ قراراتٍ استراتيجية صائبة. أو للإشراف على تنفيذها، يستوى في ذلك إن كان السوري صاحب خبرة حزبية، أو من الذين "هوبروا" حتى بعد الثورة لمخابرات "أسدهم الأبدي"، أو انهمك، بعد الثورة، في اختلاق تاريخ شخصي، ثوري ومجيد، ينظف به ماضيه و"يبردخه" بمفعول رجعي، مستفيداً من الكلامولوجيا الشعبوية السائدة التي تلعب دوراً إرهابياً، يقوم على تخوين دعاة الواقعية كطريقة في فهم الأمور والعقلانية سبيلاً لمعالجتها، وعدداً كبيراً من الذين قاوموا الأسدية وعرفوا سجونها، ثم غمرهم ديماغوجيوها الفطريون بثورجيّةٍ جعلت منهم مستحاثاتٍ فات زمانها، يجب شطبها من ذاكرة الشعب، بالطرق التي طالما تعلمها الثورجيون الحاليون من ثورجيّة نظام البعث، إبّان فترة خنوعهم له.

كيف نفسر، من دون أوهام هذا النمط الواسع الانتشار من الثورجيين، إسداء الذين غرقوا من ممثليه، وأغرقوا الثورة في شبر ماء، النصح طوال الأعوام المنصرمة للأميركيين هنا، وللروس هناك، حول أفضل سبل تلبية مصالحهم، ووضع سورية وثورتها في جيوبهم، وتصحيح ما قد ينشأ من سوء تفاهم بين واشنطن والثورة السورية، قد يضعف ما بينهما من وحدة. والحل إن عدداً كبيراً من معارضي الخارج لم يتوقف إلى اليوم عن تقديم النصح للأميركيين حول أفضل سياسات تخدم مصالحهم، في بلادنا وكل مكان، ولم يصدّق أنهم ليسوا أوفى أصدقاء قضيتهم، وأنه لا يقلق نومهم إن بقي النظام والأسد في السلطة، ولا يدافعون، بالأفعال والأقوال، عن حق كل سورية وسوري في الحرية والكرامة. في المقابل، يعتقد عدد كبير من معارضي الداخل أن الاتحاد السوفييتي لم يسقط، كل ما في الأمر أنه غيّر اسمه وحسب، وأن بوتين هو لينين زماننا الذي علينا الثقة به والسير في ركابه، مهما ناقضت أقواله وأفعاله آمالنا، إن كنا نريد لنضالنا ضد بشار الأسد أن يحقّق نتيجةً ما.

في "كليلة ودمنة" قصة عن طائر لقلق نصح حمامة ألا تلقي فراخها إلى الثعلب الذي يهدّدها، كل صباح، بصعود الشجرة والتهام فراخها، إن رفضت إلقاء واحدٍ منهم إليه. قال الطائر للحمامة: لا يستطيع الثعلب بلوغ عشّك في أعلى الشجرة، فلا تلقي بفراخك إليه. بسؤالها، قالت الحمامة: إن طائر اللقلق هو الذي أعلمها بعجزه عن ارتقاء الأشجار. بحث الثعلب عن الطائر. عندما وجده، امتدح جماله، وأبدى إعجابه بضخامة جناحيه، وسأله أين يضع عنقه الطويل، حين تهب عليه العواصف من جميع الجهات. أجاب الطائر المنتشي بالإطراء: أضعه بين ساقي. طلب الثعلب منه أن يريه كيف يفعل ذلك، وحين طوى عنقه وأخفى رأسه بين ساقيه، انقضّ الثعلب عليه، وأمسك به، وهو يقول له: يا غبي، ترى الرأي لسواك، ولا تراه لنفسك.

تلك كانت نهاية لقلقٍ غبي أسكره المديح الكاذب، فمتى تكون نهاية لقالق معارضتنا الذين يرون الرأي لأميركا وروسيا، ولا يرونه لشعبهم، ويقدمون النصح لمن لا يحتاج إلى نصحهم، بينما يرتكبون أخطاء كارثية تضرّ بشعبهم ووطنهم. وكما كانت الحمامة تلقي بفراخها إلى الثعلب الماكر، يلقون هم مواطنيهم إلى أعداء يستمتعون برؤيتهم وهم يتخبطون في مأزقهم، أو يقتلونهم، أو إلى غزاة احتلوا بلادهم، وحوّلوها إلى مكانٍ تسرح فيه ضوارٍ من شتى الأصناف والدول، تشارك الأسد في نهش لحم شعبهم ولعق دمائه.

يا لقالق المعارضة: متى ترون الرأي لشعبكم، ولا ترونه لأعدائه وخصومه؟.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٦
رؤية أوباما للشرق الأوسط

الرئيس الأميركي باراك أوباما في الأشهر السبعة الأخيرة من رئاسته للولايات المتحدة سيُكتب ويُقال الكثير عن سجله والإرث الذي سيخلفه بعد مغادرته البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) 2017. الرجل ذكي في شكل لافت، ويملك موهبة الخطابة الرزينة، لا يمكن اتهامه بأنه بسيط في تفكيره وحساباته وأهدافه، على رغم ذلك هو رئيس من دون سياسة خارجية متماسكة. مواقفه تجاه أوكرانيا وسورية والعراق تؤكد ذلك. يبدو أحياناً متناقضاً، وربما مرتبكاً. خذ تأكيده أن التدخل الأميركي في أي بلد في الشرق الأوسط، مثلاً، مشروط بالتزام هذا البلد تبني سياسة داخلية متوازنة تجاه جميع مواطنيه من دون تمييز («النيويورك تايمز» 8 آب - أغسطس 2014). ضع هذا التأكيد أمام تقاسم النفوذ مع إيران في العراق، وتحالف إدارته مع ميليشيات «الحشد الشعبي» على رغم أنها ميليشيات طائفية، وتمارس العنف والقتل على أساس طائفي. أضف إلى ذلك قرار أوباما فرض عقوبات على روسيا بسبب اجتياحها أوكرانيا، وضم جزيرة القرم إليها، ثم مكافأتها في الشرق الأوسط بتسليمها الملف السوري بكامله.

يبدو أوباما أحياناً على درجة عالية من الحس الأخلاقي، يعبر عنه موقفه الرافض للحروب. من ناحية ثانية يبدو بارداً تجاه آلام ومآسي الآخرين. جاء إلى البيت الأبيض بوعد بأن يضع حداً لمغامرات سلفه جورج بوش الابن العسكرية. هل تحققت نتيجة من وراء ذلك؟ لم يتراجع القتل في أفغانستان، وازدادت وتيرته في باكستان. تضاعف القتل وتعفن الوضع السياسي في العراق. في عهد أوباما ظهر «داعش»، وتضاعف عدد الميليشيات في العراق وسورية، ودخل الجيش الروسي إلى الشرق الأوسط للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحولت ميليشيا «حزب الله» إلى قوة تدخل إقليمية لإيران. تجاوز عدد قتلى الثورة السورية 400 ألف وفق إحصاءات الأمم المتحدة، عدا الجرحى والمفقودين والمعتقلين والمهجرين، والدمار الذي طاول كل المدن السورية. في خضم المأزق السوري ظهرت أزمة المهاجرين التي هزّت استقرار أوروبا ونظمها السياسية. وعلى علاقة بذلك خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أمام كل ذلك يبدو أوباما غير آبه. أحياناً يبدو مرتبكاً، في حال دفاع ليست مقنعة لأحد.

في عهد أوباما انفجر الربيع العربي. في اللحظات الأولى لذلك بدا الرئيس حازماً في موقفه الداعم مطالب الجماهير في الشوارع. لكن تدريجياً بدأ يتبين أن أوباما كان رهينة حال ارتباك تتصاعد. اخترع فريق الرئيس مصطلح «القيادة من الخلف» في الحال الليبية. المهم أن تبقى القيادة لأميركا، حتى ولو من الخلف. في سورية، وكما فعل في حالات أخرى، طالب أوباما بشار الأسد بالتنحي. ذهب أبعد من ذلك حين وضع خطاً أحمر أمام استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي ضد المتظاهرين. النظام السوري استخدم بالفعل هذا السلاح ليس تحدياً للرئيس الأميركي، لكن طبيعة النظام الدموية وحال اليأس التي شعر بها في صيف 2013 دفعتاه حينها للمغامرة بآخر أوراقه. قتل نتيجة ذلك أكثر من 1400 شخص في الغوطة الشرقية لدمشق. تعالت أصوات الاستنكار والشجب في أنحاء العالم. لم يكتف بالشجب. ربما تملكه شعور بأن صدقيته وصدقية أميركا باتت أمام تحد سافر. لكن سياق الأحداث يشير إلى أن أوباما كان لا يزال رهينة حال الارتباك. أمر قواته بالاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية محدودة لمواقع النظام السوري. ثم تراجع عن ذلك بسرعة لافتة بعد اقتراح روسي بأن يسلم الأسد كل ترسانة السلاح الكيماوي التي في عهدة الجيش السوري.

تراجع أوباما كان إيذاناً بتسليم الملف السوري إلى روسيا. وهذا ما حصل. آخر معالم ذلك ما ذكرته صحيفة «الواشنطن بوست» الخميس الماضي، بأن إدارة أوباما اقترحت على روسيا تنسيق الطلعات الجوية بينهما في سورية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) و»جبهة النصرة»، شريطة أن تمارس موسكو نفوذها لدى النظام السوري لوقف استهدافه المعارضة التي تدعمها واشنطن. أي أنه بعد أن كانت إدارة أوباما تفكر في توجيه ضربة للنظام السوري، باتت تتمنى أن تستخدم روسيا نفوذها لدى هذا النظام بعدم استهداف حلفاء الإدارة. وهذا لا يضيف شيئاً أكثر من أنه يؤكد أن أوباما لا يملك سياسة خارجية واضحة ومتماسكة تجاه المنطقة.

لم يحزم أوباما أمره تجاه أي من ملفات المنطقة. تردد كثيراً أنه يريد إعادة العلاقة مع إيران، لكنه لم يحزم أمره حتى في هذا الاتجاه بعد. لم يستقر على شيء تجاه العراق، ولا «داعش» أو الإرهاب. يحارب تنظيم «داعش» من الجو، ويتحالف مع ميليشيا «الحشد الشعبي» في العراق، ومن الجو أيضاً. عملت إدارته على تدريب قوات من سوريين وأكراد لمحاربة «داعش» على الأرض، بدلاً من قوات أميركية. أي أنه يستخدم مرتزقة لتحقيق أهداف غامضة لا علاقة لهم بها. ما يؤكد أن أوباما لم يحزم أمره في سورية أيضاً. القضاء على «داعش» ليس أولوية بالنسبة الى أوباما. هدفه، كما قال، متدرج «إضعاف هذا التنظيم، ثم القضاء عليه». كم ستأخذ عملية الإضعاف هذه؟ وفق تقديرات الإدارة قد تأخذ أكثر من 30 سنة. من يصدق ذلك؟ الأسوأ أن الرئيس لا يعتبر «داعش» نتيجة لما حصل للمنطقة، بما في ذلك الغزو الأميركي للعراق وما انتهى إليه، ووحشية النظام السوري، وتسليم سورية لروسيا. من هنا لا تملك إدارته خطة أو استراتيجية للتعامل مع هذه الظاهرة. كل ما تفعله أنها تعزل «داعش» عن محيطه وسياقه، وتعمل على إضعافه بالشكل التدريجي المذكور. كأن أوباما يتمنى إضعاف قدرات هذا التنظيم بحيث لا تتجاوز حدود الشرق الأوسط، وألا تشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة. وإذا صح هذا، فهو يبدو وكأنه يريد بقاءه ورقة ضغط على الآخرين في المنطقة. لكن تاريخ تعامل الولايات المتحدة مع الإرهاب هو تاريخ فشل متصل. في مرحلة أفغانستان في تسعينات القرن الماضي، لم يكن هناك إلا تنظيم إرهابي واحد اسمه «القاعدة». بعد أكثر من ربع قرن من الحرب على هذا التنظيم، ليس فقط أنه لا يزال معنا، بل تضاعف عدد التنظيمات الإرهابية، بحيث أنه يقترب الآن من المئات، ما بين تنظيمات سنية وشيعية. والسؤال الذي يتجنب أوباما مواجهته هو الآتي: لنتجاوز تقديراتك بأن القضاء على «داعش» قد يستغرق 30 سنة، ولنفترض أنه تم القضاء عليه في نهاية هذه السنة، أو السنة المقبلة، ثم ماذا؟ ماذا عن الميليشيات الأخرى التي تجوب المنطقة طولاً وعرضاً؟ ماذا عن نظام الأسد الذي يغذي بقاؤه الإرهاب، ويحتمي بميليشيات إرهابية؟ وماذا عن النظام الطائفي الذي أفرزه تجاور الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني في العراق، ويعتمد على الميليشيات؟

ربما أن أوباما غير مدرك، أو غير آبه بالعلاقة بين قناعاته السياسية، وحجم التداعيات التي تترتب عليها عندما تتحول إلى سياسات نظراً إلى حجم الولايات المتحدة وتأثيرها. وربما أن قراره بالتحول نحو شرق آسيا قد قلل من أهمية الشرق الأوسط بالنسبة اليه. لكن ما قاله هو نفسه عن المنطقة قبل حوالى السنتين، ثم أخذ يردده بعد ذلك أمر لافت. يقول: «أنا أعتقد بأن ما نشاهده في الشرق الأوسط وجزء من شمال أفريقيا هو بداية انهيار لنظام إقليمي يعود تاريخه للحرب العالمية الأولى». («النيويورك تايمز»، 8 آب 2014). مواقف وسياسات الرئيس الأميركي تبدو وكأنها تدفع باتجاه تسريع عملية الانهيار. هل هذا مؤشر إلى وجود سياسة متماسكة، أم إلى غيابها؟

 

اقرأ المزيد
٢ يوليو ٢٠١٦
السوريون في مرحلة صعبة!

حمل التدخل العسكري الروسي عند حصوله قبل ثمانية أشهر فكرة أساسية، جوهرها إحداث تبدلات عميقة في الواقع الميداني على الأرض في سوريا، ومن شأن هذه الفكرة، إن تحققت كما رغب الروس وحلفهم مع إيران ونظام الأسد، أن تفتح الباب نحو تسوية يقبلونها، أساسها تعديل ميزان القوى عبر إعادة بسط سيطرة النظام وحلفائه على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، الأمر الذي يضع المعارضة أمام القبول بالنظام وحلفائه في مستقبل سوريا والدخول في شراكة معه عبر حكومة وحدة وطنية، أو الاندحار سياسيا، إذا رفضت المشاركة.

وفي الحالتين، فإن المراهنة الروسية على دحر المعارضة والسيطرة على المناطق الخاضعة لها، سوف تؤهل النظام إلى الانضمام إلى التحالف الدولي للحرب على «داعش» وهزيمته، وإن طالت الحرب.

غير أن الفرضيات الروسية، اصطدمت بالواقع، فلم تحقق حسما في ثلاثة أشهر، كما توقع الروس، رغم دموية هجماتهم الجوية ومساعداتهم غير المحدودة في التغطية الجوية لهجمات قوات حلفائهم، التي دفعت أعدادا كبيرة من جنودها وعتادها للحرب في حلب وريفها في الأشهر الماضية. ولم يغير تمديد الفترة أشهرا تالية واقع أن الحرب كر وفر، والمعارك بين ربح وخسارة، ولا نتائج حاسمة فيها.

حالة الاستعصاء السوري في غياب حل سياسي، فشل المجتمع الدولي في الوصول إليه سواء لعدم توافق أطرافه أو بفعل عدم رغبتهم في التوافق عليه بالتزامن مع عدم القدرة على حسم عسكري، تنجزه أطراف القوى المتصارعة في الميدان، يدفعان إلى استمرار الحال السوري بما هو عليه من صراع مدمر، ويدفعه إلى الأشكال الأكثر وحشية على نحو ما يحصل في حلب وجوارها، والأمر في هذا، يؤشر إلى رأس جبل الجليد في الصراع الذي تتجسد قاعدته في مظاهر الأخطر فيها:

تنامي الخلاف والصراع داخل تحالف النظام حيث صراع روسي – إيراني ومثله بين الروس و«حزب الله»، وصراع بين «حزب الله» وقوات الأسد، وخلافات نظام الأسد مع موسكو. وكلها تجاوزت حدود الخلافات السياسية إلى خلافات ميدانية، ظهرت في الآونة الأخيرة في معارك حلب وريفها، كان بين تعبيراتها الأشد، امتناع روسيا عن توفير دعم جوي لمعظم هجمات قوات حلفائها وميليشياتهم على قوات المعارضة المسلحة، أو الامتناع عن ضرب الأخيرة إبان هجماتها على قوات النظام و«حزب الله»، كما كان بين تعبيراتها قيام طائرات النظام بشن هجمات جوية ضد ميليشيات «حزب الله» جنوب حلب.

ويتوازى مع الصراعات البينية لتحالف نظام الأسد، صراعات وخلافات مماثلة داخل جماعات المعارضة السياسية والعسكرية، وفي الجانب الأول ما يظهر من خلافات في موضوع التمثيل السياسي والذي تتصارع عليه تحالفات وقوى متعددة، تسعى إلى كسب تأييد دولي لمكانتها في التمثيل السياسي، ويتجاوز الأمر ذلك إلى صراعات بين التشكيلات المسلحة للمعارضة على نحو ما ظهر الصراع الميداني في غوطة دمشق، بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن، فيما تتواصل صراعات ميدانية أقل حدة في الشمال والجنوب على السواء بين تشكيلات في المعارضة المسلحة، لكنها تتدارى بسبب من ظروف سياسية، يفرضها ويغطي عليها واقع الصراع المحتدم مع معسكر النظام، ومنها صراع تشكيلات الجيش الحر مع جبهة النصرة، التي وإن كانت نظريا وسياسيا مصنفة إرهابية، لكنها عمليا قوة حاضرة في تحالف «جيش الفتح» في الشمال.

وسط الصراعات والخلافات البينية بين طرفي الصراع الرئيسي، يستمر وضع «داعش» بالاستقرار في مناطق سيطرتها مع فشل الحرب الدولية عليها، وعجز أطراف الصراع الداخلي لأسباب متعددة ومعقدة عن خوض صراع جدي وحاسم ضدها في دير الزور وفي الرقة حيث تتمركز، وتدور ضدها معارك محدودة في ريف حلب، يشارك فيها مختلفون ومتصارعون من قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd) وجماعات المعارضة المسلحة، بينما تعزز قوات سوريا الديمقراطية مواقعها، وتزيد انتشار قواتها بدعم مباشر علني ومزدوج من الأمريكيين والروس على السواء، على حساب قوى المعارضة المسلحة.

ولأن كان تنامي الصراعات والخلافات البينية لقوى الصراع السوري وفيها، يمثل جانبا في المرحلة الأصعب التي يواجهها السويون وقضيتهم في الأفق الحالي. فإن ثمة جانبا آخر، لا يقل أهمية، الأبرز فيه تصعيد استهداف المدنيين قتلا ودمارا، وهي حقيقة قائمة في كل المناطق، بغض النظر عمن يتحكم في تلك المناطق ويسيطر عليها، وتتضاعف خطورة ما يجري في هذا الجانب، في ظل إغلاق شبه مطلق من جانب دول الجوار على دخول المدنيين إليها، وترافقه مع اتساع رقعة الاغتيالات والخطف والاعتقال، التي لا تطال قادة عسكريين ونشطاء فقط، بل شخصيات وقيادات سياسية ومدنية وأهلية في كل المناطق.

خلاصة الأمر أن الوضع السوري ماض نحو مزيد من الدمار السياسي والعسكري والمدني والتشظي والفوضى لمرحلة يصعب التنبؤ بنهايتها، طالما أن المجتمع الدولي عاجز عن المضي نحو حل سياسي أو غير راغب فيه، وهو لا يريد أو لا يستطيع إنجاز «حل عسكري» يضع حدا لما هو قائم من صراع سوري وحول سوريا.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع
فريق العمل
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى