بعد أيام قليلة تحل الذكرى العاشرة للحرب الثانية التي شنتها إسرائيل على لبنان عام 2006، في أعقاب هجوم نفذه حزب الله اللبنانى وأسر خلاله جنديين إسرائيليين، في ذلك الوقت كانت القضية الفلسطينية لا تزال تتصدر وهج الإعلام العربى ويلتف حولها التعاطف الشعبى، كانت القضية في بؤرة الاهتمام حتى ولو باليسير من الجهد، وكان حزب الله بمثابة الأمل في قوة عربية مقاومة للاحتلال الإسرائيلى ترفع راية النضال والعمل المسلح رغم عدم التكافؤ في القوة والعتاد، غير أن حزب الله كان له بريق آسر لقلوب الشعوب العربية لأنه كان يعبر عن مكنون ذاتهم ونبضهم في مجابهة إسرائيل التي كاد أن يطمسه خنوع الأنظمة وجنوحها للتطبيع تحت عنوان السلام.
حزب الله كان يتصدر مانشيتات الصحف العربية والاجنبية وحتى العبرية، قام بعمليات نوعية ضد جيش الاحتلال جعلت منه ايقونة لمقاومة كادت أن تختفى من القاموس السياسى العربى، أو على أقل تقدير تتوارى إلى أن تندثر، ومع كل صيحة انتقام كانت تنفذها المقاومة اللبنانية وحوب الله ضد الجيش الاسرائيلى أثناء الحرب، كانت السماء ترعد بالهتاف والتكبير معلنة التأييد لحسن نصرالله ورفاقه في المقاومة، ورغم أن الحرب كان لها أثمانها الباهظة على لبنان واللبنانيين، وكان لها أيضا معارضوها، غير أن الالتفاف الشعبى العربى كأن الأكثر وضوحا في المعادلة، وكانت الأصوات المؤيدة لحزب الله أكثر ارتفاعا وصخبا.
الآن وبعد مرور عشر سنوات على الحرب كثر خلالها الجدل والانتقاد والتحليل حول جدواها ومن الكاسب والخاسر فيها، تغيرت الخريطة وطفا على معالم جغرافيا المنطقة العربية مستجدات خطيرة وعلى سياسات الدول منعطفات حادة وعلى حماس الشعوب خفوت ملحوظ وصل لحد اللامبالاة، فالربيع العربى الذي ضرب عصب المنطقة العربية بأسرها مثل إعصار أجهز على الأخضر واليابس، غير ملامح العلاقات السياسية بين الدول تماما مثلما غير ملامح الجغرافيا، ومع حلول ذكرى الحرب العاشرة وتقارير وتحليلات إسرائيلية تتحدث عن أنها كانت فشلا مدويا، وحديث هامس عن حرب قادمة، إلا أن الواقع يؤكد وجود ردع متبادل وأن حربا جديدة ستكون كارثة على الجميع بما في ذلك إسرائيل.
ومع ذلك لايزال الإسرائيليون يوجهون انتقادات للجيش والحكومة بسبب أدائهما خلال هذه الحرب التي سقط خلالها أكثر من مئة صاروخ يوميا على إسرائيل إضافة إلى إخفاقات الجيش الذي وصف زورا بأنه «الجيش الذي لا يقهر أبدا»، وجاءت الحرب لتدحض هذه الخرافة وتعرى سوءة جيش الاحتلال الإسرائيلى وتثبت أن القوة ليست بالعتاد، بل الإيمان بعدالة ما نحارب من أجله ونضحى بالغالى والنفيس في سبيل تحقيقه، فما الذي تغير خلال السنوات العشر؟
المتغيرات كثيرة ومتشابكة سقطت أنظمة وارتقت أخرى، انهارت دول واعتلى عروشها الإرهاب وتكالبت دول أخرى على جاراتها لتنفذ أجندات خارجية تمنحها هامشا من التحرك بحرية لتكون خارج بؤرة الخطر، سيطر الإسلام السياسى على دول وتحولت إلى ساحات حروب ضارية، والتهمت شعوبها في وجبات طازجة كان يجهزها مطبخ الدول الكبرى، تاركة مخلفاتها من الهدم والتدمير والتشرذم والأخطر تفتييت وحدتها وارتكانها إلى الطائفية، ولا أعتقد أن حزب الله الذي كان يحظى بالتأييد والإعجاب مازال يمسك بخيوط اللعبة، فقد أصبح في بؤرة الجدل والهجوم والتشكيك في ظل عنفوان الحرب الدائرة في سوريا، أصبح ينظر له بعين الريبة بعد أن تغيرت تحالفاته وانحرف مسار سياساته، أصبح يغرد خارج السرب بعد أن ضرب زلزال الطائفية المنطقة العربية برمتها فدمر بنيتها التحتية وفرق بين شعوبها، وبدأ التعامل على الهوية، انفض الإجماع حول المقاومة وأصبح لها أكثر من معنى وتفسير، ولو قدر لحزب الله أن يخوض معركة جديدة ضد إسرائيل لن يلقى الحفاوة أو التأييد الذي كان يحظى به في حرب 2006 التي كان وقودها الشعب وليس النظام، أصبح حزب الله وأمينه العام حسن نصرالله كارتا محروقا تتقاذفه الأيدى يمينا وشمالا، ويكفى أن تراهن إسرائيل على أن حربا قادمة مع حزب الله قد تكون في مصلحة تل أبيب خاصة وأن حزب الله منشغل بالحرب الدائرة في سوريا، ومشاركته في الحرب في سوريا قد غيرت من طبيعته، وبالتالى فإن الأولوية بالنسبة لحزب الله وإيران الداعم الرئيسى له هي الحفاظ على نظام بشار الأسد، ومن شأن فتح جبهة مع إسرائيل أن يصرف حزب الله جل جهوده عن سوريا، والخسائر التي سيتكبدها حزب الله في مواجهة جيش الاحتلال الاسرائيلى ستضعف سيطرة النظام السورى وايران في الأجزاء التي بقيت تحت سيطرتهم بالإضافة إلى تعرض حزب الله لانتقادات وهجوم شرس من جانب خصومه ومعارضيه في لبنان.
ويظل الأهم والأخطر أن جذوة المقاومة التي كان يدغدغ بها حزب الله مشاعر الشعوب العربية قد تآكلت ولم يعد لها الصدى الذي كان، وأى حرب محتملة يخوضها حسن نصرالله مع إسرائيل لن تحدث التأثير الذي يعزف على مشاعر الناس التي طالما جمع بينها وبين إسرائيل كره عتيد وثأر لابد من أخذه مهما طال الزمن، لأن تسارع القفزات السياسية التي غيرت استراتيجية المنطقة العربية ومن ثم تغير التحالفات وتبدل الاهتمامات جعل من أيقونة المقاومة جمرة نار ربما يحترق بها الجميع.
يوم الأربعاء الموافق 4 نيسان (ابريل) الماضي، أرسل الصحافي والمخرج اندريه فليتشيك رسالته الروتينية لقراء نشرته التي تحمل عادة توقعاته لمستقبل الأحداث الجارية. وبعد أن قدم تغطية سريعة لانتصار قوات بشار الأسد وفلاديمير بوتين في سورية، حذر من خطورة حشر «داعش» في الزاوية، وتساءل عن المكان الأنسب لانسحاب عناصر «الدولة الإسلامية»!
وبعد أن اختار فليتشيك لبنان كملجأ أخير، زعم أن القوى التابعة لـ «داعش» لا تضطر الى الهرب أو الانتقال من العراق وسورية بسبب وجودها المضلِّل تحت سماء الوطن الذي اختارته محطتها الأخيرة!
ويزعم هذا الصحافي أن عناصر «داعش» منتشرة من سهل البقاع حتى المخيمات المحيطة ببيروت وصيدا وطرابلس. ولقد سهلت لغالبيتها الحرب الأهلية السورية فرصة تسلل أعداد تُقدَّر بمليون ونصف المليون نسمة. إضافة الى وجود 450 ألف لاجئ فلسطيني.
التوقعات التي أشار اليها هذا الصحافي الأجنبي في نيسان تحققت في آخر حزيران (يونيو) عندما تسلل أربعة انتحاريين الى بلدة القاع في أقصى شرق البقاع، وقتلوا خمسة مواطنين، وجرحوا خمسة عشر آخرين.
ومع أن القتيل الأول كان مسلماً في بلدة غالبية سكانها من المسيحيين، لذلك تصور المحقق أن العملية تهدف الى ضرب صيغة العيش المشترك. وبسبب تكتم الجهة المخططة لعملية فاشلة في هذا الموقع النائي، أطلق السياسيون والعسكريون اللبنانيون العنان للمخيلة بحيث فسّرها كل فريق وفق مزاجه ورؤياه:
فريق سارع الى حمل السلاح كبديل من الجيش بغرض توفير الأمن الذاتي، وذلك تحسباً لاختراقات أخرى. ولما أعلنت قيادة الجيش أنها وحدها ملزمة بحماية المواطنين، ذكـّرهم سكان القاع بالمجزرة التي افتعلتها القوات السورية سنة 1978، وذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين مواطناً. وكانت غاية النظام السوري من وراء افتعال تلك الحادثة إشعار المسيحيين بأنهم مهددون، وبأن القوات السورية هي ضمانتهم الأمنية شرط المبادرة الى دعوتها.
ويُستدَل من وقائع التحقيق أن طلال مقلد سأل في العتمة عمَّنْ يتحرك في الحديقة، فجاءه الجواب: «نحن من مخابرات الجيش اللبناني». واعترض على الادعاء الكاذب بالقول: «أنتم غرباء. لأن لهجتكم ليست لبنانية!». وشكـّل جواب طلال مقلد المدخل لتوسيع التحقيقات على طول الحدود اللبنانية المتاخمة لسورية، فإذا بحصيلة المخالفات تتعدى كل التوقعات.
ففي منطقة عكار دهمت وحدات الجيش مخيماً للنازحين السوريين، أوقفت على أطرافه 124 سورياً دخلوا الأراضي اللبنانية بصورة غير شرعية. وضبطت معهم 44 دراجة نارية من دون أوراق قانونية.
وعلى أطراف زحلة ضبطت في ذلك اليوم 12 سورياً يتجولون داخل الأراضي اللبنانية بصورة غير شرعية. وضبطت معهم ثلاث دراجات نارية من دون أوراق قانونية، وكمية من حشيشة الكيف.
ومن الأوصاف التصويرية التي كان الإمام المغيَّب موسى الصدر يطلقها على لبنان قوله: «هذا البلد المُستباح... المشرّع الأبواب». وربما ظل هذا الوصف أفضل صورة رمزية يعبر اللبنانيون بواسطتها عن حدودهم المشرّعة على الجارتين، الصديقة والعدوة.
بقي السؤال المتعلق بتوقيت عملية القاع، وما إذا كان تزامنها مع وقوع عمليات أخرى تبنّاها تنظيم «داعش» يشير الى محاولة إنقاذ مستقبله من الانحدار المتواصل.
وقد ظهر هذا الانحدار جليـّاً في عدة مظاهر أبرزها ضمور حجم دولته بنسبة 47 في المئة من أراضيه في العراق، وعشرين في المئة من أراضيه في سورية. وكان من الطبيعي أن يستتبع هذا التحول انخفاضاً في عدد المقاتلين من 33 ألف انتحاري الى حوالى 18 ألفاً فقط. كذلك قلصت الغارات الاميركية المتواصلة من عائدات النفط بحيث انتهت الى 150 مليون دولار سنوياً.
يقول المحللون أن الجرائم الجماعية التي ارتكبها تنظيم «داعش»، في القاع وبغداد ومطار إسطنبول وبنغلادش والسعودية، لم تكن أكثر من ردود فعل غاضبة حيال خسارة الأرض والموقع الاستراتيجي المميز في الفلوجة. إضافة الى خسارة الأرض والعناصر البشرية، فإن الغارات الجوية دمرت حوالى 260 آلية، وقتلت 150 عنصراً أثناء محاولتهم الفرار من الفلوجة.
وعندما احتفل رئيس وزراء العراق حيدر العبادي بالنصر، أعلن أن الخطة العسكرية المقبلة تستهدف تحرير مدينة الموصل. أي المدينة الأساسية التي انطلق منها أبو بكر البغدادي ليعلن دولة «الخلافة».
كل هذه المتغيرات تعتبرها قيادة «داعش» مقدمة لاستعادة الأرض التي أعلنت فوقها كياناً له حدود مرسومة، بعكس منظمة «القاعدة» التي تفتقر الى حيازة أرض معينة لعناصرها.
وفي تسجيل صوتي أعلن محمد العدناني، الناطق باسم التنظيم والمشرف على العمليات الخارجية، أن البغدادي سيضطر الى حل نظام الدولة والعودة الى حرب العصابات ضد أعدائه أينما كانوا. وهذا يعني، وفق مفهومه، إحياء نظام الخلايا السرية في بريطانيا وألمانيا وايطاليا، على أن تتم الاستعانة بمنظمي هجمات باريس وبروكسيل. وفي ضوء الاستراتيجية الجديدة يُصار الى التركيز على نشاط عشرين ألف مقاتل يرفعون راية التنظيم في ليبيا ومصر وأفغانستان وباكستان ونيجيريا.
وتشير بعض التحاليل الى العلاقة الوثيقة بين توقيت عمليتي إسطنبول والقاع، على اعتبار أنهما نابعتان من الضائقة الأمنية التي يمر بها «داعش» في أكثر من مكان. لذلك قام بعمليتَيْن بعيدتين في تركيا ولبنان من أجل تخفيف الضغط عليه في سورية والعراق.
الصحف الأوروبية والعربية ألمحت مراراً الى انتقام «داعش» من تركيا التي لعبت دوراً أساسياً في قيام التنظيم. وكانت المساعدة التركية له تتم بطرق ملتوية تشمل الدعم المادي لشراء النفط المهرَّب، وتزوير الدولارات الاميركية، وتهريب قوافل الأسلحة والسيارات اليابانية، وإرشاد المقاتلين الى الممرات المفتوحة الى سورية، بهدف تسهيل تسلل المتطوعين القادمين من الخارج.
وكان وزير خارجية بريطانيا السابق، فيليب هاموند، قال لصحيفة «دايلي تلغراف» أن بلاده تمكنت من منع 600 مواطن من التوجه الى تركيا للانضمام الى التنظيم الجديد. ولكنه اعترف بأن 800 آخرين تمكنوا من الوصول الى سورية عبر تركيا.
وبسبب تغيير موقف رجب طيب اردوغان، قرر «الخليفة» البغدادي التعامل مع النظام التركي على أنه كافر. ومعنى هذا أن كل وسائل إسقاطه أصبحت مسموحة، تماماً مثلما استخدم خالد الاسلامبولي (الإخوان المسلمين) هذا المنطق لقتل الرئيس أنور السادات.
المفاجأة التي أطلقها اردوغان خلال حفلة إفطار يوم الأحد الماضي أثارت بعض التكهنات حول غايته من منح الجنسية التركية لمَنْ يرغب من مليونين وسبعمئة ألف نازح سوري. وقال في هذا السياق: «أنتم إخواننا وأخواتنا. لم تبتعدوا عن وطنكم، وإنما عن منازلكم فقط، لأن تركيا هي أيضاً وطنكم».
وعلى الفور اتهمه معارضوه بأنه يريد تسجيل مزيد من الناخبين في حال نجح في تعديل الدستور وتحويل بلاده الى نظام رئاسي، إضافة الى العامل الانتخابي، إلا أن نشر هذه الأعداد من المجنسين السوريين على طول الحدود مع سورية يؤمن له المنطقة الآمنة التي طالب بها سابقاً. أي قيام رقعة جغرافية تمتد الى عمق عشرة كيلومترات من حدود بلاده، وتشمل منطقة أعزاز في ريف حلب الشمالي. ويرى اردوغان في وجود هذا الحائط البشري سياجاً واقياً يحمي تركيا من هجمات الأكراد و «داعش».
وقد تركت مبادرة اردوغان ردود فعل غاضبة في لبنان والأردن، خوفاً من أن تتحول الى مشروع حل للنازحين في البلدين. وربما لمس البطريرك الماروني بشارة الراعي هذا المنحى السياسي أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، الأمر الذي دعاه الى إعلان رفضه ورفض الدولة اللبنانية لهذا الخيار.
بقي السؤال المتعلق بأمن لبنان، وما إذا كانت عملية القاع ستتكرر في وقت آخر.. وموقع آخر؟!
الجواب عن هذا السؤال الصعب يمر عبر التصريحات التي يدلي بها قائد الجيش العماد جان قهوجي، الذي يفاجئ المواطنين بين حين وآخر باكتشاف عملية سارع الجيش الى إحباطها. هذا الاكتشاف «الغامض» مرده الى معلومات ترِد من استخبارات أجنبية، ومن الولايات المتحدة بالذات، حول احتمال وقوع عملية ما في مكان ما. وهذه المعلومات هي حصيلة التنصّت على كل الهواتف، وكل المكالمات الداخلة الى لبنان والخارجة منه. وهذا لا يعني بالطبع أن واشنطن حريصة على استقرار لبنان، بقدر ما يعني أن الرئيس باراك اوباما حذر اسرائيل من افتعال حادثة تبرر تورطها في ضرب لبنان. لذلك جاءت عمليات التنصت الأميركي كجزء من المراقبة الدائمة.
والمؤسف أن «داعش» يحذر عناصره من استخدام الهاتف، قبل تنفيذ العمليات، وبعدها.
اختار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان محافظة كيليس على الحدود السورية ليعلن، خلال إفطار حضره عدد من اللاجئين السوريين، أن الحكومة التركية تعمل على مشروع يمنح الراغبين من هؤلاء اللاجئين الجنسية التركية، لم يلتفت إلى السوريين الجالسين أمامه، بل تعمّد النظر إلى الحدود السورية ليقول: سأزفّ إليكم خبرًا سارًا، سنساعد أصدقاءنا السوريين من خلال منحهم الفرصة، إذا كانوا يرغبون في الحصول على الجنسية التركية. إن وزارة الداخلية ستعلن الإجراءات التي يتوجب اتخاذها للحصول على الجنسية.
عندما قرأ أحد السياسيين في بيروت قول إردوغان للسوريين: «نعتبركم إخواننا وإخوتنا، لم تبتعدوا عن وطنكم، لكن فقط عن منازلكم وأراضيكم، لأن تركيا هي أيضًا وطنكم»، حبكت معه النكتة فقال: إردوغان لا يسطو على السوريين الذين فروا إلى تركيا فحسب، بل يسطو أيضًا على شعار حافظ الأسد، الذي كان يقوله للبنانيين: «نحن شعب واحد في بلدين»، رغم أنه كان يعتبر اتفاق سايكس بيكو مؤامرة سلخت لبنان عن سوريا.
يوم الثلاثاء الماضي، كرر إردوغان في إسطنبول طرح خطته لمنح الجنسية التركية لمليونين وسبعمائة ألف من الذين فروا من سوريا، وخصوصًا أولئك الذين تتوافر لديهم مؤهلات قد تفيد تركيا، وقال إن «الدول الغربية تفتح أبوابها لأمثال هؤلاء الأفراد الموهوبين، وليس لدى هؤلاء أي خيار سوى الذهاب إلى الغرب، عندما لا نفتح لهم أبواب المواطنة، نحن نودّ أن ننتفع من علمهم»!
ومرة جديدة حبكت النكتة مع السياسي اللبناني، فقال: سواء كانت دعوة إردوغان تجنيسًا أو توطينًا أو تتريكًا للسوريين، فإنها تذكّرنا تحديدًا بلواء الإسكندرون السوري، الذي ابتلعته تركيا وصار يُسمى مقاطعة هاتاي، والذي ظل النظام السوري يطالب دائمًا باسترجاعه، ولم يتردد بعض المقربين منه في القول، بعدما اشتبك فلاديمير بوتين مع إردوغان، إن روسيا ستساعدنا في استرجاع لواء الإسكندرون السليب، ولكن يبدو أن المصالحة بين إردوغان وبوتين فتحت الباب أمام تتريك ثلاثة ملايين من اللاجئين السوريين!
وفي حين أثار اقتراح إردوغان عاصفة معارضة على وسائل الاتصال الاجتماعي، ترفض هذا الأمر وتعتبره مناورة لمصالح سياسية شخصية تخدم إردوغان، لأن منح الجنسية ينبغي أن لا يكون وقفًا على إرادة شخص واحد، ولو كان رئيس الجمهورية، بل هناك حاجة إلى إجراء استفتاء، كان هناك في المقابل من يصفّق بحرارة لهذا الاقتراح!
التصفيق لم يقتصر على اللاجئين السوريين في تركيا الذي فروا من جحيمين؛ جحيم النظام منذ أربعين عامًا، وجحيم حرب النظام على الشعب منذ خمسة أعوام، ويجدون في التجنيس متنفسًا يفتح أمامهم أفقًا جديدًا، بدلاً من ركوب خطر الموت غرقًا في الطريق إلى الدول الأوروبية التي تمضي الآن في تضييق بواباتها، بل كان التصفيق حماسيًا عند بان كي مون الذي وضع أمام الأمم المتحدة تقريرًا من 39 صفحة ستدرسه في 19 سبتمبر (أيلول) المقبل، ويدعو صراحة إلى توطين اللاجئين، وأثار زوبعة من الغضب في لبنان وفلسطين تحديدًا، وكان تصفيق النظام السوري وراء أبواب مغلقة، فحتى كتابة هذه السطور لم يصدر أي رد فعل أو تعليق على اقتراح إردوغان الذي يقتطع الشعب السوري كما تُقطع الأرض وتُمزق!
قبل الحديث عن اقتراح بان كي مون الذي يفتح بابًا لإسقاط حق العودة للفلسطينيين مثلاً، من الضروري النظر في الأبعاد التي دفعت إردوغان إلى اتخاذ قرار التجنيس أو التتريك؛ ففي نظر عدد من الخبراء والباحثين، ومنهم آيكان أردمير من «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات»، فإنه لا علاقة قطعًا بين تفهّم أوضاع اللاجئين والتعاطف معهم، وإعلان إردوغان الذي يمثل رهانًا واضحًا لخدمة مصالحه السياسية الشخصية على مستويات عدة:
1- إردوغان يبحث عن المزيد من الأصوات التي يمكن أن تضمن لحزب العدالة والتنمية أكثرية الثلثين في مجلس النواب، بعد أن فقد أصوات الأكراد، ومن أصل ثلاثة ملايين سوري، يمكنه أن يحصل على خزّان من مئات آلاف الأصوات المؤيدة بالضرورة، وخصوصًا بعدما أمّن لهم حياة جديدة.
2- إن حصوله على مئات آلاف الأصوات الإضافية، سيتيح له الحصول على أغلبية ساحقة تساعده على تحقيق ما فشل فيه سابقًا، أي تعديل الدستور الديمقراطي البرلماني لجعل النظام رئاسيًا، أو الدعوة إلى استفتاء لتحقيق هذا.
3- إردوغان يريد أن يرسم لنفسه صورة مشرقة أمام الغرب، وخصوصًا بعد الاتهامات التي طالما وُجّهت إليه بأنه يدعم «داعش» ويفتح أمامه الحدود التركية للوصول إلى سوريا فالعراق، وفي هذا السياق يعلّق الدكتور جان ماركو أستاذ العلوم السياسية في جامعة غرونوبل الفرنسية، بالقول إن إردوغان يريد تحسين صورته أمام المجتمع الدولي، من خلال تسويق صورة تركيا كبلد منفتح على الهجرة، وخصوصًا أن الدول الأوروبية عانت ولا تزال من موجات الهجرة، التي كانت أحد الأسباب التي أدت إلى تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
4- تجنيس إردوغان اللاجئين السوريين يساعد تركيا على دخول مرحلة أكثر استقرارًا بعد ترتيب العلاقات مع روسيا وإسرائيل، ويمكن لسوق العمل التركية أن تكسب المزيد من الأيدي العاملة والخبرات، خصوصًا أن حقبة «المجتمع الشاب» في تركيا تكاد تنقضي، لهذا يمكن أن يساعد دمج مئات آلاف يكدحون بجدٍ وحيوية ونشاط لبناء حياة جديدة، أن يعطي دفعًا للاقتصاد التركي المتعثر.
بالعودة إلى تقرير بان كي مون الذي وضعه بعد جولته في المنطقة تحت عنوان «بأمان وكرامة.. التعامل مع التحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين»، من الواضح أنه لا علاقة لمضمونه بالكرامة ولا بالأمانة، لأنه يسهل عليهم التخلي عن حقهم في الاحتفاظ بهويتهم، وفي بعض الحالات مثل فلسطين أصلاً، ومثل لبنان والأردن أخيرًا يمكن أن يصبح مُدمّرًا تمامًا.
يطلب التقرير من تركيا والأردن ولبنان والعراق ومصر تطبيق «النهج الأفضل»، أي استيعاب اللاجئين في كل مجالات الحياة، لأن «الاستيعاب في مصلحة كل الأطراف، بلدان المنشأ والمضيف واللاجئ، وأن الإدماج يعني الاستيعاب الذي يجب أن يبدأ فورًا»، ويبدو واضحًا من خلال القانون الدولي وتحديدًا اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين (لبنان لم يوقّع عليها) أن الاستيعاب يعني تمامًا التجنيس، الذي فعلاً سيكون مدمرًا لبلد مثل لبنان، الذي يبلغ عدد سكانه أربعة ملايين ونصف المليون، لكنه يستضيف مليوني سوري، وأكثر من نصف مليون فلسطيني، إضافة إلى ثلاثمائة ألف من جنسيات مختلفة.
يبلغ عدد سكان تركيا 80 مليونًا يستطيعون استيعاب ثلاثة ملايين سوري أي بنسبة 0.375 في المائة، أما في لبنان فتصل نسبة اللاجئين إلى اللبنانيين 45 في المائة، والأمم المتحدة لم تفِ بمتوجباتها للمساعدة على تحمّل الأعباء، لهذا يعود السياسي اللبناني الظريف إيّاه ليستكمل حبكته: لماذا لا يأخذ إردوغان المليوني سوري من لبنان ويجنّسهم في إمبراطوريته؟
“ليس في السياسة صديق دائم ولا عدو دائم”، مقولة من الثوابت لا يشذ عنها “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين، وكذلك “السلطان – الرئيس” رجب طيب أردوغان الذي أقر، ولو متأخرا، بغلبة الواقعية السياسية على الأيديولوجيات. وهكذا فإن تسريع استئناف العلاقات بين تركيا وإسرائيل، والتطبيع التركي مع روسيا، يثيران تساؤلات مشروعة حول دوافع الانقلاب الأردوغاني ومكاسب أنقرة وإسرائيل وإنجازات روسيا في خلط الأوراق والتحالفات الإقليمية. ومما لا شك فيه أن الترتيبات الإقليمية الجديدة ستنعكس على المسألة السورية والطموحات الكردية والمصالح الاقتصادية للأطراف المعنية.
للوهلة الأولى، يظهر أن الرئيس التركي أخذ يخشى خطر العزلة وأن تكون بلاده مستبعدة من الحلول التي سترتسم في المرحلة القادمة أو لإعادة تركيب الإقليم. أردوغان المسكون بالتاريخ سعى للتحكم بقطار “الربيع العربي” بعد حذر في بداياته، وكان يريد بعث “العثمانية الجديدة” ولعب الدور القيادي في المنطقة من خلال “منظومة الإسلام السياسي” التي برزت في 2011 – 2013، لكن التطورات في مصر وسوريا وبروز داعش والرهان الأميركي على الأكراد، ووصول الفوضى التدميرية إلى تركيا، دفعت بالسياسي العنيد الحماسي أن يعود إلى أرض الواقع بعدما حلق عاليا مع سحر الكلمات والرهانات الخائبة، إذ اتضح له أن الانتقال من طموح تركيا الأوروبي إلى مسعى ممارسة الزعامة الإقليمية وتقاسم النفوذ في العالم العربي “الرجل المريض” (لقب السلطنة العثمانية منذ قرن من الزمن) لهذه الحقبة ليس مضمونا. وكان الأدهى عدم وقوف حلف شمال الأطلسي إلى جانب أنقرة بعد حادث الطائرة الروسية، وخيبة الأمل التركية من الموقف الأميركي المتباين، والذي لا يعنيه في المقام الأول الحفاظ على مصالح تركيا أو بالأحرى زعامتها الإقليمية.
إزاء تغيير موازين القوى في النزاع السوري وتهافت الكبار على لعب الورقة الكردية ضد داعش، ومع تبلور التقاطعات الروسية مع إسرائيل وإيران تحت عين واشنطن، أدرك أردوغان أنه لا بد له من لعب كل أوراقه خاصة وأن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين والصلة مع ألمانيا لا تعيدانه إلى المربع الإقليمي الأول بسبب أخطاء التقدير والنهج التي ارتكبها إن في المسألة السورية (عدم دعم الجيش الحر في اللحظة المناسبة) أو في تحويل وجهة الربيع العربي كي يصبح إسلامي الطابع، أو بالنسبة إلى العلاقات مع إيران، والأهم كان في عدم استيعاب أهمية العنصر الكردي في المعادلة الإقليمية. وإضافة إلى كل ذلك ساد عدم الثقة مع واشنطن ووصل الرئيس التركي إلى الحائط المسدود. بالرغم من أن البعض يريد أن ينسب إخفاقات السنوات الأخيرة والتشدد إلى أحمد داود أوغلو رئيس الحكومة السابق، فإن في ذلك مجافاة للحقيقة في ظل هيمنة أردوغان الذي يبدو أنه قرر الاستغناء عن رفيق دربه وتحقيق هدف داخلي لأنه لا يتحمل وجود شخصية قوية تلجم سعيه لتركيز نظام رئاسي. وفي نفس الوقت تم تقديم داود أوغلو صاحب نظرية “صفر مشكلات” مع الإقليم بمثابة القربان أو الضحية كي يبرر الرئيس التركي تراجعاته أو يمهد لنهج تكتيكي جديد بدأه عبر البوابة الإسرائيلية.
منذ خمسينات القرن الماضي تعاونت إسرائيل وتركيا، وهما قوتان إقليميتان غير عربيتين في الشرق الأوسط، وتصرفتا كأنهما في حلف طبيعي،غير أن سياسة أردوغان في الانخراط مع العالم العربي وإيران، وموقفه من اجتياح غزة في العام 2009 وحادث سفينة مرمرة في مايو 2010، أدت إلى قطع العلاقات بين شريكين استراتيجيين سابقا في الإقليم. لكن في موازاة حصاد سلبي في المجمل لتركيا منذ 2011، تحسنت علاقات إسرائيل مع مصر واليونان وقبرص وهي دول في شرق البحر الأبيض المتوسط وكلها متخاصمة مع تركيا.
إن هذا الواقع، بالإضافة إلى التوتر مع روسيا والحذر من الغرب والخوف من العزلة، حفز الرئيس التركي على تقديم التنازلات اللازمة والتوقيع على الاتفاق. استغرقت المفاوضات وقتا طويلا لأن أردوغان كان يطالب باعتذار إسرائيل والتعويضات وفك حصار غزة، وقد نال فقط المطلبين الأوليْن واهتزت صورته بشدة لأنه أراد تقديم نفسه للعالم الإسلامي باعتباره المدافع القوي عن الشعب الفلسطيني، والمنافس لإيران في لعب دور البطل بالوكالة عن العالم العربي.
كل هذا لا يعني أن كل الملفات الخلافية أغلقت بين إسرائيل وتركيا إذ لا يزال هناك حذر في إسرائيل بسبب علاقات حزب العدالة والتنمية مع حركة حماس، وإزاء التعاون الأمني الكبير بين أنقرة وطهران في مناسبات عديدة، ولذلك ستتطلب عودة التعاون الأمني والعسكري مرحلة اختبار بين الجانبين. بيد أن أهم الخلاصات الاستراتيجية لهذا التحول تتمثل في التفاهم على احترام مصالح الطرفين في الساحة السورية، والتوافق على إيصال أنابيب الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى تركيا.
إنها الحاجة المتبادلة بين الدولتين على ضفاف المتوسط، التي فرضت النقلة الجديدة وتليين جموح نتنياهو وأردوغان لأن الأيديولوجيا السياسية تسقط أو تتوقف أمام مصالح الدول ومستقبلها، وهذا درس يتوجب على اللاعبين العرب تأمله مليا للحفاظ على مصالحهم وإنهاء زمن الانكشاف الاستراتيجي العربي.
في استكمال التحولات، قام السلطان وطرق على باب القيصر وهنا أيضا كانت الحاجة متبادلة بالرغم من شدة لهجة الخطاب السياسي بين أنقرة وموسكو في الأشهر الأخيرة. وهنا شرب أردوغان “كأس السم” واعتذر عن حادث إسقاط الطائرة، ويبدو أن خصم الأمس نتنياهو هو الذي سهل إخراج اللحظة الأخيرة من التطبيع التركي – الروسي كي تتكامل لعبة المصالح بين أطراف تشعر بقوة تأثيرها في غياب سطوة القوة الأميركية المتراجعة في الإقليم. ربما ترتسم أمامنا صورة متكاملة تبين مكانة الموقع التركي، إذ أن خط الغاز الإسرائيلي التركي إلى أوروبا، يوازيه خط روسي تركي ومرور للطاقة الإيرانية عبر تركيا، وهكذا فإن إيران وإسرائيل وروسيا بحاجة للممر التركي، وبالتالي يتضح أن الجغرافيّتَيْن السياسية والاقتصادية تفرضان وقائع لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ولذا ستبذل أنقرة ما بوسعها لإعادة العلاقات مع دول البحر المتوسط والبحر الأسود.
بالنسبة إلى الانتعاش مع موسكو، هناك مصلحة سياسية اقتصادية وأمنية لكلا الطرفين؛ إذ أن بوتين الذي يخوض مبارزة مقننة مع حلف شمال الأطلسي، يرى في هذا التحول التركي فرصة للغمز من قناة واشنطن. واقتصاديا عانى البلدان من القطيعة إذ كانت روسيا في 2011 أول شريك تجاري لتركيا وبلغ حجم المبادلات بينهما 30 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، تحتاج أنقرة إلى موقف روسي معتدل من المسألة الكردية، وفي المقابل تحتاج موسكو إلى التعاون الأمني مع تركيا بخصوص الحركات الجهادية في الجمهوريات الإسلامية في الجوار الروسي، خاصة أن آخر الأخبار تشير إلى نجاح تنظيم داعش في المزيد من تجنيد المقاتلين في آسيا الوسطى والقوقاز وجوار روسيا.
ستنعكس النقلات النوعية لأنقرة على المشهد الإقليمي وفيها تهميش للاعبين العرب، ووضع إسرائيل في قلب اللعبة الشرق أوسطية، واحتكاك غير مباشر مع المصالح الإيرانية وحماية في المقام الأول لطموحات أردوغان ومصالح أنقرة. وبالطبع، لن تكون هناك مصالحة بين أردوغان وبشار الأسد فهي ليست على جدول أعمال صناع القرار، بل في حال تعذر تركيب الحل الروسي ربما يبدأ تقاسم النفوذ بين مناطق مكونة عمليا في سوريا، وهنا يكمن كل جهد أردوغان في السعي لتحطيم الحلم الكردي.
من المبكر إعطاء أجوبة حاسمة لأن مخاض ولادة المشهد الإقليمي الجديد ستنتظر الرئيسة القادمة أو الرئيس القادم إلى البيت الأبيض، وكذلك نتائج الصراع المفتوح على أكثر من جبهة. في المختصر، لملم أردوغان أوراقه للبقاء لاعبا مؤثرا، ونجحت إسرائيل في تسجيل اختراق، وجرى التسليم لبوتين في موقعه الجديد في المشرق، واستمر الكسوف الأوروبي. ويتضح أن إنهاك القوى العربية الفاعلة بالصراعات من العراق إلى اليمن وليبيا سيحرمها، إن لم تبلور حلف الضرورة بينها، من الجلوس على طاولة التفاوض وإعادة التركيب الإقليمية في مرحلة لاحقة.
يشكل اطلاق جبهة النصرة اليوم دعوتها إلى محاربة من وصفتهم بـ"المشاريع المشبوهة" ، في اشرة إلى فصائل الجيش الحر الذين سبق و أن أنهت وجودها، معتبرة أن هذه المهمة شبيهة تماماً بمحاربة "مشروع الخوارج" في إشارة إلى داعش، في خطوة تبدو في غاية الخطورة و تشكل تهديداً لكافة فصائل الجيش الحر التي توجد على قائمة الازالة التي نفذت منها جبهة النصرة حتى اليوم ١٤ فصيلاً.
بيان جبهة النصرة الذي جاء ظاهرياً رداً على دعوة تشكيل محكمة للفصل في اعتداء النصرة على جيش التحرير و اعتقال قائده، حمل في طياته أمور توضح الخطة التي تعمل النصرة على تطبيقها و التي يبدو لن تستثني أحداً، و أنها تتم تحت بند "حماية الجهاد الشامي" ، الأمر الذي يمنحها صلاحيات كبيرة دون أي مراجعة من أي جهة ، و كما قال البيان "دون أن يثنيه ما سيقال عنه طالما كان الحق حاديه"، وطبعا لكل من يقف معها في الحق الذي تراه النصرة وحدها بشرعييها و قضاتها و أمرائها.
لم توفق جبهة النصرة ، كما هي العادة ، في بيانها اليوم الذي جاء بأسلوب استعلائي و وصائي على الجميع ،حيث تسرد جهودها في توحيد القضاء ، و القصد القضاء التابع لها و وجوب خضوع الجميع له، كما هو الحال في المناطق التي تتواجد بها ، وهو مشهد سبق و أن شاهدناه عند داعش قبيل إعلانها الحرب على الجميع تحت مبدأ "أنا على حق و الجميع عبارة عن باطل يجب أن يزهق".
تجارب جبهة النصرة الـ١٣ و التي اشتهر منها جيش ثوار سوريا و حركة حزم و مؤخراً الفرقة ١٣ و أخيراً جيش التحرير ، لم تفضي إلى أي شيء مفيد للثورة ، بل على العكس تماماً فانهيار تشكيلات بأكملها ، و تبعثر عناصرها بين داعش و الفصائل الكردية الانفصالية ، إضافة لهروب الآلاف من سوريا ليس خوفاً من القتال دفاعاً عن الأرض ، و لكن خوفاً من القمع و الانهاء و الاقصاء.
لايمكن تبرير انضمام الكثير من عناصر الفصائل المنحلة إلى داعش و الفصائل الكردية ، و لكن في الوقت ذاته لايمكن قبول فرض مشروع عليهم و وصاية تحمل طابع "ديني" متحجر رافض لكل شيء أو فكر، و حتى رافض لأي نقاش أو حوار ، و أعيد تكرار المبدأ المسيطر "أنا على حق و الجميع عبارة عن باطل يجب أن يزهق".
نظرة الاستعلاء و رفض الاعتراف بالخطأ و الأهم عدم قبول أي محكمة أو محاكمة لها ، أمر في غاية السوء و المفضي إلى افراغ القاعدة الشعبية من جهة ، كذلك الشريك في المعارك ، فالغريب هو قتال النصرة إلى جانب الفصائل التي تتهما بأنها تنفذ "مشاريع مشبوهة"، و في الوقت ذاته تخطط لإنهائها، والأكثر غرابة هو تنصيب النصرة لنفسها كحكم و في حين أنها خصم ، و أعود لسؤال طرحته منذ أيام : من يردع النصرة إذا بغت !؟
في ظل انتشار الإعلام غير المحدود، وعبر سنوات الثورة السورية، كُتبت عشرات الآلاف من المقالات والتحليلات التي تعبر عن موقفها المتوافق أو المعادي للثورة، وهذه مسألة طبيعية، ما دام هناك طرفان معاديان يتصارعان، فلا بد أن تقف الأقلام إلى جانب هذا أو ذاك، لكن القارئ يتوقف أحياناً أمام بعض ما يُكتب، فيحرضه على التساؤل والتفكير بالرد المناسب..
وهذا ما حدث معي حينما قرأت مقالة بعنوان " مصير داعش يحسم في سوريا… وكذلك مخططات شركائه " للدكتور عصام نعمان الوزير اللبناني السابق، والقانوني البارز، وحالياً والرئيس الحالي للمجلس المركزي للحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي "..
المقالة قرأتها في شبكة شام الإخبارية، وهي منقولة عن جريدة القدس العربي.. وأقول الحق إنني تفاجأت وتساءلت، كيف أن الشبكة، وهي المشهود لها بمواقفها الثابتة ضد النظام السوري، والمؤيدة للثورة السورية، بل تُعد جزءاً من الثورة في المجال الإعلامي.. كيف قامت بنشر المقالة، مع أنها تحمل بشكل موارب فكراً معادياً للثورة السورية، ومتعاطفاً مع نظام الأسد والمحور الذي يقف إلى جانبه ويساهم معه بقتل الشعب السوري من روسيا إلى إيران وحزب الله والميليشيات الأفغانية والعراقية المذهبية.. لكنني التمست العذر للشبكة، ففي زحمة المتابعة والعمل المتواصل، لابد من الوقوع أحياناً في مطب السهو والتقييم غير السليم.. وهذا ما يحدث مع مئات الجهات الإعلامية..
على كل حال، بعد تجاوز هذه المسألة، والالتفات إلى مقالة د. عصام نعمان، فقد ظهر لي أولاً أن المقالة ضعيفة في صياغتها الحِرفية، وتعتمد في إصدار الأحكام على مواقف مسبقة، مع أن كاتبها يُعد من الشخصيات السياسية والحقوقيين البارزين.. والملفت هو أن المقالة نشرت في العديد من الصحف والمواقع، وربما يعود السبب يعود في جزء منه إلى أن د. عصام نعمان شخصية لبنانية معروفة، وحقوقي على مستوى عربي وعالمي..
ولكن الملفت أيضاً أن أغلب الجهات الإعلامية التي نشرت المقالة تنهج منهج الأحزاب القومية واليسارية والمذهبية التي وقفت موقف المعادي من ثورة الشعب السوري، ومنها جريدة البناء اللبنانية التي لا تختلف في توجهاتها الحاقدة على الثورة السورية عن قناة الميادين أو أية جهة إعلامية رسمية تابعة للنظام..
والمعلوم أن ناصر قنديل يكتب مقالاً أسبوعياً في هذه الجريدة " البناء "، وأظنه يرأس تحريرها.. والكل يعلم من هو ناصر قنديل، فهو عبارة عن بوق عالي النبرة يستخدمه النظام السوري في كل مناسبة وكل حين، وقد كتب قنديل مقالاً في الجريدة المذكورة منذ نجو أسبوع، عنوانه " العثمانية والاتحاد الأوروبي جناحان مكسوران للإمبراطورية الأميركية "، وهي مقالة تتقاطع في بعض مضمونها مع مضمون مقالة نعمان.. من هنا يمكن القول: إن مقالة نعمان ليست بريئة على الإطلاق من وجهة نظر الشعب السوري المنكوب..
يبدأ الكاتب مقالته بصياغة فقرة تذكرنا بأسلوب الأساطير أو الكتب الوضعية المقدسة عند بعض الشعوب، حيث يقول: لفظ فلاديمير بوتين حكمه على «داعش»: حسم مصيره في سوريا ميدانياً. حيثيات الحكم الضمنية وفيرة: كَبُر «داعش» وتجبّر وأصبحت له ذراع طويلة تطاول كبرى العواصم والمرافق في شتى أنحاء العالم " .
ثم يقرر الكاتب " أن التعاون قائم ومتفاقم بين داعش والولايات المتحدة وتركيا.. هؤلاء باتوا شركاء في توليف وتنفيذ مخططات وعمليات في عمق سوريا والعراق.. " .. أما أدلته وبراهينه على التعاون المزعوم فهي تحوّل " الحدود التركية – السورية على مدى نحو 900 كيلومتر مدخلاً لإمرار الرجال والسلاح والعتاد لتنظيمات شتى.. "
وهذه التنظيمات الإرهابية المدعومة من تركيا، كما يقرر الكاتب، جاءت " لتقاتل جيشيّ سوريا والعراق.!!. ويتوقع أو يتنبأ.!! بأنه سيَحدثُ انخراطٌ روسي متزايد في معمعة الحرب في سوريا وعليها، سياسياً وعسكرياً، وتعاونٌ أوسع على هذين الصعيدين مع سائر أطراف محور المقاومة "..
وهنا يتبين أن الكاتب ينتمي بشكل شبه صريح إلى " محور المقاومة والممانعة " الذي يتشكل من إيران وحزب الله والنظام السوري، ومن معهم من الأحزاب اليسارية والقومية، كالحزب الشيوعي والقومي السوري، والذين انخرطوا بشكل فاضح إلى جانب الحرب ضد الشعب السوري وثورته.. من هنا لا نستغرب أن نشاط د. عصام نعمان الذي يرأس المجلس المركزي لـلحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي، يتجسد في الداخل اللبناني على التلاقي والتحاور مع الحزب الشيوعي والحزب الناصري بقيادة اسامة سعد وغيرهم، ممن يقفون علناً مع للنظام السوري، ويرفعون راية المقاومة والممانعة، هذه الراية التي استُهلت حتى تمزقت وتمزقت، ولم تعد تقنع أحداً سوى حامليها..
أما قناعة الكاتب بأن الولايات المتحدة تقف ضد نظام الأسد فهي عنده قناعة راسخة ومؤكدة، مع أن القاصي والداني يعرف جيداً أن إدارة أوباما وقفت من ثورة الشعب السوري موقفاً خبيثاً، فهي لفظياً تدعي الوقوف إلى جانب المعارضة، أما عملياً وعلى أرض الواقع، فهي التي أطالت عمر النظام وشجعته على تدمير سورية وقتلِ مئات الآلاف وتشريد الملايين، وهي الآن أشد وضوحاً في وقوفها إلى جانب الأسد وتريد أو تسعى مع روسيا وغيرها لكي يبقى على العرش السوري إلى الأبد، إن لم نقل إنها تعمل على تمزيق سورية إلى كانتونات هزيلة، تتصارع فيما بينها..
وللتأكيد على وقوف أميركا ضد الأسد يأتي الكاتب بحجة لا تغني ولا تسمن من جوع، فهو يرى أو تبين له " ان السبب الرئيس، وليس الوحيد، لوقوف ادارة اوباما موقفاً معادياً لحكومة الاسد هو رغبتها في تعويض اسرائيل خسائرها جرّاء اتفاقها النووي مع ايران ومخاطره على أمنها القومي " أما تعويض إسرائيل الذي يراه نعمان فـ " يكون في محاولة إضعاف حلفاء ايران، سوريا وحزب الله اللبناني، بطريق إدامة الحرب في بلاد الشام لاستنزاف مكوّناتها الوطنية والاقتصادية والعسكرية.. "..
ومع احترامنا للدكتور عصام نعمان، فإن هذا البرهان على إثبات عداء أميركا للأسد، لا يقنع أحداً، لا سيما وإن الكاتب نفسه يتمنى متسائلاً في نهاية مقاله بعد أن يتحدث عن الشراكة العسكرية الجديدة بين أمريكا وروسيا، " هل يتشارك القطبان الدوليان لحسم مصير «داعش» في سوريا؟ "..
لا شك أن هناك العديد من الملاحظات على مقالة نعمان التي تستدعي التوقف عنها، ولكن حسبنا إشارات مختصرة التالية:
يتبين للمطلع على المقالة أن الصراع في سوريا هو بين محورين اثنين: محور المقاومة والممانعة ضد العدو الصهيوني..!!.. ومعهم روسيا، والمحور الثاني يتكون من الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج وداعش.. نعم داعش..!!.. أوليس نعمان هو القائل: إن التعاون قائم ومتفاقم بين «داعش» والولايات المتحدة وتركيا.." أوليس هو الذي يقول عن داعش " له شركاء دوليون وإقليميون أقوياء وأثرياء يزودونه المال والسلاح والدعم السياسيين " ويقصد بذلك أيضاً بعض الدول العربية ومنها دول الخليج
الملاحظة الثانية، أن الكاتب لم يشر لا من قريب أو بعيد إلى دخول ميليشيا حزب الله وقوات إيرانية من الحرس الثوري، مع ميليشيات أفغانية وعراقية، لأن هذه الميليشيات في رأيه هي من قوى محور المقاومة..
والملاحظة الثالثة: في نظر الكاتب، لا وجود للشعب السوري ولا المعارضة ولا يوجد قصف بالأسلحة الفتاكة، ولا قتل وتدمير وتشريد.. فقط في سورية يوجد محور الشر المتمثل في داعش وجبهة النصرة والفصائل المتعاونة معها، ومحور الخير المتمثل في قوى المقاومة والممانعة، والذي يضم نظام الأسد وإيران وحزب الله وأحمد جبريل و " قيادته العامة " ولواء القدس الفلسطيني الذي يقاتل في حلب إلى جانب النظام.. هذا المحور يهدف لمحاربة إسرائيل وتحرير فلسطين ولكن لكي يتحقق النصر المبين، لابد أن يمر هذا المحور عبر القصير والزبداني وحلب وغيرها من المدن السورية المدمرة.!!!..،
والملاحظة الرابعة: يؤكد الكاتب، اعتماداً على ثقته العمياء بقوة روسيا وقوى محور المقاومة، أن مصير داعش سيحسم في سورية، ونحن نتمنى ونعتقد أن مصير داعش ونظام الأسد وروسيا وغيران وحزب اللهن سيحسم في سورية، ولكن بإرادة الشعب السوري وصبره وتصميمه على النصر..
لا قبح يضاهي قبح "الانسانية" التي يدعيها العالم ككل و ذلك المتحضر و كذلك الذي يضع نفسه في مرتبة المثقف، فهنا للإنسانية كل الأسماء المشينة و ليس لها من حروفها أي معنى إلا "المذمة" و "الاهانة"، فالمشهد ذاته يتغير و يتلون تبعاً للمصالح و البرستيج لا تبعاً للحالة و الحاجة.
أثار قبل زمن صورة لرجل سوري حاملاً لطفلته النائمة على كتفه وهو يبيع الأقلام باحثاً عن ما يسد به رمق عائلته، أثارت موجة من التعاطف العابر للقارات و تم التجييش و التجميع للأموال ، في مشهد انساني مهيب و مجلل أعطى ثمراته من خلال انتقال الرجل من باحث عن لقمة عيش تسد رمق الحياة إلى مانح لها، في وقت تناطحت الرؤوس بحثاً عن ظهور في لوحة الإنجاز وكمشاركين في صورة التخليد، في وقت لم تجد هذه الرؤوس مكاناً لها إلا تحت التراب أمام مشاهد أخرى من القسوة ما تجعل قضية بيع الأقلام عبارة عن "سياحة" هادئة على شاطئ الرغد.
اليوم و أمام صورة أحد رجالات حلب و هو حامل لابنته المذعورة و التي وصلت لأطراف الموت نتيجة القصف، أمام هذا المشهد الذي ينتزع قلوب الفقراء و المستضعفين المشتركين في ذات المصاب ، بينما يغيب المشهد تماما أمام أؤلائك الذي استنهضوا جيوشهم الإعلامية وملأوا صفحاتهم ندباً و ألماً على مشهد من القسوة قد نشهده في أي زمان و مكان و بات اعتياد على الشعب السوري، و لكن مشهد الموت مهما بات روتينيا يبقى غير اعتيادي و يحتاج لنقل دائم و متصاعد لا يعرف التباطؤ أو التراجع ، أو الانشغال عنه بأمور تخف أهمية كمشهد سحب فلذة كبد من فك موت فتك بمئات الآلاف دون رحمة أو شفقة و الأهم دون وجود أو إيجاد رادع، بل دائما المحفز هو الحاضر.
أمام مشهد بائع الأقلام و هذا الذي يحمل ابنته ماراً من بين أسنان الموت، تتكشف الانسانية "القذرة" للعالم أجمع الذي قرر أن يصم آذانه و يعمي عيونه عن الأسباب و يركز على البكاء على الأسباب و يعمل على تخفيفها بشكل مؤقت و جزئي دون أن ينهيها أو يوقف أسبابها.
ونعود لسؤالنا الذي بات هو المؤرق الأكبر لنا ماذا لو كان هذا مشهد حامل ابنته اليوم في حلب قد حدث في انقلاب لشاحنة في احدى الدول الأوربية، و ما ذا لو كان هذا الرجل من طائفة ما أو دين ما ، وطبعاً لا أقترب اطلاقاً من "السنّة" خصوصاً و "المسلمين" عموماً و "العرب" بعموم أشمل.
لم يكذّب النظام السوري خبراً حين اعتمد الخديعة بموازاة إعلانه هدنة الـ72 ساعة والتي بدأت أول يوم من عيد الفطر، أي الأربعاء الماضي وتنتهي اليوم، بعدما وافق عليها «الجيش السوري الحر» وفصائل أخرى.
أعلن النظام الهدنة لكنه واصل هجومه في ريف حلب الشمالي لقطع الطريق الوحيد الذي يربط المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بمناطق سورية أخرى، لإحكام الحصار الذي يسعى إليه منذ أشهر على حلب. وتبين أمس أن المعركة للسيطرة على المعبر الوحيد للمعارضة هي معارك كر وفر.
ولم تكن الفصائل المسلحة أقل استعداداً لخرق الهدنة لأنها كانت تتوقع أن يبادر النظام إلى الإفادة منها لتحسين مواقعه.
جاءت هدنة اللاهدنة هذه بعد مستجدات ميدانية وسياسية، لتزيد من حال الفوضى والتناقضات في الحرب اللامتناهية التي دمرت سورية، وأبرزها التقارب الروسي- التركي، الذي سيؤثر في الطموح الكردي باقتطاع إقليم في إطار فيديرالي لسورية، وليعيق هذا التوجه بعدما كانت موسكو فتحت باباً لقبول هذا الطموح الكردي في مشروع الدستور الذي أعدته على أساس فيديرالي. وزاد الأمر تعقيداً حين أعلنت التشكيلات الكردية في شمال شرقي سورية عن مشروع دستور للإقليم الكردي، فتقاطعت مصلحة المعارضة السورية مع مصلحة النظام في رفض الاستقلال الذاتي الكردي على طريقة كردستان العراق. بل أن هذا التقاطع شمل إيران التي اندلعت اشتباكات بين قواتها وبين المسلحين الأكراد الإيرانيين الذين يلوذون بكردستان العراق، وأخذت موقفاً حاسماً بقطع الطريق على انتقال عدوى الاستقلال الكردية إليها.
لكن الأهم في ما سبق الهدنة أن مواجهة «داعش» بعد الهجمات غير المسبوقة التي نفذها من لبنان إلى إسطنبول والمدينة المنورة وجدة، وقبلها أورلاندو في أميركا مع المخاوف من اعتداءات في أوروبا، أخذت تثقل على المجتمع الدولي الحاجة إلى تسريع إنهاء دور التنظيم المتوحش، بعدما باتت الدول الكبرى متهمة بالتلكؤ في القضاء عليه، في العراق وسورية، إضافة إلى ليبيا واليمن وغيرها.
باتت غرفة العمليات الدولية التي تأسست لاحتواء التنظيم ثم القضاء عليه تحتاج إلى خطط مختلفة. ومع أن بعض الجهات الأوروبية، ومنها إيطاليا، تعتقد أن أولوية القضاء على «داعش» تتطلب تنسيقاً مع بشار الأسد مثلما ترى موسكو، فإن دولاً أخرى ما زالت على قناعتها بأن الأسد برهن أنه يقوم بالقليل في مواجهة التنظيم، وأن الدول المصرة على بقائه في السلطة في المرحلة الانتقالية تريد مقايضة تشريع وجوده بالحرب الفعلية على «داعش». ولطالما طرحت روسيا المعادلة القائلة بأن المناطق التي يطرد منها «داعش» يتسلمها النظام لا المعارضة، على رغم مشاركة الأخيرة في الاصطدام بالتنظيم في مناطق عدة بعضها استفاد منها النظام. لكن ظهور أسلحة متطورة في يد الفصائل المعارضة في ريف دمشق والتي أسقطت 5 طائرات للجيش النظامي في غضون زهاء 10 أيام، يدل إلى أن انفتاح أجهزة أمنية أوروبية على النظام لا يعني التسليم بأرجحيته على المعارضة. وفي المقابل يدل سجل العمليات العسكرية التي تخوضها إيران و»حزب الله» إلى أن معظمها يطاول فصائل غير «داعش» على رغم رفعها شعار محاربته.
باتت أولوية محاربة «داعش» تفرض نفسها على إدارة باراك أوباما خشية أن يستفيد من هجماتها المرشح الجمهوري دونالد ترامب في السباق بينه وبين المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. وثمة من يعتقد أنه خلافاً للاعتقاد السائد بأن الأشهر الأخيرة لأوباما في البيت الأبيض تكبله وتحول دون اتخاذه قرارات كبرى، فإن باستطاعته اعتماد خطوات حاسمة لمصلحة الإدارة المقبلة التي يؤيدها بقوة، بدلاً من أن يثقل عليها عبء التخلص من «داعش» في السباق الانتخابي الذي قد يستغل ترامب أعماله، كما أظهرت الاستطلاعات بعد عملية أورلاندو في فلوريدا الشهر الماضي.
كيف تلائم الدول الكبرى بين هذه الأولوية وبين إعادة إطلاق الحل السياسي الذي أبرز استحقاقاته إعلان الدستور الجديد لسورية في آب (أغسطس) المقبل وقيام سلطة انتقالية، وفق سعي الأميركيين مع موسكو؟ فإنهاء سلطة «داعش» الميدانية في سورية (في وقت هناك توافق دولي على السلطة التي تتولى المهمة في العراق، على هشاشتها) يتطلب تحديد ماهية السلطة التي تحل مكانها، بموازاة السعي إلى المرحلة الانتقالية السورية.
باتت هذه الملاءمة تفرض الأخذ بالاقتراح السعودي اشتراك قوات سعودية وعربية، تحت عباءة التحالف الدولي، لتساهم في التخلص من التنظيم في شرق سورية وغرب العراق. ألا تحقق هذه الخطوة الملاءمة بين ضرب «داعش» وبين التمهيد للحل السياسي السوري، إذا كان بين مفاعيل التقارب الروسي التركي، الحد من نفوذ طهران؟
بعد أن عاشوا فترة طويلة في نشوة الثورة والانتصار على خوفهم، وفي الأمل المنعش بالتحرّر والانعتاق من أسر نظمٍ وحشيةٍ لا تعرف معنى الإنسانية، يعيش السوريون اليوم، على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، حالةً من الإحباط الجامع الذي يولّده الشعور المتنامي بانعدام آفاق الخلاص، وخطر ضياع الأهداف والرهانات التي ضحّوا من أجلها، وتزايد المخاطر التي تهدّد وطنهم، والمخططات التي تتحدث عن تقسيمه، وعمليات النهش المستمرّة من هؤلاء وأولئك في جسده المريض.
وينعكس هذا الإحباط على موقفهم من الدول الصديقة والحليفة التي تتعرّض، أكثر فأكثر، للانتقاد والتشكيك بما قدّمته، أو يمكن أن تقدّمه. لكنه يتجلى أيضاً في التهجم المتزايد على المعارضة، بمختلف تياراتها، ويتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نفي للذات، وتشكيكٍ متزايدٍ بهويتهم، وفي ما إذا كانوا بالفعل شعباً واحداً أو موحداً، ومجتمعاً منسجماً قادراً على العمل المشترك، وبناء الدولة، والنهوض من جديد من الكارثة التي أصابت البلاد والعباد.
وأول من يحاول استغلال مناخ الإحباط هذا، ويسعى إلى الاستفادة منه، القوى الدولية التي تحاول أن تقنع السوريين، اليوم، أنه فات الوقت، لكي يتمكنوا من إعادة توحيد أنفسهم كشعب، وأن يستعيدوا ملكة العيش المشترك، وأنه لم يعد أمامهم من سبيلٍ للوصول إلى الحد الأدنى من السلام والأمن سوى التسليم للدول الأجنبية بتقرير مصيرهم، حتى صار من الطبيعي والعادي والمسلم به تداول وثائق وخرائط ومسوّدات دساتير، عم انتشارها في وسائط التواصل الاجتماعية، صادرة عن بعض الأوساط الدبلوماسية، أو عن جمعيات ومؤسسات بحثية، لم يكن لها في الأصل أي علاقة بالبحث بشأن سورية، وربما لا يعرف معظم باحثيها، قبل ثورة مارس/ آذار 2011، موقع هذا البلد على الخريطة.
يكاد هذا الشعور يطمس، للأسف، الإنجاز الأول والأروع لهذه الحقبة، وأعني ما سطره السوريون من ملاحم، وما أظهروه من بسالةٍ وصمودٍ أسطوريين، في قتالهم من أجل حريتهم وكرامتهم، وما كبّدوه من هزائم متواصلة لأربعة جيوش نظامية: جيش النظام الانكشاري، ومرتزقة حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، وجيش الخلافة الداعشية المزعومة، بالإضافة إلى المليشيات الطائفية الدولية المستشرسة، والمدفوعة بغلٍّ مذهبي دموي لا يرتوي، من دون أن ننسى الدعم اللوجستي والعملياتي المباشر والقوي من سلاح الجو الروسي، فلا يعادل غدر الأسد بشعبه وخيانته التزاماته بوصفه رئيساً للجمهورية، وإصراره على حرق البلاد تمسكاً بالسلطة، سوى إيمان الشعب السوري بحقه في الكرامة والحرية، وإصراره على الاستمرار في القتال حتى النهاية. وربما لن يحتفظ التاريخ من هذه الحقبة بصورةٍ أخرى غير إرادة الحرية التي ألهبت حماس السوريين، وحولت نضالهم إلى أسطورةٍ ومثالٍ أعلى لكفاح الشعوب من أجل سيادتها واستقلالها وتقرير مصيرها بيدها.
هذا بالضبط ما تهدف إلى تغييبه الحملة الدعائية والنفسية المنظمة التي يشارك فيها، منذ أكثر من خمس سنوات، النظام وجميع الدول والتيارات المناهضة لولادة سورية حرّة جديدة، تعكس حرية السوريين وسيادتهم على أرضهم، فهي تستغل التطورات، وتزيد من حجم التعقيدات التي أنتجها تدخل القوى المتعددة، للحيلولة دون انتصار ثورة الشعب، من أجل تيئيس السوريين من مستقبلهم ومصيرهم، وتحويل كارثة الحرب العدوانية التي شنتها الطغمة الحاكمة عليهم إلى مناسبةٍ للقضاء على الدولة السورية، ومن خلالها على استقرار المنطقة المشرقية بأكملها.
ولا شك أيضاً في أن المعادلة الدولية التي فرضت على الثورة، والقائمة على منع الحسم العسكري، وتجاهل شروط الحل السياسي من جهة، وما رافق هذه المراوحة في المكان من قتلٍ وتشريدٍ ودمارٍ من جهة ثانية، تضغط بقوة على الرأي العام السوري، على مختلف اتجاهاته، وتفقده أكثر فأكثر الأمل بإمكانية الخلاص القريب، وتدفع قطاعاتٍ متزايدةً من مؤيدي الثورة، للتشكيك بسلامة قرارهم في الخروج على النظام، على الرغم من جوره وخيانته مصالح شعبه. وما يزيد من هذه الضغوط انزياح مركز القرار بشكل مضطرد من يد السوريين إلى الدول الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، حتى ساد شعور عميق، اليوم، بأن السوريين لا يملكون أدنى تأثيرٍ على مصيرهم، وليس لهم سوى الاستسلام لقرار الدول الأجنبية المنقسمة هي نفسها في دعم هذه الفريق أو ذاك. وهذا ما يفسّر تزايد تداول الخرائط والبيانات والتصريحات المتعلقة بتقسيم سورية والمنطقة، أو إعادة تشكيل دولها وكياناتها، وربما هويتها أيضاً حتى عند السوريين.
أخطر ما يعيشه السوريون اليوم هو فقدان الثقة بأنفسهم، والاستسلام لفكرة عجزهم عن التوصل إلى حلول لمشكلاتهم بإرادتهم، والتسليم للدول الأجنبية، العربية وغير العربية، بالقرار، وإيجاد حل للقضية، مع الأمل بأن لا يخذل حلفاؤهم ثقتهم، وأن يبقوا عند حسن ظنهم بهم. وهذا ما يؤكده، للأسف، ويبرهن عليه كل يوم سلوك كثير من فصائل المعارضة وشخصياتها التي تتسوّل الدعوات من الدول والمؤسسات الأجنبية، وتربط أي قرارٍ يُفرض عليها اتخاذه بقرار الدول الصديقة ورأيها، ولا تفكر في طرح أي خطةٍ أو استراتيجيةٍ مستقلة للنقاش، وللإمساك بقضيتها، وتنتظر دائماً ما تقرّره هذه الدول بمصيرها ومستقبلها.
لن تحل الدول الأجنبية المسألة السورية، حتى لو كانت قوى كبرى، بل إنها هي التي عقدتها وقطعت عليها طريق الحل، وإذا حلّتها، فلن يكون ذلك لصالح سورية والسوريين، مهما كانوا وإلى أي فريقٍ انتموا، وإنما لحسابها، ومن أجل تقاسم المصالح فيها، حتى لو اضطر الأمر إلى تقسيمها جغرافياً وسياسياً. وهذا ما يحصل الآن في تعزيز الاعتقاد عند السوريين بأنهم ذئابُ بعضهم لبعض، وعشائر وقبائل وطوائف متناحرة لا تستطيع التفاهم، ولا شيء يجمع بينها، لا قومية ولا عقيدة ولا دين. وفي هذه الحالة، لن يكون الحل إلا عن طريق تفتيت الخريطة السورية وتقسيمها، ولن يعني أبداً إنهاء الحرب والنزاع، وإنما إيجاد أسبابٍ إضافيةٍ لاستمرارهما، ولو أن رهاناتهما وأشكالهما سوف تختلف، على حسب طبيعة القوى المتلاعبة والمتنازعة على اقتسام السوريين، ورسمها أو تقديرها لمصالحها في هذه المنطقة، أو الكيان، أو ذاك.
لن يكون هناك أملٌ في التوصل إلى حلٍّ للقضية السورية، أي إلى صيغةٍ للحل، تحقق مصالح السوريين جميعاً، وتضمن السلام والأمن والعدالة في بلادهم، وتسمح باستعادة الدولة والسيادة والوحدة السورية، إلا باستعادة السوريين ثقتهم بقدراتهم، وعودتهم إلى تحمل مسؤولياتهم، والمراهنة على حسّهم الوطني والإنساني وإرادتهم الحرة، ورفضهم أي قرارٍ يُفرض عليهم، مهما كان نوعه ومن أي طرفٍ جاء. وهذا يعني ضرورة الكفّ عن انتظار الحل من الخارج، والتسليم للدول بحقها فيه، أو العمل في إطار استراتيجياتها المتعدّدة والمتباينة أيضاً.
ولن يستطيع السوريون استرجاع قرارهم وحقهم في تقرير مصيرهم، ما لم ينزعوا روح الاحتلال النفسي والانقسام والتبعية التي فرضتها عليهم القوى الغاشمة، عقوداً طويلة، بل قروناً، وعزّزتها سياسات الدول المتنازعة على السيطرة، وضراوة الصراع الذي يدور حول بلادهم ووطنهم بين الدول الإقليمية والخارجية.
وهذا يستدعي يقظة ضمير سياسي وإنساني عند السوريين جميعاً، والالتفاف حول قيادةٍ وطنيةٍ تقف موقف الاستقلال والندية مع القوى الخارجية المعنية، والتي أظهرت الأحداث فشل سياساتها القائمة على تحييد الشعب السوري، والانفراد بحل القضية على حسابه. وهذا هو جوهر برنامج الكرامة والحرية الذي نزل الشعب السوري بالملايين إلى الشوارع السورية لتطبيقه، وهتف له تحت البراميل المتفجرة والجوع والحصار، وبذل أبناؤه من أجله دماءً زكية، لا تزال تجري كالأنهار في طول البلاد وعرضها.
هي وثيقة أميركية، لكنها ليست رسمية، وقد صدر جزؤها الأول في سبتمبر/ أيلول من عام 2015، والثاني في منتصف العام الحالي عن "وقفية راند"، المقربة جدا من أوساط الخارجية الأميركية، والتي جعلت لوثيقتها عنواناً مثيراً هو "خطة سلام من أجل سورية". ومع أنها صدرت قبل أشهر قليلة، فقد تم تحديثها قبل أسابيع قليلة، في إشارة إلى اهتمام واضعيها بما ترتّب على ما اقترحوه من نتائج بعد سبتمبر. ويقترح نواب وزير الخارجية الثلاثة السابقون، الذين كتبوا الخطة:
أولاً، التخلي التام عن "جنيف" ووثيقته التي أقرها الخمسة الكبار، وعن قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخصوصاً منها القرار 2118 الذي يرسم آلية تنفيذ ما اتفق الخمسة الكبار عليه في جنيف، بمن في ذلك أميركا، الدولة التي ينتسب إليها كتّاب الخطة، فلا هيئة حاكمة انتقالية، ولا تراض بين الطرفين، ولا انتقال ديمقراطي.
ثانياً، الانطلاق من أولوية مطلقة، هي ضرورة وقف أعمال العنف عبر هدنةٍ تتوافق عليها روسيا وأميركا، وتلتزم بها أطراف الصراع، على أن يجري تحويلها إلى وقف إطلاق نار دائم، يتيح أجواء مناسبة لبدء البحث عن حلول.
ثالثاً، المحافظة على ما هو قائم ميدانياً من أوضاع بين الأطراف المتقاتلة، وتشمل منطقة النظام الأسدي، بين دمشق والساحل، مروراً بحمص ومناطق من حماة، وهي ستبقى في يده، وسيديرها تحت قيادة بشار الاسد، على أن ترابط فيها قوات روسية. والمنطقة التي سيطرت عليها قوات "البايادا" الكردية في الشمال والشمال الشرقي من سورية، والتي سترابط فيها قوات أميركية. ومنطقة سيطرة المعارضة في الشمال والجنوب، حيث سترابط في أولاهما قوات تركية، وفي ثانيتهما أردنية. أما المنطقة الخاضعة لـ"داعش" فستوضع تحت إشراف دولي، بعد طردها منها، وستبقى خاضعةً للإشراف الدولي، إلى أن يتقرّر مصيرها النهائي في التسوية النهائية.
الرابعة، انتشار قوات دولية في مناطق مختلفة من سورية، لكي تشرف على وقف القتال، وإيصال الإغاثة إلى السوريين، ريثما تتفق أميركا وروسيا على الحل النهائي الذي تقول الخطة، بكل وضوح، إنه لن يستعيد دولة سورية المركزية، وسيفرض أشكالاً جديدة من الحكم والإدارة في المناطق الثلاث، على أن تكون مداولات الأطراف السورية بشأنها هي المفاوضات الجديدة التي ستقرّر مصيرها، وبالتالي، شكل الدولة السورية المقبلة، وعلاقات أطرافها وصلات مكونات المجتمع السوري ببعضها، وهل ستكون فيدرالية، أم إدارة ذاتية موسعة، أم لا مركزية سياسية ... إلخ.
لا تسمّي "الخطة" فترة زمنية لتطبيق ما تقترحه، بل تترك الأمر القائم الحالي، الذي تكرّسه باعتباره أساس أي حل، وتبقيه مفتوحاً على مدى زمني غير محدد، وتشحنه باحتمالاتٍ تقسيميةٍ، تناقض جذرياً ما قبلته واشنطن وموسكو في وثيقة جنيف ومقدمة القرار 2254 الذي صدر قبل أشهر، وحمل تعهداً صريحاً منهما بضمان وحدة الدولة والشعب في سورية.
ليس هذا كل ما يثير القلق في الخطة، المقلقة جداً، ما يثير القلق والغضب حقاً يرد في فقرة تؤكد أن "الخطة" لم تجر أية تعديلات ذات أهمية أو شأن على الثوابت التي اعتمدها البيت الأبيض سياسة حيال الحدث السوري منذ عام 2011، وتمسّكت بها طوال السنوات الخمس الماضية. هذا الاعتراف المذهل ينقل الخطة من حيز السيناريوهات التي ترسمها مراكز الأبحاث والدبلوماسية لمواجهة احتمالات تطور أو حدثٍ ما، ويجعل منها كشفا لـ"ثوابت"، عمرها نيف وخمسة أعوام، كانت جوهر سياسة واشنطن تجاه ثورة سورية التي أطلق الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في حينه عشرات التصريحات المؤيدة لها، لكنه أقرَّ، أخيراً، في أحاديث متعدّدة، مع صحافي اسمه غولدبرغ، أصدرها تحت عنوان "عقيدة أوباما"، بأنها لم تكن مهمة إطلاقاً بالنسبة له، ولم تحتل أية أولوية في سياساته. تقول الخطة إنها التزمت بهذه الثوابت في ما اقترحته، وإنها تقوم على مواقف واشنطن الحقيقية، عديمة الاكتراث بحق الشعب السوري في الحياة والحرية، وبمجازر النظام. لذلك، قامت على مساراتٍ متكاملةٍ، مهد لها تأجيج الصراع والصمت على عنف النظام وإيهام السوريين بقرب اتخاذ موقفٍ أميركي حاسم من بشار الأسد، بينما شجعوا على تصعيد الصراع، ليستخدموه في تصفية حسابات إقليمية ودولية، تمت بدماء جميع السوريين، من كان منهم مع النظام أو ضده، ولإيصالهم، في النهاية، إلى ما تفصح "الخطة" عنه: حل يضع مناطق النظام و"البايادا" والمعارضة تحت احتلال دول وجيوش أجنبية وإشراف دولي، ويترك مصير نصف مساحتها الذي تحتله "داعش" اليوم معلقاً، محولاً وطننا السوري الذي نعرفه، ونريد تجديده بالديمقراطية والنهج المدني/ السلمي، إلى وطن افتراضي، يرهن مصيره بصراعات الأميركيين والروس وتفاهماتهما، وبإرادة الأميركيين بالأحرى الذين لعبوا دوراً خطيراً في تحويل ثورةٍ طالبت بالحرية إلى ساحة صراعٍ متشعب ومفتوح، أمسكوا بها بكل قوة، كي يروّضوا من خلالها إيران وروسيا، كما تقر الخطة، وهي تذكر الفوائد التي يعود حلهم بها على واشنطن.
هذه "الخطة" التي تقول، في جزئها الثاني، إن الهدنة التي تم الاتفاق عليها، وطبقت بهذا القدر أو ذاك من النجاح، كانت الخطوة الأولى على طريق تطبيق ما اقترحته في جزئها الأول. لذلك، يجب أن تكون موضوع دراسة وتأمل عميقين، ما دام تطبيق بقية بنودها يعني نهاية وطننا، وفشلنا في نيل حريتنا، والقضاء على ثورتنا، وبقاء ملايين السوريات والسوريين مشرّدين في المنافي والمغتربات، وفوز الأسد بالمساحة الأكبر من سورية، وبساحلها الذي ستمكّنه سيطرته عليه من خنق بقية مناطقها، وإركاع سكانها بالتجويع والحصار، ويعني أن هيئات المعارضة وتنظيماتها أضاعت تماما الطريق التي يمكن أن تمكّنها من بلوغ أهداف الشعب والثورة، وأنها تتابع وهماً لم يعد له أي مرتكز أو مكان في الواقع الدولي والوطني، يسمونه "الحل السياسي وفق وثيقة جنيف والقرارات الدولية". ويعني، أخيراً، أن "صديقنا الأميركي المخلص" نجح في الضحك علينا وخداعنا، طوال السنوات الخمس الماضية التي كنا في أثنائها في غفلةٍ أوقعتنا في حال من الغباء وسوء التقدير والفهم، ساقتنا إلى هاويةٍ تقدم لنا الخطة بعض تفاصيلها، لن نخرج منها بما ننتهجه اليوم من سياسات، ونقيمه من علاقات، ستأخذنا إلى ما بعد سورية، وليس إلى ما بعد النظام.
ماذا علينا أن نفعل لمواجهة ما يدبّر لنا منذ سنوات على يد دولةٍ اعتقد معظمنا، معظم الوقت، أنها صديقة لنا، لن تسمح بهزيمة ثورتنا المطالبة بالحرية؟. علينا الإجابة على هذا السؤال في أقرب الآجال، كي لا نخون شعبنا وأنفسنا.
أتوقع أن يكون إحياء مسيرة الحل السياسي أهم ما سيشغل المعنيين بها بعد عطلة العيد، فقد مرت فترة طويلة دخلت فيها المفاوضات في سبات، وبدا أن الهوة واسعة بين فريقي التفاوض (النظام وهيئة التفاوض العليا المنبثقة عن مؤتمر الرياض). فالنظام يرفض الحل السياسي شكلاً وموضوعاً، وقد جدد رفضه لتشكيل هيئة حكم انتقالي في خطاب بشار الأخير أمام مجلس الشعب، وهو يفتح المجال فقط لحكومة ائتلافية، ربما تضم بعض المعارضين الذين يختارهم وعلى الغالب سيختار أقربهم إليه، متجاهلاً كل ما حدث في سوريا، ومعتقداً أن القضية الوحيدة التي يواجهها هي الإرهاب وحده، وأما أسباب الانتفاضة السورية والحل الأمني الذي اختاره لمواجهة الشعب وقتل مليون مواطن واعتقال مئات الآلاف الذين مات كثير منهم تحت التعذيب في المعتقلات، وتهجير ملايين السوريين، وهدم منازلهم، وتدمير العديد من المحافظات السورية، فضلاً عن المجازر التي ارتكبها، فهي في نظره أمور ثانوية يمكن حلها بتوزير بعض المعارضين الذين هم موالون له في الحقيقة، ولكنه ألبسهم لبوس المعارضة كي يقدم منصات جديدة للسيد «ديمستورا» الذي لا يخفى عليه أن الهدف من وفرة المنصات هو خلط الأوراق وتمييع الحل السياسي، وهو الذي قال لأعضاء هيئة التفاوض في لقائه الأول بهم في الرياض (أنتم الوفد الوحيد الذي يمثل المعارضة، وهذا هو امتيازكم)، لكن روسيا سرعان ما صنعت معارضة دخلت ساحة المفاوضات لتؤيد النظام باسم المعارضة أيضاً، وهي ما تزال تعطل القرار الدولي، والمعارضة الوطنية تتمسك ببيان جنيف وبالقرارات الدولية التي تكررت ومنها القرار 2118/2013 والقرار 2254/2015 الذي حدد فترة ستة أشهر للوصول إلى حل، وقد بدا مؤسفاً أن يخفق مجلس الأمن في تنفيذ قراراته، وأن تكون روسيا التي أسهمت في القرار معطلة لتنفيذه.
ولقد كان مفجعاً أن يتم تجاهل مقترح الهيئة العليا للتفاوض حول هدنة في شهر رمضان وفي أيام العيد، فقد تصاعدت الهجمات على المدنيين، وبخاصة في محافظتي إدلب وحلب، وقضى مئات المواطنين تحت الأنقاض إثر القصف الذي استخدمت فيه روسيا قنابل عنقودية وفراغية وفوسفورية فضلاً عن عودة النظام إلى استخدام البراميل المتفجرة، وخلال الفترة الأخيرة تعطل إدخال المساعدات للمناطق المحاصرة، وتم التزييف حتى على الأمم المتحدة، وظهرت فضائح مخجلة، بل إن بعض قوافل المساعدات وصلت فارغة.
وما تزال بنود مرحلة ما قبل التفاوض التي حددها القرار الأممي في البعد الإنساني معطلة، فلم يطلق سراح المعتقلين ولم يفك الحصار، بل زاد عدد المناطق المحاصرة، كما أن النظام وروسيا وإيران وحزب الله تجاهلوا اتفاقية الهدنة الموقعة بين روسيا والولايات المتحدة، واستخدموا ذريعة مكافحة الإرهاب لتبرير قصفهم اليومي على المدنيين.
ولكون المنطقة تمر الآن بتحولات جديدة في خارطة العلاقات السياسية، ولاسيما بعد أن أعلنت تركيا عن مراجعة لسياساتها الخارجية وبخاصة مع روسيا وإسرائيل وربما مع مصر قريباً، فإن المشهد السياسي قد يشهد نوعاً من الحيوية إذا تمكنت تركيا من تخفيض حدة التوتر في المنطقة عامة، وإذا تمكنت من ترويض الجموح الروسي الذي وصل إلى طريق مسدود، وقد آن أن تدرك روسيا أن مغامرتها ضد الشعب السوري لن تحقق سوى مزيد من الجرائم ضد الإنسانية، وأن القضاء على الإرهاب، يبدأ بإنهاء مسبباته، فمن أطلق الحل العسكري فتح الساحة لكل من بيده سلاح، وجعل الدم وحده المباح، ولا حل لمشكلة الإرهاب إلا بتمكين السوريين من الاستقرار عبر حكم عادل يحافظ على بقايا الدولة السورية وعلى وحدة الوطن والشعب، ويحفظ للمواطنين حريتهم وكرامتهم، ويحقق العدالة الانتقالية، عندها سيتكاتف السوريون جميعاً لمقاومة الإرهاب، وهم يدركون أنه مصنوع للتعمية على قضيتهم.
غير معروف٬ حتى الآن ما هو الصحيح وما هي الحقيقة٬ فالروس يؤكدون أنهم تلقوا عرًضا أميركًيا٬ من الرئيس باراك أوباما نفسه٬ للتنسيق المشترك بين البلدين٬ روسيا والولايات المتحدة في سوريا٬ وخصوًصا في مجال مواجهة التنظيمات الإرهابية٬» داعش» و«النصرة» على وجه التحديد٬ والأميركيون بادروا إلى النفي وبصورة معلنة ورسمية٬ وكل هذا مع أَّن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أجرى فعلاً اتصالاً هاتفًيا مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري لا يمكن إلا أن يكون قد تناول هذه المسألة آنفة الذكر٬ التي يبدو أنها باتت مطروحة بالفعل٬ ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أَّن الثقة بين واشنطن وموسكو ليست غير متوفرة وفقط٬ وإنما معدومة وبصورة نهائية!!
والمثير للتساؤل بالفعل هو أَّن هذا التطور٬ الذي لا يزال غير مؤكد والذي من الممكن أن يكون مجرد مناورة روسية٬ بهدف مزيد من ابتزاز هذه الإدارة الأميركية التي دخلت مرحلة عِّد أيامها الأخيرة٬ قد جاء في ذروة الخطوة التصالحية الـ«دراماتيكية» التي أقدم عليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أولاً تجاه إسرائيل ثم تجاه روسيا٬ حيث كانت العلاقات بين موسكو وأنقرة قد وصلت٬ كرِّد فعل على إسقاط طائرة الـ«سوخوي» الروسية في تلك الحادثة المعروفة٬ إلى حدود المواجهة العسكرية الشاملة٬ وهذا يعني أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات يسعى للاستفراد بسوريا٬ باستدراج الأميركيين إلى اتفاق شكلي يكرس الوضعية التي بقيت قائمة بالنسبة للأزمة السورية خلال الثلاثة أعوام الأخيرة٬ والتي هي في حقيقة الأمر لا تزال قائمة حتى الآن٬ وقد تستمر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
إنه لا يمكن الوثوق لا بهذا الرئيس الروسي ولا بوزير خارجيته فالتجارب٬ تجارب الثلاثة أعوام الماضية٬ أثبتت أنه بينما أَّن قدمي فلاديمير بوتين في هذا العصر وفي هذه المرحلة٬ فإن رأسه لا يزال هناك في مرحلة صراع المعسكرات٬ بين الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية (الشيوعية) من جهة٬ والولايات المتحدة والمنظومة الرأسمالية من جهة أخرى٬ وهذا بالطبع ينطبق على سيرغي لافروف الذي بقي يحاول «تقليد» وزير خارجية المرحلة السوفياتية السابقة أندريه غروميكو٬ ولكن دون إحراز أي نجاح يذكر٬ وذلك لافتقاده إلى هيبة واتزان و«كاريزما» ذلك الرجل التاريخي الذي كان أحد رموز مرحلة تاريخية تختلف كثيًرا وفي كل شيء٬ عن هذه المرحلة التي هناك حيرة مربكة لدى كبار المؤرخين بالنسبة لتحديد مكانها في المسيرة الكونية التاريخية.
وهنا فإن ما يعزز وجهة نظر الذين لا يثقون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذين يعتبرونه مناوًرا غير بارع في بعض الأحيان٬ أَّن روسيا التي التقطت مبادرة رجب طيب إردوغان بفرح غامر لم تبادر إلى أي تغييٍر إيجابي٬ وإن على نطاق محدود وضيق٬ فعملياتها العسكرية٬ بدل تخفيفها ازدادت عنًفا وشمولاً٬ وانفتاحها على تركيا لا يزال يراوح مكانه٬ إذ إن كل شيء لا يزال على ما هو عليه٬ وإن حزب العمال الكردستاني التركي الـ«K.K.P «الذي استخدمه الروس كأحد أسلحتهم الفعالة ضد أنقرة لم يطرأ عليه أي جديد٬ وهو لا يزال مستمًرا بعملياته «الإرهابية» بالوتيرة السابقة نفسها وأكثر.
وهكذا فإنه لم يبدر عن الروس ما يدُّل على أنهم جادون فعلاً في التفاهم مع الأميركيين ومع غيرهم٬ لوضع نهاية مقنعة للأزمة السورية٬ وذلك مع أن المفترض أن يبادر بوتين من قبيل إبداء ولو قليل من حسن النيات إلى التحقيق من هجمات سلاح الجو الروسي على المدن والقرى السورية وعلى مواقع المعارضة «المعتدلة».. إَّن هذا لم يحصل إطلاًقا والواضح أنه قد لا يحصل أبًدا٬ والسبب هو أن الرئيس الروسي متمسٌّك بإصراره على بقاء بشار الأسد قبل المرحلة الانتقالية وخلالها وبعدها٬ وإَّن أقصى ما يطرحه هو تشكيل «حكومة وحدة وطنية»!! يشارك فيها «المعارضون» مجرد «ديكور» لا يقدم ولا يؤخر٬ وليس له أي دور فعلي لا في حاضر سوريا ولا في مستقبلها.
وهنا أيًضا.. فإَّن ما يزيد الأمور ضبابية وارتباًكا هو أن الروس لم يطرحوا أي جديد يمكن البناء عليه والاعتداد به بالنسبة للأزمة السورية٬ وأن التقاطهم المبادرة الأميركية آنفة الذكر٬ التي نفتها واشنطن رسمًيا٬ قد يكون مجرد مناورة كمناورات الرئيس فلاديمير بوتين الكثيرة السابقة٬ وهذا يعني أنه قد لا يكون هناك أي جديد يمكن الاطمئنان إليه بالنسبة للأزمة السورية المستفحلة٬ وهكذا وبالتالي فإنه لا يزال من المبكر جًدا الحديث عن حٍّل معقول لهذه الأزمة٬ التي باتت هناك قناعة في العالم بأسره بأن موسكو هي التي أوصلتها إلى هذه الوضعية المأساوية التي وصلت إليها.
إن المفترض أن جزًءا من المصالحة التركية الروسية قد أُعطي للأزمة السورية وحلها وعلى أساس القرارات الدولية واتفاق (جنيف1(٬ ويقيًنا أنه إْن بقي الروس يعملون في سوريا ما عملوه منذ بدايات غزوهم العسكري وحتى الآن٬ فإن تركيا بدورها ستدفع الثمن غالًيا وخصوًصا إْن واصل حزب العمال الكردستاني التركي الـ«k.p.p «عملياته العسكرية التي كان استأنفها بعد تردي العلاقات الروسية التركية٬ وحقيقة أنها ستكون بمثابة مصيبة كبرى إن ثبت أن الرئيس بوتين قد قبل بالمصالحة مع رجب طيب إردوغان كمناورة من مناوراته الكثيرة المعروفة. لقد أعلن الروس أنهم مع أي حٍّل للأزمة السورية يضمن لهم أولاً الحفاظ على مصالح روسيا الحيوية في سوريا٬ وثانًيا أن يكون اختيار البديل لبشار الأسد بموافقتهم وموافقة كل الأطراف المعنية. وحقيقة أن حتى الأطراف الأكثر تشدًدا٬ إن بالنسبة للمعارضة السورية وإن بالنسبة للدول العربية المعنية وأيًضا إْن بالنسبة للولايات المتحدة والغرب كله٬ لا تنكر هذه المصالح الحيوية الروسية المشار إليها٬ وأيًضا لا تعارض التفاهم بشأنها وبشأن الحفاظ عليها٬ فهي مصالح قديمة تعود لما بعد انقلاب حسني الزعيم في عام ٬1949 وهي بقيت يتم التعامل معها كحقيقة من حقائق علاقات دمشق الخارجية٬ وذلك رغم تقلبات الأوضاع في نحو نصف قرن وأكثر.
وبالطبع فإن الروس الذين يتابعون وجهات نظر المعارضة السورية وحلفائها وداعميها يعرفون أَّن هؤلاء جميًعا لا يمكن أن يتصوروا مستقبلاً لسوريا مطمئنة ومستقرة دون الحفاظ على المصالح الحيوية الروسية هذه٬ وبالصورة التي من المفترض أن يتم الاتفاق عليها لاحًقا٬ ودون مشاركة كل المكونات الدينية والمذهبية والقومية٬ وأيًضا الاجتماعية في مستقبل هذا البلد الذي هو لكل أهله ومن بينهم الطائفة العلوية الكريمة٬ التي ربما لا يعرف كثيرون أن غالبية رموزها وأبنائها ضد هذا النظام منذ عام 1970 وحتى الآن٬ وذلك لأنهم كانوا وما زالوا الأكثر تضرًرا من هذا النظام العائلي٬ الذي أساء إلى هذه الطائفة بمقدار إساءته إلى الشعب السوري كله.. وهكذا وفي النهاية فإنه لا بد من القول إن هذا الموقف الروسي آنف الذكر سيتأثر حتًما بتطورات الأحداث التي استجدت في إيران في الأيام الأخيرة٬ وخصوًصا في «أصفهان» وأيًضا في منطقة «مهاباد» التي شهدت في عام 1948 قيام أول دولة كردية في التاريخ.