قد يخطئ الإنسان أحياناً بتسليم ما يحدث على الساحة حالياً أنه يسير بشكل اعتباطي وغير مدروس وبأدق تفاصيله، والذي يتم افتعاله لتوظيفه في خدمة خطط تم تجهيزها لتطبق، لم تكن في الماضي أقل من ضرب من ضروب الخيال والجنون، وكفر في الانسانية غيرها من المشاعر البشرية البالية.
ففي الوقت الذي انتهى الاجتماع بين وزير الخارجية جون كيري والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لرسم الخطوط العريضة لاتفاق التعاون بين روسيا وأمريكا عسكرياً وسياسياً في سوريا، سار أحد الأشخاص بشاحنته على أجساد أكثر من ٨٠ فرنسياً وأصاب أكثر من مئة ، في مشهد قد يبدو متباعد جغرافياً، لكنه يصب في ذات الإطار الذي يُعل عليه في سوريا، وفقاً لخطة أمريكية تقضي بتنسيق عالي المستوى ضد كل التنظيمات الإرهابية باستثناء الأسد وحلفاء أمريكا، مقابل انتقال سياسي تدريجي لم تتوضح آليته وطريقته ولكن على أقل تقدير لن يكون بشار الأسد خارج منه.
الاتفاق الذي تنسجه أمريكا وروسيا، يبدو أنه استبعد الكثيرين من حلفاء أمريكا، الأمر الذي يجعل تنفيذه محاط بمخاطر التمرد من البعض، ولاسيما صقور أوربا الذين لم يبق منهم في الواجهة إلا فرنسا بعد أن تركت بريطانيا الاتحاد (وقدوم حكومة ذات ميول مع روسيا والأسد) مع اتخاذ القرار بصب تركيزها على وضعها الخاص، وتبتعد عن سيناريو "تحقيقاتي" كما حدث لرئيس الوزراء الأسبق طوني بلير بشأن العراق.
فرنسا اليوم قد تعاند ولكنها سترضخ، ورضوخها لايعني رضوخ الجميع، و في الوقت ذاته استثارت فرنسا ورفع درجة الخوف لزيها لن يجعل الـ٢٧ دولة في الاتحاد الأوربي يشذون عن قاعدتها وبالتالي سيتقاطرون، للملمة الجروح الفرنسية ولو كان المستفيد الوحيد روسيا وأمريكا فحسب.
من يطلع على بنود الإتفاق الأمريكي – الروسي والذي نشر منه ثمان بنود، لا يخالجه أي شك أن هناك أمور مخفية وهي تشكل "لب" المصالح، لم يتم التطرق لها حتى على الورق وإنما هي في أذهان المهندسين المنفذين الذين يرأسهم كيري ولافروف ومن خلفهما المخابرات المشتركة بين البلدين، ومن الطبيعي أن تكون هناك حقيبة من الأمور من بينها العقوبات الأوربية على روسيا والقضية الأوكرانية في هذا الـ"لب المصلحاتي"، وعملية كـ"نيس" قد تكون خرق في جدار الرفض، فتح ثغرة لإعادة جريان العلاقات الروسية الأوربية من بوابة الإرهاب ومكافحته في سوريا.
وما يؤكد ما ذكر آنفاً، أن المباحثات التي بدأت بين كيري ولافروف استهلوها بالحديث عن "نيس" كحدث آني ضخم، ولكن الأخطر هو قول لافروف :" هجوم نيس يؤكد أهمية تفعيل جهودنا في مكافحة الإرهاب"، وتبعه كيري قائلاً: "سوريا باتت اليوم الحاضنة الأساسية للإرهابيين في العالم"
، في حين كان رئيس الوزراء الروسي ورئيس سويسرا يناقشا اَفاق إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الاقتصادي الأورآسي (روسيا، وكازاخستان، وأرمينيا، وقيرغيزستان، وبيلاروس) ورابطة التجارة الحرة الأوروبية، وهي منظمة تجارة حرة بين أربعة بلدان أوروبية (آيسلندا، وليختنشتاين، والنرويج، وسويسرا)
يقترب عدد السوريين من ملايين ثلاثة في تركيا؛ وقد فتح حديث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أخيراً، عن تجنيس السوريين، نقاشاً إشكالياً بين السوريين. صمت الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عن الأمر، وهناك من نقل عن نائبة رئيسه أنها شكرت الرجل على كرمه "الطائي"، وقد سبق ذلك أن حاز سياسيون معارضون على الجنسية تلك؛ طبعاً من غير الوطنية بمكان أن يتجنّس سياسيٌّ بجنسية دولة أخرى، ولا سيما حينما يكون جزءاً من المعارضة السياسية أو في مرحلة الثورة؛ فإن كان كذلك سيتبعه السؤال التالي: أية سلطة تبتغي إقامتها في بلادك، وأنت تقبل جنسية بلدٍ آخر؟ هذا الموضوع مرفوض قطعاً من دول كثيرة، وهناك دولٌ ترفض وجود جنسيتين، للزعماء السياسيين خصوصاً. قد نتفهم أوضاع سوريين أُغلقت كل منافذ الحياة أمامهم، هؤلاء من الممكن أن يأخذوا جنسية دولةٍ أخرى، أما السياسيون فيفترض فيهم رفض الفكرة جملة وتفصيلاً، وإصدار بياناتٍ توضح ذلك. عدم القيام بذلك يفيد بهامشية دور السياسيين والفساد والانتهازية، وكل الصفات التي تؤهلهم ليكونوا من التابعين لدول أخرى.
أصبح المهجّرون من سورية مأساة العصر، وهناك اتفاقيات بين تركيا والاتحاد الأوروبي لمنع وصول السوريين إليه، وتمكينهم من البقاء في تركيا، ولا يتوقف الحديث عن المنطقة الآمنة "للتخلص" منهم. والدول العربية، باستثناء الأردن ولبنان، فإن وضع السوريين فيها تعرّض لمضايقاتٍ أخرجتهم منها ولا سيما مصر. دول أخرى بالكاد استقبلت المئات؛ ليس موضوع السوريين بسيطاً أبداً، وهناك أكثر من اثني عشر مليوناً هُجّروا داخل سورية وخارجها. بخصوص الموجودين في الخارج، ولا سيما في تركيا، فإن الخيار الوحيد الصحيح اعتبارهم لاجئين، ولهم حقوق اللاجئين وفقاً لشرعة الأمم المتحدة، وبالتالي، منع الاستثمار السياسي فيهم، فهناك نقاش في تركيا حول ذلك؛ وبالتالي، يفترض بالمؤسسات السياسية التي تدّعي تمثيل السوريين التأكيد على إعطاء السوريين حق اللجوء، وفقاً للاعتبارات الأممية، وينتهي الأمر.
تركيا بلد يحتل أراضي سورية، وفي حال تعثّر الوصول إلى حلٍّ سياسي بعد المصالحات التركية الروسية الإسرائيلية، ففي وسع تركيا أن تصنع جميلاً، وأن توطّن السوريين في المناطق التي تعد أراضي سورية (!). ومن دون شك، الفكرة مستحيلة. ولكن، على السوريين اعتبارها الفكرة الوحيدة الصحيحة، في حال تعذر اعتبارهم لاجئين، ولهم حقوق تضمنها الأمم المتحدة.
التصحيح المتلاحق من رئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدريم، وأردوغان نفسه حسم الموضوع، وأن المقصود بالتجنيس فقط الفئات التي تساهم في تطوير تركيا، أي الأكثر تعليماً وثقافةً ومالاً، وهذه الفئات بالتحديد أصبحت موضوع استقطاب بين الاتحاد الأوروبي وتركيا؛ أي أنهم يسرقون العقول السورية المتبقية وثرواتها، والتي ستساهم في النهوض بسورية حالما تتوقف الحرب.
يفتح استسهال النقاش حول موضوع الجنسية، المجال واسعاً لانهيار فكري وسياسي مخيف، وهو ما فعلته المعارضة تحت حجج مساعدة الخارج "لنا" لتنتصر الثورة. وهذا ما قاد سورية لتصبح دولةً تتحكّم بها الصراعات الإقليمية والدولية. بكل الأحوال، لا يمكن لبلد في العالم أن يجنّس ثلاثة ملايين شخص دفعة واحدة؛ المعارضة السورية معنية برفض التجنيس وإيجاد كل السبل لتمكين السوريين في كل دول العالم من اللجوء، ريثما يعودون إلى بلدهم الأم: سورية.
هناك حجج تطرح من زاوية العولمة والعالم المتداخل، ومن الطبيعي أن يحوز كل شخص أكثر من جنسية! الثورة السورية لم تطرح قضية الجنسية، ولم تستسغ كثيراً المعارضة نفسها، ولطالما أسقطتها، وإن وافقت على تمثيلها في بعض الأوقات، لكن هذا لا يعني بأي حال الموافقة على تدخل تركيا، أو غيرها، في شؤون السوريين والتخطيط لمستقبلهم. وبخصوص أوروبا أو أميركا أو سواها، فربما يعد تجنيس السياسيين بمثابة جريمةٍ يحاسب عليها القانون. نقصد أن العولمة لم تكن "منّاً وسلوى" على البشرية، بل وفي سنواتها الأربعين، والتي تكرّست مفهوماً منذ نهائية السبعينيات، ازداد العالم فقراً وحروباً وطائفيةً، وبرزت الظاهرة الجهادية، وكأنه حدث عولمي بامتياز.
أطماع تركيا بحلب، وليس فقط بلواء اسكندورن، ربما هي الأساس في "الثرثرة" عن الجنسية. وبالتالي، أن تكون حلب وربما إدلب مُلحقة بتركيا، وأن يكون للأخيرة الدور المركزي في إعادة إعمارها. ويتحمل السوريون مسؤولية الصمت عن هذه المواقف، وإذا استثنينا المحتاجين لأسباب شتى، فإن الموقف السليم يبقى البحث عن كل السبل، لإيقاف الحرب والانتقال السياسي والعودة.
سيكون للمصالحات التي تتسارع بين تركيا وروسيا وإسرائيل تأثير كبير على الحل السياسي؛ موضوع الجنسية هامشي؛ المعارضون معنيون باستثمار المصالحات هذه، من أجل انتقال سياسي، وهذا وحده ما سينقذ المعارضة وسورية من مصير يسوء يومياً، ويقترب كثيراً من حاضر العراق، حيث لا مستقبل آمناً لأحد، والإفقار يتعالى والتبعية لإيران والطائفية والجهادية تتعمق أكثر فأكثر.
جنسيتنا الوحيدة كسياسيين هي السوريّة، التيار السياسي الذي لا يُساهم في تطوير وطنيته، والاعتزاز بجنسيته، يصعب أن يمثل مصالح بلاده، أكانت بلاده في حالةٍ ثورةٍ، كحالتنا الراهنة، أو في حالة استقرار؛ وتسقط كل الحجج التي تبرّر القبول بجنسيات بلادٍ أخرى؛ وفي الوقت نفسه، فإن من يَحرم المواطنين من حقوقهم هو المسؤول الأول عن مآسي المواطنين، وعن دفعهم إلى قبول جنسياتٍ أخرى. سورية بحالة ثورة وحرب وخراب، وهناك احتمالات مخيفة تتعلق بمستقبلها، ولم يترك المتشائمون حجراً على حجر في سورية، و" كل شيء انتهى". وبالتالي، يقع على المعارضة أن تمثل مشروع الثورة والوطنية، وترفض كل الدعوات إلى حل مشكلات السوريين من دون الحل السياسي وعودتهم إلى بلادهم.
كأنه لم يكن يكفي اللاجئين السوريين إلى لبنان ويلات الحرب التي دمّرت بيوتهم، وأحرقت أرضهم، وقتلت أطفالهم، وهجّرتهم خارج أسوار مدنهم، بل بلدهم. كأنه لا يكفيهم أن يقبعوا في لبنان في ظروفٍ صعبة ومعقّدة للغاية، سواء لجهة الظروف المناخية حيث يعانون شتاءً في خيامهم البسيطة من برد الشتاء القارس، وثلوجه التي تضاعف من مأساتهم، وصيفاً من حرّ الشمس ولهيبها الحارق في مناطق شبه صحراوية لا يجدون فيها ما يستظلونه. أو لجهة ظروف الحياة العادية وصعوبة تأمين لقمة العيش والدواء في بلدٍ، يعاني أبناؤه، أصلاً، من البطالة، وقلة الموارد، والأزمات الحياتية، وتغيب المنظمات الأممية الراعية لقضية اللجوء، ولا تؤمّن الحد الأدنى للاجئين من مستلزمات العيش الكريم. أو لجهة تعامل أجهزة الدولة، لا سيما الأمنية منها، حيث تضعهم في خانة الاتهام الدائم، حتى تثبت براءتهم من الانتماء إلى ما يتم وصفها "المجموعات الارهابية"، وتمارس بحقهم صورا من المعاملة التي أقلّ ما يقال فيها إنها غير إنسانية.
كأن اللاجئين السوريين لا يكفيهم تورّط بعض اللبنانيين بتدمير بلدهم وقراهم وبيوتهم، وتهجيرهم داخل سورية وخارجها، بل وقتلهم بطرق سريعة من خلال كتل النار التي تلقى على أبنائهم داخل المدارس أو المشافي، أو حتى دور الحضانة، أو بطرق بطيئة بمحاصرتهم وتجويعهم أو تشريدهم عبر البحار، حتى يقضوا بين الأمواج العاتية التي خطفت وتخطف أرواح الأطفال الغضّة والطريّة.
كأنه لا يكفيهم ذلك كله حتى يتم التعامل معهم بعنصرية واحتقار وعدم التزام أدنى المعايير الحقوقية والإنسانية، دونما رأفة أو شفقة أو رحمة. وهذه المرّة، ليس من خلال أجهزة الدولة التي مارست وتمارس بحقهم شتى أنواع التضييق والحصار، بل حتى من قوى سياسية وشرائح من المجتمع اللبناني، باتت لا تقيم وزناً لأي اعتبار قانوني أو إنساني أو حتى مصلحي.
قبل قرابة أسبوعين، خرج على اللبنانيين وزير خارجيتهم، جبران باسيل، في مؤتمر صحفي، كال فيه كل أنواع التهم للاجئين السوريين، وغمز من قناة اللاجئين الفلسطينيين ايضاً، محمّلاً هؤلاء مسؤولية تدهور الاقتصاد اللبناني، وفشل الحكومات في إيجاد الحلول للمشكلات الحياتية، فضلاً عن المشكلات الأمنية، وأزمة البطالة والتسيّب، وربما وصولاً إلى مسؤوليتهم عن الشغور في رئاسة الجمهورية (!). ودعا، في مؤتمره، إلى طردهم من القرى اللبنانية، وعدم فتح أبوابها لهم، وعدم إتاحة فرص العمل أمامهم، حتى في الأعمال التي امتهنوها على مرّ العصور، عندما كان لبنان وسورية يعيشان حالة طبيعية، كمهنة البناء والعمالة اليومية والعتالة وغيرها، وهي بالمناسبة مهن تحتاجها السوق اللبنانية، حتى بلغ به الأمر إلى الافصاح عن توجّه تياره السياسي الذي يرأسه بإخراج اللاجئين من البلدات التي يسيطر عليها، وقد لاقت هذه الدعوة وهذا التوجّه، وللأسف، تجاوباً من بعض البلديات التي عمدت إلى فرض نظام عدم التجوّل على اللاجئين داخل نطاقها البلدي، اعتباراً من الثامنة مساءً (غروب الشمس) حتى ساعات الصباح الأولى (الشروق) ثم مارست بحقهم شتى أنواع الابتزاز التعسفي المالي وغير المالي، وصولاً إلى حدود التعدّي على الكرامات، خصوصاً بعد التفجيرات في بلدة القاع الحدودية.
وفي مقابل الحملة التي شنّها باسيل وتيّاره على اللاجئين السوريين، وشاركت فيها بعض القوى السياسية وحتى الأهلية، تعرّض اللاجئون لحملةٍ من نوع آخر لا تقل خطورةً، قام بها الإعلام المصنّف في لبنان على قائمة الإعلام المقاوم والممانع، عندما راح يمعن في رسم صورة مشوّهة وسلبية عن اللاجئين، ويدّعي أنهم المحرّض والمحضن الذي يخرج منه من يصفهم بـ "الإرهابيين" الذين، وفق روايته، يستهدفون الداخل اللبناني بأعمال التفجير و"الارهاب"، في حملةٍ لا تقل خطورة من عنصرية آخرين، عندما أراد هذا الإعلام شيطنة هذا اللجوء، كمقدمة لضربه واستهدافه من جملة ما تسمّى الحرب على "الإرهاب"، بينما أكد وزراء في الحكومة اللبنانية الحالية (وزيرا الداخلية نهاد المشنوق والشؤون الاجتماعية رشيد درباس) أنه لم يثبت أن اللاجئين السوريين تورّطوا، حتى الآن، بأي عمل إرهابي في لبنان.
الاستمرار في اعتماد هذا النهج العنصري في التعامل مع اللاجئين السوريين، وقبلهم مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ومن خلفيةٍ طائفيةٍ ومذهبيةٍ بات مكشوفاً، وبات يشكّل خطراً على لبنان يتعاظم يوماً بعد يوم، خصوصاً في ظل الانقسام اللبناني حيال ثورة الشعب السوري، وتالياً حيال أزمة اللاجئين، فإما أن يتم تدارك مخاطر هذا النهج، وبالتالي، يتم الرجوع عنه، أو سيأخذ الشرخ اللبناني في الاتساع بين مكوّنات البلد الواحد، مع ما يعنيه ذلك، بالطبع، من مخاطر على البلد، وعلى صيغته الفريدة التي طالما تغنّى بها اللبنانيون.
تجمّعت في الأفق السوري الكثير من الغيوم السوداء وتضاربت المعارك والغارات والحصارات ومآسي اللجوء والموت والتصريحات السياسية التي كان أكثرها مفاجأة تصريح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم أمس الأربعاء أن تركيا تهدف إلى تطوير علاقات جيدة مع سوريا والعراق، وهو ما تزامن مع بدء النظام السوري وحلفائه الإيرانيين حصارهم لمدينة حلب واقتحامهم بلدة داريا المحاصرة قرب دمشق، وكذلك مع تجريف إسرائيلي لأراض داخل الحدود السورية وقصف قبل أيّام لأطراف من المعارضة السورية في بلدة خان الشيح، وقصف روسيّ على المنطقة المحايدة بين سوريا والأردن الذي أوقع قتلى وجرحى بين اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى تقدّم قوات الحماية الشعبية الكرديّة نحو مدينة منبج التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية».
الخيط الناظم في كل ما يحصل اختصره المندوب الأممي ستافان دي ميستورا في تصريح قال فيه إنه يجب أن تتفق روسيا والولايات المتحدة على كيفية العمل على التسوية السياسية في سوريا «وعندها ستدعو الأمم المتحدة وأمانتها إلى جولة جديدة من المشاورات السورية ـ السورية».
هذا التصريح نال انتقاداً من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي كانت حكومته ترى أن تحدّد الأمم المتحدة اجتماعاً في منتصف الشهر الحالي لبدء جولة جديدة من المفاوضات، ويرتكز الموقف الروسيّ بالتأكيد على التطبيع المتسارع مع تركيّا، من جهة، وعلى تقدّم قوّات النظام وحلفائه في حلب، وهو ما يعني أوراق ضغط كبيرة على المعارضة السورية يمكن جني محاصيلها خلال المفاوضات.
العودة إلى التوجه التركيّ الجديد قد توضّح بعض غوامض هذه المرحلة، والتي تكشف إعادة برمجة لكل أولويات البلاد الخارجية، وهو ما يعكس خوفاً حقيقياً على الكيان التركيّ نفسه يمكن تلخيص أسبابها بالصراع التركيّ مع جهات كبرى وإقليمية أهم معالمها:
٭ إفشال الإدارة الأمريكية على مدى خمس سنوات طويلة كل الخطط التركيّة المتعلّقة بالموضوع السوري.
• تعرّض مرتكزات أنقرة العربية إلى ضربات موجعة، وخصوصاً في مصر.
• آثار العقوبات الروسيّة (التي تبعت إسقاط تركيّا طائرة سوخوي في الأجواء السورية ـ التركيّة) الموجعة على الاقتصاد التركيّ.
• حماية واشنطن صعود وتمدّد نفوذ حزب العمال الكردستاني في سوريا.
• المسؤولية الاقتصادية والسياسية الجسيمة الناتجة عن استضافة قرابة مليوني لاجئ سوري.
• العمليات الإرهابية الفظيعة داخل تركيا لكل من حزب العمال الكردستاني وتنظيم «الدولة الإسلامية».
النتيجة النهائية لكل ما سبق هو تخيير تركيّا بين تفكيكها داخليّا أو انصياعها للأجندة الأمريكية التي يكشف سياقها السوري عن تقارب مع الأجندة الروسيّة، يشبه في توظيفه لعضلات موسكو العسكرية، ما يجري في العراق من توظيف لإيران.
تحجيم تركيّا وتقليم أظافرها السوريّة هو، بالضرورة، تكليف للروس والإيرانيين بإدارة اللعبة، ليس السوريّة فحسب، بل الإقليميّة أيضاً.
السؤال هو: هل يمكن لباراك أوباما إنجاز «طبخته» الإقليمية هذه قبل أن يرحل؟
منذ أن اعتذر طيب أردوغان عن إسقاط الطائرة الروسية، كتبتُ منشوراً على صفحتي بأسلوب ساخر مؤلم، قلت فيه:
الطيب أردوغان، رضي الله عنه، ملّ من التراجع إلى الوراء، وقرر أن يتقدم إلى الأمام..
في بداية الثورة السورية قال: لن نسمح للأسد بحماة ثانية في حمص، ولكنه تراجع إلى الوراء، حتى أصبحت المجازر التي ارتكبها النظام في حمص وبقية المحافظات لا تُعدّ ولا تُحصى..
وحلف برأس جده مؤسس الدولة العثمانية أن ينشئ منطقة آمنة في الشمال السوري، ولكنه تراجع عن هذا القسم حتى أن عظام جده اهتزت في قبره غضباً من هذا التراجع المخجل..
ثم هدد بأنه لن يسمح لقوات الحزب الديمقراطي الكردي أن تتقدم في الأراضي السورية غربي الفرات، ولكنها دخلت وشبعت دخولاً هناك..
من هنا ملّ أردغان من مثل هذه التراجعات، فقرر أن يتقدم إلى الأمام، ولذاااااااا.
قرر تطبيع العلاقات مع إسرائيل.. وطبّعها على خير ما يرضي إسرائيل..
وقرر أن يعتذر لبوتين بسبب إسقاط الطائرة الروسية.. واعتذر بشتى أنواع الاعتذارات، حتى أنه قرر أن يحاكم الطيار التركي الذي أسقط طيارة بوتين..
والآن.. بقي عليه أن يتقدم نحو الخطوة الأشد أهمية، وهي أن يقوم بتطبيع العلاقات مع الأسد..
أنا أعترف مسبقاً بأن لهجة المنشور كانت متوترة، وقد كتبته تحت تأثير الحقيقة المؤلمة، ولذلك يستدعي مني الآن أن أنظر إلى هذه المسألة بواقعية وجدية أكثر، مع أن النتيجة لا تؤدي إلى قناعة جذرية..
علينا أن نسلم أولاً أن تركيا قدمت الكثير للشعب السوري، وهذا لا يمكن نكرانه، وعلينا أن نسلم ثانياً أن تركيا ما قبل تغييب أحمد دواوود أوغلو تختلف كثيراً عن تركيا ما بعد مجيء بن علي يلدريم.. لقد حدث انقلاب شبه جذري في المواقف السياسية للأردوغانية الجديدة..
طبعاً.. هناك من يلتمس العذر لهذا التحول في السياسية التركية، وهو عذر واقعي ومنطقي من حيث المبدأ، فالتغييرات السياسية، كما يقول الكاتب زين مصطفى، تحكمها مصالح الدول ولا تحكمها أمور إنسانية ".. وهذه مقولة تتبناها معظم الدول التي لا تريد الخراب لبلادها، بل تسعى لتأمين مصالحها وأهدافها، ولو على حساب الغير.. ويتبناها أيضاً الكثير من المفكرين والمحللين السياسيين..
تركيا في الآونة الأخيرة ، تم حصرها في زجاجة ضيقة، ولا يبقى إلا تحضير سدادة عالية الجودة لإحكام الإغلاق عليها بحيث يتم اختناقها ببطء، ولكن في وقت قريب لا بعيد..
ليس خافياً على أحد أن الهجمات السياسية والاقتصادية والعسكرية على تركيا جاءت من شتى الجهات.. أميركا سحبت بطاريات الباتريوت، بعد التدخل الروسي في سورية، وحلف الناتو أدار قفاه لتركيا بعد إسقاط الطائرة الروسية، ونسي أنها عضو في الحلف، وأن بوتين يرغي ويزبد، ويهدد ويتوعد، أما الاتحاد الأوروبي فراح ينبش لها من قبور الزمن مسألة إبادة الأرمن قبل مائة عام،
ولا ننسى أميركا أوباما وروسيا بوتين وملالي إيران والنظام السوري أجمعوا على تحريك الأكراد في الشمال السوري والجنوب التركي، حتى أن حزب العمال الكردستاني المصنّف في قائمة الإرهاب تم تسليحه مؤخراً بصواريخ مضادة للطائرات، أدت إلى إسقاط إحدى الطائرات التركية.. وداعش المصنّع عالمياً التقى من جهته مع حزب العمال الكردستاني، وبدأ نشاطهما التفجيري المكثف في أماكن تركية متعددة، سقط من جرائها المئات من المدنيين بين قتلى وجرحى..
أما إسقاط الطائرة الروسية فقد كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، فهي المقدمة والنهاية لما أشرت وأشير إليه.. فقد جاءت، فيما أرى، بترتيب وتحريض روسي، فكانت كالطعم الذي أوقع السمكة المغفلة في سنارة بوتين..
كل ذلك جرى ويجري، وعرب الخليج كطيور النعام، يدفنون رؤوسهم في ظواهرهم الصوتية الخافتة المرتجفة..
من هنا يمكن القول إن من حق تركيا أن تخشى على نفسها، وأن تحافظ على كيانها حتى ولو أدى ذلك إلى تغيير مواقفها المبدئية، وهذا ما يراه الكثير من المحللين والكتاب..
ولكن فيما يبدو أن بن علي يلدريم كان مستعجلاً جداً في تطبيق السياسة التي رسمتها تركيا الجديدة، فراح يطلق التصريحات المثيرة للجدل، ومنها تصريحات لا تحتاج إلى نوايا طيبة لتفسيرها، كقوله على سبيل المثال: أنا متأكد من عودة العلاقات مع سوريا إلى طبيعتها، هذا لا مفر منه، حتى يتسنى لنا النجاح في مكافحة الإرهاب "..
إذن تحقق ما قلتُه في منشوري المشار إليه.. وهو : بقي على أردوغان أن يتقدم نحو الخطوة الأشد أهمية، وهي تطبيع العلاقات مع الأسد "..
تصريح يلدريم الذي جاء بطريقة فجة، ولا أريد أن أقول بطريقة مذلة وانبطاحية، جعلت " أربكت السياسة التركية "، وهذا ما دفع بياسين أكتاي نائب رئيس حزب العدالة والتنمية والناطق باسم الحزب إلى القول: لا توجد مشكلة بين الشعبين التركي والسوري، وتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق مرتبط بإقامة نظام ديمقراطي في سوريا، لأن بقاء بشار الأسد في الحكم يشكل عائقاً أمام تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا ".. وذكر أكتاي أن يلدريم صحح أقواله حين أكد على أنه لا يقصد تطبيع العلاقات مع سوريا بوجود الأسد..".. وهذه التوضيحات أشبه بمن يلملم اللبن المسفوح فوق أرض مليئة بالرمل والتراب والتبن..
إن هذه الخطوات الإعلامية دفعت بخالد الخوجا سفير المعارضة ورئيس الائتلاف السابق، إلى القول: من السذاجة لجوء الأصدقاء إلى العمليات الإعلامية في ظل عجزهم عن التحرك.. "..
على أية حال.. المسالة لا تزال في نطاق التصريحات الإعلامية، ولم تصل بعد إلى التطبيق العملي على أرض الواقع، ومع ذلك فهذا لا يجعلنا نركن إلى أمل " عدم التطبيع " مع الأسد، فالمؤشرات الميدانية بعد التحول الكبير في سياسة أردوغان أدت بسرعة إلى نتائج شبه كارثية، فطريق الكاستيلو تم قطعه نهائياً، وبدأت حلب المدينة تختنق من الحصار المطبق، وربما يؤدي ذلك إلى سقوطها.. وهذا السقوط، إن تحقق، لا سمح الله، سيؤدي إلى كارثة كبيرة على الثورة السورية والشعب السوري خصوصاً، وعلى الشعب العربي وتركيا عموما.. من هنا يقول الكاتب محمد مختار الشنقيطي: لن تسقط سوريا وحدها، بل سيكون السقوط شاملاً لدول سنية محورية "..
وطالما أن تعليقات المتابعين على صفحات التواصل الاجتماعي تعكس الإحساس الشعبي بشكل او بآخر، لذلك أثبت ما قاله أحد المعلقين: بوتين والنظام الأمني لا يجيد الا مناورات القوة ولن تجدي معه المناورات السياسية والرسائل، لذلك مهما فعلت تركيا تبدو تحركاتها هزيلة ولا تعدو فقاعات سخيفة بالنسبة للشعب السوري الذي مل من أردوغان وعجزه وعدم تحركه الفعلي في كل الأوقات الذهبية".. وبالفعل فقد أضاع أردوغان فرصاً ذهبية كثيرة، أشرت إلى بعضها في نص المنشور السابق..
وأخيراً.. إذا أردنا أن نقف في وسط المسافة، فيمكن القول إن التحول التركي كبير جداً، وغامض جداً، ووراءه ما وراءه، ولا أحد قادر أن يستشرف ما سوف يجري في الغد القريب.. ولكن يمكن أن نتحدث عن احتمالين في غاية التناقض.. إما أن يؤدي هذا التحول إلى أن يقدم أردغان التحية للأسد على الطريقة الهندية المهذبة.!!.. أو أن يأتي بحل ينتج عنه رمي الأسد في مكب النفايات التاريخية.!!!..
أنت متهمٌ بتأييد "داعش"، إذا فتحت فمك لتتحدّث عن فظاعاتٍ ترتكبها مليشيات الحشد الشعبي، ضد العراقيين من أهالي مدينة الفلوجة. وعليك أن تصمت، تحاشياً لمثل هذه التهمة، إن سمعت أيضاً صيحات استغاثةٍ من لبنان، واستدرت لترى تنكيلاً عنصرياً مروّعاً باللاجئين السوريين الفارين من براميل بشار الأسد، وصواريخ روسيا، ومليشيات إيران.
أغمض عينيك وأغلق أذنيك، حيال كل ما يقال عن موت الأطفال جوعاً في داريا ومضايا ومعضمية الشام، لكي لا يظن أحدٌ بأنك تخون المقاومة، وقد اختارت المرور عبر تلك البلدات السورية في طريقها إلى تحرير القدس، أو يعتقد آخر أنك تؤجّج الصراع بنشر الأخبار عن معاناة الضحايا من التعذيب، وبتجاهل الأنباء عن معاناة الجلادين من الضجر.
لا خيار أمامك، سوى أن تبتلع لسانك، بل أن تلغي عقلك، إن أردت النجاة من احتمال تصنيفك منحازاً للحلف الأميركي الصهيوني التكفيري، وفق لغة الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وإياك حتى أن تتساءل، عن معنى أن توفر واشنطن غطاءً جوياً لأعدائها المفترضين الموالين لطهران، في حربهم على تنظيمٍ تتحالف معه، ولا كيف يمكن فهم التنسيق العسكري الروسي المزدوج مع الإسرائيليين والإيرانيين في آن معاً، وبمباركة من الأميركيين، ضد قوى المعارضة السورية المسلحة كلها، لا ضد "داعش" فحسب.
في وسعك طبعاً، وفق منطق موزعي شهادات الوطنية والخيانة، أن تكون يسارياً، إن أحببت، بشرط أن تنسى انهيار الاتحاد السوفييتي، وتنظر إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بوصفه وريث نيكيتا خروتشوف الذي وقف ضد العدوان الثلاثي على مصر، وساعدها في بناء السد العالي، عندما كانت روسيا الشيوعية تقدّم نفسها نصيرة الشعوب ضد الإمبريالية.
وبالمقدار نفسه، تستطيع أن تكون قومياً عربياً، فتستشهد بما ينسجم وموقفك من مقولات جمال عبد الناصر وميشيل عفلق وقسطنطين زريق وجورج حبش. لكن، حذار من أن تنظر إلى التدخل الإيراني في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين والسعودية، بغير كونه فعل خير من جيرانٍ طيبين، وبعيداً عن أية شكوك، قد يثيرها المغرضون حول أطماع الفرس في بلاد العرب.
لا بأس كذلك من أن تكون علمانياً وليبرالياً متشدّداً في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، ومناهضاً صلباً عنيداً لقوى الإسلام السياسي، باختلاف ألوان طيفها، وقد يكون هذا الموقف مطلوباً، لتتغنى به وكالة أنباء فارس، طالما أنه موجه ضد "داعش" و جبهة النصرة و"الإخوان المسلمين"، لا ضد مليشيات مذهبية أخرى تتبع الولي الشيعي الفقيه علي خامنئي الذي يقول بعض مقربيه إنه يلتقي المهدي المنتظر في غيبته الكبرى، كل يوم، ليتلقى إرشادات النهوض بأحوال المسلمين.
أما في حال لم تُجْدِ كل الوصايا السابقة معك نفعاً، وعجزت عن إلغاء حواسّك كلها، ورغبت، في الوقت نفسه، عن أن تكون يسارياً أو قومياً أو علمانياً ليبرالياً، على الطريقة تلك، فكن محايداً على الأقل، والحياد في ترجماته الواقعية صار يعني وضع القاتل والقتيل، على قدم المساواة، باعتبار أن الصراع يدور بين طائفتين كريمتين من شعبٍ واحد، لا بين طُغَمٍ حاكمة تتحالف مع شياطين الأرض، وغالبية مقهورة يتخلى عنها أقرب الأصدقاء.
لا تستطيع؟! إذن، واصل ترديد ما ترى وتسمع وتحس وتفهم، بلا مواربة. قل إن "داعش" رديف الحشد الشعبي. قل إن قطع رؤوس الناس يساوي خوزقتهم، وشَيّهِم على طريقة الشاورما. قل إن أولئك وهؤلاء، ومعهم ملايين الضحايا، ليسوا إلا وقوداً في مشروع استعماري ذي نواة قومية فارسية، وهدفه السيطرة على بلدان الجوار العربي، عبر التضحية بأبنائها أنفسهم، لا بأبناء الفرس. قل إن المؤامرة تشارك فيها روسيا وإسرائيل، وتباركها أميركا، ثم لا تلومن، من بعد، إلا نفسَك، حين تتجه نحوك سبابات التخوين.
أثبتت شهور طويلة من التعامل مع خططٍ لإنهاء الصراع في سورية تماسك محور روسيا - إيران - نظام بشار الأسد، وتمسّكه بشروطه للحل السياسي من جهة، وامتلاكه بديلاً هو الحل العسكري من جهة أخرى، مستنداً إلى اختلال ميزان القوى لمصلحته، وبالتالي عدم اكتراثه بالكلفة البشرية والاقتصادية والعمرانية. وفيما يشاطره المحور الآخر عدم الاكتراث هذا، فإنه يكاد يقتصر على الولايات المتحدة، وحدها عملياً، وهي متخبّطة ومُربكة، سواء بخياراتها ومصالحها أو بتناقضات لا حصر لها مع حلفاء وأصدقاء، يشعرون أحياناً كثيرة بأنها متواطئة مع روسيا أو مع إيران ومع النظام، والأسوأ أنها كلّما لوّحت وتلوّح بتنازلات للحصول على «صفقة/ اتفاق» تجد أن موسكو تأخذ تلك التنازلات على أنها مكاسب ولا تلبث أن تخدعها فلا تعطي شيئاً في المقابل. مردّ ذلك إلى أن «الدب الروسي» مدرك أنه يتساوم في سورية مع «أميركا بلا أسنان»، وما دامت كذلك فهي في نظره رهانٌ خاسرٌ لمن يعوّلون عليها ولا يحقّ لها أن تحصل على شيء. لكنها أميركا مختلفة في مكان آخر: أوروبا.
لم يكن مُستغرَباً، إذاً، أن يخفق التنسيق والتعاون بين موسكو وواشنطن، ويبدو تشدّد حلف الأطلسي في ملفّيَن (روسيا والإرهاب) وعزمه على تعزيز وجوده العسكري في شرق أوروبا بمثابة تفسير لهذا الإخفاق. ذلك أن شروط الروس لقتال مشترك ضد تنظيمي «داعش» و »جبهة النصرة» (بعد فصلٍ غير واقعي للمعارضة «المعتدلة» عنها)، كذلك شروطهم للحل السياسي، رُسمت بهدف التعجيز والضغط على الأميركيين كي يخفّفوا ضغوطهم الأطلسية. وعلى رغم أن الطرفين يبديان ارتياحاً إلى المعادلة القائمة، إلا أنهما يخوضان صراعاً حادّاً يركّز فيه «الناتو» وأميركا على استكمال منظومة الدفاع الأوروبي، أما فلاديمير بوتين فيعتبر أنه كسب أوراقاً مهمة في أوكرانيا وفرض أمراً واقعاً (تقسيمياً) لا يمكن تغييره إلا بالقوّة. لكن ما يربحه بوتين في سورية لم يساعده على التخلص من الكلفة الباهظة للعقوبات الأميركية والأوروبية ولم يمكّنه بعد من إقلاق خصومه، فالأطلسي وأميركا لا يمانعان انشغاله في الساحة السورية التي لا يريدان دخولها. وفي تقديرهما أن روسيا محكومة بثلاثة محدّدات: لا تستطيع إنهاء هذه الأزمة وحدها أو مع النظامين الإيراني والسوري، ولا تستطيع فرض حلٍّ بشروطها وحدها فهي تحتاج إلى «الشريك» الأميركي، ولا تستطيع إجراء مقايضات بين أوكرانيا وسورية حتى لو قدّمت تنازلات جوهرية.
لكن حتى أميركا - أوباما لا تعمل لتخسر في سورية، وإنْ لم تكن لديها المقوّمات ولا السياسات المساعدة لتربح. وإذا كانت ترفض الإنضواء في سياسة تقودها روسيا، بل تصرّ على المشاركة في القيادة، إلا أنها اختارت للعمل العسكري على الأرض طرقاً خاطئة أو ملتبسة حدّت من جدوى لعبها السياسي على الطاولة. وفي الأساس، لو لم تكن هناك معارضة مقاتلة لما استطاعت أميركا حتى أن تكون طرفاً في المساومة، لكنها فشلت دائماً، حتى عندما كانت تحسن تشخيص الأخطار، في اتخاذ القرارات المناسبة. إذ لم يعد أحد يصدّق أنها تساند أي معارضة للنظام، منذ البداية كانت لديها مشكلة في مناصرة الشعب السوري، على رغم الادّعاءات المعاكسة. لم تدعم حماية سلميته ثم استاءت من عسكرة ثورته، ثم فرّطت بالفرصة التي شكّلها «الجيش الحرّ»، فلم تساعده على الصمود ليكون سنداً لأي حل سياسي، ولم تشأ الاعتماد عليه في صدّ اختراقات المجموعات الإرهابية أو في محاربة تنظيم «داعش». لذلك ساهم غموضها وتردّدها وتقلّبها أولاً في تشظّي هذا الجيش إلى فصائل، وثانياً في تقوية حجة روسيا، إذ تبنّت ادّعاء نظام الأسد بأن كل مَن يحاربونه «إرهابيون» بل قاربت دخول اتفاقات تبيح لروسيا وحلفائها تصفية المعارضة.
كانت المراهنة الأميركية على تعاون مع روسيا مفهومة في بعض المراحل، خصوصاً أن الطرفين أكّدا دائماً أن «لا حلّ عسكرياً» في سورية. أما عدم المراهنة الأميركية على الشعب السوري فكان ولا يزال خطأً فادحاً أمكن واشنطن أن تلمسه على أرض الواقع، لكنها اكتفت برؤية الواقع الآخر الذي يمثّله «داعش» وتمسّكت به باعتباره ذريعة وجودها في شمال سورية، كما أنه أتاح لها استنباط قوة برّية تستخدمها في محاربة الإرهاب. وعلى رغم أن واشنطن تعرف أن الاعتماد على الأكراد يراكم مشكلة إضافية إلى تعقيدات الوضع السوري، إلا أنها أصرّت عليه، بل تجاهلت وأفشلت عمداً كل مشاريعها لتدريب وتجهيز عناصر من «الجيش الحرّ»، مفضّلة ضمّ مجموعات وصفتها بـ «العربية» إلى الوحدات الكردية، من قبيل التعمية وليس الجدّية في محاربة الإرهاب.
لكن موسكو عرّضت واشنطن لاختبارات عدة مخيّبة: إذ اتخذت أولاً من علاقة نظام الأسد مع الوحدات الكردية وسيلة للانفتاح عليها واختراقها والتدخّل في عملياتها ضد «داعش»، فضلاً عن اباء الدعم لها في طموحاتها القومية، ما أدّى إلى مفاقمة تهميش العنصر «العربي» في «قوات سورية الديموقراطية». ثم إن موسكو استغلّت، ثانياً، تلكؤ الأميركيين في التنسيق العسكري فأغارت مقاتلاتها على موقع التنف وأبادت عملياً فرقة استحوذت عليه فجأة، وأُعلن أنها تسمّى «قوات سورية الجديدة» المشكّلة من عسكريين منشقّين أُخضعوا لتدريبات أميركية - بريطانية. كما تمكّنت موسكو، ثالثاً، من اجتذاب إسرائيل إلى خطّها وإظهار انحيازها إلى نظام الأسد، ومن التنسيق مع إسرائيل لاجتذاب تركيا إلى خيارات سورية مختلفة. أخيراً وليس آخراً، نقضت موسكو تعهّدات سابقة بالنسبة إلى حلب وشرعت، حتى قبل إخفاق التنسيق مع واشنطن، في التغطية الجوية لقوات النظام والميليشيات الإيرانية خلال عملياتها لمحاصرة المناطق وقضمها.
يحصر الأميركيون اهتمامهم حالياً بمحاربة «داعش» والإعداد لمعركة الرقّة، لكن تجربة منبج تضطرّهم إلى إعادة النظر في خططهم وتفحّص القوات التي تنفّذها من دون أن تكون لديهم بدائل. ويبدو الروس والإيرانيون والأسد كأنهم تركوا رقعة «داعش» للأميركيين موقنين بأنها ستعود إليهم في نهاية المطاف. وكما في العراق، كذلك في سورية، يرفض الأميركيون الاعتراف بحقيقة التلازم الأسدي - «الداعشي» والإيراني - «الداعشي»، وعلى رغم أن واشنطن أوحت في وقت سابق بأنها مدركة أن هذا مثلثٌ مترابط الأضلاع، إلا أنها لم تتوصّل في العراق حتى الآن إلى ترجمة إضعاف «داعش» تعزيزاً للدولة العراقية وتحجيماً للهيمنة الإيرانية، بل تتواكب هزائم التنظيم مع استفحال نفوذ طهران واستشراسه، ولا مبالغة في توقّع النتيجة ذاتها للنظام وحلفائه في سورية ولن يعني ذلك بطبيعة الحال حفاظاً على الدولة ومؤسساتها.
تبدى فشل الإدارة الأميركية الحالية في ثلاثة اتجاهات على الأقل: الأول في عجزها عن فرض تصوّرها الأساسي وهو أن تتوازى المرحلة الانتقالية في الحل السياسي مع التركيز على محاربة «داعش». والثاني في مهادنتها الروس والإيرانيين ونظام الأسد، إلى حدٍّ أتاح لهم تحقيق معظم أهدافهم على حساب المعارضة والدول التي تدعمها. والثالث في كونها صادرت مواقف حلفائها وأصدقائها وقصرت المبادرات على تفاهمها مع الروس، فإذا تعطّل التفاهم تتعطّل المفاوضات، وإذا تعذّر التنسيق كما هي حاله اليوم فإن الشعب السوري هو مَن يدفع الثمن. وهذا لا يمنع الروس والإيرانيين والأسد من الانفلات والبحث عن «انتصارات»، قبل انتهاء ولاية أوباما، كي يقدّمونها على أنها «حاسمة»، وحتى لو استطاعوا الحصول عليها فإنهم لن يتوصّلوا إلى أي حسم ضد الشعب، أو إلى نهاية للصراع على النحو الذي يتصورونه. قد يتوصّلون إلى تغيير بعض الوقائع قبل أن تستخلص الإدارة الأميركية المقبلة خيارات جديدة من ركام العبث الذي خلفه أوباما.
شهدنا في الساعات الأربع و العشرين الماضية حالة من "الهياج" الفكري و "جموح" بالخيال ، في اطار تفسيرات تصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم حول عودة العلاقات مع سوريا ، و كنا في حفلة "مجون" تناول فيها الجميع المسكرات ليظهروا على حقيقتهم قبل أن يصحوا فجأة أن ما قيل عبارة "زوبعة" مفتعلة .
حتمية اعادة العلاقات مع سوريا للقضاء على الإرهاب ، هي المحور الأساسي لتصريحات "يلدريم" ، و التي انطلق معها سلسلة من التحليلات و السيناريوهات حول هذه "الحتمية" ، ووصل الأمر بالبعض لتخيل طيران الرئاسة التركي يحط في دمشق و حاملاً رجب طيب أردوغان أو يلدريم على أقل تقدير، ويتم استقباله من قبل مبعوث من الأسد ، كون الأخير أكبر من هذا الاستقبال.
في حين ترفّع موالو الأسد عن التعبير بالفرح بـ"النصر" ، و بدأوا بإعداد الشروط و تحضير قوائم الهدايا المحبذة و المحببة ، مع تفضيل أن تكون العلاقات الجديدة تحت فكرة "البوط العسكري" أي اعتراف واضح بأن المنتصر هو القاتل .
لاشك أن التغير الكبير في السياسة التركية أصاب العقول بتلبك كبير ، و جعلها بحالة لا توازن تصدر عنها أصوات لا يعرف منشأها و لا اتجاها ، و الأكيد أنها تظهر روائح كريهة تزكم الأنوف ، و تكشف ما تحتويه من سوء تدبر و جهل بالتعامل مع التطورات.
رغم وجود أصوات طالبت بالتريث ريثما يكتمل المشهد العام إلا أن الإصرار كان واضحاً بانتهاج "الهجوم"، فوحده الطريقة المثلى ليقال أننا على يقين بكل ما تخفيه الصدور و يدور في فلك الدهاليز، و لكن على الأقل نستطيع القول أن هذا التخبط أوجد شرخ جيد بين مدعي الصداقة أو الوطنية ، اذ مجرد كلام تم تصويبه جعل بوصلتهم تتغير ٣٦٠ درجة ، تتيه كما جرت العادة عن المشكلة الأساسية للسوريين ، ألا وهو الأسد كشخص و نظام ، و بدأنا بحملة على ثانويات و هجوم على الجميع ، كما حدث عندما خُلقت داعش فعلى الرغم من أنها وهم إلا أن الكثيرون يصرون على أنها الخطر الأكبر و يكاد يكون الأوحد ، مخفضين درجة الأسد لما بعد الدرجة الثالثة أو الرابعة .
التغييرات السياسية تحكمها مصالح الدول و لا تحكمها أمور إنسانية ، ففي السياسة كما تعلمنا قاعدة ذهبية لا تشذ عنها "على المرء أن يسير مع مصالحه لا مبادئه"، و "يلدريم" لن يخرج عنها ، فكلامه موجه لروسيا و ليس للأسد ، ورسالته دفينة بأن سوريا هي مهمة لهم أيضاً و أن التقريب و التقارب بينهما جائز و ممكن و لو حتى وصل الأمر للقبول بالأسد لأشهر قد تصل للستة و قد تزيد لتصل ١٨ شهراً ، و لكن في النهاية لن يكون أكثر من ذلك ، بمقابل الحصول على تطمينات كافية بأن لا كيانات و لا فيدراليات "قومية" هنا أو هناك ، وهو ما يكون التقريب الأفضل بين المصالح و المبادئ.
يخشى معارضون سوريون أن تكون تركيا «السلطان» رجب طيب أردوغان انتقلت من حقبة سياسة «صفر مشاكل»، إلى مرحلة «صفر ثوابت». ومبرر القلق لديهم أن مَنْ كان يُعتبر عرّاباً للإسلام السياسي في دول ما سُمِّي «الربيع العربي» وفتحَ أبواب تركيا لكل معارض و «إخواني»، وتعهَّدَ معركة حتى تنحية الرئيس بشار الأسد، وانحاز إلى معاناة الشعب السوري... كان حذّر مرات من «الخط الأحمر» الذي يحول دون فتح النظام أبواب حلب، وبات معتصماً بالصمت، رغم شراسة القتال حول المدينة واستهداف الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة ومحاولة محاصرتها لتركيعها.
والقلق مبرَّر لدى كثيرين من السوريين النازحين والمشرّدين في أصقاع الأرض، لأن التحوُّل في موقف أردوغان من الحرب في بلادهم، سيعني بالحد الأدنى- أي التفرُّج على «خنق» الفصائل المعارضة في حلب- إطالة أمد المعاناة والمآسي، وربما حسم المعركة هناك لمصلحة النظام. وواضح أن شكوكاً وارتياباً يثيرها اقتراح الرئيس التركي منح الجنسية للاجئين السوريين في بلاده، لن تبدّدها بسهولة مقولة دمجهم في سوق العمل التركية، فيما شريحة واسعة من مواطني «السلطان» ما زالت تحلم بالانتقال إلى دول في الاتحاد الأوروبي، بحثاً عن فرص.
يتضخّم الارتياب لأن الصمت التركي على محاولة «خنق» حلب المعارِضة، وسعي قوات النظام السوري إلى السيطرة على الشريان الوحيد لها، يأتي بعد تحوُّلات في السياسة الإقليمية لأنقرة، كان أبرز محطاتها التطبيع مع موسكو، الحامي الأول لنظام الأسد، فيما لم يفرّط أردوغان بالتهدئة مع طهران التي تعتبر بقاء الأسد في السلطة خطاً أحمر.
تركيا إذاً في حقبة أردوغان الثاني بعدما ابتلع الأول هزيمة خيار «صفر مشاكل»، لكنه ضحّى بداود أوغلو كبش فداء. انتهت أنقرة قبل محطات التطبيع الجديدة، إلى قطيعة مع روسيا وريبة مع أميركا، ومقاطعة لإسرائيل، وخصومة مع القاهرة وعداء لدمشق الأسد، وتوتر صامت مع طهران وأزمات متعاقبة مع بغداد. وبعد سعي مرير إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، بدا ان السلطان نفض يديه من حلم السوق الهائلة لدول الاتحاد، لا سيما بعد الضربات الإرهابية و «زلزال» الاستفتاء في بريطانيا الذي وضعها على عتبة مغادرة قطار القارة «العجوز». وكل ذلك بعد اختبار مرير لبلادة الإدارة الأميركية في التعامل مع جحيم حرب التهمت الأخضر واليابس لدى الجيران السوريين، وباتت تهدد بتفكيك تركيا.
الأكيد أن أردوغان الثاني يفضّل عدم النوم على حرير التطمينات الأميركية إلى مدى الدعم الذي حظيت به «قوات سورية الديموقراطية» والأكراد السوريون. فجأة باتت تركيا بين ضربات الإرهاب ومطرقة التراجع الاقتصادي وهواجس الحصار السياسي إقليمياً، وأرق تمدُّد طموحات الإدارات الذاتية الكردية. اختار السلطان التطبيع مع الجوار والحسم الأمني في الداخل، وتعاوناً استخباراتياً إقليمياً يمكّنه من إجهاض حملات حزب العمال الكردستاني.
اختار «الاعتذار» لسيد الكرملين عن إسقاط الطائرة الروسية، لا أن ينتظر فوز السيد الجديد للبيت الأبيض في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. اختار أردوغان الورقة الروسية «الرابحة»، الطاغية في تقرير مسار الحرب في سورية ومصيرها، فيما أقصى طموحات الأميركي أن يخفّف النظام السوري الضغط العسكري على الفصائل المقاتلة «المعتدلة»، لتتولى واشنطن وموسكو إضعافها!
هل يدفع السوريون ثمن قطار التطبيع التركي، وتدفع أنقرة ثمن التطبيع مع موسكو صمتاً على «الخط الأحمر» في حلب؟ «صفر ثوابت» كما يقال في تهكُّم بعضهم على التحولات الإقليمية لأنقرة، ألم ينعكس تخلياً عن المطالبة برحيل الأسد، شرطاً لنجاح المرحلة الانتقالية في دمشق؟
قد يكون التطبيع مع القاهرة المحطة المقبلة في تكيُّف أردوغان الثاني مع «واقعية» التخلي عن دور العرّاب للإسلام السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعدما انتهت تجارب عربية إلى حروب أهلية، وتطايرت شرارات الإرهاب في كل اتجاه. بل إن الذين يدافعون عن خيارات السلطان، يرون في السلوك الأميركي على مدى ولايتي باراك أوباما، ما يكفي لعدم الاتكال على قوة عظمى كانت وحيدة، قادرة على ضمان استقرار الخرائط، وباتت «ناعمة» عاجزة عن مواجهة ثارات بوتين وأحلامه.
ولكن، هل يبرر كل ذلك، الخوف من صفقة «مشبوهة» في سورية، يريد أردوغان استباقها بكسر جدران العزلة، فلا تدفع تركيا ثمن تمديد الحرب والتهجير والتشريد، ولا ارتدادات خيار التقسيم، بما تعني من جولات طويلة... بدماء السوريين؟
انتهى صوم رمضان وانتهى عيد الفطر ولا يزال ملايين السوريين صائمين، فالأمم المتحدة تقدِّر أن خمسة ملايين يواجهون خطر مجاعة مستمرة.
هذا في سورية، إحدى أخصب بقاع العالم وأجملها. عيد الفطر السادس مرَّ والسوريون إما تحت الحصار في بلادهم وإما لاجئون في الخارج، وقد تلاشى أمل الجميع في حل. هل سورية التي عرفوها وعرفناها انتهت؟ لا أريد أن أصدق هذا.
ميليشيات معارضة في قرى حول دمشق، وحلب تتقاسمها قوات الحكومة والمعارضة وتدمَّر يوماً بعد يوم. أكثر من ثلثي الأحياء القديمة لم يعد موجوداً، وسكانها بين مشرد وقتيل.
الإرهابيون من «داعش» وزعوا فيديو قبل أيام يفاخرون فيه بتدمير آثار تاريخية في تدمر. قوات النظام مدعومة من الطيران الروسي استعادت ما بقي من تدمر، لكن الأكراد في الشمال على الحدود مع تركيا ماضون في بناء إقليم خاص بهم. هل أقول إنه مستقل.
النظام لا يزال مصراً على الحل العسكري. ستون شهراً، كل واحد منها أسوأ من سابقه والنظام مصرّ على أسلوب لا يمكن أن ينجح. حتى الحكومة الجديدة بددت أي أمل بتغيير فهي ضمت 26 وزيراً، بينهم 14 وزيراً جديداً، ولكن لا سياسة جديدة إطلاقاً، بل لا وزير واحداً مما يُسمّى المعارضة «المقبولة».
الأزمة المعيشية بدأت تعصف بالموالين مع المعارضين. الجوع قبل صوم الشهر الكريم وبعده، والقوات النظامية تفرض حصاراً على 18 منطقة، والإرهابيون يحاصرون مناطق أخرى. أقرأ أن حوالى مليون سوري تحت الحصار، أي في قبضة الجوع والمرض والخوف.
منظمة العفو الدولية أصدرت تقريراً في 36 صفحة اتهم جبهة النصرة والجبهة الشامية وأحرار الشام والحركة الإسلامية بممارسة التعذيب والخطف وأيضاً القتل. المنظمة وثّقَت 24 حالة خطف ارتكبتها الجماعات المسلحة في محافظتي حلب وإدلب بين العامين 2013 و2015، وبعض الضحايا ناشط مسالم ومعهم أطفال، بالإضافة إلى أفراد من الأقليات استهدفوا لا لشيء سوى دينهم.
جماعة النصرة، وهي تنظيم إرهابي، قضت على تنظيم آخر يوصَف بأنه «معتدل» ولا أراه كذلك في ريفي حماة وإدلب كجزء من مشروعها تأسيس «إمارة» تنافس خلافة «داعش». عندما نتحدث عن الإرهاب يظل لـ «داعش» قصب السباق.
أمام «براميل» النظام و «سكاكين» الإرهابيين، لجأ ستة ملايين سوري خارج بلادهم، ومات ألوف منهم على الطريق، وشرِّد ستة ملايين سوري داخل بلادهم. وصرنا نسمع عن حي سوري في إسطنبول وعن «دولة» سورية في لبنان. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال أنه سيمنح اللاجئين السوريين جنسيات تركية، ربما أملاً بأن ينتخبوا حزبه، ثم تراجع وألغى الفكرة.
إذا كان كل ما سبق لا يكفي، فهناك 51 موظفاً كبيراً في وزارة الخارجية الأميركية وقعوا مذكرة تطالب بزيادة التدخل الأميركي العسكري في سورية، وكأن السوريين لا يكفيهم ما فيهم.
المأساة السورية تقصّر عنها تراجيديا إغريقية. لم أحلم في حياتي، أو لم أصب بكابوس يتوقع هذا الشقاء للسوريين. لم أفرق يوماً بين سوري ولبناني أو أردني أو فلسطيني، أو مصري أو أي عربي آخر. الأمل مات في قلبي، فأجلس وأحلم بأنني عائد بالسيارة من دمشق إلى بيروت، وأتوقف على الطريق لأشتري فاكهة أو خضاراً. حتى طلبي البسيط هذا أخشى ألا أحصل عليه.
كل يفسر الأمر من زاويته، عندما وعد رئيس الحكومة التركية اللاجئين السوريين بمنحهم جنسية بلاده. خصومه من الأتراك عارضوه، واعتبروها محاولة لتعزيز وضعه في الانتخابات المقبلة بإضافة السوريين للتصويت له، وشنوا حملة واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي ضد «تتريك الأجانب». والبعض من السوريين خائف لأنه اعتبرها إيحاءً من إردوغان بتخليه عن قضيتهم، وأنه ينوي التصالح مع النظام في دمشق. وهناك من اعتبرها مجرد دعاية سياسية أخرى لن يلتزم بتنفيذها.
وقبل أن تبدأ الإجراءات ويحصل أول سوري على الجنسية التركية، من الصعب الحكم عليها، وفي ظل الظروف الحالية فإن الفكرة نفسها، كما تناولتها الصحف التركية، مثيرة جدًا وتستحق النقاش. الذي فهمناه من المعلومات الأولية، أن مشروع الجنسية مقصور فقط على الميسورين ماديا، ويقدر عددهم بنحو ثلاثمائة ألف. وهو عدد يستوجب التشكيك فيه، حيث لا أتصور أن هناك ميسورين سوريين بمثل هذا الرقم، بين المليونين والسبعمائة ألف لاجئ في تركيا أو في عموم سكان سوريا، إلا إذا كان الرقم يشمل عائلاتهم، بما يعني أن المستهدفين بالتجنيس نحو ثلاثين ألف ثري سوري.
والحقيقة إن كانت مشروعا حقيقيا وليست مجرد دعاية، فإنها خطوة ذكية، وعملية، تصب في صالح الاقتصاد التركي، وإن كانت قد تسبب إشكالات سياسية، وخطوة جيدة تخفف الضغط والمعاناة على بعض الفئات من اللاجئين. ولا أتصور أن مثل هذا الرقم يغير في التوازنات الانتخابية التركية، فلن يبلغ مائة ألف «سوري تركي» مؤهل للتصويت، وذلك من دون احتساب صغار السن الذين لا يحق لهم التصويت قانونيا.
أيضًا أستبعد زمنًا أن يفيد إردوغان سياسيا، لأنه لن يتم إنجازه في وقت قريب داخل المؤسسات التركية الرسمية، بسبب الإجراءات البيروقراطية الطويلة. حتى وعد الرئيس إردوغان، الذي قطعه العام الماضي، بمنح اللاجئين السوريين رخصة العمل، لم يحصل من المليوني سوري سوى خمسة آلاف فقط. وبالطبع منح الجنسية أكثر تعقيدًا، وحساسية، وقد تمر سنوات قبل تنفيذه بمثل هذا الرقم الكبير، رغم أن عدد سكان البلاد كبير نسبيا، مقارنة بالثلاثمائة ألف الموعودين من السوريين، ولا يقارن بالمليون مهاجر الذين استقبلتهم ألمانيا، ووعدتهم بمنحهم الإقامة، التي تفضي عادة في الأخير إلى منحهم جنسية البلاد. ولو حقق إردوغان وعده فإنه سيكون عملا مهما، حتى لو انتقده البعض على أنه تمييز ضد الفقراء من اللاجئين أو مشروع لتغيير خارطة الانتخابات المحلية.
فاللاجئون للدول المجاورة مثل القدر، خارج سيطرتها وحساباتها. وهناك حكومات سعت للاستفادة من أزمة اللاجئين والمهاجرين إليها، فاعتبرت اللاجئين مشكلة لا بد من استيعابها، بدلا من حصارهم في المخيمات. والولايات المتحدة من أكثر الدول التي استفادت من المهاجرين، وكانت في بعض الحالات تخفف من قيودها، فتمنح رخص العمل، التي تكسبهم الجنسية الأميركية لاحقا، وذلك لفئات تعتقد أنهم سيفيدون اقتصادها، مثل الهنود الذين فتحت لهم أبواب الهجرة وتكاثر عددهم بشكل كبير منذ التسعينات. اليوم هم فئة مهمة في قطاعات مختلفة، يتميزون بالجد والكد والحرص على التعلم والتفوق المهني كذلك. وسبق لبريطانيا، في العقد الماضي، أن ضغطت على الحكومة العراقية لإعادة لاجئيها إلى بلادهم، إلا أنها طلبت استثناء الأطباء منهم، على اعتبار أن عندها نقص كبير في العاملين في المجال الصحي، وتوجد حاجة كبيرة لمنتسبي هذه المهنة.
محاولة تبني مئات الآلاف من اللاجئين قد يهون، لكنه لن يوقف المأساة المروعة التي يعيشها الشعب السوري، فمهما منح الأتراك والأوروبيون الجنسية والوظائف، فإن رقم اللاجئين أكبر من أن يستوعب عالميًا. نحن أمام بلد نصف شعبه أخرج قسرًا من بيوتهم، يوجد اليوم أكثر من عشرة ملايين ما بين مشرد في داخل سوريا، ولاجئ في الخارج. والسوريون ليسوا مثل الشعب الفلسطيني الذي معاناته أصعب وأعقد، حيث تم تهجيرهم بعد الاستيلاء على بيوتهم وأرضهم، قطعت عروقهم من تراب بلدهم الذي قد لا يعودون إليه. فما يحدث في سوريا نزاع على الحكم، وسينتهي في يوم ما، ومهما كانت نهايته، وبأي كيفية صارت عليها سوريا، سواء بقيت دولة واحدة أو مقسمة، فإن أهلها قادرون على العودة إليها مهما طال الزمن، كما هو حال العراقيين والأفغان والصوماليين واليمنيين وغيرهم من الشعوب التي ابتليت بالفوضى والحروب. سيعود من يعود، ويعيش في الخارج من لا يريد العودة أو لا يستطيع.
لا يزال قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منح لاجئين سوريين الجنسية التركية يثير سجالاً واسعاً بين السوريين والأتراك على السواء. والسجال المحتدم في وسائل الإعلام الافتراضي كما في الإعلام الواقعي مرده خصوصاً إلى التحول المفاجئ في الموقف حيال لاجئين منعوا طوال خمس سنوات من الحصول على صفة لاجئين، ليتحولوا في غضون أيام من ضيوف الى مرشحين محتملين للحصول على الحقوق الكاملة للمواطنة.
وتزيد التكهنات في شأن دوافع أردوغان من سوابق له في التعامل مع ملف اللاحئين وهو كان هدد قبل أِشهر بإغراق أوروبا بهم إذا لم يلبّ الإتحاد الأوروبي شروط أنقرة، وخصوصاً إلغاء تأشيرة الدخول للاتراك. وليس توقيت القرار أكثر وضوحاً في خضم تحولات كبيرة تشهدها الديبلوماسية التركية.
لم يقتنع كثيرون بالدوافع الإنسانية لأردوغان الذي سبق له أن حاول عقد صفقة العمر لتركيا على حساب معاناة النازحين، ووافق مع الأوروبيين على اتفاق لترحيل مهاجرين من أوروبا وصفته منظمات إنسانية بأنه غير إنساني. وفي انتظار استكمال اتفاق إلغاء التأشيرة للأتراك المسافرين ألى أوروبا، يبدو أن أردوغان يخطط لمكاسب داخلية هذه المرة. ففي ما يعكس قطباً مخفية في القرار، أفادت وزارة الداخلية أنها لا تزال تعمل على بلورة تفاصيل منح الجنسية التركية للسوريين المقيمين في تركيا "من ذوي الكفايات"، وانتقاء الذين لم يتورطوا في الإرهاب، بينما نسبت صحيفة "حريت" الى مسؤول تركي رفيع المستوى أن العمل في هذا المجال بدأ قبل أكثر من سنة، وقبل وقت طويل من تصريح أردوغان. وذهب هذا المسؤول إلى القول إن إعلان هذه الخطوة في هذا الوقت هو قرار سياسي.
وردود الفعل الساسية في تركيا تعكس شعوراً مماثلاً حيال القرار، فأحزاب المعارضة رأت أن هذه الخطوة تهدف الى تحقيق ميزة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وشككت في طابعها الانساني. وذهب حزب الشعب الجمهوري إلى حد القول صراحة إن أردوغان ليس مهتماً بمستقبل هؤلاء الناس، وإنما بالمكاسب السياسية التي سيجنيها من تجنيس 300 ألف سوري في الانتخابات العامة المقررة سنة 2019.
ولكن هل حقاً يريد اللاجئون السوريون الجنسية التركية؟
في حالات كثيرة، لا تعد هذه الجنسية مكسباً لهؤلاء، ولا يوفر جواز السفر التركي تسهيلات لحامله. وفي بعض المناطق التركية، يحتمل أن يشكل عبئاً.
كان الأجدر بأردوغان، بدل منح السوريين الجنسية التركية، أن يساعدهم على الحفاظ على سمعة جنسيتهم، وبذل جهود جدية لمنع إرهابيي العالم من التسلل الى سوريا وخطف ثورة أبنائها وتهديد سلام العالم بأسره.