عملية ذبح أي إنسان مهما كانت حيثياتها ودوافعها، تُعد عملاً قبيحاً ومستنكراً من الصديق قبل العدو، فكيف إذا صُورت على شريط فيدو وانتشر الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المحلي والعربي والعالمي.!!.. وكيف إذا قام إعلام النظام بخبرته ودهائه في استغلال الحادثة وإعطائها نكهة إنسانية كاذبة..!!..
هذا ما حدث في منطقة حندرات شمالي حلب حين قام عنصر من حركة نور الدين الزنكي بذبح الأسير عبد الله العيسى التابع لقوات النظام، وبعد انتشار الفيديو قام إعلام النظام بتوظيف هذه الحادثة، وذكر أن المذبوح هو طفل لا يتجاوز عمره اثني عشر عاماً، وإنه فلسطيني، وليس سورياً.. هذا الادعاء الكاذب كان كافياً ليصب الزيت على النار..
ويهدف إعلام النظام من هذه الأكاذيب الإضافية إلى ثلاثة أمور كافية لتصبح القضية عالمية بامتياز.. الأمر الأول هو التركيز على حادثة الذبح كعملية مستنكرة من قبل العالم كله، والثاني، هو أن المذبوح طفل لا يتعدى الثانية عشرة، وهو فلسطيني، وليس سورياً، وهو من أبناء مخيم حندرات، وخُطف من مستوصف في المخيم لأن والده من مقاتلي " لواء القدس "، وكان يدافع عن مخيم "حندرات" ضد " الجماعات التكفيرية "..هذا ما أذاعه ونشره إعلام النظام..
لنتمعن جيداً بالمعطيات التي قدمها إعلام النظام، فالمقتول فلسطيني وهو طفل صغير، واختطف من مستوصف المخيم بحجة أن والده ينتمي إلى لواء القدس الفلسطيني، وهذا يعني أن الطفل أُخذ بجريرة والده، ليس إلا.. كل هذه المعطيات كفيلة بان تهيّج الكرة الأرضية كلها، وهذا دليل على خبث إعلام النظام ومقدرته على توليف الحقائق الكاذبة..
وقبل أن تتبين الحقيقة، هب الإعلام في مشارق الأرض ومغاربها مستنكراً أشد الاستنكار هذه الجريمة ذات الأبعاد الثلاثة، وخرج أحد أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية ليتباكى على ذبح الطفل الفلسطيني.!!. ونسي هو ومنظمته أن " لواء القدس الفلسطيني " يقف إلى جانب النظام، ويمارس القتل الشنيع ضد شعبنا في تلك المنطقة..
طيب.. يا عضو منظمة التحرير.. أما كان عليك قبل التباكي والنواح أن تتأكد من أن المذبوح هو فلسطيني من أبناء جلدتك.!!.. أما كان عليك أن تتصل وتتأكد من هو هذا الطفل الفلسطيني الذي ذبحه المجرمون.!!. ومن هم أهله، وأين يقيمون، ولا أظن ذلك بالأمر الصعب.. ولكنك يا عضو منظمة التحرير ظهرتَ على قناة تابعة للنظام السوري، ولا بد لك أن تتحدث بما يتوافق مع أهداف النظام..
أما منظمة اليونسكو التي تعنى بحقوق الطفل، فبحسب ما اعتادت عليه، هي والمنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، فقد سارعت إلى إدانة هذه الجريمة الشنعاء بحق الطفل الفلسطيني..!!. دون أن تعي الحقيقة كاملة، وتغافلت عما يفعله النظام من سفكٍ لدماء الآلاف من الأطفال السوريين إضافة للنساء والرجال..
لقد انكسرت الزجاجة، والزجاجة كِسْرها لا يُجبرُ مطلقاً، وترسخ في أذهان الناس أن الطفل المذبوح هو فلسطيني وأنه طفل صغير.. ثم فيما بعد ظهرت حقيقة " الطفل الصغير"، فهويته العسكرية الصادرة بتاريخ 9 / 8 / 2015 موقّعة من إدارة المخابرات العامة قسم العمليات الخاصة، وتتضمن عمر صاحبها الحقيقي، وتبيّن أنه سوري الجنسية، وليس فلسطينياً، وأنه من مواليد 1997.. وهذا ما أكدته إحدى قريباته حين كتبت على صفحتها: إن الشاب الذي شغل الدنيا هو ابن خالها وهو من قرية " غور العاصي " في ريف حماة، وكان يسكن في حمص، وأنه سوري وليس فلسطينياً، وعمره تسعة عشر عاماً، وبما انه مصاب بمرض التلاسيميا فقد ظهر كأنه أصغر من ذلك بكثير..
وهكذا ظهر الجزء الهام من الحقيقة، ولكن بعد أن انكسرت الزجاجة.!!. وحقق إعلام النظام ما يريد..
ونأتي الآن إلى حيثيات الحادثة، وكيف جرت، ولماذا جرت، وما السبب في حدوثها في هذا الوقت بالذات.!!.
بعيداً عن نظرية المؤامرة أو قريباً منها، لا فرق، نشير إلى المعطيات التالية:
ــ إن حركة نور الدين زنكي هي من الفصائل المعتدلة، والتي ترضى عنها الولايات المتحدة، وبحسب بعض المصادر، فإن هذه الحركة موعودة بأسلحة نوعية من الولايات الأميركية وبريطانيا.. فهل يمكن الربط بين هذا وذاك، أي بين الوعد بالتسليح وبين ذبح الطفل ـ الرجل.!!. لا سيما أن الناطق باسم الخارجية الأميركية صرح أنه في حال ثبت ذبح الطفل من قبل حركة الزنكي، فسوف نقطع الدعم عنها.. وهكذا يتم تشويه حركة نور الدين زنكي، وينقطع الدعم العسكري الموعود..
ــ من يشاهد الفيديو، ما قبل عملية الذبح وأثناءها، ويرى الحركة المتصنعة للمشجعين على الذبح وطريقة الذبح، يشعر، بل يتأكد أن العملية مفبركة ومقصودة وتوحي بأن هناك تعمّداً واضحاً من قبل المجموعة لارتكاب الجريمة وتصويرها وإشهارها وعرضها عبر التواصل الاجتماعي، لغاية في نفس يعقوب.. وهنا أحب أن أؤكد على أن جميع الفصائل الإسلامية التي تقاتل على الأرض السورية هي مخترقة حتى العظم من مخابرات النظام وإيران وروسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي.. دعوني أكمل رجاء، ومخترقة من دول الخليج كلها ومن الأردن ومصر والجزائر، وحتى مخترقة من بلاد الواق واق.!!.. فهل أبالغ في ذلك..!!..
ــ قبل حدوث هذا الفعل بيوم أو يومين، ارتكب طيران التحالف جريمة كبرى، فقد استهدف قرية " التوخار " التابعة لمدينة منبج، وكانت الضحايا مائتي شهيد ومئات الجرحى.. أليست هذه إبادة شبه كاملة لسكان قرية صغيرة.!!. ومع ذلك لم تأخذ هذه المجزرة الشنعاء من التغطية الإعلامية سوى أقل من 1% مما أخذته جريمة حندرات.. كما أن المجازر التي يرتكبها الحشد الشعبي في المناطق العربية في العراق، ولا سيما ما حدث في الفلوجة قبل أسابيع، ليس ببعيدة عنا، فهي كغيرها، تمت تمييعها إعلامياً، ومرت كما مر غيرها من مجازر بحق الشعبين السوري والعراقي..
ــ ويبدو أن حركة نور الدين الزنكي وقعت في حيرة من أمرها، ولم تعرف كيف تتصرف، فبعد أن انكسرت الزجاجة، أعلنت القيادة العامة للحركة في بيان لها استنكارها الشديد للواقعة، وأنها أحالت القاتل إلى لجنة قضائية مستقلة للتحقيق معه..
ومع احترامنا لهذا الإجراء إلا أن الفصائل الإسلامية المعتدلة والمتشددة صدّعوا رؤوس السوريين بقضائهم الشرعي المستقل الذي لا يملك من الأمر شيئاً إلا بما توحي له بندقية قائد هذا الفصيل أو ذاك.!!!..
كما أن الناطق العسكري باسم الحركة حاول التخفيف من وقع العملية، حين قال إن العنصر الذي قام بالفعل المدان، يعاني من مشاكل نفسية بعد استشهاد أحد أشقائه، وعدد من أقاربه خلال قصف قوات الأسد على المدينة وريفها ".. وهذا يذكرنا بعمليات القتل التي تحدث في الغرب، فإذا كان الفاعل مسلماً، اتهم بالإرهاب، وإن كان إفرنجياً غير مسلم، اتهم بأنه يعاني من اضطرابات نفسية.
وما أن يخرج الناطق العسكري باسم حركة زنكي من مطب حتى يقع في مطب آخر، فحين سئل عن عدم إعلان هوية المقتول وانتمائه وعمره بعد قتله مباشرة، لتفويت الفرصة على النظام، سارع لإنزال السبب عن كاهله وإلقائه على كاهل غيره، حين قال إن كل ما كان بحوزة المقتول تم تسليمه إلى اللجنة القضائية للنظر في القضية..
وهذا في الواقع عذر أقبح من ذنب، فلو تم إعطاء محتوى هوية المقتول إلى الوسائل الإعلامية مباشرة، لربما فوت الفرصة على إعلام النظام، وما تركه يكذب هذه الكذبة الخبيثة..
والمستغرب، ولا أريد ان أقول المستقبح، أن حركة نور الدين الزنكي حين صرحت في نهاية بيانها؛ أنها تحترم مبادئ حقوق الإنسان وتلتزم بالمعاهدات والمواثيق الدولية، وهذه مسألة جيدة، تنطّعت إحدى الحركات الإسلامية المتشددة وأدانت البيان بحجة أن الإقرار باحترام مبادئ حقوق الإنسان والالتزام بالمواثيق الدولية، يعد مخالفاً للشريعة الإسلامية.!!!..
وأنا أقول لمثل هذه الفصائل المتشددة، المتبعثرة، المتخالفة، إنكم لا تعرفون من الشريعة الإسلامية سوى قطع الرؤوسن وصياح " تكبييييييير "، واتهام المسلمين بالردة وإطلاق التكفير على كل من هب ودب من الناس، وأنتم في الواقع تخالفون الشريعة في أوضح وأبسط صورها، ويكفي أن أشير إلى واحدة منها، وهي قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا.. ".. أنتم متخالفون، متشرذمون، متناحرون.. إذن أنتم تخالفون شرع الله..
لو تعودوا إلى رشدكم أيها الفصائل الإسلامية المتشددة، وتتحدوا في جيش واحد وتحت قيادة واحدة، وراية واحدة، وتبتعدوا عن التزمت والانتقائية في الأحكام، وتطرحوا عن أجسادكم المظاهر الشكلية، وتسعوا إلى " سد الذرائع " وهو واحد من الأحكام الفقهية المعروفة في الإسلام.. لو فعلتم ذلك، وتوكلتم على الله، فلسوف تنتصرون بإذن الله..
ولكن فيما يبدو أن " العودة إلى الرشد " هي أشبه بتحويل الخرافة إلى حقيقة..
لايمكن لأحد أن ينكره الدور الرائد الذي قدمته محافظة إدلب بسواعد أبنائها وتضحياتهم، ومازالت تقدم، من بطولات الأمر الذي جعلها في مواجهة غطرسة آل الأسد وحلفائه الروس في محاولة للانتقام من هذه المحافظة التي عرفت وتميزت بخضارها، فحولت هذا الخضار الدائم للون الأحمر القان بعد آلاف الشهداء ومئات المجازر بحق الشعب الأعزل الذي روى بدمائه تراب هذه الأرض المعطاء.
كانت محافظة إدلب السباقة في مواجهة نظام الأسد الأب "حافظ"، فهي التي واجهته في ساحاتها الرئيسية ورفضت استقباله، بل قام أبنائها بضربه بالطماطم والأحذية، لتتابع مسيرة نضالها ضد خلفه بشار المجرم، رغم كل التضييق الأمني والملاحقات والاعتقالات، فكانت شرارة الثورة التي انطلقت في درعا تجد صداها في إدلب، لتكون من أولى المحافظات الثائرة في وجه نظام الأسد، ومن أولى المحافظات التي تصاعدت حدة الثورة فيها بشكل كبير وانتقلت للمسلحة، ملقنة نظام الأسد دروساً في البطولة والتضحية لأجل الحرية ونصرة المستضعفين.
إدلب التي أخرجت أول الضباط لأحرار الذين رفضوا الخنوع لنظام الأسد وقتل الشعب فكانوا من أوائل المنشقين عن نظامه ليشكلوا كتائب وفصائل ألقت على عاتقها حماية المستضعفين ونصرته، فكانت البذور الأولى بتشكيل حركة الضباب الأحرار على يد المقدم المغيب حسين الهرموش، تلاها تشكيل الجيش السوري الحر على يد العقيد رياض الأسعد، وأول كتيبة عسكرية تحمل السلاح بشكل علني كانت في جبل الزاوية على يد الملازم أول علاء الحسين، وغيرها من التشكيلات وعشرات الضباط من رتب عالية وصف ضباط انشقوا عن نظام الأسد وعادوا لحضن الشعب والثورة.
وقدم ثوار إدلب أمثلة كبيرة في التضحية ونصرة المحافظات السورية فوصلت طلائهم تحرر الأرض وتنصر المستضعفين إلى الرقة ودير الزور والحسكة وريف حمص الشرقي وحلب واللاذقية وحماة وريف دمشق، قبل أن تبدأ اولى مراحل التحرير للمحافظة في 15 - 4 - 2014 بالسيطرة على معسكر الخزانات في خان شيخون والذي قطع دابر الارتال العسكرية المتوجهة شمالاً إلى إدلب وحماة، لتبدأ معارك استنزاف طويلة على طريق الموت وحول معسكرات وادي الضيف والحامدية والتي نالت حريتها في شهر كانون الأول من عام 2014 قاسمة ظهر النظام في المحافظة، بتحرير أكبر الثكنات العسكرية فيها.
وبعد أشهر قليلة بدأت المرحلة الأولى من معارك تحرير المدينة مركز المحافظة لتنال حريتنا وتنفض عنها غبار الظلم والاستعمار في شهر آذار من عام 2015، فتقهقرت جحافل قوات الأسد إلى المسطومة والقرميد ومدينة أريحا والتي تحررت بعد أقل من شهر، ثم تحرير مدينة جسر الشغور في الشهر الخامس من عام 2015، لتكلل عمليات التحرير لمطار ابو الظهور العسكري فلي الشهر التاسع مع نفس العام.
محافظة إدلب والتي باتت المحافظة الأولى المحررة بنسبة التسعين بالمائة، مع وجود بلدتي كفريا والفوعة محاصرتين شمال المحافظة، هي اليوم من أكبر الخزانات العسكرية للثوار والداعم الأكبر لجبهات القتال في حماة وحلب واللاذقية، إذ لاتخلوا معركة على جميع هذه المحاور إلا وتسيل فيها دماء من ثوار إدلب، تزف يوميا العديد من شهدائها مدافعين عن أهلهم وجيرانهم في المحافظات الأخرى.
كما غدت محافظة إدلب المقصد الرئيسي للألاف النازحين الهاربين من بطش الأسد في ريفي حلب واللاذقية وحماة وريف دمشق، حيث تغص مناطق المحافظة بعشرات الألاف من العائلات التي باتت اليوم أمام خيار مر بعد أن دمرت مناطقها ولاحقها القصف إلى محافظة إدلب، ليكون الموت هو الوحيد الذي يواجههم مع سكان المحافظة، فلا مهرب من طائرات الأسد والروس التي تعمدت استهداف المدنيين، وإجبارهم على النزوح لتفريغ المدن وتغيير الديمغرافية السكانية في مناطق عديدة وفق مخططات مدروسة ومدعومة دولياً لكسر إرادة الشعب السوري وإنهاكه بالقصف والتشريد.
يست التغيّرات الحاصلة على مستوى العلاقات في المنطقة مجرد أحداثٍ تجري مصادفة، وعلى الرغم من الخلفيات الاقتصادية التي تقف وراءها، والمحفزات السياسية التي دفعت إلى إحداثها، غير أن ذلك لا يخفي البعد الجيوسياسي للاعبين الذين ينضوون في صناعة هذه الأحداث.
روسيا وتركيا وإسرائيل أبطال المشهد الجديد في الشرق الأوسط، وأطراف اشتغلت، منذ فترة، على عملية تموضعها الشرق أوسطية، بما يتفق والمتغيرات السياسية الجارفة على المستوى الدولي، وقد انخرطت هذه الأطراف في البحث عن مقاربةٍ تستطيع من خلالها تأمين تموضعها في بيئة شرق أوسطية، تمتاز بسيولة الأحداث وتحرّك دائم للمواقع والمواقف، ما دفعها إلى اتباع سياسة التجريب واختبار السياسات وسبر الأوضاع، لمعرفة التكاليف المترتبة والإمكانات المتاحة لتطبيق الرؤى السياسية، وإمكانية تحويلها إلى إجراءاتٍ وترتيباتٍ على الأرض.
اصطدمت سياسات هذه الدول الثلاث، كما سياسات أغلب الأطراف الإقليمية مع إجراءات اللاعب الإيراني وسياساته على الأرض، فبخلاف الجميع، استثمرت طهران سياسياً وعسكرياً، من أجل تأسيس بيئة فوضوية في سورية والمنطقة، لا يستطيع غيرها إدارتها، ولا يستطيع أي لاعبٍ التعايش معها، ولا إمكانية التحرّك في وسطها، من دون العمل ضمن مجال النموذج الإيراني، بما يعنيه من اتباع أنماط سياسية وعسكرية، قائمة على الاستقطاب العميق، طائفياً وأيديولوجياً، وهو ما لم يكن ممكناً، على الرغم من وجود بعد ديني واضح في سياسات روسيا وتركيا، لكنه ظلّ يحتل درجةً متأخرةً في سياسات هذه الدول، لتعارضه مع الدور الإقليمي والدولي الذي تقدم موسكو وطهران نفسيهما من خلاله، بخلاف طهران التي لا تملك من أشكال القوة سوى جانبها الصلب، القائم على عمليات الإبادة والتهجير، لا تستطيع العمل في الساحات الإقليمية التي تقاوم نفوذها وهيمنتها، إلا ضمن سلّة خياراتٍ ضئيلةٍ، ترتكز بدرجة كبيرة على العنف.
اعتقدت إيران أنها كلّما أمعنت في تخريب مسرح العمل في الشرق الأوسط استتبّت الأمور لها، بدرجة أكبر. وانطلاقاً من هذه القاعدة، استثمرت في قوتها العسكرية والاستخبارية إلى أقصى حدود، ملأت الحيز الجغرافي في سورية والعراق بمليشيات عديدة، بعضها أساسي يقاتل ويخرّب، وبعضها رديفٌ كاستثمار مستقبلي، لنقل الفوضى إلى بقية الإقليم، حال إنهاء الترتيبات في سورية والعراق وانتصار أذرعها، وثمة دول كثيرة كانت تضعها إيران على خارطة العمل في مقبل الأيام، خصوصاً وأن البيئة الدولية، وفق قناعات الإيراني وحساباته، مؤاتية لصناعة العالم الإيراني الذي يقوده قاسم سليماني، ويسبح بحمد المرشد الأعلى علي خامنئي.
وضع هذا الأمر إيران على صدامٍ مع جميع الأطراف التي لها مصالح في سورية، أو تضعها في إطار مشاريعها الجيوسياسية، أو تعتبرها جزءاً من نطاقها الأمني، ولا شك أيضاً أن أول الأطراف المعنية كانت روسيا وتركيا، وحتى إسرائيل نفسها، فعلى الرغم من اختلاف أهداف هذه الأطراف، على مستوى المصالح والتصورات للوضع المستقبلي في سورية، إلا أنها واجهت حقيقة أن إيران صنعت عالماً من الفوضى، يستحيل على هذه الدول أن تحقّق مصالحها من خلاله، كما لا يمكنها منع تداعياته السيئة من أن تطالها بشكل أو بآخر، حتى إسرائيل التي لمحت أكثر من مرّة أنها تفضل سورية مقسّمة، وتقاطعت مع السياسة الإيرانية عند هذه النقطة، وجدت نفسها أمام مخاطر محتملة، جراء هذه السياسة، تستدعي منها تغيير مقاربتها الوضع السوري، عبر إعادة تشكيل تحالفاتها.
لم يختلف الأمر بالنسبة لروسيا كثيراً، إذ باكراً بدا التصادم يظهر مع إيران في ساحة العمل السورية، ولم يكن ممكناً مسايرة النهج الإيراني، ولا العمل في ظل الأسلوب الذي تتبعه طهران، ذلك أن حسابات موسكو تختلف، كما أن شبكة مصالحها وعلاقاتها تتناقض مع الطريقة الإيرانية. ولم يكن أمامها سوى الرضوخ والعمل تحت جناح إيران، بما يعنيه ذلك من انخراط أكبر في الحدث السوري، ومعاداة طيف واسع من الأطراف، وخصوصاً دول الخليج، والدخول تالياً في صراعاتٍ مكلفة على أكثر من صعيد، وهو ما لا يتناسب وتوجهات موسكو، ولا طاقاتها وإمكاناتها.
وبالتأكيد لم تكن تركيا بوضعية أفضل للعمل في الساحة السورية، كما أن التداعيات بدأت تمسّها بدرجة خطيرة، وهو ما دفعها إلى إعادة حساباتها، وتجاوز ما كان يعتبره الرئيس رجب طيب أردوغان تنازلاً، أو مسّاً بالكرامة التركية، خصوصاً أن إيران استفادت كثيراً من توتّر العلاقات التركية الروسية، عبر محاولتها تغيير الأهداف الروسية في سورية، وتحويلها إلى سياساتٍ تصب في مصلحتها، وتحييد الدور التركي نهائياً.
ثمّة مؤشرات عدة على أن المرحلة السورية المقبلة تنطوي على متغيراتٍ كثيرة، منها وفي مقدمتها ضبط الدور الإيراني التخريبي، وتحجيم مفاعيله، بعد أن بلغ ذروته في الخراب والدمار، ولا شك أن ذلك سيتم بتقليم أظافر أذرع إيران عبر رفع الدعم الروسي عنها، وتحديد مساحة حراكها، خصوصاً بعد أن انكشف مقدار ضعفها وقدرتها بدون الدعم الروسي. ولا شك أن ذلك مصلحة إيرانية، فإيران التي استنزفت في سورية والعراق، ولم تحقق ما تشتهيه من قضاءٍ على المكونات المعارضة لها ستكون رابحة، إذا أجبرت على عقلنة سياساتها، والخروج من هذا المأزق الذي وضعت نفسها فيه، ولو بذريعة عدم قدرتها على معاندة القوى الكبرى الإقليمية والدولية.
مثل كل الخرافات التي بنتها روسيا، في عهد القيصر فلاديمير بوتين، عن حجم تأثيرها ومدى فعاليتها، لا تخرج القضية السورية عن محيط عالم الوهم المؤسس على دعاية سياسية تنطوي على بعض أشباه حقائق وتكمل بقية بنيتها بسردية رغبوية، لا تختلف عن سرديات الخرافة سوى ان الأخيرة تدّعي أنها جرت في عالم مضى في حين أن سردية موسكو تحكي عن عالم سيأتي تحدّد روسيا ليس ملامحه وحسب بل شخوصه وميادينه وطبيعة النقلات التي ستحصل على رقعته.
نحن نستطيع إزاحة بشار الأسد، لكننا يستحيل ان نفكر في إجراء هذا الأمر في الوقت الحاضر، وقد يستغرق ذلك سنوات. والسؤال: لمن هذه الرسالة؟ بالنسبة الى الأطراف الخصوم لروسيا يتوجب عليهم أن يأخذوا الشطر الأول ويبنوا سياساتهم تجاه روسيا فوق هذا المدماك، وبناءً عليه يجري تأسيس مناخ تفاوضي بما فيه من أوراق تفاوض للأخذ والعطاء مع موسكو وتحديد العناصر التي يجب التنازل عنها مقابل هذا الطرح ونوع المكافأة التي ستحصل عليها موسكو بالإضافة إلى إعادة التفكير بصياغة انماط الصراع في سورية وشكل التحالفات. اما الشطر الثاني من التصريح فلا يحمل أهمية كبرى وهو ليس أكثر من لزوميات التفاوض، او حتى مجرد لازمة تقال في مثل هذه المناسبات.
بالنسبة الى حلفاء نظام الأسد، فإن الكلام الروسي واضح ولا لبس فيه: لن نتخلى عن بشار الأسد لسنوات مقبلة، وعلى ذلك فإن عليهم الآن أن يعيدوا ترتيباتهم اللوجستية والنفسية حيث لم يعودوا محكومين بأفق زمني قصير يثبّتون خلاله أوضاعهم وإلا فإن السياق سوف يتغير والأمور ستأخذ منحنيات مختلفة. إذاً كل الجهود يجب ان تكرّس من اجل تعطيل عملية السلام الجارية والاستعداد للحرب الطويلة تحت مظلّة الحماية الروسية، الشطر الأول لن يعني كثيراً هنا، ليس أكثر من محاولة للتغطية على الصدمة التي يتضمنها الجزء الآخر من التصريح.
يقع هذا النمط من التصريحات السياسية بين التذاكي السياسي الذي يحاول جر الأطراف الأخرى إلى فخاخ تفاوض غير ملزم، وبين الذهاب بعيون مفتوحة إلى الدخول في مأزق الحرب السورية التي طالما تحاول روسيا إدارتها عن بعد وتتجنب الغرق في مستنقعها، وبدل أن تجني روسيا ثمار هذا التذاكي من طرفي الأزمة، وفق تقديرات خبرائها، فإنها تضع نفسها بين مطرقة الخصوم الذين سيتعاملون بجدية مع كلامها بأنها تستطيع تنحية بشار الأسد وأن كل مجزرة سيرتكبها بعد هذا التاريخ وكل خراب سيحصل في سورية ستكون شريكة فيه لأنها كانت تستطيع وقفه ولم تفعل، وبين سندان حلفاء النظام الذين سيطالبونها بالوفاء والتزامها بضمان بقاء الأسد لسنوات وسيحثونها على تقديم ترجمة فعلية على الأرض، ذلك ان استمراره يتطلب مساعدته في السيطرة على كل سورية وفقما يرغب الأسد ويريد.
لكن دع عنك ما تسوّقه روسيا عن نفسها وهو يدخل في تقنيات بناء السردية أكثر من كونه توصيفاً حقيقياً لحجم التأثير والفعالية. هل تملك موسكو بالفعل مفاتيح التحكم بماكينة الحرب السورية وتستطيع تالياً وقف آليات تشغيلها والسيطرة على مفاصلها؟ الوقائع تقول إن رقعة الشطرنج السورية أعقد من قدرة لاعب أو إثنين على التحكم بنقلاتها، وإن أكثر اللاعبين تأثيراً لا يستطيع تحريك أكثر من عدد محدود من الأحجار، وأن اللعبة لو كانت بالسهولة التي تدعيها روسيا لانتهت قبل حضورها وإنخراطها بمجرياتها، ثم ان التأثير والفعالية الروسية تنحصران ضمن قطاعات محدّدة ولا تتجاوزانها، تماماً مثل بقية اللاعبين الذين لديهم قوة وفعالية في قطاع معين ويفتقدون أي تأثير في قطاعات ومناطق أخرى.
الكلام الروسي يثبت وجود إشكالية لم يلتقطها الخبراء الروس جيداً وأوهموا إدارتهم بها، وهي حجم الفوضى التي تنطوي عليها الحرب السورية، وقد وصل إلى حد أن من صنع خريطة الفوضى في سورية لم يعد يعرف مسالك الطرق فيها، حتى بشار الأسد نفسه الذي يتحدث الروس عن إزاحته لا يملك هو ورجاله السيطرة المطلقة على العاصمة دمشق، حيث وضمن مساحة لا تتعدى عدداً محدوداً من الكيلومترات بجانب قصره تتوزع السيطرة بين أفرع مخابراتية سورية عدة، وميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية وأحزاب ومتطوعين من البلاد العربية، وكل منطقة لديها إدارة وخطط وأوامر منفصلة عن الأخرى، وفوق هذا وذاك، لديها أهداف وأولويات ليست واحدة، يجمعها فقط عدو مشترك، لكنها تختلف في كل شيء، وهي ليست ملتزمة بالحل السياسي في سورية، كما انها استطاعت وبفضل الفترة الزمنية التي قضتها في مناطق تواجدها ونفوذها تشكيل بيئات حاضنة وموالية لها وتجذّرت هي نفسها في الصراع وغدت جزءاً من نسيجه.
هل تستند روسيا إلى واقعة مفاجأة بشار الأسد بدخول وزير دفاعها سيرغي شويغو قصره من دون علمه؟ عليهأ ان تتذكر ان قاسم سليماني دخل في التاريخ نفسه إلى حلب وخرج منها من دون معرفة الأسد أيضاً، كما ان الأسد نفسه لا يعلم شيئاً عن القادة الأفغان والباكستانيين الذين يحكمون قطاعات واسعة من دمشق، فذلك ليس مؤشراً كافياً عن مدى تأثير الروس وسطوتهم في سورية.
الواقع أن روسيا ربما تستطيع بعد سنوات من الآن ان يكون لها حجم التأثير والفعالية الذي تدّعيه، لكن شرط أن تكثف انخراطها أكبر بكثير مما عليه الآن، وبعد ان تعمل على تفكيك خريطة الفوضى الهائلة في الميدان السوري، وبعد أن تتكبد عناء وجهداً لا يستطيع أحد تقديرهما، أما في هذه اللحظة فإن خبراءها لا يستطيعون التحكّم بأكثر من بوابات مطار حميميم.
يرى محللون دوليون أن القوات الإيرانية في سورية وصلت إلى وضع شبيه بوضع القوات السوفياتية في أفغانستان في العام 1985، عندما عجز السوفيات عن تحقيق انتصار حاسم على «المجاهدين» الأفغان، مع فارق مهم، هو أن الإيرانيين لا يملكون خيار الانسحاب مثلما فعل السوفيات عندما بدأت خسائرهم تتصاعد وموازنتهم تتقلص.
ولهذا، يرى المحللون أنفسهم أن المنحى الحالي للهجوم الذي تشنه إيران وتوابعها في منطقة حلب سيستمر في التصاعد مستفيداً من الدعم الجوي الروسي، وسيشمل تطهيراً مذهبياً يؤدي إلى تدفق كبير وجديد للاجئين إلى كل من تركيا التي تم «تحييدها»، وإلى لبنان والأردن.
ومع أن هذا التحليل يحاول تبرير سعي واشنطن الحثيث للتوصل إلى اتفاق مع موسكو، باعتبار أنها تمسك بورقة التفوق الجوي، على «خريطة طريق» للحل قبيل انتهاء ولاية أوباما بأشهر، فإنه يصيب في توقعه استمرار معركة حلب وتصاعدها، لأن هدف الوجود الإيراني في سورية في المقام الأول ليس ضمان استمرار نظامها، بقدر ما هو حماية «حزب الله» في لبنان، ولأن انسحاب طهران سيعني فشلاً تاماً لمشروع فرض نفسها طرفاً مهيمناً في المعادلة الإقليمية، والذي بدأ مع وصول «آيات الله» إلى السلطة في 1979.
فالاتفاق الذي تحدث جون كيري عن التوصل إليه مع نظيره لافروف يندرج في مصاف التمنيات، مستنداً إلى مبدأ «تبادل الخدمات»، من دون أي ضمان بالتزام روسيا تنفيذ الجزء المتعلق بها، تماماً مثلما حصل في توافقات سابقة (بيانا جنيف 1 و2)، سرعان ما خرج الروس بتفسيرات لها تتباين مع التفسير الأميركي، ولم يأخذوا منها سوى الجزء الذي يصب في مصلحتهم ومصلحة حلفائهم السوريين والإيرانيين.
وجاء كلام كيري عن الاتفاق كأنه صادر عن مسؤول منظمة للإغاثة، ليقتصر على «تعزيز وقف الأعمال القتالية» و «تحسين إيصال الطعام والدواء والاحتياجات الإنسانية»، بالإضافة إلى «تنسيق العمل العسكري المشترك ضد جبهة النصرة وداعش».
وفي حين قدم الجانب الأميركي تنازلاً عملياً بإعلان التنسيق مع الروس في الحرب على «النصرة»، بعدما كان يتمنع عن ذلك بسبب تداخل مواقعها مع مواقع المعارضة المعتدلة، بقي الحديث عن معركة حلب في مجال «ضرورة إنهاء محاولات حصار المدينة»، فيما هي باتت محاصرة بالفعل.
وهذا ما دفع الأوروبيين إلى محاولة لجم الاندفاعة الأميركية نحو «الحل الروسي» الذي يرفض أي نقاش حول مصير الأسد ونظامه ويمنح موسكو هامشاً واسعاً في تحديد مسار التطورات على الأرض.
فإدارة أوباما التي تسلم الراية قريباً إلى رئيس جديد، لن تقدم على أي تغيير مفاجئ في استراتيجية الاكتفاء بالحرب الجوية على «داعش» وتجنب أي ضغط على الجيش النظامي وطيرانه أو على حلفائه. والواقع أن الأميركيين ميالون كثيراً منذ البداية إلى الأخذ بحجج الروس التي تدعي أن رحيل الأسد سيعني انهيار ما تبقى من مؤسسات في سورية، وهي حجج تتقاسمها معهم إسرائيل التي لا تعارض استنساخ إيران لتجربتها في جنوب لبنان، عندما احتلت شريطاً حدودياً وحولته منطقة عازلة لحماية مناطقها الشمالية، لأن سجل النظام السوري في الجولان يطمئنها.
فالهدف الأساس للقوات الإيرانية حالياً إقامة شريط مماثل في سورية يشمل حلب بالطبع، ويحيط بلبنان من الشرق والشمال، تكون وظيفته، بالإضافة إلى منح العلويين «دويلة» أو «حكماً ذاتياً»، حماية «دولة حزب الله» القائمة في لبنان من «خطر الاجتياح السني». أما الروس فيرون في قيام هذا الشريط ضمانة لبقاء قواعدهم العسكرية، القديمة والمستحدثة، في سورية، فيما الأميركيون منهمكون بإقناع حلفائهم بأهمية أن يتلاءم توسيع الحرب على الإرهاب مع قائمة المطالب الروسية المرشحة للازدياد.
بعد ساعات على تأكيد الاتفاق الأمريكي – الروسي ، عبر نشر المسودة و تداولها ، خرجت جبهة النصرة عن صمتها معلنةً أن استهدافها هو استهداف للثورة السورية، داعية لموقف "تاريخي" لفصائل الثوار اتجاهها، الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة ، و أكثرها إلحاحاً لماذا يطلب من الجميع التوحد لنصرة الثورة السورية ، بينما ترفض "النصرة" التنازل و التماهي مع سواد الشعب السوري !؟
لعل الإجابة على هذا التساؤل بحاجة لبعض التوضيحات سواءً من جهات طبيعة الاتفاق الأمريكي – الروسي ، أم من جهة ما تم تداوله عندما كان الاتفاق عبارة عن تسريبات التي فُسرت كجس نبض.
الاتفاق الذي كان معادياً تماماً للثورة السورية ،منح قوات الأسد صفة المشارك في العمليات العسكرية المشتركة ضد جبهة النصرة و تنظيم الدولة ، مما يعني إخراجه من دائرة الأعداء إلى دائرة الحلفاء ، في حين أكدت المسودة ضرورة "هزيمة" جبهة النصرة و تنظيم الدولة ، من خلال التنسيق الكامل بين الطرفين ، و تركز المسودة على محاربة النصرة والتي ذُكرت في أكثر من سبع فقرات بينما ذُكر تنظيم الدولة في فقرتين فقط، في حين لم يتم ذكر حماية المعارضة السورية إلا في بند واحد .
أما رد الفعل على التسريبات فكان أهمها من أبرز منظري الفكر السلفي الجهادي أبو محمد المقدسي الذي قال في إحدى تغريداته أن " مسمى(جبهة النصرة)أو غيره إن صار عائقا أو سببا لاستهداف أهله فتغييره أو التنازل عنه ليس تنازلا عن قرآن وفك الارتباط ليس ردة عند الحاجة إليه"
في حين بيّن الباحث الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي ، في سلسلة تغريدات تحت عنوان "أدركت" ، منهجاً يجب اتباعه في الوقت الراهن بقوله :”وأدركت الآن أن ( المواجهه) مع ( النظام الدولي) غير متكافئه وتقود إلى الهزيمه . وأن ( التعايش) معه و( التفاوض) معه ربما هو ( المخرج) الوحيد”
إلا أن الأمور لم تسر وفق تسلسل اقترحه أشخاص أرادوا العمل بسياسة شرعية تمكنهم من تجاوز هذه العاصفة ، التي عتت و قويت بالاستفادة من اجرام داعش ، فخرجت اليوم جبهة النصرة برد عبر الناطق باسمها "أبو عمار الشامي" الذي بيّن أن الهدف من استهداف النصرة هو استهداف الثورة السورية ، و أن إنهائها لن يرضي أمريكا بعده سوى الإذعان لحل سياسي يرجح في كفة الأسد وحلفائه.
رسائل أبو عمار حملت في طياتها طلب مؤازرة و تقديم الدعم من الفصائل و عدم " الخذلان لإخوانكم وإضعاف لقوتكم" ، و لكن دائماً ما تطالب النصرة من الجميع المساندة و الدفاع عنها أمام العالم بأسره ، و حتى في المعارك ، دون أن تلزم نفسها بأي شيء أو تقبل أو ترضخ للمطالب العديدة سواء أكانت شعبية أو فصائلية أو شرعية و ليس بخافٍ على أحد و حتى دولية ، لخلع ثوب القاعدة ، والاندماج مع سواد الشعب السوري ، الذي قررت الدفاع عنه ضد نظامه "الفاجر".
كثيراً هم من سيخرجون ليس دفاعاً عن النصرة ، و إنما للهجوم على شخصي أو المكان الذي سينشر فيه هذا الكلام ، دون أن يكلفوا أنفسهم و لو للحظة أن يتساءلوا متى انتهجت النصرة مساراً يرضي الغالبية العظمى من الشعب السوري ، و قررت تغليب مصلحته على مصلحة التنظيم الذي يملك خطط و مشاريع لم يتمكن من تحقيقها على مر التاريخ .
على السطح يبدو التحالف بين بشار وتنظيم «داعش» الإرهابي غير محتمل وحتى غريباً، فالطرفان ليسا فقط خصمين ولكن الاختلاف بين ماهية كل منهما قوي.. على الرغم من استخدام البعض لمصطلح «الدولة الإسلامية» الذي يطلقه البعض على التنظيم، فإن «داعش» ليس بالمرة دولة، بل هو في نظر الجميع منظمة إرهابية وحتى بربرية بسبب ممارستها للذبح على شاشات التلفزيون، وبسبب شعور عناصر التنظيم بالفخر بسبب هذه البربرية.. ومع أن ممارسات بشار في قتل شعبه تُثير الاشمئزاز أيضاً، إلا أن سوريا ليست فقط دولة معترف بها، ومع أن مقعد سوريا في الجامعة العربية لا يزال شاغراً حتى تتغير الحكومة، بل إن هذه الحكومة لا تزال ممثلة في الأمم المتحدة، وتتمتع بحلفاء أقوياء إقليمياً ودولياً مثل إيران وروسيا.
علاقة التحالف في هذا المقال هي غير صريحة أو علنية ولكنها قوية، ونسميها في العلوم السياسية Freind Enemy أو الأصدقاء الأعداء، والتعبير الإنجليزي الدارج والأكثر شيوعاً هو Strange Bedfellowrs أو رفاق الفراش الغرباء، ويتفق التعبيران على أن رفاق الفراش هؤلاء هم فعلاً أعداء، ولكن في النهاية تقوم أعمالهم، عن عمد أو عن غير عمد، بتقوية ما يبدو الخصم والذي ينبغي القضاء عليه، هي ظاهرة عامة في العلاقات الدولية وحتى الشخصية.
ولنوضح هذه الظاهرة بتطبيقها على حالة «داعش» وبشار، عندما بدأت الاحتجاجات السورية ضد نظام بشر ثم تطورت إلى حرب أهلية منذ نحو خمس سنوات، توقع غالبية المحللين بقرب سقوط النظام السوري، مثله مثل سقوط بن علي في تونس أو مبارك في مصر أو القذافي في ليبيا أو صالح في اليمن، وحتى مع استمرار هذه الحرب لتكون أكثر دموية، فإننا نحن المحللين لم نغير من توقعاتنا واعتقدنا أن سقوط الأسد أو هربه خارج البلاد كما فعل بن علي ما هو إلا موضوع وقت.
في عامه الخامس من هذه الحرب الدامية، لا يبقى الأسد فقط في مكانه، بل إن مقاومة نظامه بدأت تقل، خاصة خارجياً، هناك بالطبع التدخل الإيراني والروسي على الأرض، فإذا لم يكن هناك جنود «حزب الله» وكذلك بعض قوى الجيش الثوري الإيراني لما استطاع بشار المقاومة كل هذه المدة، ثم جاء الدعم الروسي المباشر أيضاً بالسلاح والمستشارين ليس فقط لضمان بقاء الأسد، ولكن أيضاً لدعمه دولياً بحيث إنه الآن في اجتماعات جنيف أو غيرها ليس مستعداً لتقديم أية تنازلات.
ما يحدث حالياً هو أن جبهة المقاومة الدولية ضد بشار بدأت تضعف وحتى تتفتت، وآخر مظاهرها هو الموقف التركي، حتى قبل محاولة الانقلاب في أول الأسبوع، وتصريح رئيس الوزراء بما يعني عدم اشتراط مغادرة بشار الحكم فوراً للوصول إلى حل للأزمة السورية، أعتقد أن فرنسا، حتى قبل مذبحة نيس، قد تكون هي الأخرى في الطريق، بقيت الولايات المتحدة، وهذا يعتمد على نتائج زيارة كيري الحالية إلى موسكو.
نظرية موسكو التي تلقى قبولاً أكثر وأكثر هي أن الخطر الأكبر في سوريا ليس نظام بشار ولكن وجود «داعش» واستمراره، بمعنى آخر أن الأولوية الكبرى هي مواجهة داعش وهزيمته دون تفتت قوى المقاومة بين محاربة بشار ومحاربة «داعش»، بل تذهب موسكو أكثر من ذلك وتقول إنه لمواجهة «داعش» يجب التحالف حتى مع الشيطان، وأنه على الأرض السورية هناك احتياج كبير إلى قوى النظام السوري وجيشه فعلياً وقتالياً، وهكذا يتم رد الاعتبار لنظام بشار بل محاولة العمل معه كحليف في المعركة ضد تنظيم «داعش» الإرهابي البربري.
صراحة بالنسبة إلى نظام مثل بشار (أو ترامب واليمين الأميركي والأوروبي عامة)، لو لم يكن هناك «داعش» لتبرير سياساتهم وتوجهاتهم التي لا تقل سوءاً أحياناً عن «داعش»، لحاولوا بالوسائل المختلفة قيام «داعش» ومثيلاتها، فهل سيستطيع المستقبل القريب كشف الستار عن تعاون ما على الأرض بين نظام بشار و«داعش»، بمعنى أن غرباء الفراش تجمعهم بعض المصالح المشتركة؟
منذ قيام ثورة الملالي والعالم لم يهدأ ولم تمضِ سنة على المنطقة بسلام دون أن تكون فيها حرب ساخنة، أو باردة، بين الملالي وكل من يجاورهم من مختلف الأطراف والأطياف التي لا تنتهج نهج طهران، ولا تقبل تدخلاتها، وثورتها، ولا توجد لديها قناعة بتصديرها للخارج.
إن تأجيج الحروب والصراعات المذهبية، والتدخل في شؤون الغير، وتمويل المليشيات الإرهابية، أعمال انخرط فيها النظام الإيراني لزمن مديد، والسؤال هنا: ماذا لو كانت إيران دولة سلام؟ ماذا لو راهنت على خيار التعايش والتعاون، وابتعدت عن كل أشكال التدخل والتغول ومحاولات التمدد الإقليمي على حساب الآخرين؟ دعونا نتخيل شكل المنطقة من دون مشاكل إيران، التي أدخلت أنفها في كل شاردة وواردة، ولم تدع بلداً قريباً منها ولا بعيداً، إلا وسعت فيه بالخراب والدمار.
إن الاستقرار والسلام الذي تطمح إليه المنطقة غير ممكن مع إيران في ظل وجود أجندات خفية وأيدٍ عابثة في حياة شعوب ودول المنطقة، رغبة في السيطرة وفرض نفوذ طهران، وسعياً لتغيير كل مفردات معادلة النظام الإقليمي بما يتماشى مع معتقدات الملالي وطموحاتهم.
وبالأمس القريب انفضت وانقضت فعاليات مؤتمر المعارضة الإيرانية الأخير بمشاركة أكثر من 100 ألف من أبناء الجاليات الإيرانية المنتشرة في مختلف دول العالم، الذين طالبوا فيها ورددوا بصوت واحد وواضح أمام الملأ «الشعب يريد إسقاط النظام».. وأي نظام كانوا يطالبون بإسقاطه؟ نظام «ولاية الفقيه»، بما هو، ومن حيث هو، جملة وتفصيلاً.
وبعبارة أخرى، فهذه السلطة المذهبية التي حكمت إيران وجرّت البلاد والعباد فيها نحو وحْل الصراعات والنزاعات ودعم الإرهاب، مع ممارسات أخرى لا تغتفر في حق الشعب الإيراني نفسه وشعوب الدول المجاورة بغية الوصول لأهداف استيطانية توسعية، لم تكترث ولم تبالِ بحق الجيرة، ولا حتى بالحقوق الإنسانية الأساسية، وأولها الحق في الحياة والأمان والعيش الكريم.
بل على العكس فنظام الملالي منذ قيام الثورة في عام 1979 وهو يرتكب ممارسات بالغة القسوة بحق الشعب الإيراني، مع نزعة ومسحة طائفية طاغية ومحاولة تشييع كل الشعب، طوعاً أو كرهاً، وتطهير طائفي في كثير من المناطق من السُّنة، بالجبر والإكراه. والحجم السكاني للسُّنة في إيران، حسب الإحصاءات المعلنة، أنهم يشكلون 10% من السكان، إلا أن المعلومات غير المعلنة، والمرجّحة، تؤكد أنهم يشكلون ثلث حجم السكان البالغ عددهم أكثر من 70 مليون نسمة، متوزعين بين التركمان والبلوش والأكراد، والعرب في الأحواز العربية.
ارتكب نظام الملالي الكثير من الانتهاكات بحق الإيرانيين من أبناء المجموعات العرقية والمذهبية الأخرى، فبدأ بالتنكيل بهم والسعي لتغيير ديموغرافية أراضيهم، بما يتماشى مع أهوائه، فسجلت وتيرة الإعدامات أرقاماً قياسية بحق كل من يخالفهم في الأحوازيين مثلاً بتهم واهية غير منطلية على أحد، ودون استيفاء أي شروط للمحاكمات القانونية أو المحاكم المستقلة.
وبدلاً من ذلك تتفشى الاعتقالات العشوائية ومحاولات فرض الثقافة الفارسية على الفئات الأخرى، واستقدام مئات آلاف المستوطنين من العمق الفارسي، وبناء المستوطنات لهم، وتوفير فرص العمل، وكل مستلزمات الحياة الكريمة، وفي المقابل شد الوثاق وخنق الرقاب ضد كل من يختلف عن مذهبهم. هذا عدا التدمير المتعمد للبيئة، عبر تجفيف وحرف مسار الأنهر الأحوازية، ما تسبب في العواصف الترابية في الفترة الأخيرة، وانتشار الأمراض المستعصية، مثل السرطان بكل أنواعه. وكذلك اغتصاب الأراضي الزراعية وتوزيعها على المستوطنين الفرس، وبناء مشاريع استيطانية إحلالية عليها، ونشر المخدرات بين الشباب الأحوازي، وحرمان الأحوازيين من فرص العمل.
وعلى صعيد نشاطها العالمي فقد نجحت في نشر التطرف الديني، وإشعال نار الطائفية في بعض الدول المحيطة بها، وتأجيج الصراع المذهبي، واحتضان الإرهابيين ودعمهم ومدهم بالسلاح والعتاد واستخدامهم كوكلاء حرب بدلاً عنها.
ولو جاء نظام عصري متطور يواكب العالم الحديث ويسعى للبناء والتعمير وتحقيق الحضارة، فدون أدنى شك، سيكون المستقبل أفضل لشعوب المنطقة والعالم، وسيضمن ذلك استقراراً حقيقياً وتنمية مستمرة وتحقيق نهضة مستدامة في جميع القطاعات. والعراق بلا شك سيهدأ ولن تجد الجماعات الإرهابية داعماً أو ممولاً للخراب والإرهاب، وستنتهي في الواقع كل مظاهر الصراع والنزاع في بلاد الرافدين. كما أن سوريا سيكون مصيرها أيضاً إلى الاستقرار بعد حرب أهلية طال أمدها وتجاوزت عامها الخامس بسبب دعم الملالي للإرهاب فيها، ومحاولة تأجيج الفتن لأغراض مذهبية عنصرية، وتحقيق أهداف توسعية على حساب الطرف الآخر راح ضحيتها أكثر من 11٪ من الشعب السوري، فضلاً عن إصابة الملايين ونزوح 45٪ من عدد سكان سوريا بحثاً عن مأوى أو ملجأ آمن.
وحتى الوضع في اليمن لم يسلم من عبث الفرس، حيث زرعوا الفتنة ودعموا رؤوس الإرهاب «الحوثيين» وعاثوا فيها فساداً إلى أن حولوها إلى جحيم، ولولا تدخل التحالف الحازم الحاسم لكانت البلاد الآن في عداد الخراب، كما آلت إليه حال بعض البلدان الأخرى التي ابتُليت بالتدخلات الإيرانية، وشرور الصراعات والحروب الأهلية.
ليس من حق سكان قرية توخار و غيرها من القرى و البلدات في منطقة "منبج" أن يكون لهم صوت أو يكونوا موجودين على الساحة العالمية و لا حتى كأرقام قتلى في ظل أتون الحرب على الشعب السوري ، فهم من أؤلائك المحظور على الجميع التحدث عنهم ، حيث الحكاية تتلخص بأن "داعش موجودة فالبقية منهية ".
من الصعب أن تقنع العالم أن في قرية صغيرة مثل "توخار" يوجد فيها آلاف قليلة من البشر ، تحولوا إلى هدف متكرر و متتابع من قبل التحالف الدولي ، و باتوا جزء من الحل الاستئصالي الذي ينتهجه العالم للقضاء على داعش ، و من المستحيل أن تفكر لو للحظة أن "توخار" نفسها فقدت أكثر من ١٠٠ شهيد خلال أقل من ٤٨ ساعة ، و أن الحصيلة عبارة عن رقم يخفي خلفه عشرات الجرحى سيكون القبر أقرب إليهم من الولوج في باب مشفى أو حانة لمنع الشاش و بعض المطهر.
رغم هذا المشهد يجب أن لا تتكلم عن توخار أو غيرها ، ولا يمكن أن تتفوه بحرف واحد عن ما يحدث ، فالذي يتقدم علي الأرض وباء أصفر ينتشر بدعم من صانعيه لزرعه بغية استغلاله في المستقبل قبل أن يقوموا بعلاجه ، و في السماء قتلة يجولون باحثين عن أي شيء يتحرك أو أي أرقام تنقل لهم من الأرض عن مناطق أياً كانت مدن أو قرى ، مباني أم أزقة ، بشر أم حجر ، المهم أن الرقم الممنوح هو واجب الاستهداف .
لا يجوز أن تقترب من تلك المنطقة حتى لو شاهدت أن من يقتل هو طفل أو الستر الذي انكشف عن أختك أو أمك أو ابنة بلدك أو أمة تنتمي لدينك ، وبطيبعة الحال لن يكون الأمر متاحاً لرجل فتيٍ كان أم شاب أو آخر وصل لمرحلة الرجولة أو طالته الكهولة ، كل هؤلاء عبارة عن مجرمين و قتلة و يستحقون العقاب ، فهم في الأرض الحرام التي يأتي من يجعلها حلال خالصاً و مخلصة من أناسها و حجرها .
يسألونك عن داعش قل هي علاج كما هي داء ، ويسألونك عن آلية التجنيد فقل الموت القادم من كل حدب و صوب ، ويقولون لك أن داعشي آثم واجب القتل ، فلنقل أننا مدافعون عن الحياة من هم تحت وصايتنا و حمايتنا ، و لكن من الواجب القول أن داعش في نظركم نحن في مجملنا ، وداعش في نظرنا شرذمة لا تحتاج لهذا الكم من القتل و التشريد و نشر الأوبئة ، إنما هي فكر تولد من رحم الألم و الفقد و الكسر و القهر .
بعد سنوات من القطيعة والتوتر أعلنت تركيا تطبيع علاقتها مع روسيا وإسرائيل في يوم واحد، بعد نحو سبعة أشهر على توتر العلاقات مع روسيا، وسنوات عدة على توتر العلاقات مع إسرائيل.
جاءت هذه التطورات ضمن نهج جديد تبنته الحكومة التركية برئاسة رئيس الوزراء الجديد بن علي يلدريم، الذي تعهد بتحسين علاقات بلاده مع سوريا ومصر والعراق أيضًا.
أثار هذا التوجه قلق السوريين المعارضين للنظام، ومخاوفهم من تراجع تركي حاد قد ينجم عنه خفض سقف المطالب الثورية إلى ما دون المقبول، باعتبار تركيا أحد أهم داعمي الثورة السورية.
فإلى أي مدى ستصل الاستدارة التركية فيما يخص المسألة السورية؟!
طوال سنوات الثورة السورية نظرت تركيا إلى سوريا باعتبارها قضية مصيرية، سواء من جهة صلتها بالمسألة الكردية الداخلية أو من جهة الحدود المشتركة، وانعكاس أي خلل فيها على الأمن الداخلي التركي وعلى انتظام سير قوافل الشاحنات التجارية إلى المنطقة العربية عبر البوابة السورية.
لقد انتهجت تركيا منذ البداية أسلوب النصيحة لنظام الأسد والتواصل معه لحثه على تغيير أسلوبه في التعاطي مع مطالب الإصلاح، إلى أن بلغت ردة فعل النظام حدًا جعل تركيا تحجم عن دور الوسيط لتنتقل إلى الدعم العلني لمطالب الثائرين.
لكن استعصاء الأزمة السورية وطول أمدها ونشوب تداعيات جديدة على أثرها، مثل نشأة تنظيم داعش وتحوله إلى خطر يتهدد المنطقة وحتى العالم، وصعود نجم حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تريد بعض العواصم الدولية منحه دورًا أساسيًا في مكافحة «داعش»، وربما مساعدته في الوقت نفسه لإنشاء كيان كردي على الحدود، دفع تركيا إلى ترتيب أولوياتها وإعادة النظر مجددًا في موقعها بالمنطقة، والتفكر في المستجدات الطارئة وما تنطوي عليه من مخاطر تتهدد أمنها القومي.
لقد بالغت تركيا في رهانها على «الربيع العربي» وفي التقليل من شأن مراكز القوى العميقة، ووضعت أغلب بيضها في سلة الثورات العربية؛ مؤملة نجاحها وترسيخ علاقاتها مع دولها، وأمضت طيلة السنوات الخمس الماضية في انتظار حصد
ثمار «الربيع العربي» في أغلب محطاته.
وكما تبين لاحقًا، فإن استبدال داود أوغلو بـيلدريم لم يكن على صلة بالشؤون الداخلية التركية فحسب كما ظن البعض للوهلة الأولى، من جهة تمهل أوغلو في إقرار النظام الرئاسي وكبحه جماح الاندفاعة الحكومية في ضرب الكيان الموازي، وإنما تعدى ذلك إلى قضايا خارجية أراد صانع القرار التركي معالجتها بطاقم جديد لا تثقله تصعيدات المرحلة السابقة.
وبحماسة تعتزم التحرر من تبعات الماضي شرع يلدريم في إعادة تفعيل مبدأ «صفر مشكلات» مع دول الجوار، الذي كان - للمفارقة - مبدأ سابقه، فأعاد علاقات بلاده مع إسرائيل وروسيا، ووعد بتحسينها مع مصر وسوريا والعراق، وجديدها التصريح الذي أطلقه (الأربعاء 13 يوليو/ تموز 2016) حول عودة العلاقات مع سوريا.
غير أن مصادر مطلعة ومقربة من مراكز صنع القرار التركي أشارت إلى عدم حصول انعطافة تركية في الموضوع السوري، وإلى أن تصريحات يلدريم موجهة للداخل التركي الذي يحمِّل الحكومة وسياستها الخارجية مسوؤلية تردي الأوضاع الداخلية، سواء من حيث تنامي موجة الإرهاب التي طالت مراكز حيوية، كان آخرها الهجوم الإرهابي على مطار أتاتورك، وما أسفرت عنه هذه الموجة من ضرب للسياحة، أو من حيث عودة الجنوب الشرقي ساحة للمواجهات ضد حزب العمال
الكردستاني كإحدى نتائج «التورط في المستنقع السوري» وفق ما يرى معارضو الحكومة، ونقلت المصادر ذاتها أيضًا ثبات الموقف التركي من القضية السورية، وعدم تخلي أنقرة عن هدفها النهائي بتغيير النظام في دمشق.
أما فيما يخص الخبر الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام حول قدوم العماد «علي حبيب» إلى أنقرة، للتباحث في تشكيل حكومة عسكرية موسعة برئاسة حبيب وبمشاركة عدد كبير من ضباط النظام والضباط المنشقين، رفضت المصادر ذاتها
تأكيد الخبر أو نفيه، في محاولة ربما لجسّ نبض الأطراف الداعمة للنظام، وعلى رأسها روسيا حول تقبلها لفكرة إيجاد بديل عن الأسد.
ونقلت المصادر أيضًا استعداد تركيا لبذل كل جهد ممكن للحفاظ على جبهة حلب ومنع حصارها، دون أن تغفل عن توجيه اللوم للفصائل العسكرية وتشرذمها.
والواقع، أنه رغم وضوح التصريحات التركية الساعية لتحسين العلاقات مع «سوريا» فإنه من غير المتوقع أن يكون معنى ذلك التسليم بالواقع والانكفاء وإخلاء الساحة لخصوم تركيا كي يصوغوا وحدهم سوريا الجديدة؛ ذلك أن المصالح
العليا للدولة التركية تتناقض كليا مع استمرار نظام الأسد الذي تحالف طيلة السنوات السابقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي وتواطأ معه في إخلاء مناطق الكثافة الكردية في سوريا من قوات النظام مساهمًا على نحو مباشر في تشكيل
كانتونات كردية ترى تركيا فيها خطرًا مباشرًا يمس وحدتها وأمنها القومي.
على ضوء ذلك، مالت أنقرة لاعتماد مقاربة جديدة ذات شقين؛ مواصلة الضغط العسكري على نظام الأسد في جبهتي حلب وإدلب (ومؤخرًا في جبل التركمان) ومدِّهما بكل أسباب الصمود، وإنشاء قطاع صديق من الأراضي داخل سوريا للحيلولة دون ربط الكانتونات التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي بعضها ببعض، ودون وصول نيران «داعش» إلى المدن التركية المحاذية للحدود كما حصل في كيليس.
من المرجح أن تركيا باتت على قناعة بصحة الحكمة السياسية التي صاغها الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت: «تكلمْ بهدوء واحمِلْ عصا غليظة»، ففي خضم الهاوية السورية لم تتكلم تركيا بهدوء ولم تحمل عصا غليظة، وهو ما أدركت
أنقرة خطأه على ضوء التطورات الأخيرة التي عصفت بالمنطقة. وفي اعتمادها المستجد للهجة الحوار مع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية وفي حزمها وعدم تهاونها لمواجهة الأخطار التي تحدق بالجمهورية، تكون تركيا في طريقها لاجتراح معادلة جديدة قادرة على الاستجابة للتحديات الإقليمية التي تتهددها وعلى صوغ الحلول والتسويات السياسية التي تضمن مصالحها العليا التي يأتي في مقدمتها إنجاز تغيير سياسي حقيقي في سوريا.
لماذا سخر بعضهم في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من الرئيس السوري، بشار الأسد، ومن طريقته في تقييم المرشحين الرئاسيين الأميركيين، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب؟ ما قاله سليم من الناحية المنطقية، وتثبت كل الوقائع على الأرض صحته، فالولايات المتحدة في خطر، وعليها أن تُحسن اختيار رئيسها من أصحاب الخبرة، وإلا فهي أمام عقبات كبيرة، وعليها أن تتعلم من التجربة السورية، فسورية التي ليست في خطر، وآمنة ومستقرّة، استطاعت أن تحقق ذلك بسبب أنها تختار رئيسها دائماً من أصحاب الخبرة، أو من أبناء أصحاب الخبرة.
قال الأسد، في مقابلة مع شبكة "إن بي سي نيوز" إن كلاً من المرشحيْن، هيلاري وترامب، لا يمتلك الخبرة الكافية ليكون رئيساً، وذلك يشكل خطراً على الولايات المتحدة. وإنه إذا عمل أحدهم سنواتٍ في الحكومة، أو في الشؤون الخارجية، فلا يعني ذلك أنه جاهز ليكون رئيساً.
وتساءل: "من امتلك الخبرة سابقاً؟ أوباما؟ أم بيل كلينتون؟ أم جورج بوش؟ ما من أحد منهم كانت لديه الخبرة، هذه هي مشكلة الولايات المتحدة... وهذا طبعا يشكل خطراً على بلادهم بشكل عام".
هل من كلام صحيح أكثر من هذا؟ بالفعل، كل الرؤساء الأميركان لم يكونوا يمتلكون أي خبرة بالرئاسة، حين أصبحوا رؤساء. ومع الأسف، لا يسمح النظام السياسي الأميركي لهم باكتساب الخبرة الكافية، فبعد دورتين فقط، يغادرون مناصبهم، بعد أن يصبحوا مزودين بالخبرة الكافية ليكونوا رؤساء للأبد، وينقلوا السلطة إلى أبنائهم من بعدهم، ويصبح من حقهم أن يقتلوا ربع شعبهم، ويحاصروا ربعه، ويدفعوا نصفه إلى الهجرة، ليبقوا في مناصبهم، وتستفيد الولايات المتحدة من خبرتهم الرئاسية.
ويحق للرئيس السوري بشار الأسد أن يطلق الأحكام، ويقدّم النصائح، فهو صاحب خبرةٍ رئاسيةٍ كبيرة رضعها مع الحليب، وليس كأولئك الرؤساء عديمي الخبرة الذين تفرزهم الدول الديمقراطية، وهو رئيس ابن رئيس يفوز كلاهما بالانتخابات بنسبة تسعة وتسعين بالمائة، وليس مثلهم أولئك الأغرار الذين يفوزون بنسبة واحد وخمسين بالمائة.
وهو كذلك رئيس دولة تعاني من عقباتٍ بسيطة، مثل حرب أهلية مستمرة منذ خمس سنوات، ولا تحتل داعش سوى ربع أراضيها، ولم يقتل من أبنائها سوى بضع مئاتٍ من الآلاف، ولم يهجر سوى الملايين، ولم يسقط تحت خط الفقر سوى تسعين في المئة من السكان. وهذه العوامل كلها لا تجعل بلده في دائرة الخطر، لأنه بلد محظوظٌ اختار رئيساً صاحب خبرة.
وبهذا التصريح، يستحق الأسد براءة اختراع فكرية لهذه الفكرة العبقرية التي تجعل من شروط الترشح للرئاسة أن يكون الشخص رئيساً، وهي تشبه النكتة المصرية القديمة التي كان يتم تداولها في آخر انتخابات رئاسية في عهد حسني مبارك، وتقول إن وزارة الداخلية المصرية أعلنت شروط الترشح، ومنها أن يكون قد أتم الأربعين من العمر، وأن تكون لديه خبرة لا تقل عن خمسة وعشرين عاماً في الوظيفة التي يتقدّم إليها.
ويستحق الأسد تكريماً سياسياً، لاعتباره العمل وزير خارجية أربع سنواتٍ، لا يقدم أي خبرة سياسية، وهو بذلك يقيس على وزير خارجيته، ووزراء الخارجية الذين يعرفهم، فلا علاقة لهؤلاء بالقرار السياسي، المحتكر للعائلة ولضباط الأمن، ولحلقةٍ ضيقة من المقربين، وربما لو أتيح للأسد أن يستطرد في شرح فكرته كما اعتاد، لقال إنه راضٍ عن رئيس أميركي واحد هو جورج بوش الأب، لأنه يتحدر من المخابرات المركزية، وهو، من وجهة نظر الأسد، جدير بالرئاسة، مثل حليف الأسد نفسه، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، القادم هو الآخر من مؤسسة المخابرات، فعقل الأسد لا يعتبر العمل مهماً، ما لم يكن مخابراتياً أو عسكرياً، وكل ما عدا ذلك لهو ولعب.
يحق للأسد إسداء النصائح للناخب الأميركي، وتحذيره من المصير الأسود الذي ينتظره، في حال انتخب أيا من المرشحين للانتخابات الأميركية، وهو بنظرته الثاقبة يرى الخطر الذي يتهدّد الولايات المتحدة، وبحرصه الشديد عليها، يرى من واجبه أن يحذر من خطر يراه، ولا يراه البشر الطبيعيون.
هناك خطأ واحد في تصريح الأسد، أنه جمع جورج بوش الابن مع بقية الرؤساء والمرشحين الرئاسيين الأميركيين، فهناك صفتان مشتركتان بين الرجلين: أن كليهما ابن رئيس، وأن كليهما أحمق.
جرى في الأسبوعين الأخيرين الإعلان عن هدنة لمدة ثلاثة أيام في سوريا بهدف وقت العمليات العسكرية وما يرافقها من قتل وتدمير وتهجير، لتوفير أجواء تساعد بالمضي نحو حل سياسي وفق التصورات الدولية، التي تتابعها الأمم المتحدة عبر مبعوثها الدولي ستيفان دي ميستورا، وبدعم من الولايات المتحدة وروسيا. ثم جرى الإعلان من جانب نظام الأسد عن تمديد تلك الهدنة. رغم أن الأولى لم تمر دون خروقات فاضحة من جانب نظام الأسد وقوات حلفائه في قصف المدن والمناطق السكنية، خصوصًا مع شن هجمات برية واسعة، وهو ما ردت عليه قوات من المعارضة المسلحة من باب «الدفاع عن النفس» حيث أمكن ذلك.
المكرر في الهدنة الثانية، كان استمرار هجمات النظام وحلفائه الإيرانيين والميليشيات الشيعية وسط دعم جوي روسي لأغلب تلك الهجمات، وخصوصًا الهجمات في حلب شمالاً، التي ترافقت مع هجمات على مدينة داريا على سوار دمشق الغربي.
تمديد النظام للهدنة، وما رافقها من خرق مكثف من جانبه، كان يحمل رسالتين، أولى الرسالتين كانت موجهة للرأي العام وللعالم الخارجي، جوهرها أن نظام الأسد وتحالفه، إنما يساعد عبر وقف القتال في التهدئة ودعم الجهود الدولية من أجل حل سياسي للقضية السورية، أما الرسالة الثانية، فكانت موجهة إلى السوريين وخصوصًا المعارضة المسلحة في المناطق التي تسيطر عليها، وخلاصتها، أن لا سبيل للتعامل معكم سوى من خلال الحرب والدمار، فلا هدن ولا مفاوضات ولا حلول، ووسط هذه الرسالة العامة، كانت ثمة رسالة تفصيلية موجهة إلى حلب، تؤكد مساعي نظام الأسد وتحالفه لحصار حلب عبر إغلاق معبر الكاستيلو، الأمر الذي يعني عزل حلب، وأخذها إلى الأسر والتجويع والتدمير والقتل البطيء، تمهيدًا لاجتياحها على نحو ما جرى تطبيقه في مدن أخرى، والتفصيل الآخر المتعلق بداريا، كان أشد دموية عبر الإصرار على اجتياح المدينة وتدميرها وقتل كل من فيها من أطفال ونساء وشيوخ ومقاتلين دافعوا عن المدينة الواقعة تحت الحصار منذ نحو أربع سنوات.
فكرة نظام الأسد في تمديد الهدنة بالتزامن مع محتوى ثنائية الرسالة بين الخارج والداخل، فكرة جديدة مستمدة من سلوك روسي، جرى تطبيقه في سوريا في هدنة سابقة بمدينة حلب، ووقتها قابل نظام الأسد وحليفه الإيراني وميليشياته اللبنانية الإيرانية بالتحفظ، غير أنه تراجع عن التحفظ فيما يبدو، سواء بسبب إقناعه من جانب حليفه الروسي، أو نتيجة دراسة الفكرة وتقليبها، وصولاً إلى نتيجة أنها تتوافق بشكل عميق مع استراتيجية الكذب مقرونة بسياسة القتل والتدمير، التي اعتمدها منذ بدء ثورة السوريين عام 2011.
ففي بداية الثورة ومع بدء عمليات قتل السوريين، أنكر وجود الثورة ومطالب السوريين بالحرية والكرامة، وعندما اضطر للاعتراف بالثورة، راح يصفها بأنها ثورة متطرفين وإرهابيين، ليبرر عمليات القتل المتزايد، ثم أضاف إلى ذلك، أكذوبة التدخلات الدولية السياسية والعسكرية لاستباحة الدولة السورية وتدميرها، فيما كان يستدعي حلفاءه من إيرانيين ولبنانيين وعراقيين وأفغان، ويفتح أبواب البلاد لقدوم الإرهابيين والمتطرفين من كل بلدان العالم، وعندما استعمل السلاح الكيماوي ضد المدنيين وخصوصًا النساء والأطفال في غوطة دمشق وقتل المئات منهم، كرس كذبة كبيرة على لسان مستشارة رئيس النظام، بالقول إن الإرهابيين نقلوا أطفالاً من مناطق الساحل السوري إلى الغوطة، ثم قتلوهم بالأسلحة الكيماوية، وهذه بعض ملامح استراتيجية الكذب المقرونة بالقتل والدمار والتهجير في ممارسات نظام الأسد وتحالفه من روسيا إلى إيران، إضافة إلى الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية وغيرها.