كما كان متوقعاً سقط اسم بشار الأسد من قائمة مناقشات فيينا، في نسختها المحدثة اليوم، وطفى على السطح "الإرهاب" الذي غطى على كل المعالم في سوريا وبات الهاجس الوحيد الذي بحاجة لحل، وما الكلام عن الحل السياسي إلا طريق من طرق مكافحته، و تعزير نظام الأسد ليقوم بهذا الدور، و ما تبقى من تصريحات معتادة لا تخرج عن أصلها "لايغني و لا يسمن من جوع".
في فيينا اليوم كما قبل شهور ست مضت اجتمعت ٢٠ دولة و أربعة منظمات بينها الأمم المتحدة و الاتحاد الأوربي، لمناقشة الوضع في سوريا، ذات التركيبة و ذات الحضور و ذات المشرفين ( أمريكا و روسيا)، لا تغيير إلا في العناوين " ضمان الهدنة – إيصال المساعدات" ، بغية إيجاد شيء براق يخفي الحقيقة و المتمثلة بأن لا مكان للتغير في سوريا وفق ما يطالب به الشعب السوري، و إنما التغيير سيقتصر على إضافة ألوان على المضمون الكامل للنظام، بزج أسماء و هيئات، لتكون في مجملها كتلة تحارب "الإرهاب" الذي يفهمه الغرب، حتى لو كان هذا المفهوم يصل لحد اعتبار كامل الشعب السوري ارهابياً و يستحق الاجهاز عليه.
ركز وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في تصريحاته على منطق واحد، وغلّفه بتصريحات عاطفية عن "الأسد" و تسببه بخرق الهدنة، و لكنه في الوقت ذاته طالب من الفصائل الابتعاد عن مناطق جبهة النصرة و تنظيم الدولة، كي تنجو بنفسها من القصف الذي تعهد القيام به بالتعاون مع روسيا، و ذلك في اطار مكافحة "الإرهاب".
في حين كان واضحاً من تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، مدى عمق الاتفاق الذي تم التوصل إليه ووضوح معالمه، فيكفي ان لافروف قد أبدى امتعاضه و انزعاجه الشديدين من استخدام الثوار لدبابات و مدرعات في معارك ردع القوات المهاجمة التابعة لإيران و بقايا قوات الأسد، في إشارة دقيقة إلى أن حتى هذا ممنوع على كل من يخالف الأسد، و استطرد الوزير الروسي ، الذي تخوض بلاده حروباً دموية و سياسية ضد الشعب السوري، أن الدعم الذي تقدمه روسيا للإرهابي بشار الأسد ليس مخصص لشخص بشار و إنما لـ"جيشه"، وحفاظاً على مؤسسات الدولة، فكلا "الجيش – المؤسسات" هي جزء من نظام الأسد كشخص و تنظيم يقوم على القتل و التنكيل، و هما سبب ما وصل إليه حال الشعب السوري.
التصريحات الروسية و الأمريكية المتوافقة على هدف واحد ، وفق ما أكدته مستشارة الأمن القومي الأمريكي سوزان رايس، و المختلفة في الشكل الخارجي و طريقة التنفيذ، لم تجد معارضة أو امتعاض من قبل أي دولة من الدول التي تصنف ضمن قائمة أصدقاء الشعب السوري، التي اكتفت بإعطاء الشعب المكلوم مهدئ جديد، و المتمثل بمصطلح الأسلحة "الأشد فتكاً" الذي خرج به وزير الخارجية السعودي مؤخراً، ليكون مشابه لتلك التصريحات التي ظهرت قبل ثلاثة أشهر و التي توعدت بالتدخل البري، فلا التدخل حصل و لا حتى شدة "الفتاكة" ستحدث، و كل ما هنالك سيمنح للأسد و حلفاءه فرصة لإيجاد طريقة يستطيع من خلالها استعادة زمام الأمور و القضاء على ما تبقى من مطالبين بإنهاء الأسد.
يبدو أن حزب الله قد قرر أن لا يفتح مواجهة جديدة مع إسرائيل، أو يضع في قائمة تعهداته بالرد وعداً اضافياً، وقرر أن يحمل الثوار أو من يسميهم بـ"المجموعات الإرهابية" مسؤولية مقتل الرجل العسكري الأول في الحزب "ذو الفقار"، ليكون وجوده أكثر الحاحاً، و بقاءه مطالباً فيه من قبل حاضنته التي انهكت تماماً و استنزفت إلى أقصى حد، بسبب القتل المستمر و المتواصل طوال السنوات الخمس الماضية.
ويشبه ادعاء حزب الله بأن قاتل قائد العمليات العسكرية و الأمنية في الحزب "مصطفى بدر الدين"، هم الثوار من خلال قصف مدفعي دقيق، يشبه إلى حد كبير و متطابق اتهام النظام لذات الثوار باستهداف الغوطة بالسلاح الكيميائي في آب ٢٠١٣، و بذلك يكون على ثقة تامة أنه مهما فعل أو ارتكب كرد فعل انتقامي، لن يمنعه أحد أو يردعه، و كذلك لن يكون هناك أحداً أيضاً يبحث عن صحة الادعاءات أو التهم، فالثوار هم الحلقة الأضعف في كل شيء.
التسريبات والتحليلات حول مقاتل "بدر الدين" تكاد لا تنضب ولا تنتهي، و لكن تجمع في مجملها أن الآلية و الطريقة التي استهدف بها القتيل، لا تسطيع مجموعة أو فصيل مهما بلغ حجمه أن ينجح في ذلك، إذ السلاح الذي تم استخدامه من الذكاء ما يتطلب أجهز دولة متطورة لاستخدامه و حصاد نتائج إيجابية، سيما أن أحدث الروايات تقول أن الصاروخ من النوع "الفراغي"، فلم تكن الجروح التي أصيب بها جسد القتيل بليغة، بل كانت الدماء تسيل من أنفه نتيجة الضغط المتولد عن الصاروخ.
أياً كانت الرواية الحقيقية لمقتل أحد أشد الأشخاص ارهاباً في حزب يمارس الإرهاب بشكل روتيني و لا ارادي، لكن النظر للتبعيات واجب من حيث توقيت القتل و التهمة و التطورات على الأرض، فاليوم الحزب بحالة من الضعف و الوهن، ما يجعله مطالب بالانسحاب الذي لا يملك قراره، فهو عبارة عن أداة بيد المرشد الايراني الذي يقود المعارك تبعاً لمخططاته، و بات لزاماً أن يتم إيجاد سبب للاستمرار في سوريا، و ليس أفضل حالاً من قتل الرجل الأبرز في الحزب، و إعادة اشعال نار الثأر التي عمد علي خلقها في كل مرحلة تخبوا فيه شعبيته، أو يتعرض فيه لضغوط للانسحاب.
و في الوقت عينه يعاني محيط دمشق و لاسيما الغوطة الشرقية من حالة يرثى لها بعد أن قرر بعض العابثين اللعب على كافة الوتار و اشعال الاقتتال الداخلي، ممهدين الطريق أمام المليشيات الشيعية لتتقدم في الأرض التي عجزت عنها طوال سنوات، مما يجعل الغوطة بشرقيتها و غربيتها، تحت خطر شديد سيما مع التسريبات التي تقود إلى وجود نية مبيته و يعمل على التحضير لها، و المتمثلة بإنهاء وجود أي معارضة للاحتلال الايراني في دمشق و محيطها.
و لاشك أن استخدام هكذا تهم لتبرير الوجود و البقاء، ليس هو الوحيد الذي يعمل عليه الحزب، فسبق و أن استخدام أمن القرى اللبنانية الشيعية لاحتلال القلمون، و لن يتورع عن استخدام أي شيء بما فيها قصف حتى بيروت، لاستنباط سبب، لمواصلة قتل السورين، و لكن في الوقت ذاته قتل نفسه و عناصره.
لرفاقه هو ذو الفقار، تيمناً باسم السيف الذي أهداه علي بن أبي طالب للنبي محمد . وللحكومة الكويتية هو المسيحي الياس فؤاد صعب الذي حكمت عليه بالإعدام عام 1984 في إطار عملية "الكويت 17 " التي شملت سلسلة من سبعة تفجيرات مُنسَّقة في الكويت أودت بستة أشخاص وتسببت بجرح ما يقارب تسعين آخرين. أما للبنانيين فمصطفى بدر الدين الذي أعلن "حزب الله" مقتله في غارة جوية إسرائيلية على الحدود اللبنانية - السورية، هو خصوصاً المتهم الرئيسي الذي يحاكم غيابياً أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
كل ذلك جعل منه "شبحاً" بالنسبة الى كثيرين، بمن فيهم المحكمة الدولية التي توصلت إلى اقتناع بأن بدر الدين هو سامي عيسى "مالك سلسلة من محال الصاغة والمجوهرات في بيروت، وشقة في جونية مسجلة باسم شخص آخر، ويخت مسجل أيضًا باسم رجل آخر، ويقود سيارة مرسيدس ثمينة، مسجلة هي أيضًا باسم شخص آخر، وكان زير نساء، وشوهد مرارًا في المطاعم والمقاهي مع أصدقائه".
وهو أيضا صافي بدر الذي قالت وزارة الخزانة الأميركية إنه يقود التدخل العسكري لـ"حزب الله" في الميادين السورية، ويحضر شخصيًا الاجتماعات التي تعقد في حضور رئيس النظام السوري بشار الأسد، أو الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله.
وفي بروفايل طويل، وصف الصحافي والمدون البريطاني ألكس رويل، القيادي في "حزب الله" بأنه زير نساء مولع بالنار، في ما يعكس حياة صاخبة لقيادي بقيت حياته لغزاً كبيرا.
فالواضح أن بدر الدين حرص دائماً على عدم ترك أثر خلفه. وعنه قال المدعي في المحكمة الخاصة بلبنان غرايمي كاميرون:" يتحرك مثل شبح لا يمكن إدراكه، ونظرياً يستحيل تعقبه داخل لبنان فهو لا يترك أي أثر ولم يستخرج يومًا جواز سفر، ولا رخصة قيادة، وليس ثمة عقار مسجل باسمه في لبنان، ولا تملك السلطات أي معلومات عن دخوله إلى لبنان أو خروجه منه، ولا بيانات في وزارة المال تفيد بأنه دفع الضرائب يومًا، ولا حسابات مصرفية باسمه. فهو غير موجود، أو شبح لا يمكن اقتفاء أثره في لبنان".
ابن عم مغنية
رسمياً، هو ابن عم عماد مغنية وشقيق زوجته، مولود بحسب مصادر عدة في الغبيري بالضاحية الجنوبية. وبينما تتحدث تقارير عن أنه درس العلوم السياسية بين 2002 و2004 في الجامعة اللبنانية الأميركية، نفى أساتذة درّسوا في الجامعة في تلك الحقبة أن يكونوا التقوا شخصاً يدعى سامي عيسى. وصعد نجمه في "حزب الله" بعد اغتيال القيادي البارز في الحزب عماد مغنية في شباط 2008.
واستناداً الى صحيفة "النيويورك تايمس" الاميركية كان "سامي" مهووساً جداً بالنساء الى درجة أنه رفض عام 2009 أوامر من "الحرس الثوري " بتجنب الاطلالات العامة لفترة، قائلة إنه أصر على مواصلة حياة البذخ مستخدماً اسم سامي عيسى.
عقوبات وزارة الخزانة
أضافته وزارة الخزانة الأميركية عام 2012، مع طلال حمية، وهما "قائدان إرهابيان بارزان في حزب الله" إلى قائمة الإرهابيين التي تصدرها الوزارة "لتوفيرهما الدعم لأنشطة حزب الله الإرهابية في الشرق الأوسط وجميع أنحاء العالم". وفي آخر الاجراءات الأميركية ضده ، ورد اسمه في قائمة من مجموعة قادة كبار لـ"حرب الله" أبرزهم الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله والتي يستهدفها قانون مكافحة ومنع تمويل "حزب الله"، الذي صدر نهاية العام الماضي.
"الكويت 17"
يدين مصطفى بدر الدين بحياته لقرار الزعيم العراقي الراحل صدام حسين غزو الكويت. ففي حينه كان أحد المدانين بسلسلة عمليات إرهابية في الكويت والذين حكم عليهم بالإعدام في آذار 1984.
وشملت الأهداف السفارتين الأميركية والفرنسية، ومطار الكويت، وشركة "رايثيون"، ومنصة البترول لـ "شركة النفط الوطنية الكويتية"، ومحطة كهرباء مملوكة للحكومة. وقد تم إحباط هجوم آخر خارج مكتب للبريد.
كانت تلك التفجيرات، وفقاً لماثيو ليفيت، مدير برنامج ستاين لشؤون الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، بمثابة صدمة للمسؤولين الكويتيين، إلا أنه كان ممكناً أن يكون الدمار أكثر سوءاً لو ربطت القنابل التي استخدمت في ما بات يعرف بعملية "الكويت 17" بالأسلاك بشكل صحيح.
في حينه، يضيف ليفيت، حدّ التخطيط السيئ من القدرة التدميرية للهجمات. فقد كانت هناك حافلة تحمل 200 أسطوانة غاز معدة للانفجار في موقع "الشركة الوطنية للبترول"، إلا أنها انفجرت على بعد 150 ياردة من مصفاة نفط وعلى بُعد ياردات قليلة من كومة المواد الكيميائية القابلة للاشتعال. و"لو تم تخطيط العمليات بمهارة أكبر لربما كان سينجم عنها أيضاً تدمير محطة تحلية المياه الرئيسية في الكويت، الواقعة ضمن المنشآت، الأمر الذي كان سيترك تلك البلاد الصحراوية من دون أي مياه صالحة للشرب تقريباً".
وفي النهاية، سُجِن سبعة عشر إرهابياً مداناً في الكويت، بمن فيهم أعضاء من "حزب الله". وعلى مدار السنوات التالية، نفذ الحزب العديد من الهجمات الإضافية، في الداخل والخارج، سعياً منه إلى إطلاق أعضاء سُجنوا لقيامهم بتلك التفجيرات.
وأقر نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم في حينه أن واقعة "الكويت 17"، "كانت الشرارة الأولى لفكرة الرهائن، من طريق الضغط لإطلاق أسرى في إسرائيل وأماكن أخرى".
وكان بدر الدين أحد أولئك المُدانين الذي حُكم عليه بالإعدام، إذ كان ينشط في الكويت مختفياً تحت الأسم الحركي المسيحي الياس فؤاد صعب. وعند صدور الحكم، هدد الحزب بقتل بعض رهائنه في حالة تنفيذه.
ويسود اعتقاد أن خطف رئيس مركز وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي اي اي" في بيروت، وليم بكلي، في ذلك الشهر نفسه، فضلاً عن عمليات خطف أخرى في النصف الثاني من عام 1984، كانت رداً مباشراً على اعتقال مُفجري عملية "الكويت 17" وإصدار أحكام ضدهم.
فعند مناقشة احتمالات إطلاق الرهائن الأميركيين، أوردت مذكرة صادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية أن "مغنية كان يربط دائماً مصير رهائنه الأميركيين بالإفراج عن السبعة عشر إرهابياً شيعياً في الكويت، وليس لدينا أي مؤشرات بأنه غيّر هذا المطلب".
هرب من السجن
وعندما غزا العراق الكويت عام 1991 ، أخلت قوات صدام السجون ونجح بدر الدين في الهرب إلى السفارة الإيرانية في الكويت. وأوردت تقارير في حينه أن " الحرس الثوري " سهل سفره إلى إيران وعودته إلى لبنان حيث نشط مع مغنية، ليس في جنوب لبنان فحسب، وإنما أيضاً على جبهات عدة جديدة، بما فيها "الوحدة 1800" التي أسست في تسعينات القرن الماضي لمساعدة "حماس" وفصائل فلسطينية أخرى في عملياتها ضد اسرائيل.
وعند اغتيال مغنية في شباط 2008 ، يقول ليفيت، خلفه بدر الدين في رئاسة الأجنحة العسكرية والإرهابية لـ "حزب الله".
وفي حزيران 2011، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قراراً اتهامياً بحق بدر الدين وثلاثة عملاء آخرين من "حزب الله" لدورهم في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
واكد المدعي كاميرون أن المتهمين أسد حسن صبرا وحسين حسن عنيسي متواطئان، لافتاً الى أن مصطفى بدر الدين وسليم عياش حضّرا لاغتيال الحريري قبل 3 أشهر، واشار الى ان عياش كان مسؤولا عن مراقبة الحريري وعن شراء شاحنة المتسوبيشي، اما صبرا فشارك في ايجاد الشخص المعروف بـ"أبي عدس"، وبدر الدين استعمل 13 خطاً خلوياً من 1997 الى 2009.
وبينما تستمر محاكمته غيابياً، أفادت تقارير أنه شوهد في الضاحية الجنوبية لبيروت مطلع السنة الماضية، في تشييع جهاد مغنية، نجل عماد مغنية، الذي قضى بغارة اسرائيلية في سوريا.
هل تعلمون أن بعض الأحداث التاريخية الكبرى تعتمد فقط على تصرف فردي؟ بعبارة أخرى، يكفي أن يكون هناك قائد متسرع ليتسبب بكوارث كبرى لبلاده يدونها التاريخ. ويذكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر أنه حين التقى بوزير الخارجية العراقي الراحل طارق عزيز في جنيف بعد الغزو العراقي للكويت، كانت رجلا بيكر ترتجفان تحت الطاولة بشدة وهو يبحث مع عزير خروج القوات العراقية من الكويت. لقد كان الأمريكيون يدعون إلى الله ليل نهار أن يركب النظام العراقي رأسه، ويرفض الانسحاب من الكويت كي ينفذ الأمريكيون مؤامراتهم الرهيبة بحق العراق ونظامه.
ويذكر بيكر أنه عاش أصعب لحظات القلق وهو يجلس مقابل طارق عزيز على الطرف الآخر من الطاولة خوفاً من أن يوافق عزيز على الانسحاب من الكويت، لكن، وبناء على تعليمات القيادة العراقية، أخبر عزيز جيمس بيكر بأن الجيش العراقي لن ينسحب من الكويت.
وفي تلك اللحظات، يقول بيكر، إن الدم عاد إلى شرايينه من جديد، وتوقفت رجلاه عن الاهتزاز الشديد فور سماعه الرد العراقي. بعبارة أخرى، فإن المخطط الأمريكي المعد للعراق كان يتوقف على العناد العراقي، فلو قال طارق عزيز لبيكر مثلاً إن الجيش العراقي سينسحب من الكويت، لما جمعت أمريكا وقتها أكثر من ثلاثين دولة لطرد القوات العراقية من الكويت، ولتبدأ بعد ذلك بتنفيذ مخططها الشيطاني بضرب العراق لاحقاً وإعادته إلى العصر الحجري كما توعد وزير الدفاع الأمريكي وقتها دونالد رامسفيلد. ولم يكن بمقدورها أن تعيد ترتيب أوراق المنطقة بأكملها.
وكذلك الأمر في الحالة السورية. فلو أن نظام الأسد تعامل مع المظاهرات الشعبية، أو ما يسميه بالمؤامرة الكونية بروية وحكمة بدل إنزال الجيش إلى الشوارع خلال أسابيع، لما وصلت أوضاع سوريا إلى هنا، ولكان قد خيّب آمال أعداء سوريا كإسرائيل وأمثالها وكل الذين كانوا يتآمرون على سوريا. فالقائد الحكيم هو الذي يستنفد كل الوسائل الذكية قبل أن يستخدم القوة الوحشية، فلطالما كانت الوسائل الدبلوماسية الحكيمة أفضل بمئات المرات تاريخياً من الحديد والنار في معالجة الأزمات الكبرى. ولو كان حافظ الأسد مكان ابنه لربما تصرف بطريقة مغايرة تماماً، فالرئيس الحكيم هو من يحني رأسه للرياح العاتية بدل مواجهتها.
وكلنا يتذكر كيف تعامل حافظ الأسد مع التهديدات التركية عام 1999 عندما هدده رئيس الوزراء التركي مسعود يلمز وقتها بقلع عينيه وتكسير يديه واجتياح دمشق إذا لم يسلّم الزعيم الكردي عبدالله أوجلان خلال أربع وعشرين ساعة لتركيا. وبدل أن يورط حافظ الأسد سوريا في حرب خطيرة مع الأتراك وقتها، قام بتسفير أوجلان خارج سوريا، لتعتقله الاستخبارات التركية فوراً في عملية مخابراتية ناجحة. لقد جنب حافظ الأسد سوريا حرباً بغنى عنها.
على العكس من ذلك، لعبت إيران وروسيا وبعض كبار ضباط الجيش والأمن في سوريا بعقل بشار الأسد في بداية الثورة، وبدل أن ينجح الفريق الوطني الحكيم في النظام بإقناع الرئيس بالتعامل بحكمة مع الثورة أو ما يسميه بالمؤامرة، نجح فريق الصقور العميل لجهات خارجية بدفعه إلى المحرقة. ويعتقد بعض العارفين ببواطن الأمور أن فريق الصقور الذي لعب بعقل بشار أراد أن يورطه، ويحقق في الآن ذاته أهداف بعض القوى الخارجية في سوريا. ويعتقد البعض أن الفريق الذي عمل على تأجيج الوضع في البلاد في بداية الثورة مرتبط بجهات خارجية، ويعمل بوظيفة عميل حقيقي ضد مصالح سوريا وشعبها. ويرى آخرون أن النظام السوري مُخترق حتى العظم، وأن الذين ورطوا الأسد من داخل النظام هم ألد أعدائه. ومن غير المستبعد أن يستلموا السلطة لاحقاً في سوريا فيما لو تمت إزاحة الأسد. بعبارة أخرى، فإن الشخصيات التي يمكن أن تحل محل الأسد وبطانته لاحقاً ستحصل على جائزتها من القوى التي تعمل لصالحها في الخارج.
والجائزة طبعاً استلام السلطة في سوريا بدل الأسد. ولو كنت مكان بشار الأسد لشنقت أي مسؤول سوري يطرح الخارج اسمه بديلاً عن بشار، لأنه ما كان ليحلم بطرح اسمه بديلاً للأسد لولا أنه قدم خدمات جليلة لأسياده في الخارج على حساب النظام وسوريا معاً.
لا شك أن بشار الأسد سليل حافظ الأسد في الوحشية والهمجية، لكن هل كان حافظ الأسد ليتصرف بالطريقة التي تصرف بها ابنه الطائش بشار في مواجهة الثورة السورية وتوريط سوريا في كارثة كبرى وجعلها مجرد ألعوبة في يد «اللي بيسوى وما يسواش»؟
هل كان ليسمح لنفسه ونظامه بأن يكون طرطوراً في أيدي الإيرانيين والروس؟ هل كان ليقبل أن يكون أداة في أيدي كبار جنرالات الأمن والجيش الذين لعبوا بعقل بشار وورطوه وورطوا وطناً كان اسمه سوريا في لعبة أكبر منهم بكثير؟ بالطبع لا. حتى أقرب المقربين من الرئيس السوري يقولون بعيداً عن الأضواء إن هذا الأحمق أدخلنا، وأدخل سوريا في الحيط. إن أفضل مثل شعبي ينطبق على ما فعله الأسد الصغير بسوريا هو المثل القائل: «مجنون رمى حجر في بئر، مائة ألف عاقل لا يستطيعون اخراجه». كم من الأحداث التاريخية الكبرى تسبب بها أحداث بتصرفاتهم الصبيانية الرعناء!
يريد النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون وميليشياتهم تحقيق نصر عسكري كاسح وسريع قبل متابعة الجولة القادمة من المفاوضات كي يجعل المعارضة في موقف ضعيف تضطر فيه إلى قبول الفتات الذي يعرضه النظام وهو مجرد مشاركة شكلية في حكومة جديدة يشرك فيها بعض من يختارهم من المعارضة التي صنعها تعمية على المعارضة الوطنية، ويكسب من خلالها استعادة سيطرته على سوريا ليبدأ مرحلة جديدة هي الانتقام من الشعب الذي ثار عليه ويكفي أن يتركه لعقود طويلة قادمة نازحاً ومشرداً وملاحقاً، وتبقى مدنه وقراه مهدمة لسنين في مناطق سوريا غير المفيدة، وستكون سوريا المفيدة إذا حدث ذلك محمية إيرانية روسية لأن توقف إيران وروسيا عن دعم النظام ولو يوماً واحداً سيجعله في مهب رياح التغيير التي ستبقى هائجة مهما طال الأمد.
وكل المراقبين يعلمون أن الأسد لا يريد حلاً سياسياً، وهو من أوقف توجه كثير من أنصاره عن المسير نحو حل سياسي بدأت ملامحه في مؤتمر صحارى الذي ترأسه نائب الرئيس يومذاك.
ولم يكن مفاجئاً لأحد أن يقوم النظام بتصعيد هجماته على حلب وسواها من المناطق المنكوبة قبل كل جولة من المفاوضات، وكنا في المعارضة قد قررنا التأجيل في الجولة الثالثة (على رغم كون المفاوضات لم تبدأ بشكل عملي بعد)، فالجولة الأولى رفض النظام فيها مبدأ التفاوض أصلاً وصعد هجومه على حلب، وفي الثانية تحولت المفاوضات إلى أسئلة مدرسية يوجهها «ديمستورا» بعيداً عن السؤال الرئيس (مصير الأسد)، وفي الثالثة رأينا أن المفاوضات أصبحت كما وصفها المبعوث الدولي (حفلة فلكلورية) ولم ينجز النظام شيئاً مما يلزمه به القرار الدولي 2254 ولاسيما ما يتعلق بالموضوعات الإنسانية التي حدد القرار كونها فوق التفاوض مثل إدخال المساعدات إلى المناطق المحتاجة وفك الحصار والتوقف عن قصف المدنيين، كما أنه أمعن في خرق الهدنة التي فرضتها روسيا والولايات المتحدة، وسرعان ما اخترقها النظام وروسيا معاً، بذريعة أنهما يحاربان الإرهاب، مع أن الضحايا جميعاً كانوا من المدنيين أطفالاً ونساء وشيوخاً. وربما كان قصف المشافي مؤخراً وما أحدث من ضجيج عالمي هو الذي اضطر روسيا إلى استعادة هدنة تعد بالساعات وقد تم اختراقها أيضاً. ثم إلى إصدار بيان ضعيف شاركتها فيه الولايات المتحدة قبل مؤتمر باريس، وفيه وعد بأن ترجو روسيا النظام أن يخفف من عدد طلعاته الجوية وأن يقلل من عدد القتلى المدنيين، ولم يحدد البيان العدد الذي تسمح فيه روسيا والولايات المتحدة للنظام بالقتل اليومي.
وما يتردد اليوم عن حشود للنظام وللجيوش الإيرانية والروسية والشيعية المتجهة إلى حلب وإلى الغوطة وإلى درعا يجعل مفاوضات جنيف مؤجلة من قبل النظام إلى ما بعد الانتصار كي تأتي المعارضة مهزومة مسحوقة، ولن تكون هزيمتها (لا سمح الله) انهياراً لثورة الشعب السوري وحكماً عليه بالرضوخ الأبدي، وإنما ستكون انهياراً للأمة العربية كلها بما فيها الدول المؤيدة للنظام حيث ستجد إيران فرصة واسعة لمزيد من التوغل في العمق العربي كله، كما فعلت في لبنان والعراق وكما تفعل اليوم في سوريا، مما يعيد إلى الأذهان المرحلة الصفوية في التاريخ الإسلامي.
ولم تنفع مع إيران كل النداءات العربية العقلانية التي دعتها إلى حسن الجوار، وإلى التعاون والتفاعل الإسلامي أو الإنساني، ولا الدعوات الحكيمة إلى التحكيم (كما في موضوع الجزر الإماراتية) ولم يتوقف طموحها في التسلط على الدول العربية وبخاصة في اليمن والخليج العربي، وقد بدا للسوريين أن ما تفعله إيران هو جردة حساب تاريخية تستعيد الماضي البعيد من ذي قار إلى حرب العراق الأخيرة.
ربما تنتظر قيادات المعارضة اليوم ما سينجم عن لقاء فينا القادم في17 مايو، وهي لم تجد في لقاء باريس الأسبوع الماضي ما يدفع إلى التفاؤل، لكننا نشعر أن الرغبة الروسية في إقصاء أصدقاء سوريا وبخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي كله عن الملف السوري ومباركة الولايات المتحدة لهذا التفرد الروسي سيهدد الحضور الأوروبي الدولي لاحقاً، وهذا ما لا يغيب عن الذهن الأوروبي، ونرجو أن يستعيد أصدقاء سوريا الأوربيون حضورهم في مؤتمر فيينا القادم، وهم الذين استضافوا مئات الآلاف من السوريين المهاجرين، وكان موقفهم الإنساني حضارياً وأخلاقياً.
تضيق المساحة الجغرافية وتزداد ضراوة المعارك فيها وسط انقطاع بالأمل فيما يتعلق بوجود أي حل إلا العسكري، فيما سيكون السياسي
مجرد عن مرحلة تطرح في زيل القائمة.
حلب تحولت وباتت في صلب العديد من المخططات سواء فيما يتعلق بالهلال الشيعي الذي عاد للظهور مجددا أو في الأطماع المتزايدة من قبل الفصائل الكردية الانفصالية أم بأحلام داعش التمددية.
فاليوم فصائل حلب أمام خيار واحد لا ثاني له إما التوحد أو النهاية والرضوخ لأحد المشاريع الثلاث أنفة الذكر.
وتتجه الفصائل العسكرية في حلب اليوم بمجملها وعديدها المتنوع نحو التوحد في جسم لا زالت ملامحه طور الرسم، والاسم المبدئي هو (الجبهة الشمالية) التي سيذوب ضمنها الجميع تحت قيادة موحدة منسقة قارئة للخطط الثلاث، ولديها الرؤية للتعامل مع تلك الخطط باستخدام كافة الأسلحة المتوفرة لدى الفصائل تحت إدارة وقيادة واحدة.
الجبهة الشمالية لن تكون كتجربة سابقة شهدتها حلب، وإنما ستكون تجربة من نوع محدث يغلب عليها طابع (وحدة المصير)، ووفق مصادر خاصة فإن أبرز الفصائل التي ستنضم (الجبهة الشمالية) هي الجبهة الشامية، جيش المجاهدين، وفرق الجيش الحر الشمالية و13 و16 بقية الفصائل الأخرى.
وشيء بالشيء يذكر ان مسودة الاتفاق النهائي قد بوشر بها ووصلت لمراحل متقدمة جداً وبوادرها ستظهر للنور خلال فترة بسيطة لا تتجاوز الشهر فالخطط الموضوعة ضد حلب تطبخ على نار قوية وبحاجة لتحركات مصيرية وقرارات على مستوى عالي من المسؤولية.
هذا شق بسيط من كم من المعلومات سنحاول إيصالها تباعاً في الأيام القادمة.
قد يكون الربط ، بين دخول المساعدات إلى داريا و سقوط الأسد ، غير منطقي للوهلة الأولى، لكن هو واقعي و حقيقي، و الصفقة لو تمت بالأمس لبات الأسد في مرمى الانهيار و السقوط، لانتهاء كل الحجج و الذرائع و تحولها إلى اضحوكة تعلو وجوه العالم أجمع، عندما يسمع بأن القصف هو ضد "الارهابين" و أن الحرب هي ضد "الارهابين" و أن "الإرهاب" في كل مكان، و أن مناطق الأسد وحدها من تحوي السوريين.
بالأمس كان الحماس الأممي و المنظمات الانسانية عالياً لدرجة يصعب استيعابه من قبل أشخاص أمثالنا، فالإنجاز كبير بالنسبة لهم، ووصولهم إلى حصون تلك المدينة التي قيل أنها اسطورة يستحيل الدخول عليها و الخروج حياً، كما يحدث و جرت العادة بالنسبة لقوات الأسد و كل القوات التي أتت نجدة له ، يعتبر انجار لا يفوّت و لو دخلوا ببعض الأدوية و القرطاسية.
و لم يكن يفصل الإنجاز المرتقب عن تحوله إلى شيء ملموس إلا بضع أمتار، ولكن هذه الأمتار تعني بشكل قاطع أن الأسد اذا ما سمح بها، فإنه سيسمح بالتخلي عن سلطته و نفي سلسلة الكذب اللامتناهي، ففي داريا لا يوجد جبهة نصرة ، و في داريا لا يوجد مقاتلين فحسب ، و داريا ليست بلدة فارغة، ففي داريا نساء و أطفال ، وفي داريا أناس لازالوا يعيشون و يواجهون الموت، و المساعدات التي كان من المفروض دخولها هي لأؤلائك، ومجرد الدخول يعني أن هناك حياة و هناك من من الممكن أن يصدر بيان ادانة أو شجب في أحسن الأحوال اذا ما تمت ابادتهم.
لعل الأمم المتحدة و المنظمات المساعدة لها تعجلت في استعراض النصر الوهمي، و أتبعته بتعجل آخر عندما قالت أن الهدف القادم "دوما" و "حرستا"، أي محيط دمشق ليس عبارة مسلحين فحسب كما يصور و يسوق النظام و حلفاءه، و إنما هناك مدنيين بحاجة لمساعدات واجبة.
قد يقلل البعض من أهمية هكذا أمور على اعتبار أن المجتمع الدولي (دول – منظمات) شريكة للأسد في جرائمه ، و هي بالفعل كذلك، لكن هذه التصرفات تجعل من أمر إخفاء جزء من قباحة الأسد ليس باليسير أو الممكن، وبالتالي سيكون سلاحاً جيداً بيد هيئة المفاوضات التي تنتظر يوم ١٧ الشهر الحالي لتتابع قرار مجموعة دعم سوريا، من خلال اجتماع فيينا في نسخته الثانية.
لا يرهق الروح و يضني الجسد شيء كدموع امرأة تحمل طفلتها تبكي، جوعاً على أرض عُرفت بأنها بستان لدمشق و ما حولها، على أرض قدمت مئات الشهداء، على أرض ظلت شكوت لم تلن أن تنكسر أمام أعتى القوى و الأسلحة، واليوم تواجه الموت جوعاً مع تشارك العالم أجمع وعلى رأسه الأمم المتحدة.
من الممكن أن تعيد مشهد المرأة الباكية بعد التأكد أن قافلة المساعدات التي ستدخل "داريا" الصامدة، لن تتضمن أي أغذية، و إنما بعض الأدوية و اللقاحات، مترافقة مع جلبة كبيرة بأن الأمم المتحدة و شركاء دولين تمكنوا في النهاية في كسر الطوق الناري و المميت حول المدينة المضروب منذ ٢٠١٢.
كم هي قاتلة دموعها، و هي تحمل طفلتها الجائعة، و صوتها الذي يزلزل النفوس، وتتساءل كيف سنشرب الدواء على معدة "فارغة"، لحظات يغيب صوتها، خلف سنوات الألم و الهرب من الموت و القذائف و الأهم البراميل التي اشتهرت بها هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة، حتى سميت بمدينة "البراميل".
امرأة تقتل أصحاب القلوب الحقيقة المنتمين لصنف "البشر"، و لكن لا مكان لدموعها أمام الجزارين الحقيقين و المستترين بلباس البشرية أو مدعي الانسانية، الذين باتوا شريك فغلي و حقيقي، للقاتل و السفاح و المحاصر و الممارس للإبادة تحت نظر العالم أجمع، و اليوم بمشاركة فعلية.
داريا اليوم تواجه حقد العالم عليها، لكل بقعة جغرافية ترفض الاستبداد، وقررت العصيان على كل الظلمة، وواجهت كل الجيوش و كل القوات وبقيت صامدة، و لكن سنوات الموت و الحصار أرهقت الأجساد و الأرواح، و أوهنت المعنويات، و رغم ذلك يقوا صامدين، و لكن الطعنة الجديدة ألمتهم.
لا يمكن أن تطّوع اللغة لتنقل المشهد من داريا التي تبكيني اليوم حزناً، بعد أن أبكتنا فرحاً، و رفعت رؤوسنا عالياً و هي تضرب الأمثلة في البطولة و الرجولة و الثبات و الوحدة، ولازالت و ستبقى كذلك
فوجئ الصحافيون الغربيون في موسكو الأسبوع الماضي بدعوة عاجلة من وزارة الخارجية للاستعداد للتوجه الى سوريا. هدف الرحلة ظلّ سراً، ولم يتبلغ الصحافيون أي تفاصيل باستثناء أن ثمة لباساً "رسمياً" للزيارة، هو سترة واقية من الرصاص، كما حُذر الصحافيون الأميركيون تحديداً من أنهم إذا جاءت كتاباتهم سلبية "تكون رحلتهم الأولى والأخيرة".
منذ انطلاقتها، شهدت المغامرة الروسية في سوريا كثيراً من الحيل والعروض، بدءاً من شعارها المعلن محاربة الإرهاب، وصولاً الى اعلان انجاز المهمة. إلا أن دعوة الصحافيين للاستماع الى أوركسترا مسرح ماريينسكي تؤدي مقطوعات لباخ وبروكوفييف في مسرح أثري بتدمر حرر للتو من براثن "داعش"، تشكل ولا شك إحدى أكثر الالاعيب الروسية غرابة.
بدأت رحلة كسب العقول والقلوب والآذان أيضاً، استناداً الى مراسل صحيفة "النيويورك تايمس"، من اللاذقية حيث حطت الطائرة التي نقلت نحو مئة صحافي أجنبي من موسكو. هناك، رفع الستار عن فصل جديد من المسرحية الروسية استمر 56 ساعة، بما فيها أكثر من 12 ساعة مسافة الطريق ذهاباً وإياباً من اللاذقية الى تدمر.
لا أحد يشكك في أهمية الموسيقى الكلاسيكية في الثقافة الروسية، الا أن العملية اللوجيستية والأمنية الضخمة التي تطلبها نقل هذا العدد من الصحافيين من اللاذقية الى وسط سوريا الذي كان حتى وقت قريب منطقة حرب، أظهر تجربة متطورة في البروباغندا التي تخلط الإرث الثقافي الغني لموسكو بطموحاتها العسكرية غير المحدودة. وتطلب نقل الصحافيين خمسة باصات كبيرة واكبتها ثمانية آليات مدرعة مجهزة برشاشات آلية وآليتان قتاليتان مع مرافقة دائمة من طائرتي هليكوبتر هجوميتين طوال الرحلة. وعلى الطريق، مر الصحافيون بقواعد عدة تضم طائرات هليكوبتر روسية قرب حمص وتدمر وغيرهما. الا أن أكثر ما فأجأهم، كما قال مراسل شبكة "سي أن أن" الاميركية للتلفزيون، هو رؤية هذا العدد من الجنود الروس في مواقع عدة من سوريا. ولفت الصحافيين الموقع الجديد الذي بناه الجيش قرب تدمر الأثرية. ومع أن الموقع نظرياً هو قاعدة للفريق الذي أزال آلاف الالغام من تدمر وضواحيها في الاسابيع الاخيرة، لاحظ الصحافيون أن العتاد المنتشر فيها يتجاوز كاسحات الالغام الى عشرات الاليات القتالية وناقلات الجند المدرعة، وصولاً الى نظام للدفاع الجوي من طراز "بانتسير- س 1" القادر على إطلاق صواريخ وقذائف على طائرات.
اختلفت مشاهدات الصحافيين عن الرحلة السورية. فثمة من ركز على محاولات الروس إظهار دورهم في "مصالحات" يديرونها في سوريا، وإن يكن البعض لم يفهم من كان أطراف تلك المصالحات. ولفت آخرون إلى الأسلحة الروسية المتطورة . لكن الخلاصة التي أجمعوا عليها هي أن التعزيزات الروسية في سوريا أكبر بكثير مما يعتقد، وأن لا شيء في القواعد الروسية يوحي بأن بوتين ينوي ترك البلاد في أي وقت قريب.
بعد أكثر من خمسة أعوام على بدايات هبوب عواصف ما يسمى «الربيع العربي»، الذي مرَّ على بعض الدول العربية مرور الكرام و«بردًا وسلامًا»، والذي استوطن بزمهريره ورياحه الهوجاء المدمرة دولاً عربية أخرى، بتنا نسمع من بعض الذين طفح كيلهم، والذين من الممكن اعتبارهم من المؤلفة قلوبهم، اتهامات مجحفة وقاسية لهذا «الربيع» واعتباره كارثة حلت بالأمة العربية لمصلحة «العدو الصهيوني» و«الإمبريالية العالمية»، والبعض من هؤلاء يقول: وأيضًا لمصلحة إيران الشعوبية والفارسية!
والسؤال الذي يجب طرحه في البدايات قبل الاستطراد في مواصلة الحديث عن هذه المسألة هو: لماذا يا ترى مرّ هذا الربيع العربي على بعض الدول العربية بسرعة «وسلاسة» ومن دون كوارث اجتماعية ووطنية، في حين أنه «استوطن» دولاً عربية أخرى وأحل فيها الخراب والدمار وحول تعارضاتها وتناقضاتها من ثانوية إلى رئيسية وإلى حروب طاحنة كانت حصيلتها حتى الآن ملايين المهجرين واللاجئين، وأيضًا ملايين الجرحى والمشردين ومئات الألوف من القتلى الذين مزقت أجسادهم قذائف المدافع والصواريخ والطائرات والذين ابتلعتهم بحور الظلمات؟
لقد ضرب هذا «الربيع العربي» الأردن كما ضرب دولاً عربية أخرى، لكنه مر على هذا البلد، المملكة الأردنية الهاشمية، مرور الكرام وبردًا وسلامًا، مع أن بعض الذين تفرحهم مصائب أشقائهم قد سارعوا إلى محاولات صب الزيت على النار ودفعوا جماعة الإخوان المسلمين دفعًا لتحويل تظاهرات ومسيرات المطالب السلمية إلى مواجهات ساخنة وإلى عنف أهوج وإلى صدامات مسلحة.
لقد تركت الدولة الأردنية للأردنيين حرية التعبير عما يريدونه بالتظاهرات والوسائل السلمية وبالبيانات شديدة اللهجة في كثير من الأحيان، لكنها كانت حازمة وحاسمة في عدم استخدام القوة ضد هؤلاء، وكانت النتيجة أنْ مرَّ هذا الربيع العربي بسلام، وأنْ تعززت الوحدة الوطنية وتعزز التلاحم الاجتماعي وتحقق مزيد من الإصلاحات، وترسخت التجربة الديمقراطية التي جاءت في عام 1989 استئنافًا لتجربة عام 1956، التي أدت إلى توقفها لأكثر من ثلاثين عامًا نزعة الانقلابات العسكرية، التي كانت انعكاسًا لما جرى في مصر عام 1952 ولسلسلة الانقلابات العسكرية السورية، التي كانت بدأت بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949.
ولهذا ولأن صاحب القرار قد تصرف بحكمة وبسعة أفق، ولأنه تَرَك للشعب الأردني أن يعبر عن نفسه بكل الوسائل السلمية، وحيث لم تسقط ولا قطرة دم واحدة ولم تتوقف المسيرة الديمقراطية ولا للحظة واحدة أيضًا، فإن الأردن، المحاصر بالنيران وبالأزمات وبالقتل والاقتتال من الشمال والشرق ومن الغرب كذلك، بقي ينعم بهذا الاستقرار وبقي ينشغل بقوانين الانتخابات وبـ«اللامركزية» وبتطوير وسائل الإعلام وتعزيز المسيرة الحزبية، وفوق هذا كله مواصلة لعب هذا الدور الفعال، الذي لا يزال يلعبه في حل كثير من المشكلات والإشكالات الإقليمية والدولية.
ثم وإن ما يمكن قوله في هذا المجال هو أن ربيع الشقيقة العزيزة مصر كان هو أيضًا رقيقًا و«حنونًا»، قياسًا ومقارنة بما يجري في سوريا وفي ليبيا، وهذا يجب قوله بصراحة وبشجاعة، فإن الفضل بالنسبة لعملية التحول السلمي هذه التي تمت في أرض الكنانة يعود أولاً للشعب المصري وللقوات المسلحة المصرية.. وأيضًا للرئيس حسني مبارك الذي اختار التنحي في اللحظة الحاسمة، والذي لم يفعل ما فعله القذافي وما فعله علي عبد الله صالح وما فعله «ديكتاتور» سوريا بشار الأسد، الذي استكمل مسيرة والده في ارتكاب المذابح الجماعية وفي تدمير المدن السورية على رؤوس أهلها، وكانت النتيجة هو كل هذه الويلات التي تجري في هذه الدولة العربية الطليعية.
إن المشكلة لا تكمن في الربيع العربي، بل تكمن في الأنظمة الاستبدادية التي استقبلته بالعنف والقتل وبمزيد من اضطهاد شعوبها، فصاحب «الجماهيرية» الكريهة والرديئة لم يكتف بأكثر من أربعين عامًا من حكم فردي استبدادي وبدائي، ذاق خلاله الشعب الليبي الأمرين، ونهبت ثرواته وجرى تبديدها على المشاريع الفاشلة وعلى الإرهابيين والمرتزقة والتجارب الوحدوية المضحكة، فبادر إلى مواجهة ربيع الليبيين الذي كان من الممكن أن يكون سلسًا ورقيقًا وهادئًا بتلك الطلّة المرعبة من شرفة وكره في المنطقة المحرمة وبالطائرات والحديد والنار وبزمر القتل من المرتزقة والمجرمين، فكان لا بد مما لا بد منه بد، وكانت النتيجة أن أصبحت أبواب ليبيا مشرعة أمام «داعش» وأمام تدخلات الدول، التي سعت ولا تزال تسعى للتدخل في الشؤون الداخلية الليبية وفي شؤون سوريا، وأيضًا في شؤون اليمن.
إن هذا بالنسبة لليبيا التي أُخرجت من جلدها خلال أكثر من أربعين عامًا من حكم فردي أهوج ومتخلف، أما بالنسبة لسوريا التي عرفت أول التجارب الحزبية والديمقراطية والبرلمانية في الوطن العربي، بمشرقه ومغربه، فإنها ابتليت بأول انقلاب عسكري في عام 1949، ذلك الانقلاب الذي قطع الطريق على أول عملية سياسية كان على رأسها شكري القوتلي وحزب الشعب والحزب الوطني.. وبمشاركة لاحقة من حزب البعث، والذي تلاه نحو عشرين انقلابًا عسكريًا، بعضها معلن وبعضها غير معلن انتهت بانقلاب حافظ الأسد على رفاقه في عام 1970، وحيث تحول النظام بعده إلى نظام عائلي - طائفي، وليس لنظام الطائفة العلوية ولا حكمها الذي كان دور الطوائف الأخرى فيه، حتى الطائفة السنية، التي تصل نسبتها إلى ما يقدر بنحو سبعين في المائة من مجموع عدد سكان «القطر العربي السوري»، مجرد وضعية «ديكورية» ظاهرها غير باطنها ومراكز القوى فيها غير تلك الرموز التي كانت ولا تزال تظهر في المؤتمرات وفي المناسبات وعلى شاشات الفضائيات المحلية وغير المحلية.
وهكذا وعندما انطلقت شرارة «الربيع العربي» من درعا في مارس (آذار) 2011، فإن سوريا كانت مثخنة بالجراح وكانت متورمة بالأحقاد والقهر، وكانت قد تعرضت لحملات «تطهيرية» ومذابح إبادة جماعية كثيرة، أبشعها مذبحة حماة الشهيرة في عام 1982، ولعل ما زاد الأمور سوءًا وتوترًا، هو أن الرد على تظاهرة الأطفال في هذه المدينة السورية الجنوبية كان بالقمع والتبشيع و«فرمْ» الأصابع، وأن الرد على التظاهرات السلمية اللاحقة كان بالرصاص وبقذائف المدفعية وبغارات القوات الخاصة، وهذا كله قد أدى إلى أن يصبح ربيع هذا البلد العظيم هو هذا الربيع العاصف والدموي والمدمر، ولهذا فإن المشكلة لا تكمن في الربيع العربي، وإنما في هؤلاء الذين كانوا بدأوا حكمهم بانقلاب عسكري على رفاقهم، والذين أرسوا دعائم هذا الحكم الاستبدادي بالمذابح والاضطهاد، وبالاستحواذ على المواقع الرئيسية في الدولة السورية التي حولوها إلى دولة بوليسية ودولة سجون ومعتقلات ومذابح جماعية.
ليل الخميس - الجمعة (5 - 6 أيار - مايو) قصف طيران النظام السوري مخيم «غطاء الرحمة» للنازحين في بلدة الكمونة بريف إدلب. كان هؤلاء هربوا من جحيم حلب إلى ما ظنّوه ملاذاً آمناً أو شبه آمن. قتل وأصيب أكثر من مئة منهم في جريمة حرب موصوفة، بعد ساعات على جلسةٍ لمجلس الأمن دان فيها معظم الأعضاء الهجمات الوحشية للنظام على حلب واعتبرتها الأمم المتحدة جريمة حرب نظراً إلى تدمير منهجي للمستشفيات والبنية التحتية للمدينة. لكن روسيا منعت مجلس الأمن من إصدار بيان، مجرّد بيان تنديد، لئلا يشكّل ورقة أولى في ملف جرائم نظام بشار الأسد لمحاسبته بموجب القانون الدولي. وتأسيساً على هذه «الحصانة» التي توفّرها روسيا أغار طيران الأسد على مخيّم النازحين. هذه المرّة طلب بان كي مون بوضوح أن يتخذ مجلس الأمن إجراءات لإحالة ملف سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ما لبثت موسكو ودمشق أن لجأتا إلى التضليل لتمييع المسؤولية عن هذا القصف الإجرامي، بل اتهمتا «جبهة النصرة» بقتل نازحين في مخيم يقع في نطاق سيطرتها. شاركت واشنطن أيضاً في التضليل والتمييع، فكل ما استطاع ناطق الخارجية قوله أن «لا شيء يبرر الهجمات على المدنيين». هذا الموقف الأميركي المبالِغ في الخجل يريد مشاركة الأسد والروس في تعمية ما حصل فعلاً، لأن تأكيد مسؤولية الأسد يتطلّب من الأميركيين أن يحدّدوا الخطوة التالية وما إذا كانوا مستعدّين لخوض حملة تتبنّى طلب عقوبات دولية تتضمّن إحالة الأسد إلى المحكمة الجنائية. لكن هُزال الإرادة لدى أميركا - أوباما يجعلها تفضّل التهرّب من الحقيقة لتغطية العجز عن مواجهتها.
ما الذي يترتّب على انعدام المسؤولية روسياً وأميركياً؟ الجواب المفزع والمؤرق هو: تشريع الإبادة... ولا مبالغة في ذلك، فالإبادة كلمةً وتعريفاً ومنطقاً واقتناعاً تتكرّر حالياً على ألسنة جميع الذين يُنطقهم نظام الأسد بأفكاره، من «المفتي» إيّاه إلى الذين تختارهم الأجهزة «ضيوفاً» للفضائيات. ومع احتدام الصراع والبحث المحموم عن نهايةٍ لأزمةٍ زادت تعقيداتها داخلياً وخارجياً، بات النظام يعتبر أن لديه الحلّ الذي يؤيده حليفاه الإيراني والروسي، وهو الإبادة التي اعتمدها على نحو متقطّع منذ 2011 مقدّماً نماذج مكرّرة من مجزرة حماة (1982) التي سبق للولايات المتحدة أن تغاضت عنها. قد يشكّل نموذجاً لعقلية الإبادة هذه ولتسويغها في الأذهان ذلك الاستعراض المشين الذي قدمه أكراد عفرين لجثث من قتلوهم، في واحدة من الوقائع الأكثر بشاعة في هذه الحرب، لكنها مرّت من دون التوقف عندها كما لو أن التظاهر بالجثث صار أمراً عادياً. بل إن تلك العقلية الإبادية استكملت غزوها عقول الأفراد كما يظهر في الـ «سيلفي» المقزّز الذي التقطته تلك الصحافية على خلفية من الدماء.
في عام 1994، أبادت مجموعات من غالبية الهوتو في رواندا، وفي ما يقرب مئة يوم، نحو ثمانمئة ألف من أقلية التوتسي، واستهلك «المجتمع الدولي» شهوراً عدة طويلة قبل أن يحدّد ردّه وينشئ محكمة خاصة لمعاقبة الجناة الذين تمتعوا بتواطؤ من السلطة القائمة آنذاك. صارت تلك الجرائم «عقدة ذنب» كبرى لمعظم قادة تلك الحقبة وديبلوماسييها في أفريقيا وخارجها، وإلى وقت قريب كانت تعتبر خاتمة مذابح القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين أودتا بحوالى سبعين مليون شخص، إضافة إلى ملايين أخرى من الضحايا في حروب إقليمية ونزاعات أهلية. وقد عُزي الفشل في وقف الجريمة الرواندية إلى أسباب عدة، منها القصور في إدراك حقائقها وشحّ المعلومات الموثّقة عن وقائعها والتأخّر في تقدير حجمها وهولها، خصوصاً إلى ضعف الإرادة الدولية ودوافعها للتحرك. بالتزامن مع الحدث الرواندي كانت تدور حرب إبادة في الشيشان، لكن الولايات المتحدة قدّمت مصالحها على فضح الجريمة الروسية، وفضّلت التضحية بذلك البلد وببضعة بلدان أخرى بعده، كما تفعل الآن في سورية، بهدف إشباع مطامع روسيا ولن تفلح.
بالنسبة إلى سورية، حيث تدور المذبحة بما يشبه بثّاً مباشراً على مدى خمسة أعوام وشهرين، يمكن الحديث فقط عن إرادة دولية معدومة قلبت معاييرها ومفاهيمها بل هيّأت نفسها للتكيّف مع نهج الإبادة البطيئة والتهيّؤ لقبوله. لا أحد يستطيع التحجّج بأنه لم يعرف ما حصل ويحصل في سورية، وما جرى فعلاً كان طمس عشرات التقارير وتجاهل المعلومات والتوقف عن عدّ الضحايا للاكتفاء بربع مليونٍ كحصيلة «مقبولة». لكن دراسة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (أسكوا) مع جامعة سانت أندروز البريطانية كانت صادمة منذ سطورها الأولى: إذ قدّرت أن 2,3 مليون سوري قتلوا أو جُرحوا في الحرب، وأن 12 مليوناً تعرّضوا للتهجير، فيما فقد البلد نحو 260 بليون دولار من ناتجه المحلي، ليصبح 83,4 في المئة من الشعب تحت خط الفقر. وفي نهاية 2015 كان هناك 13,5 مليون شخص (بينهم ستة ملايين طفل) في حاجة إلى مساعدة إنسانية، وبينهم أكثر من أربعة ملايين يعيشون في دمشق وريفها ومحافظة حلب، وهذه هي المناطق التي يتطلع النظام إلى الإجهاز عليها لتحقيق ما سمّاه الأسد «النصر النهائي» في برقية شكر وجّهها إلى فلاديمير بوتين.
جميع داعمي الأسد ونظامه، العلنيون منهم وغير العلنيين، خصوصاً روسيا وإيران والولايات المتحدة، كانوا شركاءه في كل ما ارتكب من مجازر وسيبقون وراءه في اعتزامه الإقدام على الإبادة كـ «حل نهائي»، وفقاً للمصطلح النازي، ويريدون له «النصر النهائي» هذا. فهو لم يلمس في أي لحظة أن الدولتين الكبريين مختلفتان فعلاً في شأن بقائه، ذاك أن أميركا غير الراغبة في التدخل عارضت علناً تسليح المعارضة بما يمكّنها من الدفاع عن مواقعها، وأميركا هذه تغاضت عن التدخل الإيراني حين كان يقتصر على «خبراء» وميليشيات ولا تزال تتغاضى عنه بعدما أصبحت طهران تعلن رسمياً إرسال قوات خاصة وضباطاً وجنوداً إلى سورية (قتل منهم أخيراً أكثر من ثلاثين شخصاً). أما روسيا فلم تخذل الأسد في أي مرحلة وعندما دهمه خطر حقيقي صار تدخلها مباشراً وباتت تضع هيبتها على محك إنقاذه وفرض الحل السياسي الذي يناسبه. وفوق ذلك أخضعت تفاهماتها السرّية مع أميركا لمصلحته.
ما انكشف في حلب ثم في قصف مخيم الكمونة ليس فقط نهج الإبادة، ولا صعوبة التوصل إلى هدنة شاملة فحسب، بل سقط مسلسل التضليل الأميركي - الروسي لتغطية خدعة «حل سياسي» يرمي أساساً إلى إعادة إخضاع الشعب السوري لمجرم الحرب وزمرته من القتلة. ولعل هذا الاقتراب من منطق الإبادة هذا هو ما دفع الفرنسيين والبريطانيين والألمان إلى قرع ناقوس الخطر، كما سبق أن فعل العرب والأتراك. فهم يساندون التحرك الأميركي ويتفهّمون الكثير من جوانبه رغم غموضها والتباسها، إلا أنهم يرفضون انجرار الأميركيين وراء النهج الروسي - الإيراني ووقوعهم في تبرير جرائم نظام الأسد والسكوت عنها. ويرى الأوروبيون أن ثمة فارقاً شاسعاً بين استخدام التفاهم الأميركي - الروسي لحضّ الأسد والمعارضة معاً على «حل سياسي» يتطلّب التزامات وتنازلات، وبين تسخير ذلك «التفاهم» في إرضاء الإيرانيين وحفز الأسد على الاستشراس في الحسم العسكري وتحصينه من أي مساءلة ومحاسبة. والأهم أن الأوروبيين الذين أرادوا تخفيف موجات اللاجئين فسايروا حلّاً سياسياً، ولو مجحفاً للمعارضة، اكتشفوا أن الأميركيين والروس بالغوا في الكذب بالنسبة إلى «صمود الهدنة» أو إلى صلاحية العملية السياسية المقترحة، وبالتالي فإن مشكلة اللاجئين مرشحة للضغط مجدداً على أوروبا. والحاصل الآن أن صعوبة إقامة هدنة وضمان احترامها من النظام والإيرانيين باتت بصعوبة إعادة المعارضة إلى مفاوضات جنيف، لأن اللعبة انكشفت تماماً فحتى التسوية المجحفة لا يريدها النظام، لذا فهو يتعمّد ضرب الهدنة لضرب المفاوضات. هذا ما دفع الأوروبيين إلى المطالبة بـ «مبادرة جديدة» لأن الصيغة التي انبثقت من لقاءات فيينا، ثم أصبحت القرار 2254 استطاع الروس والأسد والإيرانيون إفسادها وحتى إسقاطها.
ستنجح روسيا في الضغط على النظام السوري، وبدلاً من إلقائه مئة من البراميل المتفجّرة فوق رؤوس المدنيين في حلب وريفها، سيكتفي بخمسين أو ستين... ولكن لفترة هدنة فحسب، لا تتجاوز بضعة أيام. يدرك النظام أن كل ما يقال عن ضغوط أميركية على موسكو لكي تلجم اندفاعه إلى التصعيد، هو مجرد ثرثرة، وأن إيران لن تتركه مجرد ورقة في يد الروس، إذ تتوعّد بالثأر لـ «كارثة» قتل «مستشارين» من جيشها في سورية. فمزيد من التورُّط الإيراني في الحرب القذرة وفي إدارتها، يهيئ طهران لطلب الثمن، حين يحل وقت اقتسام مغانم الصفقة.
لا شيء يوحي بأن النظام السوري قلِق من النيات الإيرانية، بل هو مطمئن إلى تقاطع مصالح موسكو وطهران في تمديد الحرب، و «ذبح» الفصائل المقاتلة المعارضة، فيما الغيبوبة الأميركية ستطول إلى ما بعد دخول خليفة باراك أوباما البيت الأبيض.
يدخل تنظيم «القاعدة» فجأة على الخط، لينافس «غلاة الخوارج» في «داعش»، والرابح لا بد أن يكون النظام هذه المرة أيضاً، والمتضرر الأول هو الشعب السوري المنكوب الذي يقتله النظام والروس والإيرانيون و «داعش» و «القاعدة»، لمحاربة «الإرهاب»!
في ريف اللاذقية، يدعونا القيصر فلاديمير بوتين إلى الاحتفال معه بذكرى الانتصار على النازية، في قاعدة «حميميم»، كأن أراضي سورية باتت إقليماً روسياً، مثلما تعتبر طهران أنها تدفع ثمناً باهظاً لعدم التفريط بـ «محافظة إيرانية».
ما علينا سوى أن نصدّق بوتين ونصفّق له حين يذكّرنا بأن الحضارة البشرية تواجه «الوحشية والعنف»، لكأنّ ما يفعله حليفه النظام في دمشق لا يتعدى رشق مواطنيه بالورود، على إيقاع سمفونيات الكرملين. أما وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي يبدو لاهثاً، يحصي الأيام ليسلّم ملفات جريمة التواطؤ الكبرى إلى مَن يخلفه في الإدارة الجديدة، فلعله يُدرك أن لا أغبياء في العالم يثقون بحسن نية واشنطن، وتألُّمها لضحايا المجازر في سورية... أو قلقها على مصير ملايين، معلّق بين القنابل والجوع.
لا حاجة مجدداً لتعداد أدلة على كارثة الإفلاس الأخلاقي- الإنساني في إدارة السياسة الدولية. وإذ يبرع القيصر في الدعوة إلى «منظومة أمن عصرية» لمواجهة أخطار «أولها الإرهاب»، يضلّل العالم عمداً في تجاهل المآسي والكوارث التي نجمت عن دعم المحور الروسي- الإيراني الاستبداد في سورية.
أما البحث في منظومة الأمن «العصرية»، فلا بد أن يعيد إلى الذاكرة تباهي بوتين باختبار جيشه «البطل» أسلحة حديثة، مستخدمة دماء السوريين حقل رماية... وتباهي الصناعات العسكرية الروسية بجني أرباح وفيرة في المنطقة العربية، من خلال صفقات السلاح. تلك المنظومة العصرية، توسّع المصالح، والمقابر.
موسكو وواشنطن شريكتان في التضليل، وحين تتوعّد إيران بأنها و «روسيا وسورية وحزب الله» لن تترك ما حصل في حلب (قتل «مستشارين» إيرانيين وأسر آخرين) بلا حساب، أيُّ قيمة تبقى لأي هدنة؟ وحين تلتزم الولايات المتحدة «زيادة الدعم لحلفائها الإقليميين» لمساعدتهم في منع «تدفُّق المقاتلين والأسلحة أو الدعم المالي للمنظمات الإرهابية، عبر حدودهم»، ألا تكون تركيا تحت مزيد من الضغوط الأميركية، خصوصاً رضوخ واشنطن لذرائع موسكو؟
التسوية بعيدة حتماً، فلا القيصر يكشف أهداف سياسته أو استراتيجيته- إن كانت هناك استراتيجية- ولا البطة الكسيحة في واشنطن ستبادر قبل نهاية السنة إلى التكفير عن نهج «دع العرب يقلعون أشواكهم بأيديهم»، وهو برنامج خديعة حتماً.
وأما انتظار «المعجزة» بعد الانتخابات الأميركية فهو ذروة العبث والوهم، إن فازت هيلاري كلينتون يرجّح تمديد فصول المذابح، وإن انتصر دونالد ترامب، تقدّمت احتمالات نقل السياسة الأميركية من مرحلة انعدام الوزن الى حقبة جنون تغذيه أحقاد البليونير على المسلمين.
جميعهم «مشبوهون» بالإرهاب، لا يخفي ترامب طموحه إلى نفخ العضلات الأميركية مجدداً. وفي الحالين تضيع حقائق الاستبداد والعدالة، وتنتصر الغرائز في بحور الدماء.
270 ألف قتيل في سورية، في مرحلة التفاهمات الأميركية- الروسية. بين اندفاعة القيصر وجنون العظمة لدى البليونير، أي نهاية لنفق الظلام؟