التصريح الأخير للمبعوث الأممي الخاص، ستيفان دي ميستورا، بتحميل نظام بشار الأسد مسؤولية تعطيل المفاوضات، لا يرتقي إلى مستوى الجرائم والأحداث الخطيرة في سوريا التي ازدادت هذه الأيام. وما نسمعه منه أقل مما هو متوقع من الأمم المتحدة ومبعوثها، ومن الحكومات الكبرى، وكذلك الحكومات العربية المعنية حيال ما يحدث من تطهير طائفي متعمد، وتغيير ديموغرافي صريح، وعمليات قتل وتشريد تستهدف مئات الآلاف من المدنيين في مناطق مكتظة سكانيًا.
تصريحه أيضًا لن يلطف من هول الصدمة حول محاولة الإبقاء على الأسد إلى أكثر من عامين مقبلين، وتوقيت الحل السياسي تفاوضيًا، ليتلاءم مع مسرحية نهاية فترة رئاسة الأسد في ربيع 2018. فافتراض بقاء الأسد حاكمًا يلغي الحاجة إلى التفاوض. الأسد، شخص يفترض أن يحاكم بتهمة ارتكاب جرائم حرب من أبشع ما عرفناه في التاريخ الحديث، لا أن يكافأ بالإبقاء عليه تحت علم الأمم المتحدة!
سلسلة وعود كاذبة انخرط فيها الوسطاء منذ البداية، ففي عام 2013 قيل للسوريين انتظروا عامًا حتى موعد نهاية الأسد حتى يكمل فترة رئاسته، ويكون التغيير دستوريًا من أجل حفظ ماء وجه الأسد. وعندما جاء الموعد أجرى الأسد انتخابات مزورة، ونصب نفسه رئيسًا من جديد، واستمر في القتل والتشريد. الآن، مشروع المفاوضات يجعل الأسد يستمر حتى ربيع عام 2018، أي يتم توقيتها لتستمر إلى موعد الانتخابات.
طبعًا، لا أحد يتذكر تلك الكذبة الأولى الآن، لأن الأكاذيب صارت كثيرة. مثلاً قيل للمعارضة، اقبلوا بمفهوم «المحافظة على النظام» حتى يمكن تبني مشروع إقصاء الأسد، وبذلك نتجنب انهيار ما تبقى من الدولة، وحتى لا تتكرر غلطة الأميركيين في العراق الذين اعتقلوا كل القيادات وسرحوا كل الجيش والأمن. المعارضة قبلت بالعرض، وأعلنت استعدادها للمشاركة في حكومة مع عدوها النظام، لكن من دون الأسد.
ثم قيل لها لا بد أن تتواصلوا وتتفاوضوا مع الروس، لأنهم طرف فاعل، ومن خلالهم يمكن الانتقال إلى مرحلة تفاوضية تنهي الأزمة. المعارضة ذهبت إلى موسكو ولم يسمعوا هناك سوى التهديدات. وكان تعليق أحد المشاركين، ماذا بقي في سوريا حتى نخشى عليه من التهديد؟
وعندما أعلنت الحكومة الأميركية مشروعها محاربة تنظيم داعش، طالبت المعارضة بمشاركتها في قتال التنظيم باعتباره شرطًا للتعاون معها عسكريًا وسياسيًا، قبلت المعارضة. الأميركيون هادنوا التدخل العسكري الروسي وحربهم في الجو والإيراني على الأرض ضد المعارضة المعتدلة. كان ما يقلق الحلفين المتنافسين هو كيفية تنظيم العمليات العسكرية في سماء سوريا حتى لا تقع حوادث بينهما. كل ما حصل عليه السوريون من العمليات ضد «داعش» هجوم الروس على المناطق المدنية، وزيادة في الإغاثة الغربية من البطانيات والأغذية للاجئين.
سلسلة الوعود الكاذبة واللامبالاة هذه ستنجح في تحقيق أمرين خطيرين، الأول زيادة المأساة الإنسانية بمضاعفاتها المتعددة، والثاني انتشار الإرهاب الذي ينمو سريعًا نتيجة الفراغ والفوضى والغضب.
ويخطئ السياسيون عندما يتعاطون مع الأزمة السورية على أنها مجرد قضية متفرعة من تشابكات العلاقات المتوترة في منطقة الشرق الأوسط. الحرب في سوريا في الأصل قضية قائمة بذاتها وليست جزءًا من الصراع العربي الإيراني، أو السني الشيعي، أو الروسي الأميركي. وهذا لا ينفي أن سوريا أصبحت ساحة لصراعات متعددة. أزمة سوريا جذورها محلية، وهذا تاريخها بإيجاز. ولد نظام الأسد من منتجات الحرب الباردة ومحسوب على المعسكر السوفياتي، وبعد سقوط السوفيات لم يستطع أن يتغير أو يتطور. ثم صار وضعه أصعب بعد موت مهندس النظام، وضابط إيقاعه، أي مؤسسه حافظ الأسد عام 2000. تولى بعده ابنه بشار، الذي درس سنة واحدة في طب العيون، وفشل في إدارة الدولة. وفي عام 2011 واجه انتفاضة شعبية، مع بقية الأنظمة العسكرية الأمنية في المنطقة مثل مبارك مصر، وزين العابدين في تونس، والقذافي في ليبيا، وصالح في اليمن.
وبالتالي فإن قراءة الأزمة السورية على أنها نتاج صراع عربي مع إيران، أو نزاع مذهبي غير دقيقة، هي مضاعفات مباشرة لانهيار النظام وليست سبب الانتفاضة عليه. وبالتالي سيكون من المستحيل الإبقاء على الأسد إلا في حال إعادة مبارك للحكم في مصر أو ابن القذافي إلى ليبيا.
من أجل الإبقاء على الأسد في دمشق قام الروس والإيرانيون بذبح ثلث مليون إنسان، وتشريد اثني عشر مليونًا آخرين، وتدمير عشرات المدن. وهم الآن يحاولون طرد نصف الشعب السوري من مناطقهم لبناء دولة مكوناتها الإثنية تلائم قدرة الأسد الذي ينتمي إلى طائفة نسبتها من السكان عشرة في المائة فقط. فأي جنون هذا؟ وكيف تقبل حكومات المنطقة السكوت عن هذه المهزلة والمأساة الخطيرة؟!
ياله من مأزق كبير يواجه المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في مهمة لا يقدر عليها، ولا يرغب في التخلي عنها. وتبدو محاولته المتعثرة لجمع وفدين يمثلان نظام الأسد وقوى المعارضة الأساسية هي التجسيد الأكثر وضوحاً حتى الآن لمأزقه في ظل عجز المنظمة الدولية عن تنفيذ القرارات التي يصدرها مجلس الأمن. يبدو المبعوث الأممي كمن يحاول دون جدوى السير على حبل مشدود في غياب أي دور للمنظمة التي سمَّته مبعوثاً لها، وأمينها العام الذي سيدخل التاريخ من باب واحد هو عدد المرات التي أبدى فيها قلقه إزاء اعتداءات أو هجمات أو مذابح ثم لاذ بالصمت.
ويثير موقف دي ميستورا مزيجاً من الأسى والإشفاق، فالضغط الروسي المكثف عليه يعرقل سيره على الحبل المشدود، فيتعثر ويلجأ إلى كل ما تسعفه به تجربته الدبلوماسية من أساليب المناورة.
وانعكس ذلك حتى في التعبيرات التي يستخدمها، والألفاظ التي يضطر للتلاعب بها. فهو يتحدث تارة عن مفاوضات، وتارة أخرى عن مشاورات، ويستخدم أحياناً كلمة محادثات، رغم ما بين هذه المصطلحات من اختلاف. كما أن ما سعى لإجرائه في جنيف ليس واضحاً. فهل يُعد امتداداً لجولتي جنيف السابقتين، فنكون إزاء «جنيف 3»، أم أنه يؤسس لمسار جديد مختلف يقترن ببياني فيينا، ولا تربطه ببيان «جنيف 1» غير صلة شكلية.
وليس هذا مجرد ارتباك أو تخبط، بل تعبير دقيق عن أزمة المنظمة الدولية بعد أن بلغت مبلغاً ربما يفوق معظم الأزمات التي تضرب العالم. والحال أنه كلما تفاقمت إحدى هذه الأزمات، كما في الأزمة السورية الآن، ازداد انكشاف الأمم المتحدة وتجلى عجزها.
لذلك ليست مصادفة أن يكون الفشل قاسماً مشتركاً بين مبعوثيها لحل الأزمات التي يتوقف عليها مصير ثلاثة من بلاد المنطقة. ولم يعد غريباً، والحال هكذا، أن تفقد قرارات مجلس الأمن بشأن هذه الأزمات، وكثير غيرها، قيمتها حتى ما صدر عنها تحت الفصل السابع، مثل القرار الخاص بالأزمة اليمنية 2216. فمازال الانقلابيون يتلاعبون بهذا القرار في غياب أي استعداد من جانب مجلس الأمن لاحترامه رغم أن ميثاق الأمم المتحدة يُجيز استخدام القوة لتنفيذه.
ويحدث مثل ذلك بشأن القرار 2254 الصادر في 18 ديسمبر الماضي، لكن ليس تحت الفصل السابع، وكان المفترض أن يذهب الذاهبون إلى جنيف على أساسه، أي بعد تنفيذ ما ألزم أطراف الصراع في سوريا به، فقد نص هذا القرار على رفع الحصار عن المناطق المحاصرة، وفتح الممرات الإنسانية لإيصال المساعدات إليها وتيسير عمليات الإغاثة فيها، فضلاً عن إطلاق سراح المعتقلين، ووقف الهجمات ضد المدنيين، والعودة الآمنة للنازحين إلى المناطق التي هُجروا منها. وهذا كله موجود في بيان «جنيف»، الذي طالب مجلس الأمن مرات عدة بتنفيذه، قبل أن يجعله هامشاً على متن القرار 2245.
ومع ذلك، فقد رأى دي ميستورا أن تنفيذ ما قرره مجلس الأمن يدخل في إطار «الشروط المسبقة» التي عبّر عن امتعاضه منها، ولم يلتفت إلى إعلان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، في آخر يناير الماضي، أن الحصار والتجويع في سوريا الآن قد يرقيان إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية. وظل متمسكاً بموقفه ضد ما أسماه «شروطاً مسبقة». ولا يعود هذا الموقف إلى «فلسفة» معينة في تفسير القرار 2254، بل إلى عجز الأمم المتحدة عن تنفيذ قراراتها. فيعرف دي ميستورا بخبرته أن أي مفاوضات، أو حتى مشاورات جادة، تتطلب تمهيداً، والتمهيد البديهي في حالة سوريا هو وقف إطلاق النار وإنقاذ المحاصرين في 18 منطقة منكوبة، وإذا كان دي ميستورا بدأ حقاً في إدراك ذلك، كما يبدو في حديثه المتأخر عن ضرورة وقف إطلاق النار بعيد إعلانه تعليق «محادثات» جنيف ثلاثة أسابيع، فهذا يعني وضع المنظمة الدولية في اختبار صعب جدا. لكنه اختبار له هو أيضاً، ولكيفية تصرفه في ظل عجز سكرتارية الأمم المتحدة التي عيَّنته مبعوثاً لها، وتركته من دون أي عون، فلجأ للمناورة بطرق لا نعرف علاقة كثير منها بالقواعد المعروفة للوساطة في العلاقات الدولية.
يشكل كشف المملكة العربية السعودية مؤخرا عن استعدادها لتدخل بري في سوريا، ضمن صفوف «التحالف الدولي لمكافحة الارهاب« الذي شاركت في تأسيسه قبل اكثر من عام، خطوة جديدة تندرج في اطار اتباع سياسة اكثر حزماً تعتمد درء الخطر قبل استفحاله جسدتها منذ اطلاقها «عاصفة الحزم» في اليمن لمواجهة التغوّل الايراني في دول المنطقة.
فقد بحث وزير خارجيتها عادل الجبير مع نظيره الاميركي جون كيري الذي تقود بلاده حملات التحالف في تفاصيل هذه الخطوة بما يؤشر الى جديتها وفق ديبلوماسي لبناني سابق خصوصا وان الحديث عن امكانها يتزامن مع انطلاق مناورات «رعد الشمال» غير المسبوقة في حفر الباطن شمال المملكة والتي تحمل في طياتها رسائل متعددة ابرزها ان السعودية لن تتأخر كما فعلت في اليمن عندما لم تعلن «عاصفة الحزم» إلا بعد سقوط عدن. فـ«رعد الشمال» اول خطوة عملية لـ«التحالف العسكري الاسلامي» الذي تقوده السعودية والتي سبق للجبير ان اعلن انه قد يصل الى تشكيل «قوة ضاربة» للتعامل مع احداث ارهابية لا يقتصر تنفيذها على «داعش».
ومن المؤشرات أيضاً الى جدّية هذا الاستعداد، حملة التهديدات التي اطلقها على الفور النظام السوري بلسان وزير خارجيته وليد المعلم بالعودة في «صناديق خشبية«، في حين اطلقتها ايران بأصوات متعددة. فمن توعد قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري «بالهزيمة اذا اقدمت» الى تحذير نائبه حسين سلامي «من مغبة التدخل» مهددا من دون اعطاء تفاصيل بأن المنطقة ستشهد حينها «احداثاً مفجعة ومؤلمة»، وصولاً الى تلويح القائد السابق للحرس الثوري وأمين مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي ان هذه الخطوة «ستؤدي الى اشعال المنطقة كلها ومنها السعودية». اما روسيا فقللت من اهميتها عندما تساءلت عبر احد مسؤوليها عما اذا كانت الحرب قد انتهت في اليمن، في حين وضع وزير خارجيتها سيرغي لافروف، الذي تنحو بلاده بوضوح باتجاه فرض حلّ عسكري، الرهان على هذا النوع من الحلول في خانة السعودية، وإن لم يسمِّها، عندما قال «هذا السيناريو اصبح واقعياً بسبب تصريحات عن خطط لإرسال قوات برية».
وقد اعقب الاعلان السعودي فشل «جنيف 3» بسبب تصعيد الغارات الروسية الى حدّ غير مسبوق سمح باختراقات ميدانية اذ وصلت قوات النظام الى مشارف تل رفعت التي تبعد حوالي 25 كلم عن الحدود التركية وهو اكبر تقدم منذ عسكرة الثورة. فيما باتت مدينة حلب بين كماشة النظام ومقاتلي الاكراد اضافة الى «داعش» بما يهدد بإفراغها من اهلها وبما يمس بالامن القومي التركي وهو ما سيسمح حكماً بالتنسيق بين الدولتين في حال تنفيذ خطوة تدخل بري وفق المصدر نفسه.
وطالبت المعارضة في حلب، وفق معلومات صحفية، السعودية بالتدخل في صرخة «انجدونا وإلا انهزمنا» كما سبق لكيري ان توقع ان تؤدي ثلاثة اشهر من القصف الى «فنائها».
ويبقى السؤال هل تشهد «المجموعة الدولية لدعم سوريا» التي تلتئم اليوم في ميونخ، وفق الوعود الاميركية، مساعي متجددة لوقف اطلاق النار وايصال المساعدات للمدنين تطبيقاً للقرار الدولي 2254 الذي ربط بدء المفاوضات بهذه الشروط، بما يعني حكماً تراجع الهجمة الروسية علّ ذلك ينقذ العملية السياسية التي دخلت في موت سريري بعد تعثر «جنيف 3»؟.
ويتساءل المصدر «هل ستدفع روسيا هذه المرة في اتجاه وقف لاطلاق النار حفاظاً على مكاسب التقدم الميداني، خصوصاً وان الهدف المرجح للتدخل العسكري السعودي، الذي في حال تنفيذه سيستهدف بالفعل «داعش» لا الفصائل المعتدلة كما يفعل الروس، هو العودة بالجميع الى طاولة التفاوض؟».
كان لا بد من إجرام روسي فوق إجرام النظامين السوري والايراني ليأخذ الصراع في سورية وعليها مساراً آخر لم يرده الشعب السوري. بعد خمسة أعوام من القتل والتدمير والتهجير، كتبت موسكو وطهران لنظام بشار الأسد عمراً جديداً، بمزيد من القتل والتدمير والتهجير، وتعدّانه للسيطرة مجدّداً، كما خطّط وتمنى. لكن، السيطرة على ماذا ومن أجل ماذا، على ركام بلد بلا سكان ولا أهل، ولوضع سورية على موائد المساومات. عشرات الآلاف هجّوا الى أقرب ما ظنّوها ملاذات، لكن طائرات فلاديمير بوتين تلاحقهم من ملاذ الى آخر، فالرئيس الروسي لا يريدهم أيضاً في مدنهم وبلداتهم، يريحه أن يكونوا خارج الحدود، ولا يزعجه أن تكون ميليشيات الملالي الايرانيين من يقتلعهم من مساكنهم.
منتهى الوحشية هو ما تنهجه روسيا بوتين ضد السوريين، متقصّدة المدنيين، لأن النظام - حليفها، منذ كان، داوم على اعتبارهم أعداءه الأولين، ومنذ كان، ظل يقلق من صمتهم ويخشى خوفهم منه حتى وهو يقمعهم ويذيقهم أمرّ التعذيب. منتهى الانحطاط هو ما تنهجه ايران ولي الفقيه ضد السوريين، متضامنة مع حليفيها في التجرّد من أي اخلاقية، فمن يتعامل بهذا الاحتقار مع شعب سورية لا يمكن أن يكنّ لشعبه شيئاً آخر غير هذا الاحتقار. استطاع بوتين وخامنئي والأسد أن يثبتوا للعالم أنه لم يتعرّف بعد الى قاع الوحشية، فقد تكتلوا، ولا ينقصهم سوى كيم يونغ اون، ليصنعوا أحدث مآسي الانسانية على أنقاض احدى أقدم الحضارات البشرية والعمرانية. نجحوا في أن يكونوا الورثة الطبيعيين للنازية والفاشية والصهيونية، والأبطال المتماهين مع ارهاب «داعش» وما بعده.
لا يستطيع الآخرون، في الولايات المتحدة ودول اوروبا وحتى دول العرب، أن ينكروا أنهم شهود سلبيون على هذه المأساة، التي تحوّلت في اللحظة نفسها من قضية شعب يريد تقرير مصيره في جنيف الى قضية لاجئين هائمين في أرضهم باحثين عن خيمة تؤويهم. أصبح واضحاً الآن أن جنيف وفيينا ومجلس الأمن وقراراته مجرد ديكورات لفصول مسرحية الخداع الروسي، الذي لم يذهل إلا باستعداد ادارة اميركية للإنخداع وللعب الدور كما لو أنه من تأليفها. تفانى باراك اوباما في التفاوض النووي مع ايران، مكتفياً بالتفرّج على جرائمها في العراق وسورية واليمن، ثم على جرائم روسيا، ظناً منه أن الاتفاق النووي سيكون «الإرث» الرفيع لعهده في البيت الأبيض فإذا به يورّث العالم نظاماً دولياً يهيمن عليه واحد من أسوأ «محاور الشرّ» في التاريخ. وفيما واظبت اميركا - اوباما على «التفاهم» مع روسيا - بوتين، وإيهام العالم بأنها دولة مسؤولة ترغب في «حل سياسي» يحافظ على الدولة في سورية، وبدل أن تستوحي موسكو، في سعيها الى هذا الحل، القرار 2254 الذي صيغ بعنايتها، إذا بها تسترشد بكتاب «ادارة التوحّش» لـ «القاعدي» «ابي بكر ناجي».
أسوأ أنواع «الاستكبار» وأقبحها أن لا يكتفي المجرمون والشهود العيان بارتكاب هذه المأساة في حق الشعب السوري بل يزيدون اليها الإهانة عندما يبررونها بظهور تنظيم «داعش»، وكأن هذا الشعب مصدر هذا الارهاب الذي غزا أرضه ليجد أن الأسد والايرانيين قد فتحوا له الأبواب. «داعش» صنيعة هذين النظامين وذريعتهم، وما لبث بعد انتشاره أن صار وسيلة لكثيرين يتنافسون على محاربته، وبالأخص على استخدامه للتضحية بسورية وشعبها معاً. مذهلٌ كمّ المعلومات المتداولة بين المجرمين ولدى شهودهم عن ارتباط «داعش» بإيران، وعن التوجيهات التي يتلقاها للهجوم هنا والانسحاب هناك، والوجهات التي يُطلب منه تصدير مقاتليه اليها، وتعليماته لخلاياه في الخارج بوقف نقل المجندين الى سورية والتحرك في اماكن وجودها، وعن مهماته المقبلة... كل ذلك تعرفه الأجهزة والحكومات ووثّقته من خلال عشرات المخبرين من جنسيات مختلفة داخل «داعش»، لكنها تتكتّم عليه لأسباب ودوافع يصعب تفسيرها، سواء للحفاظ على مصادرها وعلى الكذبة الشائعة أو لأن «داعش» يوفّر للدول الكبرى فرصاً شتّى لاستخدامه. ثم أن كشف حقيقة دور ايران يستوجب محاسبتها، فكيف تقدم الدول الكبرى على ذلك فيما هي متهافتة على ايران لانتزاع العقود والصفقات.
الكل يعرف أنه سيُقضى على «داعش»، وبسرعة، متى تنتهي صلاحيته ووظيفته، فقد وفّر لروسيا ونظام الاسد وايران إمكان «شيطنة» المعارضة السورية لتبرير «سحقها» و «إهلاكها»، وفقاً للتعبيرات استخدمها جون كيري أمام نشطاء مدنيين سوريين في غرفة مجاورة لقاعة «مؤتمر المانحين» في لندن حيث اعتلى المنبر ليتفوّه بكلام مغاير. لم يعد هناك فارق بين كيري وسيرغي لافروف، على أن الثاني يفعل ما يقوله، أما الأول فلا يزال يرطن علناً بموقف اميركي أصبح كذبه كارثياً فيما يستغلّ الكواليس لتسويق توجيهات زميله الروسي. وفي السياق قدّم «داعش» أكبر الخدمات للسياسة الطائفية الايرانية، فصعوده وانتشاره وأشرطة قطع الرؤوس دعمت «شيطنة» السنّة عالمياً، أما هجماته واعداماته كتراجعاته وهزائمه فحققت لطهران أحلاماً استراتيجية تاريخية بتدمير كل الحواضر الاسلامية وشواهدها الأثرية ومقوّماتها الاقتصادية وميراثها الثقافي. ولا يبدي الشهود الدوليون استهجاناً ازاء الادارة الايرانية لهذا التوحّش، لكنهم كانوا يريدونها بعيداً من شوارعهم ومن دون موجات اللاجئين وأعبائها وازعاجاتها. لن يستطيعوا القول مستقبلاً أن جريمة العصر في سورية والعراق حصلت من دون علمهم وموافقتهم. شاؤوا أم أبوا، انهم شركاء فيها.
لا يقتصر الخداع الروسي على لعب الحل العسكري ضد الحل السياسي، أو على التلاعب بالمبادئ التي بني عليها القرار 2254 وأهمها وحدة سورية شعباً وأرضاً، بل ان دورَي روسيا و «داعش» يبدوان متزاملين ومتلازمين في تسهيل تسريب فكرة التفكيك الجغرافي لخريطتَي سورية والعراق الى النقاش السياسي حول استئناف التفاوض بعدما دُمّرت مقوّماته. فالاستحالة والتعجيز اللذان وضعت المعارضة أمامهما جعلتا موسكو تهدد بتنظيم تفاوض بين النظام بعد استعادته السيطرة و «معارضتها» المستعدة للقبول بصيغة حكومية غير انتقالية لطي صفحة الأزمة، بما فيها الاكراد الانفصاليون الذين باتوا يشكلون الحركة الأولى المعلنة في تفسّخ وحدة الأرض السورية ويحظى «اقليمهم» باعتراف روسي مبكر وبحماية وتسليح اميركيَين.
في السياق نفسه يدعو رئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني العالم الى الاعتراف بإخفاق معاهدة سايكس - بيكو (1916) للشروع في ترسيم جديد للحدود تمهيداً لإقامة دولة كردية، مشيراً الى أن المجتمع الدولي بدأ يتقبّل أن سورية والعراق لم يعد توحيدهما ممكناً. ومردّ ذلك في نظره الى «اجتياحات داعش». هذا يعيدنا الى «داعش» الذريعة والوسيلة، أي الى جانب جزئي من الحقيقة التي يتشكل جانبها الأكبر والأخطر من نتائج الغزو والاحتلال الاميركيين للعراق ثم الهيمنة الايرانية عليه، ومن التدخل/ الاحتلال الايراني ثم التدخل/ الاحتلال الروسي لسورية وما رافقهما من تطهير مذهبي وإثني. ولم يفعل الروس أكثر من إكمال ما بدأه الايرانيون من توجيه مصير سورية نحو التفكك. من هنا التساؤل الذي أطلقه وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند عن حقيقة التزام روسيا عملية سلام أم أنها «تستخدمها لتقديم نصرٍ عسكريٍ ما للأسد يتمثل في إقامة دويلة علوية في شمال غرب سورية»؟
الحل العسكري لا مفاوضات الحل السياسي هو ما تسعى اليه روسيا من أجل حليفها أحد أسوأ الأنظمة في تاريخ البشرية، وهو ما تحبذه الولايات المتحدة فهي لم تتوقف عن احباط المعارضة ودفع الشعب السوري الى الجدار الأخير ليقبل بأي «حل سياسي»، حتى لو كان تقسيماً و «دويلة علوية». روسيا تقود حلفاءها الى نصر لا معنى مستقبلياً له، وأميركا تخصصت في ادارة هزائم مَن يعتقدون أنهم حلفاؤها و «أصدقاؤها».
تبدو الصورة قاتمة للغاية في حلب ومنطقتها حيث يستخدم طيران ومدفعية روسيا والنظام السوري كثافة نارية هائلة في تدمير ممنهج لمناطق تمركز المعارضة، تستغله الميليشيات الإيرانية من «الحرس الثوري» و «حزب الله» والهزارة و «الألوية الشيعية» العراقية في التقدم بهدف محاصرة المدينة وقطع خطوط الإمداد إليها، في وقت تتولى واشنطن لجم أنقرة ومنعها من أي تدخل، إذا كانت تفكر في ذلك أصلاً، بعدما أقفل الروس المجال الجوي السوري أمام طيرانها، من دون أي رد فعل من الأميركيين وحلف شمال الأطلسي.
ويعني هذا أن المعارضة السورية التي أبدت ممانعة في الذهاب إلى «جنيف 3» لأنه من دون أولويات ومرجعية واضحة، ثم قررت بعد ذهابها عدم التفاوض في ظل استمرار العمليات العسكرية الروسية، وخصوصاً قصف المناطق المدنية، تخضع حالياً لعملية «تأديب» مشتركة بين أميركا وروسيا كي تستجيب الشروط التي صاغتها الدولتان الكبريان في قرار مجلس الأمن 2254، وأصرتا عليها في إبداء وزيري خارجيتيهما الاستياء من تأجيل المفاوضات، ما يحول في رأيهما دون نجاح الحرب على «داعش».
أما تركيا التي لا يهمها فعلياً سوى «العامل الكردي» المساعد في الهجوم على المعارضة وفي تغطية العمليات الروسية، فتكتفي بالإعراب عن قلقها من حصار حلب واحتمال سقوطها، وتهرب إلى الانشغال بقضية اللاجئين الجدد الذين أقفلت حدودها في وجههم، لتغطية عجزها عن القيام بما يمكنه التخفيف من الاندفاعة الروسية التي تهدد نفوذ أنقرة في المنطقة المعروفة بروابطها التاريخية معها.
وفي وقت يتجنب الأميركيون أي صياغة سلبية في تصريحاتهم عن الوضع في الشمال السوري، يواصلون مواقفهم الخطابية بدعوة الروس إلى القبول بوقف إطلاق النار من دون ضغط فعلي لجعل ذلك ممكناً. ويكتفي جون كيري بالحديث عن «الخطة ب» في حال لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق على وقف القتال اليوم في ميونيخ. وهو ما قابلته موسكو بازدراء لأنها تعرف أن مصير هذا التهديد لن يكون أفضل من مصير التهديد الذي لوح به أوباما عندما استخدم جيش بشار الأسد السلاح الكيماوي في غوطة دمشق العام 2013 وانتهك «الخط الأحمر» الأميركي.
وفي المقابل، تسترضي موسكو واشنطن بمواقف مجانية في المنطقة الآسيوية التي تركز اهتمامها عليها، على غرار إدانة إطلاق كوريا الشمالية صاروخاً باليستياً خلال مداولات مجلس الأمن، على رغم أن المعلومات تشير إلى أن بيونغيانغ حصلت على مكونات رئيسية في الصاروخ من الروس أنفسهم.
لم تترك إيران مجموعة تابعة لها في العالم لم تشركها في القتال في سورية، مكذبة كل التوقعات والادعاءات الأميركية بأنها ستصبح بعد الاتفاق النووي «أكثر اعتدالاً ومرونة» في التعاطي مع الوضع الإقليمي، وأنها ستلتفت إلى مصالحها الاقتصادية المستجدة مع العالم. لكن ما حصل هو أن العالم كله تهافت على مصالحه معها من دون أي مبالاة أخلاقية أو إنسانية بنتائج الهجمة التي تشنها على أكثر من جبهة عربية.
أما المدنيون السوريون الذين يواجهون منذ خمس سنوات أشرس حرب إبادة تعرض لها شعب على الإطلاق، فلا خيار أمامهم سوى المزيد من التشرد، في ظل انشغال دول العالم بتصنيف من يصلح منهم للحصول على اللجوء، بينما لا يملك مقاتلو المعارضة غير مواصلة معركتهم، مستندين إلى القلة من الدول العربية التي تدعمهم، ولكنها لا تملك للأسف حرية تخطي الحدود التي رسمتها واشنطن لتسليحهم.
على أثر إعلان المستشار العسكري لوزير الدفاع السعودي استعداد الرياض لإرسال قوات برية لقتال «داعش» في سوريا انطلق نقاش، وجدال، هذا عدا عن ارتباك سياسي إقليمي، وتحديدًا من قبل إيران، حول هذه الخطوة، وهو ما تزايد مع إعلان الإمارات استعدادها للانضمام مع السعودية لمقاتلة «داعش» في سوريا.
وأول من استشعر جدية هذه الخطوة، أي إرسال قوات برية سعودية إماراتية إلى سوريا لمقاتلة «داعش» هو النظام الأسدي، وإيران، والجماعات المحسوبة عليهما، ولذلك هدد حزب الله العراق السعودية، لكن السؤال هنا هو: لماذا استشعر الأسد، وإيران، وأتباعهما، أهمية هذه الخطوة، وماذا عمن يحاولون الفهم أكثر، وهنا أتحدث عن الجادين، وليس المختفين خلف أستار مختلفة، حيث لم تعد التقية شيعية، بل إن التقية باتت سنية أيضًا؟ المؤكد أن هناك تساؤلات منها، مثلاً: كيف يمكن نجاح التدخل البري من دون غطاء جوي؟ وهل هذا يعني أن التحالف الدولي، وبقيادة أميركا، سيشكل الغطاء الجوي؟ وهل من قواعد اشتباك؟ مثلاً، ماذا لو تواجهت القوات الحليفة مع حزب الله في سوريا؟ وماذا لو حاصرت القوات الحليفة، والقوات البرية العربية «داعش» من جهة، وكان حزب الله، والقوات الإيرانية يحاصرونهم من ناحية أخرى، فكيف سيفسر ذلك مع ارتفاع المنسوب الطائفي في المنطقة؟
أسئلة حقيقية، لكن السؤال الأهم الآن، والذي يجب أن يطرح، لماذا لا تُشرح أبعاد هذه الخطوة؟ وما الهدف منها؟ مثلاً، ما أعلن الآن عن استعداد لتدخل بري بسوريا سمعته قبل ثلاثة أشهر من مصدر عربي رفيع المستوى، لكنني اعتقدته عصفًا ذهنيًا، أو مجرد أفكار، لكن اليوم نحن الآن أمام تصريح سعودي – إماراتي – بحريني، فماذا عن الأزمة السورية نفسها؟ ماذا عن مستقبل الأسد؟ وماذا عما تفعله روسيا هناك؟ والحقيقة، وهذه مرافعة لمن يدافع عن بشار الأسد بشكل مبطن، ومن باب «التقية السنية» فإن السعودية، مثلاً، لا تتهور، ولا تنهج منهج العداء، ولا تعلن عن حروب غير مبررة، فالحرب أساسًا معلنة في منطقتنا منذ عام 1979. ومن لا يراها فإن لديه خللاً حقيقيًا، أو هو من جماعة «التقية السنية». إيران تهددنا في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، والبحرين، وحتى في دولنا، ولديها ميليشيات مسلحة، وتتباهى، أي إيران، بأنها تحتل أربع عواصم عربية وهي بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء. إيران هي الطرف الذي أعلن الحرب، ومنذ الثورة الخمينية المشؤومة، وليس أحدًا آخر.
وعليه يبقى هنا سؤال مهم، وهو: لماذا لا يصار إلى تحرك دبلوماسي عربي حقيقي، بل قل انتفاضة، لنعرف من معنا، ومن ضدنا في قصة سوريا؟ ماذا عن مصر، وقطر، وتركيا والأردن؟ ولماذا لا تُشرح لنا دوافع التدخل البري العربي، فهل هو مبادرة، أم جزء من خطة تحظى بدعم دولي؟ وماذا عن المواجهة مع إيران، وروسيا، وما هو مصير الأسد؟ شرح يحيّد المتشكك، ويدعم المتفق، ويحجّم الخصوم.
قاسية جداً صور السوريين الهاربين إلى الحدود التركية، على وقع القصف الهمجي الذي تشنه قوات بشار الأسد وروسيا شمال حلب.
وقاسية أكثر الرسائل التي يبعث بها هؤلاء متوسلين ومترجين أن تسمح لهم السلطات التركية بالدخول إلى تركيا، بل إن بعض الحكومات الأوربية نفسها شاركت في الأمر، حيث دعا مسؤول في الاتحاد الأوروبي، تركيا إلى الالتزام بالاتفاقات الدولية واستقبال اللاجئين السوريين العالقين على حدودها، هي ذاتها الدول الأوربية التي تشرع برلماناتها قوانين تحد من دخول اللاجئين إليها، وتحض اليونان في كل مناسبة على ضبط حدودها وإغلاقها أمام السوريين.
الرقم الذي يتم الحديث عنه هو قرابة 50 ألف هارب من جحيم القصف غير المسبوق وسياسة الأرض المحروقة التي تكرر فيها روسيا ما فعلته سابقاً في الشيشان.
وما هؤلاء إلى دفعة صغيرة سبقها حوالي 4.5 مليون لاجئ هربوا من سوريا واستقبلتهم دول الجوار، كانت حصة تركيا وحدها حوالي 2 مليون منهم، معظمهم يعيش خارج المخيمات في المدن والأرياف التركية يمارسون أعمالهم التي أنشأوها في تركيا وكأنهم مواطنون في بلدهم، بل إن تركيا نفسها صرحت أكثر من مرة باعتزامها اتخاد خطوات من شأنها توطين السوريين، لعل آخرها قرار تتريك المناهج الدراسية التي يدرسها الأطفال السوريون في المدارس السورية في تركيا.
ولكن –حتى الآن- ترفض تركيا السماح بدخول الهاربين من ريف حلب الشمالي، وأعلنت عزمها بناء مخيمات داخل الأراضي السورية لهم.
فهل أدركت تركيا أخيراً خطأ سياستها السابقة في استيعاب السوريين الهاربين من إجرام بشار الأسد؟
طوال سنوات الثورة السابقة كانت تركيا بمثابة أرض الخلاص للسوريين الهاربين من إجرام النظام، ولكن مهلاً…
أليست أيضاً أرض خلاص لبشار الأسد في الوقت نفسه؟
ألم تكن بمثابة حديقة خلفية يلقي فيها بشار الأسد السوريين الذين لم يعد بحاجتهم! مفسحاً المجال أمام خطط التغيير الديموغرافي لتبصر النور وتفرغ المناطق المعارضة من سكانها محافظاً بذلك على “سوريا المفيدة”!
إن العالم نسي حقيقة مأساة ملايين السوريين الذين دخلوا تركيا، وراحوا يمارسون حياتهم وأعمالهم بشكل شبه طبيعي، أو بات يهتم بكوارث ناشئة عن كارثتهم الأم كالغرق في البحر وصعوبات الاندماج في الدول الاوربية، في حين يستمر المجرم ومساندوه في تهجير المزيد دون أن يقول لهم أحد: كفى.
إن استمرار دخول السوريين اللاجئين إلى تركيا والدول المجاورة هو استمرار أيضاً للنظام في وحشيته، وكرت أخضر لتهجير المزيد والمزيد من السوريين المعارضين دون أن يشكل هذا التهجير باباً لأي ضغط دولي أو دعوة لإنقاذ وضع هؤلاء، فتركيا تتكفل بهم، وربما قريباً تبدأ الدعوات الأوربية لتوطين هؤلاء ومنهم الجنسية التركية وبذلك يختفون تماماً وكأنهم لو يوجدوا سابقاً فوق الأراضي السورية.
وربما بسبب ذلك أيضاً يختار بشار الأسد محافظة إدلب وجهة وحيدة لمن يريد مغادرة المناطق التي تعقد اتفاقيات المصالحة، فإدلب هي البوابة السورية مع تركيا، ولن يكون حزيناً أبداً إذا غادر كل من فيها إلى تركيا!
إن المطالبة بعدم إدخال السوريين إلى تركيا أو غيرها، قد تبدو مناقضة تماماً لمصلحة الهاربين الذين يعيشون على الحدود وضعاً في غاية البؤس، ولكنها على المدى الطويل في مصلحتنا حتماً.
لايجب أن يكرر شعبنا السيناريو الفلسطيني لا يجب أن تصبح العودة حلماً ومفاتيح البيوت تذكارات نورثها لأولادنا وأحفادنا، يجب أن نبقى في أرضنا بكل ما يحمله هذا البقاء من صعوبة وموت، وعلى دول العالم المتزلفة للقاتل أن تتوقف عن المطالبة باستيعابنا في دول الجوار، وأن تتحرك لإيقاف مجنونهم المتوحش، فبذلك فقط تتوقف سيول الهاربين وتنتهي مآسيهم.
بالطائرات والمدافع رد فلاديمير بوتين في حلب على العملية السياسية في جنيف التي استبعدت من صنّفهم هو وبشار الأسد معارضين، وطالب بجلوسهم الى طاولة المفاوضات مع وفد النظام. لكن بوتين ردّ ايضاً في حلب على تركيا وأوروبا وعلى حلفاء المعارضة السورية من العرب، كما ردّ في الوقت ذاته وبصوت عالٍ على باراك اوباما صارخاً: أنا صاحب القرار في الحرب السورية كما في الحل.
ينفذ بوتين في غاراته على حلب الهدف الذي وضعه النظام منذ بدايات الحرب، وهو انه لا توجد معارضة معتدلة للتفاوض معها في سورية. هناك جماعات ارهابية لا بد من القضاء عليها قبل ان يصير ممكناً التوصل الى حل سياسي. لذلك لا يرى الروسي في حلب وفي درعا وفي ريف اللاذقية وفي سائر المواقع سوى «ارهابيين»، حتى ان السفير الروسي في جنيف استغرب ان تقاطع الهيئة العليا للمفاوضات محادثات جنيف احتجاجاً على الغارات الروسية، وطالبها بأن توجه الشكر الى موسكو على حفلة القتل والتهجير التي تمارسها في سورية!
ما هي النتيجة الطبيعية للقضاء على مواقع المعارضة المعتدلة في سورية وعلى قواعد «الجيش السوري الحر» سوى أن يتحول تنظيم «داعش» الى القوة الوحيدة التي تزعم القدرة على حماية مصالح الأكثرية في سورية؟ وعندها يتحقق حلم النظام وروسيا معاً، وهما اللذان يستبعدان مواقع «داعش» من الهجمات التي يشنّانها على ما يقولان انها «جماعات ارهابية». ثم، كيف يكون رئيس هيئة المفاوضات رياض حجاب مواطناً صالحاً عندما يقبل تعيينه رئيساً للحكومة السورية، ثم يتحول الى «راعٍ للإرهاب» عندما يقف الى جانب مواطنيه الذين يحتجّون على جرائم القتل التي ترتكبها قوات النظام؟
معركة حلب تزيل كل الشكوك حول طبيعة الدور الروسي وأهدافه. انها تلغي اي دور لنظام بشار الاسد في تقرير المرحلة المقبلة. فالعنوان الأساسي للمفاوضين الغربيين، وربما العرب أيضاً، سيكون بعد الآن في الكرملين مع فلاديمير بوتين. في يديه ورقة الضغط على الأوروبيين من خلال مسألة اللاجئين الذين اصبحوا يشكلون أكبر هاجس لأوروبا، يهدد مشروعها الوحدوي وحدودها المفتوحة. وفوق ذلك تساهم أزمة اللاجئين في صعود تيارات اليمين المتطرف في اوروبا، كما نشهد في المانيا وفرنسا وحتى في دول ليبرالية تقليدياً مثل الدول الاسكندنافية، وهي تيارات حليفة للقومية والفاشية الروسية التي يعدّ بوتين أفضل رموزها المعاصرة.
معركة حلب هي ايضاً عامل ضغط على تركيا من خلال دفعها الى اتخاذ موقف صعب من التدخل العسكري في سورية، فضلاً عن تدفق الأعداد الكبيرة من اللاجئين عبر الحدود التركية، وما يشكله ذلك من عنصر قلق في الداخل التركي، واضطراب في العلاقات التركية - الاوروبية والتركية - الاطلسية، بينما تستمر المطالب الغربية بضرورة استيعاب تركيا لملايين الهاربين اليها، لتخفيف الضغط عن حدود «شينغن» الأوروبية.
لكن، أبعد من كل ذلك، من شأن التدخل الروسي أن يرسم خريطة جديدة للحرب السورية ولسورية ذاتها، هي خريطة تثبيت التقسيم. يصعب على بوتين وعلى بشار الأسد وقاسم سليماني إخضاع كل السوريين لمشروعهم. يمكنهم السيطرة على المناطق ذات الأكثرية الشيعية، وإخراج المعارضة من المناطق والبلدات التي تقيم فيها هذه الأكثرية، كما حصل في نبل والزهراء وفي ريف اللاذقية. لكنهم لا يستطيعون فرض نفوذهم على ابناء المناطق الاخرى، حتى لو أخرجوا قوات المعارضة منها بالقوة. والدليل هو عشرات آلاف الهاربين من المناطق التي يزعم نظام الأسد وشركاؤه أنهم استعادوها الى سلطة الدولة السورية. لماذا يهرب هؤلاء المواطنون السوريون من هذه السلطة ويبحثون عن أي مأوى، اذا كانوا يعتبرون انها هي السلطة التي تمثلهم وتحميهم؟
مع التكثيف الاعلامي المتسارع حول التدخل البري من قبل "التحالف الإسلامي" الذي تشكل فيه المملكة العربية السعودية و تركيا رأسا الحربة ، تتحضر بقية الأطراف حول ماهية و مآلات الأمر ، اذا التمهيد السري ظهر للعلن و التلميح بات واقعاً وجد حيثيات له على الأرض ،و لعل مناورات "رعد الشمال" هي الشكل الخارجي لتصريحات سعودية تصاعدت تدريجياً حتى وصلت للاعلان الرسمي من المتحدث باسم التحالف الذي يخوض حرباً أخرى في اليمن .
و قالت اليو م "سي ان ان" أن هناك ١٥٠ ألف جندي في تركيا تم حشدهم تمهيداً لهجوم بري في سوريا ، يأتي في اطار الاستعداد السعودي الذي أبدته ضمن التحالف الدولي ضد داعش، و الذي يتزامن مع اقتراب موعد مناورات "رعد الشمال" التي ستكون الأكبر من حيث عدد المشاركين و المقدر "٣٥٠ ألف جندي من غالبية الدول التي انضوت تحت التحالف الاسلامي الذي أمنت له المظلة اللوجستية و فيما يبدو المالية و الحماية الدبلوماسية المملكة العربية السعودية .
و لكن هل اقترب التدخل البري أم أن الأمر عبارة عن أحاديث كتلك التي دارت عندما أطلقت السعودية و دول خليجية "عاصفة الحزم" ، و كان حينها الجميع بانتظار هبوب نسائم منها على سوريا ، و لكن العاصفة انتهت أو ثبتت بمنطقتها ، نأت بنفسها عن سوريا .
في الغرف الضيقة هناك مصادر تتحدث عن وصول ضبط النفس لحد سيخرج عن السيطرة و الرد بات ضروري ، مع تثبت قناعة نهائية لا عودة عنها ، تتمثل أن الصراع في سوريا لن يحل بطريق سلمي بعد تفشيل مؤتمر جنيف ٣ ، ولاحتى بحرب برية عادية بين الثوار و النظام و حلفائه ، الذين تمادوا لحد لم يعد للسكوت أو التغاضي مكان ، والقناعة الحتمية تتمثل في أن الحل لن يكون إلا من خلال صراع دولي ، غير مباشر ، تحت مظلة مكافحة الارهاب ، و الحقيقة هو تصفية حسابات و ردع ما يمكن ردعه من أمور خطيرة قد تضرب الدول الحيطة بسوريا بشكل مباشر و على رأسها تركيا أو المتعلقة بسوريا بشكل غير لصيق جغرافياً و السعودية هي الأصل .
و رغم تصاعد الحديث و التصريحات و التصريحات المضادة بين طرفي القضية ، لكن مصادر موثوقة أكدت أن الأمر عبارة عن ترتيب اداري و تنظيم برتوكولي لن يدخل حيز التنفيذ في الوقت الحالي ، و التسويق الاعلامي الذي تم ماهو إلا رسالة ضغط لانجاح جنيف ٣ المقرر فك "التجميد" عنه في ٢٥ الشهر الجاري ، علّ الأمور تنصلح و تجد السياسة طريق لها .
و الغالب أن التحضيرات البرتوكولية و الادارية من تعيين قادة قوات التدخل البري في سوريا من السعوديين و الأتراك ، الذين سيتولون ادارة العمليات العسكرية ، ليست ورقة ضغط فحسب و أنما التحضر لماهو أسوء ، اذا أن السعودية و تركيا تضعان في حسبانهما أن روسيا كما يقال المثل السوري "ما مصلية على النبي" ، لذا يجب أن يكون هناك قوات ردع تنقذ ما يمكن انقاذه ، بعد كل ماحدث خلال الشهور الأربعة الماضية ، و الأكيد أن تركيا تضع موضوع "الأكراد" ضمن أولويتها و لن تصمت أو تجعله يمر أو يتمادى أكثر ليصل إلى صناعة دولة كرزدية ملاصقة لها، إذ ذلك سيمهد إلى انفصال مماثل في الجنوب التركي المتوتر بالأصل .
لا مجال في الوقت الحالي سواء من الناحية اللوجستية أو العسكرية الدخول مباشرة أو في ليلة و ضحاها، برياً في سوريا ، إذ أن اعداد العدة و التمهيد للعالم بحاجة لوقت ، سيما أن اللاعبون في الشأن السوري مختلفون تماماً عن أؤلائك المتواجدين في اليمن ، فهنا أمريكا و اسرائيل و أوربا و طبعا روسيا و الصين و اذا ما احتسبنا ايران كلاعب و ليس كبيدق .
و قد يمتد التوقع إلى أن التدخل البري حاصل لامحال في حال فشل مفاوضات ٢٥ الشهر أو تمييعها بشكل يخالف الرغبة الجمعية للحلفاء الاسلاميين ، و سيكون من الممكن خلال شهور ثلاث أي منتصف العام ، حينها يكون عدة أمور قد تمت منها حرب اليمن و التجهيز من الناحية العسكرية قد اكتمل، و مفاعيل الضغط الاقتصادي المتولد عن تخفيض أسعار النفط قد أتت أؤكلها و أصيبت روسيا بوهن مزدوج اقتصادي – عسكري ، ليتحول الصراع الدولي المتوقع إلى صراع من نوع مخفف لن يكن لروسيا أو لايران القدرة على الحسم فيه .
و يبقى في الحديث تتمة ….
لايمكن أن نكتفي بتوزيع اللعانات شرقاً و غرباً ، قريباً وبعيداً ، قبل أن نوجهها إلى أنفسنا عندما نشاهد آلاف السوريين الذي هجرهم العدو الروسي و قوات الاحتلال الايراني ونحن جالسون ، و لن تنفع اللعنات اذا لم تشمل على رأس القائمة المعارضة السورية الخارجية و المنظمات الانسانية السورية التي تقدر بالمئات ، عندما تغييب عن المشهد القاتل الذي يعانيه النساء و الأطفال و الشيوخ النازحون من حلب و درعا و المرميون على الحدود التركية و الأردنية بدون أن يجدو شيئاً إلا أرضاً جرداء و سماء تدر عليهم الماء .
آلاف السوريين ممن التقطت الكميرات صوراً لهم على المعابر الشمالية و آلافٌ مثلهم على المعابر الجنوبية لم يستطع أحد أن ينقل صوراً حتى لو كانت صامتة ، ليكونوا وحدهم تماماً و لا يحظوا إلا ببعض الدعاء من القلة الذين سمعوا و لم يرو.
لايمكن لنا أن لا نهاجم تركيا و الأردن ، و كل الدول التي تقاعست و تتقاعس عن المآساة التي يواجها الآلاف من أبناء سوريا المكلومة و الثكلى لأرضها و المحاربة بأظافرها وحوش الأرض و شيطاينها ، و لكن في الوقت ذاته لن نصب كل هذا على الخارج و لنا الحق الكامل في توجيه اللعنات لكل من يحمل صفة معارضة صمت أو اكتفى بذرف بعض الدمعات ، والقى بنفسه على سريره و قرر النوم بانتظار يوم جديد من التنديد.
و من ضمن الحقوق التي نمتلكها هو السؤال عن المنظمات التي تنشط على أنها سوريا و التي تقدر بالمئات و لديها جيش من الموظفيين و الناشطين الذين يتغنون بأعمالهم ، و يبدعون في عملية التوثيق لكل ابرة يتم منحها للسوريين ، في حين هناك غياب شبه تام لها على الأرض ، و عجز مخيف اتجاه هذه الحالة الانسانية التي لن نقول أنها تلوث جبين البشرية فحسب ، بل تقتل الروح الانسانية لدى كل ذي حس .
خليط من المشاعر التي أقلها القهر ، تعتصر الأرواح على الصمت الذي يجتاح الجميع اتجاه هذه الحالة ، لايعني البيانات أو التباكي كلاماً بل هو صمت و صمت لعين .
من يعتقد أن إيران تريد إقامة دولة شيعية على جزء من العراق فهو مخطئ، ومن يظن أن إيران تساعد الحوثيين بقصد تقسيم اليمن وإقامة دولة شيعية، فهو مخطئ أيضا، ومن يظن أن إيران تريد إقامة دولة علوية في سوريا، فهو بتقديري ليس على صواب، لأن حقيقة المشروع الإيراني في المنطقة العربية تقوم على منع قيام دولة عربية، مهما كانت ديانة هذه الدولة، ومهما كانت مسمياتها، لذلك فالذين يقاتلون مع إيران، ويحلمون أنهم سيحصلون منها على أي كيانية صغيرة، هم واهمون.
حقيقة المشروع الإيراني تتمثل في صناعة جيوش من المليشيا، متعددة الأسماء والأشكال، كما هو مشاهد الآن في العراق وسوريا، حيث عشرات ومئات الفصائل والمجموعات الشيعية التي تقاتل على الأرض، ولكن كل هذه المليشيا غير مسموح لها أن تكون ضمن إطار الدولة، وغير مسموح لها حتى ممارسة سلوك الدولة، وما تقوم به هذه المليشيا هو ممارسة سلوك قبائل ما قبل التاريخ، حيث تذبح وتدمر وتحرق كل شيء، وفي نهاية المطاف، تشتري إيران قائمة هذه المسروقات الطويلة، والتي ابتدأت من سرقة كامل شبكات الكهرباء في العراق لحظة الغزو الأمريكي، حيث أفلتت إيران قطعانها ومارسوا نهب كل ما يباع ويشترى، بقصد إعادة العراق إلى العصر الحجري.
إيران التي تؤسس وتحكم وتدعم كل هذه الظواهر الغريبة التي نشاهدها الآن في العراق وسوريا، والتي لا تزال تقوم بصناعة المزيد منها والتي في نهاية الأمر كل ما تمنحها مجرد اسم من الأسماء المقدسة لديها، هذا هو ما لديها بالضبط، ولو كان الحاكم الإيراني يريد لهذه الظاهرة أن تكون مختلفة، لفكرت إيران ضمن أي منطق عصري طبيعي، الذي سيسعى نحو تأسيس قوة عسكرية ضاربة وموحدة، وذات قيادة واحدة، لأن وجود عشرات ومئات الفصائل يعني بالضرورة غياب القوة العسكرية الضاربة والمنظمة، والتي لا يمكن أن تأتي من هذه الفصائل التي لا يعنيها على الأرض أكثر من ممارسة سياسة النهب والأرض المحروقة، تماما وكأننا نعيش حربا في مجاهل التاريخ، ليس لها أي بعد أخلاقي بتاتا.
هو بالضبط، العقل الإسرائيلي، الذي يريد منطقة عربية تموج بالاختلافات العربية، وتخترقها الحروب والفوضى، والانقسامات، بحيث تصبح فكرة وجود إسرائيل في المنطقة، بمنزلة الدولة الوحيدة التي تقوم في بيئة مليئة بالوحوش والذئاب، وبالتالي ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه طوال عشرات السنين، جاءت اليوم إيران لكي تقدمه لإسرائيل على طبق من ذهب، فهي إيران التي تريد تقسيم اليمن والسعودية والعراق وسوريا ولبنان، ولكنه تقسيم لا يقوم حتى على أسس طائفية أو مذهبية فقط، فلو كانت إيران تريد إقامة دولة شيعية في العراق لفكرت بتوحيد الشيعة هناك، لكن الفكرة الإيرانية مختلفة تماما، فمن سيحارب اليوم وغدا مع إيران عليه أن يعرف أنه ذاهب إلى الحرب فقط، وهي الحرب التي لا انتصار فيها بتاتا، لأن دوام الحرب هو ما تريده إيران، ووجود مئات الفصائل التي تمارس سلوك قبائل ما قبل التاريخ، سيكون كفيلا باستحالة قيام (فكرة الدولة) ولو بالحدود الضيقة.
إيران التي تشتري حتى الخردة المسروقة من العراق، هي وصية على كل شيء فيه، وأمراء الحرب فيه هم مجرد أجراء صغار، لذلك من الطبيعي أن تضيع أموال النفط العراقي، ومن الطبيعي أن تختفي الخزينة العراقية، طالما أن اليد الإيرانية هي التي تدير البلاد فعليا.
إسرائيل تريد منطقة عربية بمنزلة مزيج من أشباه الدول، يحكمها مئات الأمراء المتناحرون، وما تفعله إيران في المنطقة العربية هو تماما ما يتوافق مع الحلم الصهيوني، لذلك فالبلاد التي تدخلها الأيادي الإيرانية، هي ذاهبة للحرب، للحرب فقط.
لا تخفي روسيا أهدافها في حربها السورية ولا تتنصّل من تحالفاتها مع إيران وميليشياتها ومع نظام بشار الأسد. موسكو قررت منذ البداية أن الحرب في سورية هي الحرب الروسية على «الإرهاب الإسلامي» ولن تتوقف عنها قبل إعلان الانتصار. وبقرار من رئيسها فلاديمير بوتين لن تتقهقر روسيا في الساحة السورية مهما كلفتها هذه المعركة ومهما حصدت من أرواح سورية. فهي باتت حرباً وجودية منذ أن اندلع ما سمي «الربيع العربي» ودفع الإسلاميين إلى السلطة، الأمر الذي وجدت فيه موسكو تهديداً قومياً لها ولمصالحها الاستراتيجية. تحالفها مع طهران يتعدى مجرد توافقهما على تثبيت بشار الأسد في السلطة، إذ إن موسكو تعتبر الإرهاب الإسلامي سنياً محضاً وتجد في الحليف الشيعي سنداً لا غنى عنه في الحرب على «الإرهاب السني»، كما تراه. مغامرتها في خوض حرب سورية أتت أيضاً بناء على استنتاجاتها بأن الولايات المتحدة توافقها الرأي ضمناً، وهي شريك صامت معها، وعند الحاجة واشنطن جاهزة لهزّ العصا وقلب المعادلات. وهذا تماماً ما حدث خلال أسبوع جولة المفاوضات الأولى بين وفد النظام في دمشق ووفد المعارضة السورية بموجب «عملية فيينا» ذات الملكية الروسية والتنفيذ الدولي. فلقد رافقت مساعي بدء المفاوضات عمليات قصف مكثفة للطيران الروسي على مواقع المعارضة السورية رفضت موسكو إيقافها، بل أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف أن روسيا لن تتوقف عن القصف في سورية حتى هزيمة «الإرهابيين».
إدارة أوباما ما زالت في ظل انبهارها بإيران وهي متأهبة لغض النظر عن كل ما يمكن لها تمريره بلا محاسبة لإيران داخل سورية، إرضاءً لموسكو فيما أنظارها منصبة على الانتخابات الإيرانية والمعركة الطاحنة بين المعتدلين من الملالي والمتشددين منهم بزخم «الحرس الثوري» الذي يشرف على الحرب الإيرانية في سورية. هذه الانتخابات بالغة الأهمية ومن الضروري التوقف عندها لقراءة ما في طيّاتها لإيران نفسها كما للعلاقات الإيرانية – السعودية وللمشاريع والطموحات الإقليمية كما يراها المعتدلون والمتشددون في إيران.
قبل ذلك، وتوقفاً عند محطة جنيف الأولى في عملية فيينا، حسناً فعلت الهيئة العليا للمفاوضات السورية بتوجهها إلى جنيف تلبية لدعوة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بغض النظر أن أتت المشاركة مبعثرة أو رضوخاً لضغوط أميركية وإقليمية. لقد تمكنت بوجودها في جنيف من تسليط الأضواء على تصعيد القصف الروسي بتزامن مع التصعيد الديبلوماسي، من خلال مغالاة وفود المعارضة الموالية للنظام ومن خلال الوفد الرسمي للنظام الذي جعل من جولة المفاوضات فرصة للسخرية بدلاً من إبداء الجدية لنقل سورية من الكارثة إلى المعافاة.
إعلان دي ميستورا تعليق المفاوضات لثلاثة أسابيع قبل انطلاقها يعكس صعوبة إطلاق المفاوضات، وسط استراتيجية تصعيد القصف الميداني والضغط السياسي على المعارضة السورية. استراتيجية التعجيز هذه كان يجب أن تلقى مواقف شجاعة من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومبعوثه ستيفان دي ميستورا، في دعوة علنية واضحة لروسيا للكف عن هذه الاستراتيجية. كلاهما تقاعس فيما كان عليهما الإقدام من أجل إنجاح جهود الأمم المتحدة ومن أجل إبعاد التهمة التي تلاحقهما بأنهما يغضّان النظر عن التجاوزات الإيرانية والروسية وتجاوزات النظام بصورة تقوّض الثقة بحيادهما وبقدرة الأمين العام على القيادة الأخلاقية.
واقع الأمر أن روسيا وإيران هما طرفان مباشران في الحرب السورية. بالمقابل، إن الداعمين للمعارضة السورية يتنصّلون منها عسكرياً وسياسياً بذريعة «داعش» و «جبهة النصرة» تارة وبحجة إنجاح المفاوضات السياسية تارةً أخرى. خلاصة الأمر أن الولايات المتحدة حيّدت نفسها في الحرب السورية، ميدانياً، وأعطت الغطاء لروسيا وإيران للتصرف كما تقتضي الحاجة في سورية، والدول الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية تقدم دعماً هزيلاً لها مقارنة بالدعم الروسي الإيراني للنظام ميدانياً وسياسياً وديبلوماسياً.
موازين القوى، ميدانياً، تزداد تكريساً لاحتمالات تقسيم سورية وبقاء بشار الأسد في كرسي ما. البرنامج الذي وضعته «المجموعة الدولية لدعم سورية» للمرحلة الانتقالية «مفرط في التفاؤل» وفق دي ميستورا، كما جاء في وثيقة نشرتها «الحياة». فهو اعتبر أنه من غير الممكن إجراء الانتخابات بعد 18 شهراً أي بحلول كانون الثاني (يناير) 2018. وهذا يعني أن البرنامج الزمني سيطول في حال كان سلمياً، وأن البرنامج الزمني الفعلي في غياب الحل السياسي سيطيل الحرب السورية كثيراً. وهذا سيزيد تورط روسيا وإيران في مستنقع مكلف جداً لاسيما في زمن انخفاض أسعار النفط والغاز وانهيار قيمة العملة الروسية وفي زمن الامتناع الأميركي عن التورط ميدانياً وتشجيع الآخرين على التدخل إذا شاؤوا.
واشنطن ليست في وارد إيقاف طهران أو موسكو عن تحالفهما في سورية ولا هي في وارد التدخل في استراتيجية روسيا القائمة على تغيير موازين القوى على الأرض لمصلحة النظام وعلى حساب المعارضة السورية المسلحة التي تزعم إدارة أوباما أنها تدعمها. إدارة أوباما مصرّة على توطيد التهادن مع إيران وتقول أنها تراهن على صفوف الاعتدال لتنقل السياسة الإيرانية إلى سياسة ودّية نحو الولايات المتحدة. إنها غير قلقة من العلاقة التحالفية بين موسكو وطهران ولا يقلقها تمويل روسيا مشاريع اقتصادية نووية في إيران. فالكعكة الإيرانية، وفق الفكر الأميركي، ستكون لاحقاً جاهزة للاستفادة منها، ولا عجلة الآن سوى للاستثمار في إيران استراتيجياً ومراقبة الانتخابات.
الانتخابات الإيرانية ستحصل في 26 الشهر الجاري، إنما النتائج لن تُعرف، على الأرجح، قبل مضي 6 أسابيع بسبب عيد «النوروز» الذي يعطّل تقليدياً البلاد. سينتخب الإيرانيون نوّاب «مجلس الشورى» الذي يملك المتشددون فيه حالياً حوالى 200 مقعد من أصل 295، وأعضاء «مجلس الخبراء» الذي ينتخب مرشد الجمهورية الإسلامية الجديد.
المرشد الحالي علي خامنئي أمضى حوالى 25 سنة في السلطة بين رئيس ومرشد للجمهورية، وهو كما يقول الخبراء، مريض بالسرطان درجة رابعة ويخضع للعلاج على أيدي إيرانيين وألمان. وخامنئي تحدث لأول مرة، قبل شهرين تقريباً، عن قيام المجلس بانتخاب خليفته مما فُسِّر بأنه إشارة إلى ضعف وضعه الصحي.
يتشكّل «مجلس الخبراء» من 88 شخصاً علماء بالفقه ويتم انتخابه لمدة 8 سنوات من قِبَل الشعب وذلك في يوم انتخاب مجلس الشورى. كان الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني يرأس «مجلس الخبراء» ثم أُبعِدَ عن الرئاسة لمصلحة محمد جنتي الذي توفي وخَلفه محمد يزدي. ويعتبر مجلس خبراء القيادة الإيرانية الهيئة الأساسية في النظام.
وفق خبير وثيق الاطلاع بالداخل الإيراني، إن الصراع على خلافة خامنئي يقع بين المتشددين الذين يرون في اقتراح تعيين «هيئة» تخلف المرشد إضعافاً لولاية الفقيه. «الحرس الثوري» رفض قطعاً ما من شأنه تقليص نفوذ ولاية الفقيه وهو يخوض معركة طاحنة مع المعتدلين.
معسكر المعتدلين يضم هاشمي رفسنجاني والرئيس الحالي حسن روحاني وكذلك حسن الخميني حفيد الخميني، ويسمى معسكر الوسطيين. الإصلاحيون، ومن أبرزهم الرئيس السابق محمد خاتمي، يقفون مع معسكر المعتدلين والوسطيين.
معسكر المتشددين يملك حالياً مفاتيح السلطة وقائده الحقيقي هو خامنئي. من أصل حوالى 200 نائب لمصلحة المتشددين، هناك، وفق الخبير نفسه، كتلة يُطلَق عليها اسم «كتلة الصخرة» وتضم حوالى 80 نائباً وهي الكتلة التي تمثّل عملياً «الحرس الثوري».
موضع مهم في الصراع بين المعسكرين هو «مجلس صيانة الدستور» الذي يعيّن أعضاءه خامنئي ويضم 6 مدنيين و6 رجال الدين واسمه في إيران، وفق الخبير، «المصفاة»، إذ إن النظام يستخدمه لإبعاد من لا يريده عن السلطة. «المصفاة» أبعدت عدداً كبيراً من المرشحين الإصلاحيين منهم حسن الخميني الذي رفض دخول امتحان الفقه لأنه أكثر كفاءة ممّن يمتحنه لأنه يدرّس الفقه لآيات الله.
الخبراء يقولون أن من المستحيل أن يحصل رفسنجاني على منصب ولاية الفقيه لأنه صدامي، وهو نفسه يقول أنه ليس مهتماً بالفشل وانما بالحصول على أكثر من مليون صوت ليكون صاحب السلطة الشعبية. يضيف الخبراء أن للرئيس الحالي حسن روحاني الحظ في أن يصبح خليفة خامنئي كمرشد للجمهورية. فإذا تقرر ذلك، يستقيل حسن روحاني من الرئاسة ويتم انتخاب رئيس جديد. وللسجل، يذكر الخبراء أن الأسماء الثلاثة الأخرى التي يتم تداولها كخليفة محتمل في موقع المرشد هي: آية الله جوادي آملي، آية الله صادق لاريجاني، وآية الله محمود الهاشمي الشاهرودي، وهو، كما يُقال الأهم علماً انما مشكلته أنه يخفي «ويُلحِن». ويذكر أيضاً اسم آية الله محمد مصباح يزدي الذي يُعتبر متشدداً للغاية.
يقول الخبراء أنه لو عاد الأمر إلى الإصلاحيين فإنهم يريدون رفسنجاني رئيساً لـ «مجلس الخبراء» الذي ينتخب مرشد الجمهورية. رفسنجاني هو حالياً رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام» الذي يعالج الخلافات، مثل تلك التي بين «مجلس صيانة الدستور» و «مجلس الخبراء».
عاد الرئيس حسن روحاني من باريس بعد جولة أوروبية. وكتب زملاء في مقارنة بين عودة الخميني من باريس في أول شباط (فبراير) إلى طهران متأبطاً خط الثورة. روحاني قوي شعبياً، بل هو ربما الأقوى في إيران. خبراته في مواقع القرار منذ أن ترأس وفد المفاوضات النووية مع الأميركيين عام 2003 وقطع بذلك الطريق على أي غزو أميركي أو اسرائيلي، إلى وصوله للرئاسة جعلت منه لدى أكثرية الرأي المحلي والإقليمي والدولي رجل دولة.
الذين يعرفونه عن كثب يؤكدون أن فكر حسن روحاني يصب في الخطوط الاستراتيجية للدولة الإيرانية، عكس شهية قادة خط الثورة الإيرانية للهيمنة الإقليمية.
فإذا أسفرت الانتخابات الإيرانية عن صوت واضح للشعب الإيراني بأنه يريد خط الدولة، ستحدث نقلة نوعية في المسيرة الإيرانية، لاسيما بعدما تمكّن الاعتداليون والإصلاحيون من إنجاز «اتفاق نووي» تاريخي رفع العقوبات عن إيران ومكّن رئيسها من جولة أوروبية عاد إلى شعبه منها بعقود مهمة لعملية البناء وليس بوعود عنترية عنوانها التدمير والدمار.