في سلسلة مقالاتنا السابقة تحت عنوان "أوركسترا الشيطان" تحدثنا بشيء من التفصيل عن ماهية اللعبة الجارية في الشرق الأوسط اليوم وخاصة في سوريا ومصر والعراق. النتيجة التي خلصنا إليها والتي تثبتها الأيام بشكل قاطع هي أن اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط هو إسرائيل والتي أسميناها بالملحن الذي يكتب النوتات الموسيقية. أما الولايات المتحدة الأمريكية فتلعب بدورها قائد الأوركسترا لتدير عمل العازفين وتحدد أدوارهم بما يتناسب مع النوتة التي تضعها إسرائيل.
استنادا لهذه النتيجة فإننا خلصنا للقول بأن تفسير أي سلوك تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط يستند بالدرجة الأولى إلى مصالح إسرائيل وليس إلى مصالح الدولة الأمريكية. لذلك فإن كثيرا من الباحثين والمحليين الذين يحاولون تفسير التصرفات الأمريكية في الشرق الأوسط من خلال المصالح الأمريكية غالبا ما ينتهي بهم المطاف إلى تفسيرات ساذجة وسطحية وغير مقبولة منطقيا.
اليوم، وفي ظل الحشد الأمريكي الغربي لضرب سوريا بسبب الهجوم الكيميائي المفترض على دوما، سنعود لاستخدام هذه المعطيات من أجل تحليل وتفنيد الظروف المحيطة والمرافقة بما يضمن الخروج بتحليل قريب للمنطق. إن تاريخ العاشر من شباط لعام 2018 هو الفيصل.
أولا: قواعد اللعبة قبل العاشر من شباط / فبراير:
إن بقاء بشار الأسد في السلطة حتى اليوم رغم كل الفظائع التي ارتكبها بحق سوريا والسوريين لم يكن ليتم بدون وجود غطاء وفرته له إسرائيل من خلال استخدام نفوذها الهائل في واشنطن. لقد كان واضحا جدا بأن الولايات المتحدة الأمريكية حالت عبر سنوات الصراع المسلح في سوريا دون وصول أي نوع من أنواع السلاح النوعي للمعارضة السورية لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر من دول مثل تركيا أو السعودية أو قطر.
ولو نظرنا الى هذا السلوك الأمريكي لما استطعنا تفسيره إلا بالخضوع المطلق لنفوذ اللوبي الصهيوني الذي يعمل لتحقيق مصالح إسرائيل. أما هدف إسرائيل فهو بالتأكيد ليس حماية نظام الأسد محبة به، وإنما من أجل تدمير سوريا من خلال الحفاظ على حالة دائمة من التوازن بين الأطراف المتصارعة بما يضمن عدم انتصار أي طرف وصولا إلى بلد مدمر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا تحت قيادة نظام الأسد. إن الوصول لمثل هذه النقطة يعني ضمانا لأمن إسرائيل على مدى عشرات السنوات القادمة.
عندما وصلت سوريا للمستوى المطلوب "تقريبا" من التدمير والتشتت والتشرذم، تم رفع الغطاء عن المعارضة السورية وكسر التوازن الموجود في الساحة لمصلحة النظام وحلفائه. وبذلك تمكن هؤلاء من سحق المعارضة المسلحة في حمص وحلب دون أن تتلقى الأخيرة أي دعم يذكر. نعود للتأكيد هنا: الهدف هو سوريا مدمرة تحت قيادة النظام "مع أو بدون الأسد".
إسرائيل ليست غافلة بالطبع عن التمدد الإيراني والروسي في سوريا. أما بالنسبة للتدخل الإيراني فقد تم السماح به والتغاضي عنه إسرائيليا لأنه ضروري من أجل تمكين بشار الأسد من الصمود في وجه المعارضة. وفي الحقيقة لا مجال أبدا للحديث عن بقاء النظام في سوريا حتى الأن لولا التدخل من إيران وميليشاتها بقوة لصالحه منذ بدايات الأزمة السورية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الوجود الإيراني في سوريا قد يشكل مصدر إزعاج لإسرائيل لكنه قابل للتحمل وللمعالجة من أجل تحقيق أهداف أكبر - والحديث هنا يطول-. أما بالنسبة لروسيا فلا خشية منها على العموم وإننا نكاد نجزم أن قدوم روسيا إلى سوريا تم بضوء أخضر أمريكي نتيجة لضغط إسرائيلي من أجل إنقاذ بشار الأسد في لحطة كان نظامه فيها أيلا للسقوط.
ونعود هنا لنؤكد مرة أخرى بأن سماح الأمريكان للروس بالتغلغل في سوريا لا يمكن أن يفسر بأي شكل من الأشكال في مصلحة الدولة الأمريكية، وإنما لمصلحة إسرائيل وبضغط منها والهدف هو إعادة التوازن للمسرح السوري ودعم صمود الأسد.
قاعدة اللعبة الذهبية الضمنية بين الأسد وبين إسرائيل هو التالي: بقاء الأسد في السلطة مقابل ضمان أمن إسرائيل والسماح لها بأن تضرب أينما تشاء وفي أي وقت تشاء. وقد التزم الأسد بهذه المعادلة طويلا مما جعل سماء سوريا مرتعا للطائرات الإسرائيلية التي تقصف وتنصرف وكأنها في نزهة ممتعة.
ثانيا: قواعد اللعبة بعد العاشر من شباط / فبراير 2018
إن إسقاط الدفاعات الجوية السورية لمقاتلة إسرائيلية في هذا التاريخ هو الذي غير قواعد اللعبة وقلبها رأسا على عقب. قلنا وقتها بأن الرد الإسرائيلي سيكون قاسيا ضد الأسد، فيما ظن البعض بأن حدود الرد توقفت عند قصف إسرائيل لبعض مواقع النظام في سوريا في اليوم ذاته ومن ثم دعوتها للتهدئة وعدم التصعيد.
في الحقيقة، إن دعوة إسرائيل للتهدئة آنذاك لم يكن يعني أنها اكتفت بالرد، ولكن السبب الرئيسي هو عدم رغبة إسرائيل بالانخراط بنفسها في أي صراع في الوقت الذي تملك فيه إمكانية تجيير قوة الولايات المتحدة الأمريكية لصالحها كيفما تشاء. إن إسقاط المقاتلة الإسرائيلية هو السبب المباشر والرئيسي في رفع الغطاء عن الأسد لعدم التزامه بقواعد اللعبة.
ورفع الغطاء عن الأسد هو السبب المباشر لما يجري اليوم من تحضيرات أمريكية وغربية لقصف سوريا دون الالتفات حتى لوجود روسيا التي طالما تم اتخاذها بعبعا لا يمكن تخطيه. أما اليوم، وبعد أن رفع الغطاء عن الأسد، يغرد دونالد ترمب على تويتر ساخرا من روسيا وقوتها: "روسيا تعهدت بإسقاط جميع الصواريخ التي سوف تطلق على سوريا. إذن استعدي يا روسيا لأن صواريخ جديدة وذكية آتية".
وإذا كان هذا هو السبب المباشر، فلا يجب أن ننسى مجموعة كبيرة من الظروف الدولية المتوترة أصلا بما فيها مسالة تحقيقات مولر واحتمالية عزل الرئيس ترمب إضافة لمسالة تسميم العميل الروسي في بريطانيا وغيرها. إلا أن كل هذه الظروف لم تكن كافية للتفكير في شن هجوم واسع على الأسد لولا رفع الغطاء الإسرائيلي عنه.
أخيرا نود أن نشير إلى نقطة مهمة تتعلق في شكوكنا حول دور النظام السوري في كيميائي دوما. هذه الشكوك ليست بسبب عدم قدرة أو عدم رغبة النظام الذي يملك سجلا حافلا وموثقا في استخدام هذه الأسلحة، ولكن في المنطق وراء استخدامها في منطقة كانت قاب قوسين أو أدني من أن تصبح تحت سيطرته، وهذا ما تم بالفعل في اليوم التالي. فأي منطق يكمن إذن في استخدام النظام لأسلحة كيميائية تحرض العالم ضده في وقت هو ليس في حاجة لمثل هذا الاستخدام.
إن معالجتنا لهذه النقطة بالذات مهم جدا. فاذا كان هذا الهجوم مدبرا من جهات أخرى من أجل اتهام النظام فيها، فهذا يعني أن قرار إسقاط الأسد قد تم اتخاذه بالفعل، وموضوع الهجوم الكيميائي هو الذريعة.. فهل يتم بالفعل إسقاط الأسد أم فقط إعادته إلى حظيرة الطاعة التي زلت قدمه قليلا عنها في العاشر من فبراير الماضي.. الأيام القليلة القادمة كفيلة بالإجابة.
الرسالة السياسية الأولى التي يريدها ترامب من الضربة القادمة في سوريا هي موجهة الى كوريا الشمالية، التي يستعد زعيمها للجلوس أمام ترامب، ومفادها أن أمريكا قادرة على نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية، وهذه مسألة ستكون غاية في الأهمية خلال الشهر القادم.
الرسالة الثانية، هي موجهة إلى روسيا، ومفادها أن روسيا بكل ما استعرضته من قوة، إضافة لكلامها عن صناعات عسكرية تفوق الخيال، كل ذلك لن يجعلها تستطيع الوصول إلى مستوى القوة الأمريكية، وأن الذهاب نحو سباق تسلح جديد لا يفيد الروس بتاتا.
وأما الضربة الحقيقية، فهي ستكون للبنية التحتية التي أنشأتها إيران في سوريا، وهي مجمل القواعد والأنفاق والمطارات التي بُنيت قبل الأزمة السورية وبعدها، وتتركز قديما إلى الغرب من دمشق، وبعض مناطق القنيطرة، إضافة الى ما استحدث من منشآت إيرانية خلال الأعوام الماضية، يضاف إليها تدمير بنية تحتية وقواعد للنظام، تتركز في محيط دمشق، وجبل قاسيون، بالإضافة إلى مركز الأبحاث في (جمرايا).
ما بعد الضربة العسكرية هناك حركة سياسية نشطة، ستشمل الملف الفلسطيني، وستتركز على إضعاف الدور الإيراني، ولكن الحرب في سوريا لن تضع أوزارها بشكل كامل، فمسألة إخراج تنظيم القاعدة وداعش من المدن وحصر الطرفين في المستطيل الصحراوي، هي مجرد مقدمة لتغيير سياسي جوهري.
نعم ترامب سيسحب أمريكا القديمة من سوريا، ويضع أمريكا الجديدة.
قصفت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بعض المواقع في العاصمة السورية دمشق، بعد منتصف ليلة السبت 14 أبريل/ نيسان.
أعلنت الدول الثلاث أنها دمرت بعض الأهداف الاستراتيجية في هجوم جاء ردًّا على ارتكاب النظام السوري مجزرة بالسلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية.
لكننا لا نعلم ما مدى نجاح الضربات في إزالة الخطر الكيميائي الذي تتحدث عنه الدول المذكورة.
وعلى الرغم من أن العملية المدعومة من جانب فرنسا وبريطانسا اقتصرت على ما سلف ذكره، إلا أن أصداءها وتداعياتها مستمرة.
الخارجية التركية أعلنت في بيان لها عن "ترحيبها" بالعملية الأمريكية ضد الأسد. نعم، اللغة الدبلوماسية تكون متحفظة. تتحرك الدول بما يتناسب مع أهدافها على المدى القريب والبعيد، وليس بموجب العواطف.
لهذا أعتقد أن لبيان الخارجية هذا، الذي أثار استياء البعض منا، تبرير منطقي. على سبيل المثال، دور الوساطة الذي سعت إلى أنقرة بين الولايات المتحدة وروسيا في الأزمة الأخيرة قد يكون واحدًا من أسباب صدور البيان.
فتركيا، بتصرفها الأخير هذا، أظهرت أن موقفها المشترك مع روسيا وإيران في بداية الأزمة هو خيار استراتيجي وليس علاقة تبعية.
ولم تقع أنقرة في الخطأ الذي ارتكبته في عهد رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، من اتباع موقف ملتزم بشكل كامل مع الولايات المتحدة.
لكن بصفتي صحفي يتابع المستجدات منذ سنين، ومواطن ليس مجبرًا على التصرف بطريقة دبلوماسية، فأنا لا أرحب بالضربات العسكرية على سوريا كما فعلت الخارجية التركية.
لأنه على الرغم وجود الكثير من الذرائع المكشوفة والخفية لضرب النظام السوري، غير أني على ثقة تامة بأن أي منها لا يتعلق بمجازر الأسد، أو بالآلام التي يعانيها السوريون.
أعتقد أن شيفرة العملية العسكرية ضد سوريا تكمن في تصريح أدلى به رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق مايك بومبيو المرشح لمنصب وزير الخارجية، حول الصورة المشهورة لأردوغان وبوتين وروحاني، وقال فيه: "يمكننا أن نكون جزءًا من المباحثات".
ولهذا سيكون هناك ضربات مشابهة في الأيام القادمة يلجأ إليها ترامب الموصوف بأنه "غر" في الملف السوري، وماكرون الساعي للتغطية على الاضرابات، وماي التي تحاول التكفير عن خطيئة البريكست.
لكن ما لا شك فيه هو أن حل الأزمة السورية سيأتي عن طريق مبادرة من بلدان المنطقة، وليس من خارجها.
إن المتابع والملاحظ لمواقف إسرائيل من الوضع في سوريا وتحديدا من تزايد النفوذ الإيراني فيها، يرى بوضوح مدى خيبة الأمل الإسرائيلية من سياسة ترامب تجاه إيران في سوريا.
وقد جاءت الضربة الأمريكية الفرنسية البريطانية لتعزز هذا الموقف، والذي ظهر من خلال تصريحات شخصيات كالوزير نفتالي بينت ومحللين إسرائيليين كبار أقروا بعدم فهم حكومة إسرائيل ماذا يريد ترامب.
إن المصلحة الإسرائيلية تقتضي عدم انسحاب الأمريكان من سوريا وهو ما حاول نتنياهو شرحه دون فائدة في مكالمته الأخيرة مع ترامب قبل أيام، فإسرائيل ترى أن الحل لمشكلتها مع النفوذ الإيراني في سوريا يكمن في تفاهمات أمريكية روسية لا يمكن تحقيقها دون أمرين أساسيين وهما- تأجيل أمريكا لانسحاب قواتها من سوريا لفترة ما، واستمرار إسرائيل في إثبات تأثيرها في الساحة السورية من خلال الضربات الجوية التي تنفذها في سوريا بين الحين والآخر.
لقد كانت مشكلة الكيماوي الأخيرة فرصة ذهبية للمصلحة الإسرائيلية، حيث سعت إسرائيل من وراء الكواليس إلى إنجاز ما يمكن اعتباره مقايضة الكيماوي بالنفوذ الإيراني، أي عدم توجيه ضربة قوية للنظام السوري بحجة استخدامه الكيماوي أو توجيه ضربة رمزية له لا تؤثر عليه ولا على استمرار بقائه وهو ما أصبح مصلحة مشتركة للروس والأمريكان والإسرائيليين أيضا، ولكن في مقابل أن يعمل الروس بشكل أو بآخر على موائمة النفوذ الإيراني في سوريا مع مصالح إسرائيل، والتي تقتضي عدم امتلاك إيران لقدرات حقيقية تسمح لها بفتح جبهة على حدود الجولان وتكرار تجربة حزب الله في لبنان، ويبدو أن هذا الأمر لم يحدث أو على الأقل لم تظهر مؤشرات حتى اللحظة لوجوده.
قد تعزز هذه الحالة الموقف القائل إن ما يحدد سياسة أمريكا هو مصالحها في المنطقة، والتي تبدو أنها تعارضت وتجاوزت مصلحة إسرائيل هذه المرة، يضاف الى ذلك مزاج ترامب المتقلب و الذي لم يخدم هو أيضا مصلحة إسرائيل في سوريا.
كما أن أمريكا ترى أن مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا مكلف جدا وعلى حلفائها دفع ثمن ذلك، ويبدو أنها تقدر أنه ما زال بالإمكان السيطرة على هذا التهديد، أو أن استمراره يعزز من تبعية حلفائها لها، ويصدق هذا الأمر مع السعودية أكثر منه بكثير مع إسرائيل .
وهكذا تشعر إسرائيل المدللة أنها وحيدة وهي ليست كذلك فيما أسماه عاموس جلعاد مسار خطير يؤدي إلى تصادم مع إيران بسبب الموضوع السوري، ولا يعني ذلك حدوث حرب شاملة في المدى القريب أو المباشر فإيران لم تستكمل بعد بناء قدراتها في سوريا، واللعبة في سوريا لم تنته بعد، ولا يبدو أن إسرائيل ستنتقل من سياسة الضربات المحدودة في سوريا إلى سياسة المواجهة الشاملة مع إيران .
الآن، وبعدما أتم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومعه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تهديداتهم بالرد على الاعتداء الكيميائي الذي نفذه نظام بشار الأسد على المدنيين في دوما، يمكن السؤال عن الجدوى، وما إذا كان رد الفعل عملياً موجها إلى النظام السوري أم إلى حليفه الروسي الذي بدأ يزعج الغرب بتمدّده خارج قواعده.
بدايةً، من الواضح أن حجم الرد وتداعياته العسكرية محدودان، وذلك القصد الأساسي من الضربة الثلاثية التي لا تريد الانجرار إلى معركة موسعة أو إشعال حرب عالمية ثالثة. وبالتأكيد، لم يكن القصد منها إسقاط نظام الأسد، والذي يمكن القول إنه لم يكن أساساً الهدف من الضربة التي أرادت توجيه رسائل أخرى إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تحديداً.
الضربة الغربية، وإن قالت إنها استهدفت مخزون الأسلحة الكيميائية للنظام السوري، وهو أمر غير مؤكد، خصوصاً أنه كان أمام هذا النظام متسع من الوقت لإخفاء أسلحته أو نقلها، إلا أنها ليست موجهة لهذه الترسانة، وهي تدرك أنها قد تكون أصبحت في حمى القوات الروسية العاملة على الأرض السورية. ولا هي تأتي رداً مباشراً على استخدام الأسلحة الكيميائية في دوما، خصوصاً أنه منذ قصف مطار الشعيرات العام الماضي استخدم النظام السوري والروس السلاح الكيميائي في أكثر من مناسبة، من دون أن يستدعي ذلك رداً غربياً على شاكلة غارات أو حتى مزيد من العقوبات، فالقتل بالنسبة إلى الغرب لا اعتراض عليه في الداخل السوري، ولو بأسلحة كيميائية التي قد تتطلب مواقف أكثر حدّة من على المنابر الدبلوماسية، من دون أن يعني ذلك الانخراط في مواجهة إسقاط النظام "غير الأخلاقي".
القضية أبعد من الاعتداء الكيميائي على دوما، على الرغم من أنه كان المحرّك للتحرّك الغربي، والذي كان قد بدأ في البحث عن كيفية توجيه صفعةٍ إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد هجوم كيميائي آخر بعيد آلاف الكيلومترات عن سورية، وذلك بعد محاولة تسميم الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال، وابنته يوليا في بريطاينا بغاز الخردل، وهو ما يعد هجوماً كيميائياً روسياً داخل الأراضي الأوروبية، الأمر الذي يستدعي رداً على موسكو لا يمكن أن يكون مباشراً. قد تكون الساحة السورية المكان الأنسب لتصفية الحسابات مع موسكو، وتوجيه رسائل سياسية وعسكرية إلى فلاديمير بوتين إنه لا يمكن له اللعب مجدّداً في الساحتين، الدولية والإقليمية، وأن هناك قوى عالمية لا بد أن يبدأ الرئيس الروسي بأخذها في الحسبان عند أي تحرّك سياسي له في المستقبل، سياسياً كان أو عسكرياً. وعلى هذا الأساس، كان الإعلان عن تشكيل التحالف الثلاثي الجديد (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، والذي يبدو أنه سيأخذ على عاتقه من الآن فصاعداً الوقوف في وجه تعاظم القوة الروسية عالمياً، والبداية قد تكون من سورية، إذ كانت مؤشرات التصريحات الأولى الآتية من الدول المشاركة في العملية تركز على العودة إلى العملية السياسية في سورية، غير التي أنشأتها روسيا، واستفردت فيها خلال السنتين الماضيتين، بل المسار الأساسي المصادق عليه عالمياً، أي "جنيف 1".
بات المسعى الغربي واضحاً، والرسالة وصلت إلى بوتين، وذلك باعتراف السفير الروسي في واشنطن، أناتولي أنطونوف، الذي رأى أن الضربات هي "إهانة لرئيس روسيا"، وهو ربما الهدف الأساسي للضربة، وبناء عليه أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، "إتمام المهمة بنجاح".
اللغة العربية غنية وساحرة وآسرة، وفيها من القدرات والإمكانيات لتسخير المعاني والمفاهيم بشكل مدهش. وكما قيل، صدقاً وحقاً، في الأثر إن من البيان لسحراً؛ ولا مشهد يحظى بهذا الوصف مثل المشهد الإعلامي السياسي العربي.
ولا أحد لديه القدرة على التفنن باللعب بالكلمات والألفاظ وتوظيفها لتهييج الرأي العام. الحديث الآن عن الاعتداء الغاشم من قوى الشر على سوريا، وأن الاعتداء بمثابة انتهاك صارخ لشرف الأمة وعرضها؛ كلام كبير جداً، ويكاد المتلقي يصدق هذا الكلام لولا أنه يدرك تماماً أنه غير مقصود، وأن قائله وأنصاره اقترفوا الجريمة تلو الأخرى ضد شعبهم وشعوب المنطقة. أو ليس القوى القومية الثورجية هي ذاتها التي كانت تهلل وتطبل وتتراقص على أنغام التدخل العسكري الناصري في اليمن، وبعد ذلك الاحتلال السوري للبنان، وتهديد نظام البعث بالتدخل العسكري ضد الأردن، ومجازره ضد القوى الفلسطينية في لبنان، والغزو الصدامي للكويت، وتبعات ذلك التي لا نزال تعاني منها؟! لم تنطق هذه الألسنة بالانتقاد ولا الشجب ولا الامتعاض.
بشار الأسد، وأبوه من قبله، تفننا في اغتيال وتهجير واعتقال الشعب السوري؛ كل ذلك دون عقاب صريح من المجتمع الدولي، بل تحت حماية صريحة منه، ولم «يتحرك» هذا المجتمع إلا بـ«ضربات» مسرحية معدة ومنسقة سلفاً، وتم فيها كسر عنصر المفاجأة والمباغتة، ففقدت عنصر الفاعلية، وبالتالي لم يكن هناك أي ضرر للنظام، وعلى العكس استغلها إعلامه ليروج لانتصاره، كما فعل من قبله صدام حسين في «أم المعارك»، والإرهابي حسن نصر الله في «النصر الإلهي»، ليكتفي الخطاب الإعلامي المقاوم باستحداث مصطلحات خالدة، مثل: العلوج البرغش والحشرات والجرذان، لوصف كل المعترضين على جرائم الأنظمة بحق شعوبهم.
الحقيقة المرة التي لا يرغب في مواجهتها القومجية العرب أن سوريا تتعرض للإبادة اليوم على أيدي النظام السوري؛ النظام الطائفي الأقلوي البغيض، الذي سن في العالم سنة الجمهورية الوراثية داخل الطائفة والعائلة الواحدة، وأتى بحماية غير عربية وطائفية من إيران وميليشياتها الإرهابية في المنطقة، وعلى رأسها تنظيم «حزب الله»، ولم يكن ذلك وليد اللحظة، فالنظام أعلن انسلاخه عن الإجماع العربي الذي أيد العراق في حربه ضد إيران، وكان النظام السوري الوحيد الذي أيد إيران، وطبعاً عرف بعد ذلك السبب، وهو الطائفية المشتركة التي تبينت تبعاتها لاحقاً.
ارتكب النظام مجموعة من الجرائم ضد شعبه وشعوب المنطقة يسيل لها الجبين، وكل ذلك يحصل وسط الصمت العربي المطبق (وكذلك المجتمع الدولي الذي أدار وجهه عن جرائم الأسد، ومنح له الخط الأخضر لاحتلال لبنان بالكامل، مقابل المشاركة في قوات تحرير الكويت ومؤتمر مدريد للسلام). وبدأت أطماع النظام تزداد، وأصبح يغتال الشخصيات السورية واللبنانية والفلسطينية التي تغرد خارج سربه، الواحد تلو الآخر كأسراب الحمام المتساقطة. كل ذلك وسط مباركة عربية صامتة. الصواريخ التي ضربت بعض مواقع جيش الأسد في سوريا لم تكن أشد إيلاماً من مذابح الأسد في حماة أو تدمر ودير الزور وحمص وحبل وجسر الشغور وغيرها. المشهد السوري «الحالي» لا يمكن الحكم عليه وحده دون مراجعة كاملة لجرائم نظام مارس بحق شعبه كل الجرائم المتخيلة التي تفوق الوصف والشرح.
قتل السوري على يد نظامه، والسكوت عن ذلك لمدة تزيد على أربعة عقود هي الجريمة العار التي يتحملها كل العرب، فلا يمكن أن يكتب النصر لنظام هزم شعبه وأذله وأهانه وقتله وشرده وجرحه ونكل به بكل الوسائل. عندما تدرك هذه الحقيقة، ويتم الخلاص من هذا السرطان، وقتها تكون لسوريا الكرامة والعزة، لأن المواطن فيها يكون قد تحرر.
خرجَ العربُ عن صمتهِم أخيرًا بعد أنْ كانَ ضميرهُم مُحتجزًا في غرفِ قلوبهِم القاسية والضيّقة، نطقُوا سُفهًا، وخرجنا وراءَهم نتفقد صِدْق كلماتهم المُنّمقة، وزيْفَ مشاعرهم، فوجدْنا أنّها مسرحيةٌ يصفّق فيها المنافقون لبعضهِم البعض بعد أن يسأمَ الحضورُ ويتركَ المسرحَ فارغًا إلاّ من الكِذْبات والأقنعة.
خرجَ العربُ عن صمتهم، وانهالتْ علينا عباراتُ التّنديد بالحربِ ومخاطرِها وكأنَّ الشّعب السوريّ كانَ يعيشُ رخاءً وأمانًا على يد الأسد والروس والإيرانيين. كَثُر شعراء الرثاء في جمال سوريا، ورائحة ياسمينها المُعتّق والحزين، وقرّر المشاهيرُ الذين لم نسمعْ لهم صوتًا منذُ بداية الثورة، أن يكسِروا حاجزَ صمتهم هم أيضًا، بعدَ سبعٍ سنواتٍ من الخوف على شعبيّتهم، كتبُوا يناجون الرّب طالبينَ منه أن يكونَ مع سوريا، راسمين إلى جانبِ هذا الدعاء قلبًا مكسورًا، يعبّرُ عن حالتهم الحزينة، أمّا "القومجيُّون المُمانعون" فقد كان السَّبيلُ لمعرفةِ نفاقهِم سهلًا، فيكفي أن تقرأَ محاضراتهم عن الشّرف والأخلاقِ والضمير وخيانة الأوطان، لتعرفَ في أيّ مستنقعٍ هُم يسبحون.
حتى الأنظمة العربية التي تخلّت عن الثورة السورية وادّعت التزامَها الحياد، خرجَ مسؤولوها ليندّدوا بما أسمَوْه: "العدوان الأمريكيّ على السيادة السورية"، تلك السيادة التي لم يبقَ عدوانٌ واحتلالٌ في العالم إلاّ وانتهكَها بفضلِ أحمقٍ، سلّم بلاده للروس وخرجَ يضحكُ تارةً كالأبله وهو يجرب أسلحته الصّدئة على شعبه، وتارةً أخرى يطمرُ رأسَه في التراب كالنَّعام.
سوريا التي عانتْ ولا تزالُ من صمتِ السّاسة وبائعي الوطنيّات ومِن مدّعي الحِياد العرب، ومن خذلان المثقفين وممَّن ينعتُون أنفسهم بالإنسانيين، وممّن أطلقوا على الثورة اسم: "الحرب الأهلية" في محاولةٍ منهُم لتحييدِ أنفسهم عمّا يحدث، باعتبارِهِ شأنًا داخليًّا، ها هيَ اليوم تعيشُ حبًّا من نوعٍ آخر، ها هي اليوم تلقى وابلًا من الخوفِ والدموع، وتستفيقُ على عواطف وضمائر فقدنا منها الأمل وشيّعناها لمثواها الأخير منذ زمن.
هؤلاء المروّجُون للضّربة على أنّها ضربةٌ على سوريا كلّها، يريدونَ منّا أن نصدّق خوفهُم وحرصهُم على الشّعب السوريّ، وتأثرهم لمُصابِه وهمُ الصامتون على الاحتلال الروسيّ، والسّاكتون عن المجرم الإيرانيّ، هؤلاء الذينَ يدّعون حبًّا لشعب سوريا بعد أنْ سمعوا بضربةٍ أمريكيةٍ مُحتملةٍ على مواقع النّظام، وضَعْ -عزيزي القارئ- عدّةَ خطوطٍ حمراء على عبارةِ مواقع النظام، أخذوا ينعتُون كلَّ فَرِحٍ بالضربة الأميركية بالخائن، وكأنّ الفَرِحَ بها والمهلّلَ لها، لا يعلمُ أنّها لم تأتِ لتنتصرَ لأطفالِ دوما، أو لتُزيحَ الأسد عن كرسيّه، وأنّها مجردُ تصفيّةِ حساباتٍ ومصالحَ بين بلديْن، وأنّ كلّ من تمنّى لهذه الضربة أن تحدُث، إنّما يريدُ أن يرى ذلك اليوم الذي ينهارُ فيه النظام وأسلحتُه ومن معه، ويذهبوا إلى الجحيم الذي صيّروا سوريا إليه.
أمامَ عنتريّات المؤيدين الذين كتبُوا تهديداتٍ لترمب يُعلنونَ فيها تفجيرَهُم للبيت الأبيض في حال قرّر ضرب سوريا، وأمامَ منشوراتٍ بائسةٍ عن ياسمين الشّام الحزين، حدثت الضربة الأشبهُ بألعابٍ ناريّةٍ وبمسطرةِ أستاذٍ على يد تلميذٍ مُعاقَبْ، فخرجَ المؤيدون للنّظام، الرافضون "للعدوان" الأمريكيّ إلى الساحات، فرحينَ بانتصارهِم ولشدّةِ حماسهم الوطنيّ حملوا معهم الأعلام الروسية والإيرانية وأخذوا يرقصونَ الدّبكة ويتفاخرونَ بصمودِ قائدهم الذي كان مختبئًا في جحرٍ ينتظر إشارة من الدّب الروسيّ لينقذه. فَسُحقًا لمن يدّعي رفضَه لعدوانٍ أمريكيّ وهو يرتمي في أحضانِ الاحتلال الروسيّ والإيرانيّ.
أمّا أنتم أيّها العربُ الواصلون متأخرينَ دائمًا عن العالم بغفوةٍ وخيبة، سوريا الآن لم تعُدْ بحاجةٍ لعباراتِ التّأبين التي تكتبونها، فقدْ شبعتْ مِن نفاقكم واكتوتْ بنارِ خذلانكم، سوريا اليوم تريدُ منكم أن تكفُّوا عن وضعِ اسمِها في منشوراتكُم، فكم كانتْ تفتقد لدموعكم المزيّفة تلك، عندما كان الأسد والروس يقصفونَ الشّعب ويبيدونه بكافة الأسلحة المحرّمة.
أمَّا نحن، فسنبقى يتامى كثورتنا، نجرّب أن نتحايلَ على الذكرى بالتّناسي وعلى اليأس بالادّعاء، لنعود ونرتطم بخيبتنا مرات ومرات. فيا ربَّ الثأر هَبْنا أملًا ننفضُ به خذلانا، ومعجزةً نتّوكأ عليها، وحُلمًا نَمسكُه فلا يفلتُ منّا. حتى لو كانَ هذا الأملُ مشهدًا من مسرحيةٍ، يُسدلُ ستارها بمَحيِّ الأسد ونظامِه عن وجهِ البسيطة.
إن مرض السرطان عرف بأنه المرض الذي ينشأ بخلية واحدة تنقسم لوحدها إلى خليتين منفصلتين وتبدأ بعدها بالتغذية على الشعيرات الدموية وفتك صاحبها شيئاً فشيئاً حتى الانهزام. إنه تماماً كَالسرطان الذي نشأ في المنطقة العربية في الآونة الأخيرة والذي تمركز في سوريا، وراح ينقسم إلى عدة خلايا، وكل خلية تتغذى على أصحابها من شتى الأطراف.
بدأ السرطان السوري الخبيث منذ ما يقارب ثمانية أعوام، وراح ضحيته مئات ألاف الضحايا، إنّه لم يفرّق بين رجل وامرأة أو شيخ وطفل. بل إنه أخذ ضحيته وأحزن عليها آلاف العائلات، ولكن الغريب في الأمر، هو ما حصل عند الناجين من السرطان. من الجدير بالذكر أن الناجين من هذا المرض الفتاك، أُصيبوا بمرض آخر، لنقول إنه مرض نفسي لا عضوي، وعلينا وضع خطين تحت كلمة نفسي لأنها أخطر مما يجول في أذهاننا. دعونا أن نقول إنه نوع من أنواع الفصام الذهنية كالبارانوية وغيرها، حيث الناجي يميل إلى العدائية والحقد وربما يدفعه ذلك إلى القتل في كثير من الأحيان.
في هذا العام رُميت الغوطة الدمشقية بغاز السارين السام وراح فيها ضحايا كثيرة، ولكن العجب أن بعض الناجين من الضحايا في البقعة السليمة في دمشق، راحوا يرقصون فرحاً وطرباً وأقاموا حفلات الشواء فرحاً بنجاتهم أو شماتة بمرضى السرطان الساريني. وبعد أيام قليلة، توجّه الأشقر الأمريكي إلى صنع مسرحيّة دراميّة من نوعها الأول، كان فيها هو السوبر مان، الذي يأتي من فوق أسطح الأبنية الممشوقة ويساعد الأبرياء والمساكين، وكانت خطته تقوم على ضرب المعامل العسكرية الفارغة وهنا أيضاً يتوجّب أن نضع خطين تحت كلمة فارغة، لأن الضربة هذه لا تسمن ولا تغني من جوع، ظهر بعد الضربة الأمريكية العديد من الشامتين، أحد أفراد الشعب كتب على صفحته الشخصية (أخيراً قد اقترب محو دمشق من الخارطة).
في محنة الغوطة وحلب وقبلها العديد، كنت أشعر بالإقياء بعد كل مرة أتصفح فيها صفحات الأخبار، وبعد الضربة الأمريكية شعرت بالإقياء أيضاً، لمن يطبّلون ويهلّلون لترمب المشاكس الذي لو أراد أن ينصرنا لجاء قبل الضربة الكيماوية الموجهة على الغوطة وليس بعدها، كيف وهو ذاته من قتل أطفال منذ أسابيع عند إعداد حفلة تخرج حفظة القرآن الكريم، فعن أي ناصر نتحدث؟
النصر من عند الله وحده، كفى سخرية وتهريجاً، كفى تصفيقاً للعدو، فأمريكا إن لم تكن العدو الأول، فهي صديق العدو.. وصديق العدو بالطبع عدو آخر. أصبح العالم السوري أو ربما ينطبق القول عن العالم العربي بشكل عام أيضاً أنه أصبح كمستشفى كبيرة للغاية، تضم مئات الألاف من المصابين بالسرطان العربي الخبيث وملايين من الشامتين وآلاف من المرضى النفسيين الذين يمارسون عدائيتهم على المرضى الآخرين، يطلقون حقدهم عبر منشورات منشودة تطالب بإبادة دمشق ومن قال أن الضربة تمسّ النظام وليس الشعب فهو كاذب، كلانا نعلم جيدا ماهيّة النظام الأمريكي وردّة فعله من منطقة الشرق الأوسط.
الشعب في حالة حرب حقيقية مع بعضها البعض، فالحروب التي تشن في التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي يجب عدم الاستهانة بها مطلقاً، فالمجرم يبدأ إجرامه بكلمة ليتبعه فعل، وما أكثر أشباه المجرمين من حولنا، جميعنا مشروع مجرم إن استمر الأمر على نحو هذا الحقد والغلّ الكامن في باطننا. الشعب السعودي يشتم القطري والإماراتي يشتم المصري والمصري يشتم الأردني والأردني يشتم الفلسطيني والفلسطيني يشتم اللبناني والسوري يشتم العالم كله ووصل لمرحلة شتم السوري أيضا، فلأي مرحلة من الانحطاط قد وصلنا؟؟
وأما عن أولئك الأطباء من أنحاء الشعوب الذين يمارسون إنسانيتهم ويفكرون بمنطق بحت ويسعون لعلاج الأطراف كلها في مستشفى الحياة الخالية من التجهيزات الحديثة والتي تحتاج إلى أرطال من التخدير والتعقيم في أدمغة المرضى ومع ذلك يعملون بشتى طاقاتهم، فلهم وحدهم ترفع القبعة.
صمودٌ عظيم... إصرارٌ وثباتٌ أسطوريٌ عبرَ خمس سنوات.. إرادةٌ وتصميمٌ وعزيمةٌ هي وسامُ شرف على صدر كلّ سوري خرجَ يطالبُ بالحرية والكرامة... انتصارٌ تاريخيٌ في الإنسانية والأخلاق لشعب ثائر.. هزيمةٌ نكراءٌ في ميزان تكافئ القوى لدول واجهت قطعةً جغرافيةً صغيرةً لا تتجاوزُ مساحتُها 110 كم² عبر سنوات من الحصار والتجويع والقصف والغارات الجوية واستخدام مختلف أنواع الأسلحة المحرمة دولياً والغازات السامة.
نعم.. استطاعَ النظامُ المجرم بسطَ سيطرته على الغوطة، ولكن بعد صمود ست سنوات ذاق فيها الأسد وميليشياته ألوان العذاب. بعد سنوات من المعارك البطولية التي خاضها ثوار الغوطة، انتهت مرحلةٌ عظيمةٌ من مراحل الثورة، انتهت بثبات أبناء الغوطة واستمرارهم في ثورتهم، خرج الاحتلال الروسي بعد كل هذه السنوات متفاجئين بصمود الغوطة المحاصرة.. مكروهين عالمياً.. ومعهم كل العرب والفصائل الذين تواطأوا معهم.. وصمتوا على عدوانهم.. وباعوا ضميرهم وأشقاءهم.. وحالهم حال أبي رغال.. الذي تآمر مع أبرهة الأشرم على أشقائه العرب في هجوم أصحاب الفيل على مكة.. ولكن هم الذين دفعوا دنانير الذهب والفضة للمحتل المعتدي.
بوتين وأذنابه تفننوا في سفك دماء أطفال الغوطة، ومطاردتهم حتى في مدارسهم، ومستشفياتهم المعدمة التي كانوا يرقدون على أسرتها، لم يجد مقاتلين يقاتلهم، ولا قواعد صواريخ ليضربها ولا بنوك أهداف ليجهز عليها. الجيش الروسي أحد اقوى الجيوش في العالم عجز لسنوات أن يتقدم متراً واحداً في شرق دمشق، "UR77" العربة الروسية التي تعتبر فخر الصناعة الروسية أو "عربة خراطيم المتفجرات" وفق تعابير أهل الغوطة الأبطال الصامدين، جبنت عن دخول المدن خوفاً ورعباً لأنها لا تعرف، ولن تعرف، من أي فوهة أو خندق سيخرج لها الصناديد الرجال في زمن عز فيه الرجال، وكثر فيه أرباعهم، ونحن نتحدث هنا عن قادة الجيوش العربية وجنرالاتها الذين يفتخرون بأنهم تخرجوا من أرقى الأكاديميات العسكرية الغربية مثل "ويست بوينت" الأمريكية و"ساند هيرست" البريطانية حيث علموهم الرعب والخوف، وزرع بوتين في نفوسهم مقولة أن روسيا لن تهزم.
أبطال الغوطة تعلموا في أكاديميات الكرامة وعزة النفس والشجاعة والإيمان بالله وحتمية النصر والثقة بالقدرات الذاتية، والفوز بالشهادة، والتطلع إلى الانتقال من دار الفناء الى دار البقاء، عبر أقصر الطرق إلى الشهادة، والقتال حتى نيلها، ولهذا سادوا وارتقوا إلى أعلى درجات الشرف، وهبط الآخرون الى أدنى درجات الذل والهوان.
بوتين انهزم لأنه لم يواجه جيوش عربية جرارة وقادة متكرشون متحمسون يعلقون نياشين وهمية علقها على صدروهم زعماء متخاذلون.. وبوتين انهزم لأنه حارب أحفاد بدر الدين الحسني ومحمد الأشمر وحسن الخراط وتوفيق سوقية، وخالد بن الوليد، وصلاح الدين وأبو عبيدة الجراح، وطارق بن زياد، وكل رموز العروبة والإسلام الذين دخلوا التاريخ من أوسع ابواب الشجاعة والمروءة والإيمان بالنصر حتى نالوه، أو استشهدوا من أجله، وكانوا هم الفائزون في الحالين.
أكثر من خمسة سنوات من الصمود لم يصرخ أهل الغوطة، ولم يتسولوا وقفا لإطلاق النار مثلما يريد جيش الإسلام بممثله محمد علوش في اتفاق القاهرة حيث كانوا ينتظرون بلهفة رايات استسلامهم، إنما كان أبناء الغوطة رافعين رؤوسهم، لا يستعينوا إلا بالله وليهم وناصرهم، وتجاهلوا، او احتقروا كل الجيوش وجنرالاتها ومئات المليارات التي جرى انفاقها على تسلحيها. الأنفاق على أطراف دمشق كانت أسطورة ثبات الغوطة.. والصواريخ فيها كانت تحرق جنود الأسد وسط دمشق، والمقاتلون الأشداء خرجوا من الغوطة وما زالوا صامدون مثل الرماح، فالخراب في الحجر أما النفوس فما زالت عامرة بالإيمان والثقة بالنصر، والتطلع للشهادة.
عاش المحتل الروسي حالة رعب لم يعيشها منذ خسارتهم المؤزّرة في أفغانستان، وممن؟! ومن أين؟! من الغوطة الصغيرة في حجمها، الكبيرة برجالها وأبطالها، فأطفالها يولدون جبابرة، ونساؤها الولادات يرضعنهم حليب البطولة والشهامة، والشجاعة وهي كلمات انقرضت من قاموس الكثير من الزعماء العرب وقادة جيوشهم. نكتب بعاطفة.. نعم.. لأنه لا يوجد وقت لصف الكلام، ويجب أن نرتقي لمستوى الحدث، ونقولها للمرة الالف.. نكتب بفخر بأشقائنا وشقيقاتنا وأبنائنا وأحفادنا الذين سطروا حروف وخطوط هذه الملحمة الجهادية النضالية على أعتاب دمشق الفيحاء.
روسيا احتلت الغوطة، ولكن بعد حرق الأبرياء، فطائراتهم لم تقتل إلا الأطفال فقط، لم تدمر قاعدة صاروخية واحدة، فالجيش الذي يصف نفسه ويصفه حلفاؤه، وداعميه في الغرب، بأنه يطبق أعلى المعايير في الدقة والأخلاقيات لم يقتل إلا الأطفال وبيت العجزة والمدارس والمستشفيات، أما "الإرهابيون" من رجال الغوطة الصناديد فلم يقتلوا غير الجنود ولم يدمروا غير "UR77"، وخير دليل هو تلك الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي للأسير وكيف تعامل مقاتلي الغوطة معه، وهنا الفارق الواسع في القيم.
يستغرب الكثيرون مني كيف أقول أننا انتصرنا بينما المعارك انتهت بسيطرة الاحتلال الروسي وميليشيات الأسد على أرض الغوطة، نعم انتصرنا بصمودنا في وجه آلة القتل، وخسر العدو بفشله في تحقيق أهدافه من الحرب على غوطة الصمود وثأره من المجاهدين عبر قتل المدنيين والعزل بشكل ينم عن عقلية تعشق القتل وسفك الدماء وتتلذذ بأشلاء المدنيين. فكيف لا نقول انتصرنا وكل ما جناه العدو من تلك الحرب هو تشويه صورته أمام الرأي العام العالمي وعدم مقدرته على تحقيق أي هدف من الأهداف التي أعلنها من حربه على الغوطة، سوى تهجير أهلها الأصليين عنها.
كيف لا نقول انتصرنا وقد تأثر الوعي العالمي إيجابياً لصالح قضيتنا بفعل الحرب التي شنها العدو على الغوطة وبدأ العالم يستفيق، وبدا الجميع ينظر إلى ثورتنا بنظرة غير تلك النظرة التي كانت قبل الحرب وبات الكل يدرك أن ثورتنا هي ثورة تحرر وطني لا تسعى للقتل لمجرد القتل ولا لسفك الدماء لمجرد التسلية والعبث، لكنها ثورة يقاتل أبناءها بشرف وتتقن فن الثورة من أجل أهداف معلومة وواضحة وهي تحرير الأرض والإنسان. ست سنوات والعدو يواصل قصف وضرب الغوطة برًا وجوًا سعى خلالها بكافة الطرق للسيطرة على مناطق في غرب الغوطة لكنه عجز عن ذلك. نعم انتصر الدم والإرادة على السيف، لمجرد المقارنة بين حال الغوطة وثوارها وبين العدو وجيشه هذا بحد ذاته نقطة تحسب لصالح شعبنا، فكيف لا نعتبر ذلك أمرًا يحسب لصالحنا ونحن نقاتل بوسائل بدائية من صنع يدوي بعتاد بالكاد يستطيع الصمود في وجه أقوى دبابات في العالم فضلا عن عدم المقدرة على مجابهة الطيران بكافة أشكاله.
استهلك العدو مخزوناً ضخماً جداً من الذخيرة المخصصة لسلاح الجو فضلاً عن استخدام أسلحة محرمة دوليًا صبت حممها على رؤوس المواطنين في الغوطة في محاولة منه لتحقيق الغايات التي وضعها من أجل تلك الحرب. اتبعت قوات الأسد سياسة "الأرض المحروقة" في مواجهة ثوار الغوطة الشرقية، بالرغم من عدم تكافؤ القوى بين الأطراف، إلا أن ثوار الغوطة أثبتوا دهاء عسكري قل نظيره، فعلى الرغم من تدمير البنى التحتية نجح الثوار في المعارك الدفاعية والهجومية.
مبارك انتصارك يا غوطة الشام، بالرغم من الإمكانيات البسيطة، فقد أرقت مضاجع الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وميليشيا الغيث وغيرها من المرتزقة والمأجورين، وخرج أبناؤها مرفوعي الرأس بعد أن حطموا بصخورها جماجم رابع قوة عسكرية في العالم، وذلك بإرادة وعزيمة ما لانت.
ليس الأسد هدف ما تتخذه واشنطن من تدابير عسكرية، وتمارسه من ألاعيب نفسية، مذ قصفت دوما ببراميل مليئة بغاز السارين. ولا يستهدف الحشد العسكري الغربي الضخم والمؤكد، والاشتراك العربي في العمل العسكري المرجح، بشار الأسد وحده، بل يستهدف التحالف الدولي الذي يتكون تحت أنظارنا بعد سبعة أعوام من الانكفاء الغربي عن الصراع على سورية، إعادة علاقات القوى وموازينها إلى حجمها الحقيقي، وإحداث انقلابٍ فيها داخل سورية وخارجها، يطاول بالدرجة الأولى روسيا وتحالفها مع إيران الذي يجب وضع حدود له، بعد أن ترك ينفرد بواحدةٍ من أخطر أزمات العالم. ويبدو أن الوقت حان لتكبيل يديه، لأسباب منها تحالفه مع إيران، وتطلعه إلى استعادة ما كان للسوفييت من مواقع ونفوذ في منطقة العرب حاسمة الأهمية استراتيجيا، وهو محظور أعلن الأميركيون عام 1992 أنهم سيكرسونه، في سيناريو عمّموه ضم سبع نقاط، يقول أحد بنوده إن عودة روسيا إلى ما كان للاتحاد السوفييتي من مناطق ونفوذ ممنوعة، ولو أدى الأمر إلى استخدام القوة، فكيف إن كانت العودة تتم، منذ عامين ونيف، بالتحالف مع إيران، الدولة المارقة التي شحنت العالم العربي بفيضٍ من المذهبية والطائفية، منذ انتصار ملالي طهران عام 1979، وعملت لتفكيك مجتمعاتها وللسيطرة عليها من الداخل، بقوة فئات تابعة لها، نظمتها ودربتها وسلحتها ومولتها وكلفتها باحتلال مجتمعاتها من الداخل، بالنيابة عن حرسها الثوري.
بعد تظاهر روسيا بالاستسلام للأمم المتحدة، وبالتخلي عن تعيين اللجنة التي ستكلف بوضع دستور لسورية، وباحترام مناطق خفض التوتر المنفصلة عن الأسدية، استأنفت موسكو سياسة استخدام القوة للانفراد بسورية ومشكلاتها، وكثفت جهودها لضم تركيا إلى تحالفها مع طهران، في محاولة لإحداث انقلابٍ غير مسبوق في علاقات القوى الدولية، يتخطّى الوضع السوري إلى الوضع الدولي برمته، نتيجته المؤكدة إضعاف الولايات المتحدة والغرب، ونجاح الكرملين في وضع أسس جدية لتقويض حضورهما ونفوذهما في الشرق الأوسط، بقوة الابتزاز العسكري الروسي/ الإيراني وتحدي قوته المشتركة وتعاونه. هذا النهج هو ما ستبادر واشنطن إلى كبحه، قبل أن يستفحل ويترسخ. وبما أن نتائجه تمسّ مصالح الغرب بمجمله، وعلاقات القوى بين روسيا وإيران وبينه، فإن الرد عليه سيكون بتفعيل التحالف الغربي عسكريا، ومشاركة دوله الكبيرة، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، والدول العربية المهددة روسيا وإيرانيا.
من جانب آخر، بلور بوتين مبدأً يقوم على استخدام القوة بدل الدبلوماسية وسيلة لفرض علاقات دولية تجعل من روسيا ندّا للولايات المتحدة، على الرغم من أنها ليست ندّا لها في الاقتصاد والتقنية والانتشار الاستراتيجي والتأثير الثقافي والتقدم الاجتماعي والسيطرة الكونية.. إلخ، فإن نزعت ورقة القوة من يده، أعيدت روسيا إلى موقعها في الصف الثاني من الدول، ولم يعد في مقدورها تحدّي سيطرة الغرب الدولية، وفقدت علاقاتها الخارجية شحنتها الخطيرة، واقتنع اقتصادها بدور التابع. هل اختار الغرب نزع ورقة القوة من روسيا في سورية، لإقناع إيران أن تحالفها مع موسكو لا يحميها، ومن الأفضل لها الابتعاد عنها، وفتح حوار مع الغرب يجنّبها معركة قادمة معه، من المحال أن تربحها ستكون كارثية بالنسبة لملاليها؟
هذه هي رهانات الغرب التي تريد انتزاع ورقة سورية من يد موسكو، وتكريس دوره باعتباره دورا مقرّرا في الصراع على سورية، وما وراءها من بلدان المنطقة. إنها رهانات لا تقتصر على إطلاق بضعة صواريخ هنا أو هناك، ولن تتوقف خلال أيام أو أسابيع.
كما كان متوقعاً لم تكن الضربة العسكرية لمواقع النظام السوري أكثر من ذلك: ضربة محدودة في حجمها العسكري، وفي هدفها السياسي. ليس لها هدف سوري أبعد من استهداف البنية التحتية للسلاح الكيماوي للنظام. وليست جزءاً من استراتيجية سياسية تجاه الوضع السوري. لا علاقة مباشرة لها بالشعب السوري وتضحياته. ولا حتى بالرئيس السوري الذي يقال أنه قبيل الضربة ترك القصر الرئاسي إلى قاعدة حميميم الروسية ليحتمي بها.
كما يُلاحظ تتردد كثيراً في الساعات الأخيرة صفة السوري. لكن سورية، بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية، لم تعد أكثر من ساحة للصراع بين الكبار والصغار. كل فعل هناك، وكل خطوة، وكل ضربة لأهداف لا علاقة لغالبيتها بسورية، ولا بمصالح الشعب السوري. حتى الضربة الأخيرة استخدمت سورية كساحة، لكن هدفها هو روسيا وما تفعله في سورية وخارج سورية. هكذا، أرادها الأسد وحلفاؤه الإيرانيون. الشعب يدفع ثمن ذلك من حياته وحقوقه واستقراره، بل ومن دمه. الرئيس الأسد نفسه لم يعد أكثر من حجر شطرنج، أو ورقة تفاوضية تتناقلها أيدي الروس والإيرانيين. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يصفه بالحيوان والطاغية ومجرم الحرب. وكذلك تفعل رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي. لكن كل منهما يبتعد من استهدافه مباشرة. كأن الغرب يتعامل أيضاً مع الأسد كورقة تفاوضية مع الروس. هناك من يحاول حمايته من القتل أو السقوط. لكن لا أحد يعرف كيف سيكون مصيره النهائي.
في مثل هذا المشهد الفانتازي، من الطبيعي أن هدف الضربة العسكرية للدول الثلاث لم يكن تحجيم القدرات العسكرية لنظام الأسد. فهذه القدرات لم تعد عنصراً وازناً في التوازنات التي تتحكم في المشهد السوري. وهي قدرات فشلت في كل حال في حماية الرئيس ونظامه قبل دخول الروس. أيضاً، لم يكن هدف الضربة حماية الشعب السوري من النظام وحلفائه. لو كان هذا هو الهدف، أو أحد الأهداف، لأعلنت الدول الثلاث موقفاً سياسياً واضحاً لوقف نزف الدم السوري بسلاح كيماوي أو سواه، ومن ضرورة مغادرة الميليشيات الأجنبية كشرط لأي حل سياسي للأزمة السورية. ولو كانت مصلحة الشعب السوري من أهداف الضربة لجعلت الدول الثلاث من رحيل الأسد شرطاً آخر للحل السياسي. على عكس كل ذلك تلتزم الدول الثلاث قبل وبعد الضربة بالصمت حيال شكل الحل السياسي وشروطه، أو مصير الأسد.
ينحصر هدف الضربة العسكرية داخل إطار التجاذب الغربي الروسي، وتحديداً الأميركي - الروسي. وهو تجاذب يحاول كل طرف تفادي انزلاقه إلى مواجهة مباشرة. هذا ما قاله الرئيس ترامب، ورئيسة الوزراء تيريزا ماي في خطاب كل منهما لشعبيهما عن الضربة. كانت ماي مباشرة عندما قالت أن الهدف ليس تغيير النظام في سورية. ماذا عن رئيس النظام؟ لم تقل شيئاً عن ذلك. تركت الباب مفتوحاً. ماذا عن قتل السوريين على مدى أكثر من سبع سنوات الآن بأسلحة غير كيماوية؟ التزمت الصمت حيال ذلك أيضاً. ماذا عن وجود الميليشيات الأجنبية في سورية؟ صمت ثالث لا يقل صمماً للآذان.
إذا كان الهدف ليس حماية الشعب السوري من رئيسه، ولا من الحلفاء الأجانب لهذا الرئيس، وليس وقف القتل الجماعي بغير أسلحة كيماوية، وليس إعلان موقف واضح من الميليشيات الأجنبية، فما هو الهدف في هذه الحال؟ هذا ما أجاب عنه دونالد ترامب في خطابه. يقول: «في عام 2013، وعد الرئيس الروسي بوتين وحكومته بأنهما سيضمنان تدمير كل الأسلحة الكيماوية السورية. ومن ثم، فإن هجمات الأسد الكيماوية الأخيرة، وردنا عليها هذا المساء، هما نتيجة مباشرة لفشل روسيا في الوفاء بما وعدت به». بعبارة أخرى، ضربة البارحة العسكرية هي رسالة مباشرة إلى فلاديمير بوتين. فالأخير خدع الأميركيين (بحسب ترامب) في اتفاق تدمير ترسانة السلاح الكيماوي السورية الذي أبرمه مع الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما. لم يكتفِ بوتين بذلك، بل أرسل غازاً ساماً إلى بريطانيا الشهر الماضي لقتل عميل روسي مزدوج. وهو ما يعني أن الرئيس الروسي يتحدى الغرب في شكل سافر ليس فقط في سورية، ولا في أوكرانيا، بل حتى في قلب أوروبا الغربية. وهو ما استدعى أن تكون الضربة - الرسالة جماعية متزامنة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وإلا فحجم الضربة، ومحدودية أهدافها لا يستدعي مشاركة ثلاث دول عظمى، إحداها الدولة الأعظم.
حرصت الدول الثلاث على عدم الاقتراب في ضربتها من المواقع الروسية تفادياً لأي رد فعل روسي. وقد استجابت روسيا لذلك تماماً، إذ لم يتجاوز رد فعل موسكو حدود التنديد اللفظي لما أسمته العدوان الغربي. أما النظام السوري فقد رفع عقيرته بأسلوب بليد في وصفه الضربة بـ «العدوان الثلاثي»، وذلك في محاولة بائسة لاستدعاء ما حصل لمصر عام 1956. مأساة هذا النظام ورئيسه ليست مع التاريخ وحسب، بل مع سورية، ومع نفسه قبل أي شيء آخر. قبل الضربة الأخيرة، هناك الضربات الإسرائيلية لمواقع سورية وإيرانية بين الحين والآخر. الأجواء السورية باتت مستباحة وفق ضوابط تضعها روسيا وليس النظام. وهذا النظام هو المسؤول الأول عما آلت إليه حال سورية. عادت كرة أخرى ساحة لتجاذبات وصراعات إقليمية ودولية لا قبل للنظام، ولا لسورية بها. بدلاً من توظيف الموقع الاستراتيجي لسورية من أجل سورية وأهل سورية، جعل الأسد من ذلك منصة لقوى أجنبية روسية وإيرانية وميليشيات مذهبية. لم يدرك حتى اللحظة أنه بهذا بدد رصيد سورية الاستراتيجي ليصبح رصيداً للآخرين. ومعه، بدد الإرث الذي ائتمنه عليه أبوه. كم كتب عن دور حافظ الأسد في إنقاذ سورية من كونها ساحة للعب الآخرين إلى لاعب في ساحات الآخرين. وكم سيكتب عن دور بشار الأسد الكارثي في النكوص بسورية إلى ما كانت عليه؟ المدهش أن الرئيس السوري لا يزال مع ذلك يسيطر عليه وهْم أنه انتصر على الثورة. لذلك، يقول أنه ليس في حاجة إلى استخدام الكيماوي. ما يعني أنه استخدمه عام 2013 عندما كان على حافة السقوط. أي إن أرواح الناس وحقهم في الحياة ليست معياراً يردعه عن استخدام هذا السلاح، وإنما أطماعه ومصالحه وتحالفاته الأجنبية. لا غرابة وحال الرئيس ونظامه على هذا النحو أن انتهى الأمر بسورية إلى ما انتهت إليه. تقصف بمئات الصواريخ في ليلة واحدة لإيصال رسالة إلى بوتين وليس حتى إلى الأسد!
يستنكر الرئيس الأمريكي ترامب الهجمات الكيميائية التي نفذها نظام الأسد السوري في الغوطة الشرقية التي تُعتبر إحدى المناطق الخاضعة لقرار وقف إطلاق النار وفقاً لقرارات اجتماع أستانة، ويزعم ترامب أن الأسد سيدفع ثمن ذلك بأكبر شكل ممكن وصرّح بأنه سيتخذ قراراً ينص على معاقبة الأسد خلال 24 أو 48 ساعةً، لكن لا يمكن الاعتماد على التصريحات والمزاعم الأمريكية لأن القرارات التي يتخذها ترامب لا تحمل أي أهمية حتى بالنسبة إلى الأسد.
يتعاون الأسد وترامب وكأنهما يستهزئان بالضمير العالمي، فالأسد لن يدفع ثمن أي شيء، وتصريحات ترامب عبارة عن محاولة لاكتساب المزيد من الوقت و التخفيف من الضغط العالمي الموجه لأمريكا.
هل مرّت فترة طويلة على مقتل 400 مدني في الغوطة الشرقية؟ وكذلك على وصف المستشار الرسمي لمجلس الأمم المتحدة لما يحدث في الغوطة الشرقية بعبارة "شعب الغوطة رأى الجحيم بأم عينه بسبب هجمات الأسد"؟ هل مرّت فترة طويلة على اكتشاف إصابة العديد من الأشخاص بمرض السرطان ومقتل العديد من الأطفال بسبب قلة الطعام والدواء؟ أو على اكتشاف إصابة أكثر من 600 طفل بأمراض التهاب المفاصل والسل والتسمم الغذائي؟.
هل مرّت فترة طويلة على مطالبة روسيا باجتماع مجلس الأمن الدولي من أجل النقاش حول المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في الغوطة الشرقية؟ ما عدد الأيام التي مرّت على اتخاذ قرار وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية من قبل الأمم المتحدة؟ الجواب هو أربعون يوماً فقط، وبعد مرور أربعين يوماً عاد الأسد وعادت الهجمات الكيميائية والمجازر الجماعية، وعند رؤية أن الأسد لم يدفع ثمن الأرواح التي تسبب في مقتلها قبل أربعين يوماً فإن احتمال معاقبة الأسد في الوقت الحالي يبدو بعيداً، لأن الأسد ينفذ الهجمات الكيميائية والمجازر الجماعية منذ سبعة سنوات وذلك ليس أمراً جديداً بالنسبة إلى العالم.
وفي هذا السياق إليكم بعض التصريحات الصادرة عن جهات رسمية عالمية منذ بداية الأزمة السورية:
"استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية هو خط أحمر بالنسبة إلى أمريكا" -باراك أوباما- 21 أغسطس/آب 2012.
"استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية سيؤدي إلى خروج المارد من المصباح" 21 مارس/آذار 2013.
"رصدت الجهات الأمريكية استخدام الأسلحة الكيميائية بما فيهم غاز السارين من قبل قوات الأسد، وقد أفاد الرئيس الأمريكي أوباما مسبقاً بأن استخدام الأسلحة الكيميائية هو خط أحمر بالنسبة إلى أمريكا وبالتالي أنه سيقوم بتغيير قوانين اللعب، ونفذ هذا التغيير على أرض الواقع، لذلك الآن أمريكا لديها خيارات عديدة حول التدخلّ العسكري في سوريا" -مستشار الأمن القومي الأمريكي (رودس)- 14 مايو/أيار 2013.
"القوات العسكرية الأمريكية جاهزة للتدخّل العسكري مع تلقّي الأوامر من الرئيس الأمريكي أوباما" -وزير الدفاع الأمريكي- 24 أغسطس/آب 2013.
"تم تنفيذ الهجمة الكيميائية الأكبر في القرن الحادي والعشرين في سوريا، ورأى العالم ذلك بأم عينه، امتلأت المشافي بالقتلى، وفقد المئات من الأطفال أرواحهم على أيدي حكومتهم، ولم يقف العالم في وجه هذه الهجمة، وبناء على ذلك يجب على الدولة الأمريكية تنفيذ عملية عسكرية في سوريا واتخاذ الخطوات اللازمة للوقوف في وجه احتمال تكرّر هذه الهجمات" 31 أغسطس/آب 2013.
"سأطالب الكونغرس الأمريكي بالسلطة العسكرية من أجل تنفيذ تدخّل عسكري في سوريا" 1 سبتمبر/أيلول 2013.
"أعلن الرئيس الأمريكي أوباما أن استخدام الأسلحة الكيميائية هو خط أحمر بالنسبة إلى أمريكا، ولذلك يجب على أمريكا أن لا تتراجع عن تنفيذ قرار التدخّل العسكري لأن التراجع عن هذا القرار سيعطي الأسد فرصةً لإعادة تنفيذ الهجمات الكيميائية في سوريا" -رئيس الوزراء البريطاني (كاميرون)- 4 سبتمبر/أيلول 2013.
"طالب الرئيس الروسي بوتين الحكومة الأمريكية بتقديم الأدلّة حول استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية إلى مجلس الأمن الدولي" 4 سبتمبر/أيلول 2013.
أما بالنسبة إلى تركيا فإن الأسد هو قاتل مأجور، ويجب التفاوض مع روسيا وإيران من أجل دفع الأسد إلى إيقاف هدر الدماء في سوريا، لكن يمكن التفاوض مع روسيا وإيران؟ وهل هناك أي فائدة من التفاوض مع فرنسا وألمانيا بدلاً من روسيا وإيران؟
الأسد عبارة عن مجرّد بيدق في طاولة الشطرنج التي تديرها روسيا وإيران، لذلك يجب التفاوض مع الأخيرتين نظراً إلى أنهما الداعم الأكبر للأسد ومرسلي الأسلحة الكيميائية إلى سوريا، ونظراً إلى حسن العلاقات الدبلوماسية التركية-الروسية في الوقت الحالي يجب أن لا نواجه أي عائق أمام إيقاف سفك الدماء في سوريا.