إدلب.. ذاكرة الحضارات المهددة بين التاريخ والتنقيب غير القانوني
إدلب.. ذاكرة الحضارات المهددة بين التاريخ والتنقيب غير القانوني
● أخبار سورية ١٢ أكتوبر ٢٠٢٥

إدلب.. ذاكرة الحضارات المهددة بين التاريخ والتنقيب غير القانوني

تُعد محافظة إدلب واحدة من أغنى المناطق السورية بالتراث الإنساني، إذ تختزن في جبالها وسهولها ما يقارب ثلث المواقع الأثرية في البلاد، ممتدةً على مساحة زمنية تبدأ من الألفية الخامسة قبل الميلاد، وتروي قصة تعاقب حضاراتٍ متعددة: الآرامية، واليونانية، والرومانية، والآشورية، والبيزنطية، والإسلامية، هذه الكثافة التاريخية جعلت إدلب أشبه بمتحف مفتوح تحت السماء، قبل أن تُصبح لاحقاً ميداناً للدمار والتنقيب العشوائي.

مواقع أثرية تروي التاريخ
تضم إدلب عشرات القرى والمواقع الأثرية ذات القيمة العالمية، من أبرزها جبل الزاوية، والبارة، وسرجيلا، وبشيلا، ومجليلا، وبعودا، ودير سنبل، وعين لاروز، وفركيا، وبليون، وشنشراح، وتل مرديخ الذي يحتضن آثار مدينة “إيبلا” العريقة، هذه المواقع كانت قبل الحرب مقصداً للباحثين والسياح والبعثات العلمية الأوروبية، وميداناً للبحوث التاريخية التي وثّقت بدايات الكتابة والإدارة في المشرق القديم.

الحرب ومحو الذاكرة
غير أنّ سنوات الحرب دمّرت قسماً كبيراً من هذا التراث، إذ تحولت المدن المنسية والمناطق الأثرية إلى أهداف مباشرة للقصف، وتعرضت متاحف كبرى مثل متحف معرة النعمان ومتحف إدلب لدمارٍ واسع وسرقة محتوياتٍ نادرة.


 وبحسب باحثين في علم الآثار، فإن نظام الأسد البائد استخدم القصف العشوائي سلاحاً لمحو الذاكرة السورية الجماعية، في محاولة لطمس رموز الهوية الوطنية التي تمثلها هذه المواقع.

التنقيب غير القانوني.. وجه آخر للدمار
مع غياب الدولة وتراجع المؤسسات الرسمية، شهدت إدلب خلال السنوات الماضية موجة واسعة من التنقيب غير القانوني، نفذها البعض بدافع الفقر واليأس، أملاً في العثور على قطع أثرية تُباع لتأمين لقمة العيش. هذه الظاهرة سرعان ما تحولت إلى تجارة منظمة، تديرها شبكات تهريب تعمل على تصدير القطع المكتشفة إلى الخارج عبر طرق غير شرعية.

يقول أحد العاملين في هذا المجال إن “التنقيب أصبح وسيلة للهروب من الفقر أكثر منه بحثاً عن الثراء”، موضحاً أن المنقبين يستخدمون أجهزة كشف المعادن والعصي النحاسية لتحديد المواقع، ثم يبدأون الحفر ليلاً بعيداً عن الأنظار. غير أن أغلبهم – كما يضيف – ينتهي بهم الأمر بخسارة المال والصحة دون العثور على شيء ذي قيمة، إذ تلتهم عمليات البحث جهدهم في مقابل وعود سراب.

بين الحاجة والجريمة
هذه الأنشطة العشوائية، رغم أنها نابعة في جزءٍ منها من الظروف الاقتصادية القاسية، تمثل تهديداً مباشراً لذاكرة سوريا التاريخية، إذ تتسبب في تدمير الطبقات الأثرية وتفكيك السياق العلمي للقطع المكتشفة، مما يجعل استعادتها أو دراستها لاحقاً أمراً شبه مستحيل.

ويشير خبراء إلى أن الخطر لا يكمن فقط في ضياع الآثار المادية، بل أيضاً في فقدان الهوية الثقافية التي توحد السوريين عبر التاريخ، محذرين من أن استمرار التنقيب غير الشرعي سيحوّل إدلب من مهدٍ للحضارة إلى ساحة فراغٍ تاريخي.

حماية التراث.. مسؤولية وطنية مشتركة
يرى المختصون في علم الآثار أن إنقاذ تراث إدلب يحتاج إلى وعيٍ مجتمعي وتعاون رسمي ومدني، من خلال توثيق المواقع المتضررة، وتدريب الأهالي على حمايتها، وفرض رقابة قانونية فعالة على أنشطة التنقيب، كما يدعون إلى دعم برامج إعادة تأهيل المتاحف، وتشجيع التعليم الثقافي في المدارس، حتى لا تبقى ذاكرة البلاد رهينة الخراب والنهب.

إدلب اليوم تقف على مفترق طريقين: إما أن تستعيد دورها كمتحفٍ حيٍّ للإنسانية، وإما أن تُدفن معالمها تحت ركام الفقر والفوضى، فحماية تاريخها واجب وطني وأخلاقي يعكس قدرة السوريين على صون هويتهم المشتركة بعد سنواتٍ من الحرب والضياع.

الكاتب: فريق العمل
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ